الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          المشركين بذلوا وسيبذلون كل مال للصد عن سبيل الله; ولذا قال سبحانه: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون .

                                                          هذه الآية أقرب إلى الظن أنها مدنية، ولكن نقبل ما يقرره القراء، وهي أنها مكية عند بعضهم، وهي لا تتغير بوصف المكية أو المدنية، فكله كلام الله تعالى لا يتغير بميقات نزوله، ونحسب أن ما في سورة الأنفال مما نزل بمكة قد انتهى إلى ما قبل هذه الآية.

                                                          كتب الصحاح التي تكلمت في أسباب النزول تجمع على أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا بعد أن عضتهم الحرب في بدر، وأرادوا أن يثأروا لأنفسهم - جمعوا مالا لينفقوه في حرب أخرى يعدون لها، ولكن قال الضحاك : إنه عنى بالآية المطعمين الذين كانوا يطعمون يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا.

                                                          [ ص: 3123 ] والمذكور في سيرة محمد بن إسحاق أنه لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان لعيره - مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العيرة تجارة فقالوا: "يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا" ففعلوا، وقد ذكر ذلك عن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما.

                                                          وأيا كانت الأخبار في ذلك - وإنها لصادقة - فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن الله تعالى الرحيم الرءوف بعباده، لا يجعل المؤمنين فريسة لأموال المنافقين ينفقونها للصد عن سبيله، فينصروا بأموالهم وينخذل أهل الحق، فصد هؤلاء عن سبيل الله.

                                                          إن الله تعالى يؤكد أن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فلا يتحقق لهم قصدهم فيقول: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة

                                                          أكد الله سبحانه الإنفاق لهذه الغاية وهي الصد عن سبيل الله، وذلك يجعل كلمة الشرك عالية، ويخضد شوكة المسلمين دعاة الحق، ويمنع الرسول ومن اتبعه من الدعوة، وفي سبيل حرب أهل الإيمان، وقد أكد الله تعالى أنهم سينفقونها بهذه النية الفاسدة، فالسين هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وقد كرر النص الكريم الإخبار بالإنفاق، والأول للغرض من الإنفاق، وهو أنه للصد عن سبيل الله فهو بيان للنية الخبيثة، والقصد الفاسد. والثاني لبيان أنه لا نتيجة لهذا الإنفاق، بل يكون عليهم حسرة، وسيغلبون.

                                                          والفاء في قوله تعالى: فسينفقونها لبيان وقوع ما يريدون من غير أن يترتب عليه ما يحبون.

                                                          [ ص: 3124 ] و(ثم) هي للعطف والترتيب، وكان التعبير بـ(ثم) لبيان بعد ما يقع عما يريدون، فهم أرادوه سرورا لأنفسهم بتحقيق الصد عن سبيل الله، وهزم الحق، وكانت النتيجة ليست سرورا بل حسرة; لأنهم لم يحققوا ما أرادوا وكانت الهزيمة، وهي حسرة ثانية، وكان نصر المؤمنين، وأن يكونوا هم المغلوبين.

                                                          ولا شك أن هذه الأمور التي ترتبت بعيدة عن الغاية التي أرادوها، فكان التعبير بـ(ثم) لهذه المفارقة بين النتائج التي حققت والمبعث للإنفاق.

                                                          والتعبير بالموصول في قوله تعالى: إن الذين كفروا إيذان بأنهم يغالبون الله - وهم الكافرون - بأموالهم، والله هو القاهر فوق عباده.

                                                          هذه عقوبتهم في الدنيا، وهي إنفاقهم وإحباط عملهم، وذهاب ذلك حسرات عليهم، وأن يكونوا مغلوبين ما داموا ينازعون أهل الحق ويصدون عن سبيل إلله.

                                                          أما في الآخرة فجهنم وبئس المصير; ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته: والذين كفروا إلى جهنم يحشرون أي: والذين كفروا بسبب كفرهم يذهبون إلى جهنم يحشرون فيها، وقدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص، أي أنهم يحشرون إلى جهنم وحدها، والتعبير بيحشرون يومئ إلى كثرة أهل جهنم، وإلى أنهم يكونون في ضيق محشورين. اللهم قنا عذاب النار.

                                                          وإن المؤمنين في جنة ونعيم مقيم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية