الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5472 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " ألا أحدثكم حديثا عن الدجال ما حدث به نبي قومه ؟ : إنه أعور يجيء معه بمثل الجنة والنار ، فالتي يقول : إنها الجنة هي النار ، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه " . متفق عليه .

التالي السابق


5472 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا " ) : للتنبيه ( " أحدثكم حديثا عن الدجال ، ما حدث ) أي : حديثا لم يحدث ( " به نبي قومه " ) ؟ ويمكن أن تكون الهمزة للاستفهام ، و ( لا ) للنفي ، بلا مقدرة محذوفة ، أو بادر جوابهم بقوله : ( " إنه أعور " ) ، أي مصور بصورة كريهة ظاهرة ، ومزور بسيرة مموهة باهرة على طريقة الطائفة الساحرة ، وهذا معنى قوله : ( " وإنه " ) أي : الشأن ( " يجيء معه بمثل الجنة " ) ، وفي رواية : بمثال الجنة ( " والنار " ) ، فالباء للتعدية ، والمعنى : أنه يأتي بصورتهما معه في نظر الناس مما يقلب الله تعالى حقيقتهما في حق المؤمنين ، والباء زائدة أي يسير معه مثلهما ، ويصحب له شكلهما ، ويؤيده ما في رواية : يجيء معه تمثال ، بكسر المثناة الفوقية بدل الجار أي : صورتهما ، ( " فالتي " ) أي : فالصورة التي ( " يقول : إنها الجنة " ) أي : ويظهر بادئ الرأي أنها النعمة ( " هي النار " ) أي : ذات النقمة ، والظاهر أن هذا من باب الاكتفاء ، ويدل عليه الحديث الذي يليه ، فالتقدير : والتي يقول إنها النار هي الجنة ، ونظيره : الدنيا في نظر العارفين من أن نقمتها نعمة ونعمتها نقمة ، ومحنتها منحة ومنحتها محنة ، وحسنها وقبحها مختلفة ، كالنيل ماء للمحبوبين ودما للمحجوبين وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين . قال شارح : يعني من دخل جنته استحق النار ; لأنه صدقه ، فأطلق اسم السبب على المسبب .

أقول : وكذا من لم يطعه ورماه في النار استحق دخول الجنة ; لأنه كذبه ، لكن الأظهر أنهما ينقلبان وينعكسان بالفعل عليهما ، كما ورد في : أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ، ومنه : يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وكذا الدنيا المكدرة المسماة بالسجن ، تصير جنة للعارفين الواقفين في مقام الرضا ، كما قيل في قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان جنة في الدنيا وجنة في العقبى ، وكذا زهرة الدنيا بالنسبة إلى أربابها ; لعدم حضورهم مع ربها ، كالسم في الدسم ، والهم في الدرهم ، والنار في الدينار ، وربما لا يحسون بها كالمجنون والمجروح في حال ابتداء الجراحة ، وكالمصروع ; ولذا قيل :

سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار وقضية ولد السلطان حال كونه سكران وعناقه للميتة العجوز المعطرة مشهورة بين أهل العرفان . قال النووي - رحمه الله : هذه الأحاديث حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده ، وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده [ ص: 3455 ] وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى ، من إحياء الميت الذي يقتله وظهور زهرة الدنيا والخصب معه ، واتباع كنوز الأرض له ، وأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت ، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك ، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ، ويقتله عيسى بن مريم ، ويثبت الله الذين آمنوا ، وقصته عظيمة جدا تدهش العقول وتحير الألباب ، مع سرعة مروره في الأرض ، ولا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء دلائل الحدوث والنقص ، فيصدقه من يصدقه في هذه الحالة ; ولهذا حذرت الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من فتنته ، ونبهوا على نقصه ودلائل إبطاله ، وأما أهل التوفيق ، فلا يغترون ولا ينخدعون بما فيه ; لما ذكرناه من الدلائل المكذبة له ، مع ما سبق لهم من العلم بحاله . ( " وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه " ) .

فإن قيل : لم خص نوحا - عليه الصلاة والسلام - بالذكر ؟ قلت : فإن نوحا - عليه الصلاة والسلام - تقدم المشاهير من الأنبياء ، كما خصه بالتقدم في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، ذكره الطيبي - رحمه الله - وفيه أنه إنما يتم هذا إن صح أن من سبقه من الأنبياء أنذر قومه ، وإلا فيترك على حقيقة أوليته ، ويدل عليه حديث : إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا قد أنذر الدجال قومه ، وأما تقديمه في الآية ; فلكونه مقدما على سائر أولي العزم من الرسل بحسب الوجود ; ولذا قدم نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - في آية أخرى على أولي العزم ; لكون تقدمه وجودا ورتبة ، وهي قوله سبحانه جل جلاله : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ، وحاصله أن الخمسة هم أولو العزم من الرسل ، واجتمع ذكرهم في الآيتين المذكورتين ، والله تعالى أعلم . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية