[ ص: 553 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=109وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=110ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) .
أمر الله تعالى رسوله فيما قبل هذه الآيات بتبليغ وحيه بالقول والفعل ، وبالإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم في الوحي بالصبر والحلم ، وعلل ذلك بأن من مقتضى سنته في خلق البشر متفاوتي الاستعداد ، مختلفي الفهم والاجتهاد ، أن لا يتفقوا على دين ، ومن مقتضى هدايته في بعثة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين وهادين لا جبارين ، فعليهم أن لا يضيقوا ذرعا بحرية الناس في اعتقادهم ، فإن خالقهم هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان إجبارا وهو قادر على ذلك ، ثم عطف على هذا الإرشاد النهي عن سب آلهتهم ، وطلب بعضهم للآيات وحقيقة حالهم فيها فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108nindex.php?page=treesubj&link=28977ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) ; أي ولا تسبوا أيها المؤمنون معبوداتهم التي يدعونها من دون الله لجلب النفع لهم أو دفع الضر عنهم بوساطتها وشفاعتها عند الله لهم ، فيترتب على ذلك سبهم لله سبحانه وتعالى ( عدوا ) ، أي تجاوزا منهم في السباب والمشاتمة التي يغيظون بها المؤمنين إلى ذلك بغير علم منهم أن ذلك يكون سبا لله سبحانه ، لأنهم وهم مؤمنون بالله لا يتعمدون سبه ابتداء عن روية وعلم ، بل يسبونه بوصف لا يؤمنون به كسبهم لمن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحقير آلهتهم ، أو لمن يقول إنها لا تشفع ولا تنفع ، أو يقولون قولا يستلزم سبه بحيث يفهم ذلك منهم وإن لم يعلم ذلك قائله . وهذا مما يجب اجتناب سبه حتى على القول بأن لازم المذهب ليس بمذهب أو يقابلون الساب لمعبودهم بمثل سبه يريدون محض المجازاة فيتجاوزونها كما يقع
[ ص: 554 ] كثيرا من المختلفين في الدين والمذهب ، يسب نصراني نبي المسلم فيسب المسلم نبيه ويريد
عيسى : ( عليهما الصلاة والسلام ) ويسب شيعي - يلاحي سنيا ويماريه -
أبا بكر فيسب
عليا ( رضى الله عنهما ) والأول يعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=10030سب عيسى كفر ; كسب
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والثاني يعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=19098سب علي فسق ; كسب
أبي بكر - رضي الله عنهما . ومثل هذا يقع كثيرا ، بل كثيرا ما يتساب أخوان من أهل دين واحد يسب أحدهما أبا الآخر أو معبوده فيقابله بمثل سبه ، يغيظه بسب أبيه مضافا إليه ويعده إهانة له ، فيسبه مضافا إلى أخيه إهانة لأخيه .
وهذا كله من حب الذات والجهل الحامل على المعاقبة على الجريمة بارتكابها عينها ، يهين والده المعظم عنده ومعبوده الذي هو أعظم منه احتماء لنفسه وعصبية لها . وقد جاء في الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو مرفوعا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919753من الكبائر nindex.php?page=treesubj&link=19093شتم الرجل والديه " قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : " يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه " .
فالمراد بالعلم المنفي - على هذا - العلم الحضوري الباعث على العمل وهو إرادة السب التي يقصد بها إهانة المسبوب ، فإن هذا الساب هنا لا يتوجه قصده إلا إلى إهانة مخاطبه الذي سبه ويجوز أن يراد بالعلم المنفي اعتقاد الساب أن خصمه لا يعبد الله تعالى بل يعبد إلها آخر ، لأنه يصف معبوده بما لا يصح أن يوصف به الله تعالى عنده ، وقد ثبت عن بعض المختلفين في الأديان وفي مذاهب الدين الواحد وصف ربهم وإلاههم بصفات ، ورب خصومهم وإلههم بصفات تناقضها أو تضادها ، كما يقول مثبتو الصفات ونفاتها بعضهم في بعض ويمكن التمثيل لهذا باختلاف
الأشعرية والمعتزلة في مسألة إرادة الله تعالى للشر والكفر وعدمها ، فقد يبالغ كل منهما فيه فيزعم أن إلهه غير إله مخالفه ، وقد نقل عن اثنين من أكابر علمائهما أنهما التقيا فقال المعتزلي : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، فقال الأشعري : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ، أي ومنه الفحشاء فهل يبعد أن يعبر بعض المجازفين عن هذين المعنيين بصيغة السب لتأييد المذهب ؟ دع ما يقوله من هم أشد منهم غلوا في تضليل المخالف وتكفيره والجميع يقولون إنهم يعبدون الله خالق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما ، وهم صادقون في ذلك وإن اتخذ بعضهم له شريكا أو وصفه بما لا يليق به أو نفى عنه عما وصف به نفسه ، ولكن تعصب المرء لنفسه ولمن تجمعه به جامعة ما قد تحمله على توسيع شقة الخلاف بمثل ذلك ولا سيما في أثناء الجدل ، وفي هذا المقام تزداد فهما لقوله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=46ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) 29 : 46 هذا ما نراه في معنى النهي وتعليله وقد ورد في المأثور ما يؤيد بعضه ننقله عن الدر المنثور وهو :
" أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن منذر وابن حاتم وابن مردويه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
[ ص: 555 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) الآية . قال قالوا : يا
محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجو ربك ; فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم .
وأخرج
ابن حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال :
لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط nindex.php?page=showalam&ids=59وعمرو بن العاص والأسود بن البختري وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا : استأذن لنا على أبي طالب . فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم عليه فدخلوا فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه . فدعاه فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : هؤلاء قومك وبنو عمك ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ماذا يريدون ؟ " قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أرأيتم لو أعطيتكم هذا ، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدت لكم الخراج ؟ " قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي ؟ قال : " قولوا : لا إله إلا الله " فأبوا واشمئزوا ، قال أبو طالب : قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها ، قال : " يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ، ما قلت غيرها " إرادة أن يؤيسهم ، فغضبوا وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك ، فأنزل الله : ( nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) .
وأخرج
عبد الرزاق nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن
قتادة قال : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله ، فأنزل الله (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) انتهى . أي أنزل ذلك ضمن السورة كما تقدم نظيره " ا هـ .
وقد غفل بعض المفسرين عن مثل ما ذكرنا من شئون الناس التي تحملهم على سب أعظم شيء عندهم في حال الغضب ، والملاحاة في المراء والجدل وعن التفسير المأثور عن السلف ، حتى قال بعضهم : إن المراد بسبهم الله تعالى هنا سب رسوله - صلى الله عليه وسلم - من باب التجوز على حد قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) 48 : 10 وهو تكلف بعيد ، وقال
الراغب : وسبهم لله ليس على أنهم يسبونه صريحا ، ولكن يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما تنزه تعالى عنه انتهى . وما قاله مما يقع مثله وليس كل المراد .
و استشكل بعضهم النهي بما ورد في الكتاب العزيز من وصف آلهتهم بأنها لا تضر
[ ص: 556 ] ولا تنفع ، ولا تقرب ولا تشفع ، وأنها وإياهم حصب جهنم ، وتسميتها بالطاغوت وهو مبالغة من الطغيان ، وجعل عبادتها طاعة للشيطان . وقد يجاب عنه بأن هذا لا يسمى سبا . وإن زعموه جدلا ، لأن السب هو الشتم وهو ما يقصد به الإهانة والتعيير ، والغرض من ذكر معبوداتهم بذلك بيان الحقائق والتنفير عن الخرافات والمفاسد وأجيب على تقدير التسليم بأن سب ما يستحق السب جائز في نفسه ، وإنما يحظر إذا أدى إلى مفسدة أكبر منه ، والحال هنا كذلك . وقد صح النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام ، وكمثلها التلاوة في المواضع المكروهة .
واستنبط العلماء من هذه الآية أن
nindex.php?page=treesubj&link=29450_28850الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها ، فإن ما يؤدي إلى الشر شر ، وفرقوا بين هذا وبين الطاعة في كل مكان فيه معصية لا يمكن دفعها . وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وإيضاح فإن من الطاعة ما يجب وما لا يجب ، ومن المعاصي والشرور التي تترتب على بعض الطاعات أحيانا ما هو مفسدة راجحة وما ليس كذلك ، ومن كل منهما ما يمكن التفصي من ترتبه على الطاعة وما لا يمكن التفصي منه ، ولكل من ذلك أحكام ، وتعرض له درجات الإنكار الثلاث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918933من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " رواه
أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة .
ومن فروع هذه المسألة ما ذكرناه في العدد الأول من منار السنة الأولى في بحث اصطلاح كتاب العصر ، وهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=28674معنى لفظ الكفر في اللغة الستر والتغطية ، ومنه قيل الليل كافر والبحر كافر ، وأطلق لفظ الكفار في سورة الفتح على الزراع وغلب لفظ الكفر في القرآن وعرف عند الفقهاء والمتكلمين بمعنى المقابل للإيمان الصحيح شرعا ، ثم غلب في عرف كتاب هذا العصر على الملاحدة المعطلين المنكرين لوجود الله عز وجل ، فصار إطلاقه على كل متدين سبا وإهانة ، فيترتب على هذا أن إطلاقه على من يحرم إيذاؤه من أهل الأديان محرم شرعا إذا تأذى به ولا سيما في الخطاب . وذكرنا لهذا من فتاوى الحنفية وهو ما في معين الحكام قال : إذا
nindex.php?page=treesubj&link=19102شتم الذمي يعزر لأنه ارتكب معصية . وفيه نقلا عن الغنية : ولو قال للذمي يا كافر يأثم إن شق عليه ذلك اهـ .
( ومنها ) ما ذكرته في سياق الكلام في المختلفين في لعن
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية بن أبي سفيان من ( المنار ص 630 م7 ) بعد بيان ما يترتب على لعنه من التعادي بين الشيعة والسنيين وهو : لهذا لا أبالي أن أقول : لو اطلع على الغيب وعلم أنه مات على غير الإسلام لما جاز له أن يلعنه . وغرضي من هذا أن اللعن يترتب عليه مفاسد الشقاق بين المسلمين ما يجعله محرما وأكثر المسلمين يحرمون لعنه ، وقد لعن الله الشيطان ويلعنه اللاعنون في
[ ص: 557 ] كل مكان ، ومن لا يلعنه طول عمره لا يسأله الله عن ذلك لأنه لم يوجب عليه كما قال بعض الأئمة ، وليس هو من الطاعات التي أمرنا الله تعالى بها وإن كان جائزا في نفسه .
( ومنها ) ما نقل عن
أبي منصور قال : كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه - وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر " ؟ وكذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه وأجاب عنه بأن سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهم فرض وكذا التبليغ ، وما كان مباحا ينهى عما يتولد عنه .
واختلف الفقهاء في
nindex.php?page=treesubj&link=11436إجابة الدعوة إلى وليمة النكاح المقارنة لبعض المعاصي كما يقع كثيرا ; هل يجيب الدعوة ويغير ما يراه من المنكر بيده أو بلسانه إن قدر ، وإلا أنكره بقلبه وصبر ؟ أم يجيب في حال القدرة على التغيير دون حال العجز ؟ أم يفرق فيه بين من يقتدى به وغيره فيحرم حضوره المنكر ولو مع النهي عنه على الأول دون الثاني ؟ أقوال : لا مجال هنا لتحقيق الحق فيها ، ولا للإطالة في فروع المسألة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108nindex.php?page=treesubj&link=28977كذلك زينا لكل أمة عملهم ) أي مثل ذلك التزيين الذي يحمل المشركين على ما ذكر - حمية لمن يدعو من دون الله - زينا لكل أمة عملهم من إيمان وكفر وخير وشر ، أي مضت سنتنا في أخلاق البشر وشئونهم أن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه مما كان عليه آباؤهم ، أو مما استحدثوه بأنفسهم ، إذا صار يسند وينسب إليهم ، سواء كانوا على تقليد وجهل ، أم على بينة وعلم ، فسبب التزيين في الأول أنسهم به كونه من شئون أمتهم ، التي يعد مدحها مدحا لها ولهم ، وذمها عارا عليها وعليهم ، وزد على ذلك في الثاني ما يعطيه العلم من كون ذلك حقا وخيرا في نفسه يترتب عليه فضلهم على غيرهم فيه وفي الجزاء عليه ، وشبهات الأول ليس لها مثل هذا التأثير .
فظهر بهذا أن التزيين أثر لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه ، وليس المراد به أن الله خلق في قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر ، وفي قلوب بعضها تزيينا للإيمان والخير خلقا ابتدائيا ، من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك ، إذ لو كان الأمر كما ذكر لكان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائز الخلقية التي تعد الدعوة إليها والترغيب فيها ، وما يقابلهما من النهي والترهيب عنها من العبث الذي يتنزه الله تعالى عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله ، ولكان عمل الرسل والحكماء والمؤدبين الذين يهدون الناس ويزكون بالتأديب - كله من الجنون ، ومن لوازم ذلك أن يكون التفاوت بين الأخيار والأشرار من الناس كالتفاوت بين الملائكة والشياطين ، وهو خلاف مقطوع به عقلا ونقلا من استوائهم في قابلية كل منهم للإيمان والكفر والخير والشر ، وقد غفلت
المعتزلة عن هذا التحقيق فأول بعضهم الآية بأنها خاصة بالمؤمنين الذين زين الله في قلوبهم
[ ص: 558 ] الإيمان ، وبعضهم بغير ذلك ، واحتج بها بعض
الجبرية في الظاهر والباطن معا ، وبعض
الأشعرية الذين يعتقدون الجبر ويقيمون الحجج لإثباته ويتبرءون من لفظه والانتساب إلى أهله - احتج كل منهما بأنها نص في مذهبه . وقد تفلسف
الرازي في الاستدلال على أن تزيين الكفر بخلق الله تعالى من غير اختيار للعبد ، فزعم أن الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم لكونه كفرا وجهلا ، وإنما يختاره لاعتقاده كونه إيمانا وعلما وصدقا وحقا ، فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل الثاني ، وذلك الجهل السابق إن كان اختياريا يقال فيه مثل ما قيل فيما قبله فيلزم التسلسل المحال ، وقال : " لما كان ذلك باطلا وجب انتهاء تلك الجهالات إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه ابتداء ، وهو بسبب ذلك الجهل ظن في الكفر كونه إيمانا وحقا وعلما وصدقا ، فثبت أنه يستحيل من الكافر اختيار الجهل في قلبه " اهـ . ويبطل هذا الدليل الذي سماه قطعيا أن الجهل أمر سلبي لا يوصف بأنه خلق ابتدائي ، وأنه ليس كل كفر مزينا لصاحبه باعتقاده أنه حق وعلم وصدق كما زعم بل شر الكفر وأشده كفر الجحود والعناد والمكابرة ، وإنما يزينه الشيطان لصاحبه بعده من عزة النفس وشرفها ، بالامتناع من اعترافها بما تراه عارا عليها وعلى الآباء والأجداد باتباع من هو دونها في الشرف والجاه كما عرف من شأن الجادين ، من رؤساء الأمم المترفين ، مع الأنبياء المرسلين ، وورثتهم من العلماء المصلحين .
فعلم من هذا التحقيق أن تزيين الأعمال للأمم عبارة عن سنة الله تعالى في أعمالها وعاداتها وأخلاقها المكسوبة والموروثة . وقد بينا في تفسير : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14زين للناس حب الشهوات ) 3 : 14 أن ما كان كذلك لا يسند إلى الله تعالى واضع السنن وكاتب المقادير وأما تزيين القبيح من عمل واعتقاد فيسنده تارة إلى الشيطان ، وشواهده في هذه السورة ( 6 : 43 و 137 ) وفي الأنفال ( 8 : 48 ) والنحل ( 16 : 63 ) والنمل ( 27 : 24 ) والعنكبوت ( 29 : 38 ) وحم السجدة ( 41 : 25 ) وتارة إلى المفعول وشواهده في هذه السورة ( 6 : 22 ) وفي التوبة ويونس وفاطر والمؤمن والقتال والفتح وورد إسناده إلى الله تعالى في أول سورة النمل فقط ، ويقابله إسناد تزيين الإيمان إليه تبارك اسمه في سورة الحجرات فقط ويجمعهما معا إسناد الأعمال إليه تعالى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، ونحوه إسناد " حب الشهوات " إلى المفعول في سورة آل عمران ويراجع تفسيرنا لها ، ولقوله تعالى في أواخر سورة البقرة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، وفي تفسير الأخيرة كلام حسن للأستاذ الإمام في الخير والشر .
[ ص: 559 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108nindex.php?page=treesubj&link=28977ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) أي ثم يرجع جميع أفراد أولئك الأمم إلى ربهم الذي هو سيدهم ومالك أمرهم بعد أن يموتوا ويبعثوا لا إلى غيره ، إذ لا رب غيره ، فينبئهم عقب رجوعهم إليه للحساب والجزاء بما كانوا يعملون مما كان مزينا لهم وغير مزين ، ويجزيهم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
[ ص: 553 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=109وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=110وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِتَبْلِيغِ وَحْيِهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِمُقَابَلَةِ جُحُودِهِمْ وَطَعْنِهِمْ فِي الْوَحْيِ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُتَفَاوِتِي الِاسْتِعْدَادِ ، مُخْتَلِفِي الْفَهْمِ وَالِاجْتِهَادِ ، أَنْ لَا يَتَّفِقُوا عَلَى دِينٍ ، وَمِنْ مُقْتَضَى هِدَايَتِهِ فِي بَعْثَةِ الرُّسُلِ أَنْ يَكُونُوا مُبَلِّغِينَ لَا مُسَيْطِرِينَ وَهَادِينَ لَا جَبَّارِينَ ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَضِيقُوا ذَرْعًا بِحُرِّيَّةِ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِمْ ، فَإِنَّ خَالِقَهُمْ هُوَ الَّذِي مَنَحَهُمْ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ وَلَمْ يُجْبِرْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِجْبَارًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا الْإِرْشَادِ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ ، وَطَلَبِ بَعْضِهِمْ لِلْآيَاتِ وَحَقِيقَةِ حَالِهِمْ فِيهَا فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108nindex.php?page=treesubj&link=28977وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرٍ عِلْمِ ) ; أَيْ وَلَا تَسُبُّوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ لِجَلْبِ النَّفْعِ لَهُمْ أَوْ دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ بِوَسَاطَتِهَا وَشَفَاعَتِهَا عِنْدَ اللَّهِ لَهُمْ ، فَيَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ سَبُّهُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ( عَدْوًا ) ، أَيْ تَجَاوُزًا مِنْهُمْ فِي السِّبَابِ وَالْمُشَاتَمَةِ الَّتِي يَغِيظُونَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ، لِأَنَّهُمْ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ لَا يَتَعَمَّدُونَ سَبَّهُ ابْتِدَاءً عَنْ رَوِيَّةٍ وَعِلْمٍ ، بَلْ يَسُبُّونَهُ بِوَصْفٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ كَسَبِّهِمْ لِمَنْ أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَحْقِيرِ آلِهَتِهِمْ ، أَوْ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّهَا لَا تَشْفَعُ وَلَا تَنْفَعُ ، أَوْ يَقُولُونَ قَوْلًا يَسْتَلْزِمُ سَبَّهُ بِحَيْثُ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ قَائِلُهُ . وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ اجْتِنَابُ سَبِّهِ حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ أَوْ يُقَابِلُونَ السَّابَّ لِمَعْبُودِهِمْ بِمِثْلِ سَبِّهِ يُرِيدُونَ مَحْضَ الْمُجَازَاةِ فَيَتَجَاوَزُونَهَا كَمَا يَقَعُ
[ ص: 554 ] كَثِيرًا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَالْمَذْهَبِ ، يَسُبُّ نَصْرَانِيٌّ نَبِيَّ الْمُسْلِمِ فَيَسُبُّ الْمُسْلِمُ نَبِيَّهُ وَيُرِيدُ
عِيسَى : ( عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) وَيَسُبُّ شِيعِيٌّ - يُلَاحِي سُنِّيًّا وَيُمَارِيهِ -
أَبَا بَكْرٍ فَيَسُبُّ
عَلِيًّا ( رِضَى اللَّهِ عَنْهُمَا ) وَالْأَوَّلُ يَعْلَمُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=10030سَبَّ عِيسَى كُفْرٌ ; كَسَبِّ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَالثَّانِي يَعْلَمُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19098سَبَّ عَلَيٍّ فِسْقٌ ; كَسَبِّ
أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ كَثِيرًا ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَتَسَابُّ أَخَوَانِ مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ يَسُبُّ أَحَدُهُمَا أَبَا الْآخَرِ أَوْ مَعْبُودَهُ فَيُقَابِلُهُ بِمِثْلِ سَبِّهِ ، يَغِيظُهُ بِسَبِّ أَبِيهِ مُضَافًا إِلَيْهِ وَيَعُدُّهُ إِهَانَةً لَهُ ، فَيَسُبُّهُ مُضَافًا إِلَى أَخِيهِ إِهَانَةً لِأَخِيهِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حُبِّ الذَّاتِ وَالْجَهْلِ الْحَامِلِ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الْجَرِيمَةِ بِارْتِكَابِهَا عَيْنِهَا ، يُهِينُ وَالِدَهُ الْمُعَظَّمَ عِنْدَهُ وَمَعْبُودَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ احْتِمَاءً لِنَفْسِهِ وَعَصَبِيَّةً لَهَا . وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=13عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919753مِنَ الْكَبَائِرِ nindex.php?page=treesubj&link=19093شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : " يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ " .
فَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ - عَلَى هَذَا - الْعِلْمُ الْحُضُورِيُّ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ وَهُوَ إِرَادَةُ السَّبِّ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا إِهَانَةُ الْمَسْبُوبِ ، فَإِنَّ هَذَا السَّابَّ هُنَا لَا يَتَوَجَّهُ قَصْدُهُ إِلَّا إِلَى إِهَانَةِ مُخَاطَبِهِ الَّذِي سَبَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ اعْتِقَادُ السَّابِّ أَنَّ خَصْمَهُ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى بَلْ يَعْبُدُ إِلَهًا آخَرَ ، لِأَنَّهُ يَصِفُ مَعْبُودَهُ بِمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأَدْيَانِ وَفِي مَذَاهِبِ الدِّينِ الْوَاحِدِ وَصْفُ رَبِّهِمْ وَإِلَاهِهِمْ بِصِفَاتٍ ، وَرَبِّ خُصُومِهِمْ وَإِلَهِهِمْ بِصِفَاتٍ تُنَاقِضُهَا أَوْ تُضَادُّهَا ، كَمَا يَقُولُ مُثْبِتُو الصِّفَاتِ وَنُفَاتُهَا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَيُمْكِنُ التَّمْثِيلُ لِهَذَا بِاخْتِلَافِ
الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلشَّرِّ وَالْكُفْرِ وَعَدِمِهَا ، فَقَدْ يُبَالِغُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ فَيَزْعُمُ أَنَّ إِلَهَهُ غَيْرُ إِلَهِ مُخَالِفِهِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ اثْنَيْنِ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَائِهِمَا أَنَّهُمَا الْتَقَيَا فَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ : سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ : سُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ ، أَيْ وَمِنْهُ الْفَحْشَاءُ فَهَلْ يَبْعُدُ أَنْ يُعَبِّرَ بَعْضُ الْمُجَازِفِينَ عَنْ هَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بِصِيغَةِ السَّبِّ لِتَأْيِيدِ الْمَذْهَبِ ؟ دَعْ مَا يَقُولُهُ مَنْ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ غُلُوًّا فِي تَضْلِيلِ الْمُخَالِفِ وَتَكْفِيرِهِ وَالْجَمِيعُ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا فِيهِمَا ، وَهُمْ صَادِقُونَ فِي ذَلِكَ وَإِنِ اتَّخَذَ بَعْضُهُمْ لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَصَفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ أَوْ نَفَى عَنْهُ عَمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، وَلَكِنَّ تَعَصُّبَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ تَجْمَعُهُ بِهِ جَامِعَةٌ مَا قَدْ تَحْمِلُهُ عَلَى تَوْسِيعِ شِقَّةِ الْخِلَافِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا فِي أَثْنَاءِ الْجَدَلِ ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَزْدَادُ فَهْمًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=46وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) 29 : 46 هَذَا مَا نَرَاهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ وَتَعْلِيلِهِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ مَا يُؤَيِّدُ بَعْضَهُ نَنْقُلُهُ عَنِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَهُوَ :
" أَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مُنْذِرٍ وَابْنُ حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ :
[ ص: 555 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) الْآيَةَ . قَالَ قَالُوا : يَا
مُحَمَّدُ لَتَنْتَهِيَنَّ عَنْ سَبِّكَ آلِهَتَنَا أَوْ لَنَهْجُوَ رَبَّكَ ; فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانَهُمْ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ .
وَأَخْرَجَ
ابْنُ حَاتِمٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيِّ قَالَ :
لَمَا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْمَوْتُ قَالَتْ قُرَيْشٌ : انْطَلِقُوا فَلْنَدْخُلْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَنَأْمُرْهُ أَنْ يَنْهَى عَنَّا ابْنَ أَخِيهِ ، فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَعَقَبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ nindex.php?page=showalam&ids=59وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ وَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الْمُطَّلِبُ فَقَالُوا : اسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَى أَبِي طَالِبٍ . فَأَتَى أَبَا طَالِبٍ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ ، فَأَذِنَ لَهُمْ عَلَيْهِ فَدَخَلُوا فَقَالُوا : يَا أَبَا طَالِبٍ أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ آذَانَا وَآذَى آلِهَتَنَا فَنُحِبُّ أَنْ تَدْعُوَهُ فَتَنْهَاهُ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِنَا وَلْنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ . فَدَعَاهُ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ : هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَاذَا يُرِيدُونَ ؟ " قَالُوا : نُرِيدُ أَنْ تَدَعَنَا وَآلِهَتَنَا وَلْنَدَعْكَ وَإِلَهَكَ ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذَا ، هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كَلِمَةً إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا الْعَرَبَ وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ وَأَدَّتْ لَكُمُ الْخَرَاجَ ؟ " قَالَ أَبُو جَهْلٍ : وَأَبِيكَ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعِشْرَةَ أَمْثَالِهَا فَمَا هِيَ ؟ قَالَ : " قُولُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَأَبَوْا وَاشْمَئَزُّوا ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ : قُلْ غَيْرَهَا فَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ فَزِعُوا مِنْهَا ، قَالَ : " يَا عَمِّ مَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ غَيْرَهَا حَتَّى يَأْتُوا بِالشَّمْسِ فَيَضَعُوهَا فِي يَدِيَ ، وَلَوْ أَتَوْنِي بِالشَّمْسِ فَوَضَعُوهَا فِي يَدِيَ ، مَا قُلْتُ غَيْرَهَا " إِرَادَةَ أَنْ يُؤُيِسَهُمْ ، فَغَضِبُوا وَقَالُوا لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَنَشْتُمَ مَنْ يَأْمُرُكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .
وَأَخْرَجَ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ nindex.php?page=showalam&ids=16298وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ nindex.php?page=showalam&ids=16935وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ nindex.php?page=showalam&ids=16328وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ
قَتَادَةَ قَالَ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَصْنَامَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّ الْكُفَّارُ اللَّهَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) انْتَهَى . أَيْ أَنْزَلَ ذَلِكَ ضِمْنَ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ " ا هـ .
وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُئُونِ النَّاسِ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى سَبِّ أَعْظَمِ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ فِي حَالِ الْغَضَبِ ، وَالْمُلَاحَاةِ فِي الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ وَعَنِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْمُرَادَ بِسَبِّهِمُ اللَّهَ تَعَالَى هُنَا سَبُّ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ) 48 : 10 وَهُوَ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ ، وَقَالَ
الرَّاغِبُ : وَسَبُّهُمْ لِلَّهِ لَيْسَ عَلَى أَنَّهُمْ يَسُبُّونَهُ صَرِيحًا ، وَلَكِنْ يَخُوضُونَ فِي ذِكْرِهِ فَيَذْكُرُونَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَيَتَمَادَوْنَ فِي ذَلِكَ بِالْمُجَادَلَةِ فَيَزْدَادُونَ فِي ذِكْرِهِ بِمَا تَنَزَّهَ تَعَالَى عَنْهُ انْتَهَى . وَمَا قَالَهُ مِمَّا يَقَعُ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كُلَّ الْمُرَادِ .
وَ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ وَصْفِ آلِهَتِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ
[ ص: 556 ] وَلَا تَنْفَعُ ، وَلَا تُقَرِّبُ وَلَا تَشْفَعُ ، وَأَنَّهَا وَإِيَّاهُمْ حَصَبُ جَهَنَّمَ ، وَتَسْمِيَتُهَا بِالطَّاغُوتِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الطُّغْيَانِ ، وَجَعَلَ عِبَادَتَهَا طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ . وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى سَبًّا . وَإِنْ زَعَمُوهُ جَدَلًا ، لِأَنَّ السَّبَّ هُوَ الشَّتْمُ وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِهَانَةُ وَالتَّعْيِيرُ ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ مَعْبُودَاتِهِمْ بِذَلِكَ بَيَانُ الْحَقَائِقِ وَالتَّنْفِيرِ عِنِ الْخُرَافَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَأُجِيبَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّ سَبَّ مَا يَسْتَحِقُّ السَّبَّ جَائِزٌ فِي نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يُحْظَرُ إِذَا أَدَّى إِلَى مَفْسَدَةِ أَكْبَرَ مِنْهُ ، وَالْحَالُ هُنَا كَذَلِكَ . وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ ، وَكَمِثْلِهَا التِّلَاوَةُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَكْرُوهَةِ .
وَاسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29450_28850الطَّاعَةَ إِذَا أَدَّتْ إِلَى مَعْصِيَةٍ رَاجِحَةٍ وَجَبَ تَرْكُهَا ، فَإِنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الشَّرِّ شَرٌّ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الطَّاعَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ فَإِنَّ مِنَ الطَّاعَةِ مَا يَجِبُ وَمَا لَا يَجِبُ ، وَمِنَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى بَعْضِ الطَّاعَاتِ أَحْيَانًا مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَمِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يُمْكِنُ التَّفَصِي مِنْ تُرَتُّبِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّفَصِي مِنْهُ ، وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ أَحْكَامٌ ، وَتَعْرِضُ لَهُ دَرَجَاتُ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918933مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ .
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَدَدِ الْأَوَّلِ مِنْ مَنَارِ السَّنَةِ الْأُولَى فِي بَحْثِ اصْطِلَاحِ كِتَابِ الْعَصْرِ ، وَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28674مَعْنَى لَفْظِ الْكُفْرِ فِي اللُّغَةِ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ ، وَمِنْهُ قِيلَ اللَّيْلُ كَافِرٌ وَالْبَحْرُ كَافِرٌ ، وَأُطْلِقَ لَفْظُ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ عَلَى الزُّرَّاعِ وَغَلَبَ لَفْظُ الْكُفْرِ فِي الْقُرْآنِ وَعُرِفَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِمَعْنَى الْمُقَابِلِ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ شَرْعًا ، ثُمَّ غَلَبَ فِي عُرْفِ كُتَّابِ هَذَا الْعَصْرِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ الْمُعَطِّلِينَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَصَارَ إِطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ مُتَدَيِّنٍ سَبًّا وَإِهَانَةً ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى مَنْ يَحْرُمُ إِيذَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا إِذَا تَأَذَّى بِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْخِطَابِ . وَذَكَرْنَا لِهَذَا مِنْ فَتَاوَى الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَا فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ قَالَ : إِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=19102شَتَمَ الذِّمِّيَّ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً . وَفِيهِ نَقْلًا عَنِ الْغُنْيَةِ : وَلَوْ قَالَ لِلذِّمِّيِّ يَا كَافِرُ يَأْثَمُ إِنَّ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ اهـ .
( وَمِنْهَا ) مَا ذَكَرْتُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فِي الْمُخْتَلِفِينَ فِي لَعْنِ
nindex.php?page=showalam&ids=33مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ ( الْمَنَارِ ص 630 م7 ) بَعْدَ بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى لَعْنِهِ مِنَ التَّعَادِي بَيْنَ الشِّيعَةِ وَالسُّنِّيِّينَ وَهُوَ : لِهَذَا لَا أُبَالِي أَنْ أَقُولَ : لَوِ اطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ . وَغَرَضِي مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّعْنَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَجْعَلُهُ مُحَرَّمًا وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يُحَرِّمُونَ لَعْنَهُ ، وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ فِي
[ ص: 557 ] كُلِّ مَكَانٍ ، وَمَنْ لَا يَلْعَنُهُ طُولَ عُمُرِهِ لَا يَسْأَلُهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ .
( وَمِنْهَا ) مَا نُقِلَ عَنْ
أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ : كَيْفَ نَهَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سَبِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّبَّ لِئَلَّا يُسَبَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ - وَقَدْ أَمَرَنَا بِقِتَالِهِمْ وَإِذَا قَاتَلْنَاهُمْ قَتَلُونَا وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ مُنْكَرٌ " ؟ وَكَذَا أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّبْلِيغِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ سَبَّ الْآلِهَةِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَفْرُوضٍ وَقِتَالَهُمْ فَرْضٌ وَكَذَا التَّبْلِيغُ ، وَمَا كَانَ مُبَاحًا يَنْهَى عَمَّا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=11436إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى وَلِيمَةِ النِّكَاحِ الْمُقَارِنَةِ لِبَعْضِ الْمَعَاصِي كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا ; هَلْ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ وَيُغَيِّرُ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمُنْكَرِ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ إِنَّ قَدَرَ ، وَإِلَّا أَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ وَصَبَرَ ؟ أَمْ يُجِيبُ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ دُونَ حَالِ الْعَجْزِ ؟ أَمْ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَغَيْرِهِ فَيَحْرُمُ حُضُورُهُ الْمُنْكَرَ وَلَوْ مَعَ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ؟ أَقْوَالٌ : لَا مَجَالَ هُنَا لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهَا ، وَلَا لِلْإِطَالَةِ فِي فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108nindex.php?page=treesubj&link=28977كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي يَحْمِلُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا ذُكِرَ - حَمِيَّةً لِمَنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ - زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ ، أَيْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وُشُئُونِهِمْ أَنْ يَسْتَحْسِنُوا مَا يَجْرُونَ عَلَيْهِ وَيَتَعَوَّدُونَهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ ، أَوْ مِمَّا اسْتَحْدَثُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ ، إِذَا صَارَ يُسْنَدُ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِمْ ، سَوَاءٌ كَانُوا عَلَى تَقْلِيدٍ وَجَهْلٍ ، أَمْ عَلَى بَيِّنَةٍ وَعِلْمٍ ، فَسَبَبُ التَّزْيِينِ فِي الْأَوَّلِ أُنْسُهُمْ بِهِ كَوْنُهُ مِنْ شُئُونِ أُمَّتِهِمُ ، الَّتِي يُعَدُّ مَدْحُهَا مَدْحًا لَهَا وَلَهُمْ ، وَذَمُّهَا عَارًا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِمْ ، وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فِي الثَّانِي مَا يُعْطِيهِ الْعِلْمُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ حَقًّا وَخَيْرًا فِي نَفْسِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَضْلُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِيهِ وَفِي الْجَزَاءِ عَلَيْهِ ، وَشُبُهَاتُ الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهَا مِثْلُ هَذَا التَّأْثِيرِ .
فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ التَّزْيِينَ أَثَرٌ لِأَعْمَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ لَا جَبْرَ فِيهَا وَلَا إِكْرَاهَ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي قُلُوبِ بَعْضِ الْأُمَمِ تَزْيِينًا لِلْكُفْرِ وَالشَّرِّ ، وَفِي قُلُوبِ بَعْضِهَا تَزْيِينًا لِلْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ خَلْقًا ابْتِدَائِيًّا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ نَشَأَ عَنْهُ ذَلِكَ ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ لَكَانَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مِنَ الْغَرَائِزِ الْخُلُقِيَّةِ الَّتِي تُعَدُّ الدَّعْوَةُ إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا ، وَمَا يُقَابِلُهُمَا مِنَ النَّهْيِ وَالتَّرْهِيبِ عَنْهَا مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي يَتَنَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ لِأَجْلِهِ ، وَلَكَانَ عَمَلُ الرُّسُلِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْمُؤَدِّبِينَ الَّذِينَ يَهْدُونَ النَّاسَ وَيُزَكُّونَ بِالتَّأَدِيبِ - كُلُّهُ مِنَ الْجُنُونِ ، وَمَنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ مِنَ النَّاسِ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ ، وَهُوَ خِلَافٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا مِنِ اسْتِوَائِهِمْ فِي قَابِلِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَقَدْ غَفَلَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ هَذَا التَّحْقِيقِ فَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ زَيَّنَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ
[ ص: 558 ] الْإِيمَانَ ، وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَاحْتَجَّ بِهَا بَعْضُ
الْجَبْرِيَّةِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعًا ، وَبَعْضُ
الْأَشْعَرِيَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ الْجَبْرَ وَيُقِيمُونَ الْحُجَجَ لِإِثْبَاتِهِ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ لَفْظِهِ وَالِانْتِسَابِ إِلَى أَهْلِهِ - احْتَجَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّهَا نَصٌّ فِي مَذْهَبِهِ . وَقَدْ تَفَلْسَفَ
الرَّازِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ تَزْيِينَ الْكُفْرِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ ، فَزَعَمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ ابْتِدَاءً مَعَ الْعِلْمِ لِكَوْنِهِ كُفْرًا وَجَهْلًا ، وَإِنَّمَا يَخْتَارُهُ لِاعْتِقَادِهِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَعِلْمًا وَصِدْقًا وَحَقًّا ، فَلَوْلَا سَابِقَةُ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ لَمَا اخْتَارَ هَذَا الْجَهْلَ الثَّانِي ، وَذَلِكَ الْجَهْلُ السَّابِقُ إِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا يُقَالُ فِيهِ مِثْلُ مَا قِيلَ فِيمَا قَبْلَهُ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْمُحَالُ ، وَقَالَ : " لَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَجَبَ انْتِهَاءُ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلٍ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ ابْتِدَاءً ، وَهُوَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجَهْلِ ظَنَّ فِي الْكُفْرِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَحَقًّا وَعِلْمًا وَصِدْقًا ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنَ الْكَافِرِ اخْتِيَارُ الْجَهْلِ فِي قَلْبِهِ " اهـ . وَيُبْطِلُ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي سَمَّاهُ قَطْعِيًّا أَنَّ الْجَهْلَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَلْقٌ ابْتِدَائِيٌّ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ كُفْرٍ مُزَيَّنًا لِصَاحِبِهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَقٌّ وَعِلْمٌ وَصِدْقٌ كَمَا زَعَمَ بَلْ شَرُّ الْكُفْرِ وَأَشَدُّهُ كُفْرُ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ ، وَإِنَّمَا يُزَيِّنُهُ الشَّيْطَانُ لِصَاحِبِهِ بِعَدِّهِ مِنْ عِزَّةِ النَّفْسِ وَشَرَفِهَا ، بِالِامْتِنَاعِ مِنِ اعْتِرَافِهَا بِمَا تَرَاهُ عَارًا عَلَيْهَا وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ بِاتِّبَاعِ مَنْ هُوَ دُونَهَا فِي الشَّرَفِ وَالْجَاهِ كَمَا عُرِفَ مِنْ شَأْنِ الْجَادِّينَ ، مِنْ رُؤَسَاءِ الْأُمَمِ الْمُتْرَفِينَ ، مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ ، وَوَرِثَتِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُصْلِحِينَ .
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّحْقِيقِ أَنَّ تَزْيِينَ الْأَعْمَالِ لِلْأُمَمِ عِبَارَةٌ عَنْ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَعْمَالِهَا وَعَادَاتِهَا وَأَخْلَاقِهَا الْمَكْسُوبَةِ وَالْمَوْرُوثَةِ . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ) 3 : 14 أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاضِعِ السُّنَنِ وَكَاتِبِ الْمَقَادِيرِ وَأَمَّا تَزْيِينُ الْقَبِيحِ مِنْ عَمَلٍ وَاعْتِقَادٍ فَيُسْنِدُهُ تَارَةً إِلَى الشَّيْطَانِ ، وَشَوَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ( 6 : 43 و 137 ) وَفِي الْأَنْفَالِ ( 8 : 48 ) وَالنَّحْلِ ( 16 : 63 ) وَالنَّمْلِ ( 27 : 24 ) وَالْعَنْكَبُوتِ ( 29 : 38 ) وَحم السَّجْدَةِ ( 41 : 25 ) وَتَارَةً إِلَى الْمَفْعُولِ وَشَوَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ( 6 : 22 ) وَفِي التَّوْبَةِ وَيُونُسَ وَفَاطِرٍ وَالْمُؤْمِنِ وَالْقِتَالِ وَالْفَتْحِ وَوَرَدَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ فَقَطْ ، وَيُقَابِلُهُ إِسْنَادُ تَزْيِينِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ فَقَطْ وَيَجْمَعُهُمَا مَعًا إِسْنَادُ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا ، وَنَحْوُهُ إِسْنَادُ " حُبُّ الشَّهَوَاتِ " إِلَى الْمَفْعُولِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُنَا لَهَا ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، وَفِي تَفْسِيرِ الْأَخِيرَةِ كَلَامٌ حَسَنٌ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ .
[ ص: 559 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108nindex.php?page=treesubj&link=28977ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنْبِئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أَيْ ثُمَّ يَرْجِعُ جَمِيعُ أَفْرَادِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ إِلَى رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ سَيِّدُهُمْ وَمَالِكُ أَمَرِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَمُوتُوا وَيُبْعَثُوا لَا إِلَى غَيْرِهِ ، إِذْ لَا رَبَّ غَيْرُهُ ، فَيُنْبِئُهُمْ عَقِبَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِمَّا كَانَ مُزَيَّنًا لَهُمْ وَغَيْرَ مُزَيَّنٍ ، وَيَجْزِيهِمْ بِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ .