الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( بديع السماوات والأرض ) هذا بيان لما قبله من معنى تسبيح الباري وتعاليه عما يصفه به المشركون . البدع - بالفتح - الإنشاء والإيجاد المبتدأ ، أو البدع - بالكسر - والبديع الشيء الذي يكون أولا كما قال في اللسان ، ومنه البدعة في الدين ، ويقال : بدع الشيء ( من باب قطع ) وأبدعه وابتدعه . وقال الراغب : الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء ، ومنه قيل ركية بديع أي جديدة الحفر . وإذا استعمل في الله تعالى فهو إيجاد الشيء بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان وليس ذلك إلا لله . وقال صاحب اللسان : والبديع المحدث العجيب ، والبديع المبدع ، وأبدعت الشيء اخترعته لا على مثال ، والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها ، وهو البديع الأول قبل كل شيء . ويجوز أن يكون بمعنى مبدع ، أو يكون من بدع الخلق أو بدأه . والله تعالى كما قال سبحانه : ( بديع السماوات والأرض ) أي خالقهما ومبدعهما فهو سبحانه الخالق المخترع لا عن مثال سابق انتهى . وذكر أن بديعا من بدع لا من أبدع ، وهو معروف ، فإن الأصل في صيغة فعيل أن تكون من الثلاثي وقد سمع ورودها من الأفعال الرباعية شذوذا ، وهي تأتي بمعنى فاعل كقدير ، وبمعنى مفعول كقتيل ، وهو هنا بمعنى الفاعل أو الصفة المشبهة .

                          والمعنى على اختلاف التقدير - أن الله هو الذي بدع السماوات والأرض ، أو البديع سماواته وأرضه بما كان من إبداعه واختراعه لهما ، أو البديع فيهما بمعنى أنه لا شبه له ولا نظير فيهما ، وإذا كان هو المبدع للسموات والأرض ، ولم يوصفا بكونهما من ولده فكذلك الملائكة ، وأولى بهذا وأجدر أن يكون خلقه للمسيح من أم بغير أب غير مسوغ لجعله ولدا له إذ قصارى ذلك أن يكون إبداعا ما . والإبداع التام - وهو إيجاد ما لم يسبق له نظير في ذاته ولا في وصفه ولا في سببه إن كان له سبب - ليس ولادة ، وأثر هذا الإبداع وهو المبدع لا يسمى ولدا ; إذ الولادة ما كان ناشئا عن ازدواج بين ذكر وأنثى [ ص: 542 ] من جنس واحد ، وليس له جنس فيكون له منه زوج ولذلك قال : ( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ) أي كيف يكون له - وهو المبدع لكل شيء - ولد ، والحال أنه لم يكن له زوج ينشأ الولد من ازدواجه بها ، ولا معنى للولد إلا ما كان كذلك ، وإنما صدور جميع الكائنات السماوية والأرضية عنه صدور إيجاد إبداعي للأصول الأولى ، وإيجاد سببي كالوالد بينها بحسب سننه في التوالي ، ولذلك قال : ( وخلق كل شيء ) خلقا ولم يلده ولادة ، فما خرقتم له من الولد مخلوق له لا مولود منه ، فإن خرجتم عن وضع اللغات وسميتم صدور المخلوقات عنه ولادة فكل ما في السماوات والأرض يكون من ولده ، وحينئذ يفوتكم ما أردتم من تخصيص بعض المخلوقات بهذه المرتبة تفضيلا لها على غيرها ، ولا يقول أحد منهم بهذا ، وهذه الجملة استئنافية مقررة لإنكار نفي الولد ، أو حال بعد حال ، واستدلال بعد استدلال ، ومثلها قوله : ( وهو بكل شيء عليم ) وبيانه أن علمه بكل شيء ذاتي له ، ولا يعلم كل شيء إلا الخالق لكل شيء ( ألا يعلم من خلق ) 67 : 14 ولو كان له ولد لكان هو أعلم به ولهيأ العقول إليه بآيات الوحي ودلائل العلم ، ولكنه كذب الذين خرقوه له - بغير علم - بالوحي المؤيد بدلائل العقل ، قال البيضاوي : وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه : ( الأول ) أنه من مبدعاته السماوات والأرض ، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها ، فهو أولى بأن يتعالى عنها ، ( والثاني ) أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين ، والله تعالى منزه من التجانس ، ( والثالث ) أن الولد كفء للوالد ، ولا كفء له لوجهين ، الأول : أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه ، والثاني : أنه لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع انتهى ، وقد تقدم مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية