الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

                                                                                                                                                                                                                                        هذا جواب لمن قال من مكذبي الرسول: إن محمدا ينزل عليه شيطان، وقول من قال: إنه شاعر. (221 - 223) فقال: هل أنبئكم أي: أخبركم الخبر الحقيقي الذي لا [ ص: 1238 ] شك فيه ولا شبهة على من تنزل الشياطين، أي: بصفة الأشخاص الذين تنزل عليهم الشياطين، تنزل على كل أفاك أي: كذاب، كثير القول للزور، والإفك بالباطل، أثيم في فعله، كثير المعاصي، هذا الذي تنزل عليه الشياطين، وتناسب حاله حالهم، يلقون عليه السمع الذي يسترقونه من السماء، وأكثرهم كاذبون أي: أكثر ما يلقون إليه كذب، فيصدق واحدة ويكذب معها مائة، فيختلط الحق بالباطل، ويضمحل الحق بسبب قلته، وعدم علمه، فهذه صفة الأشخاص الذين تنزل عليهم الشياطين، وهذه صفة وحيهم له.

                                                                                                                                                                                                                                        وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فحاله مباينة لهذه الأحوال أعظم مباينة؛ لأنه الصادق الأمين، البار الراشد، الذي جمع بين بر القلب، وصدق اللهجة، ونزاهة الأفعال من المحرم، والوحي الذي ينزل عليه من عند الله، ينزل محروسا محفوظا، مشتملا على الصدق العظيم، الذي لا شك فيه ولا ريب، فهل يستوي - يا أهل العقول - هذا وأولئك؟ وهل يشتبهان، إلا على مجنون، لا يميز، ولا يفرق بين الأشياء؟!

                                                                                                                                                                                                                                        (224 - 226) فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه برأه أيضا من الشعر فقال: والشعراء أي: هل أنبئكم أيضا عن حالة الشعراء، ووصفهم الثابت، فإنهم يتبعهم الغاوون عن طريق الهدى، المقبلون على طريق الغي والردى، فهم في أنفسهم غاوون، وتجد أتباعهم كل غاو ضال فاسد.

                                                                                                                                                                                                                                        ألم تر غوايتهم وشدة ضلالهم أنهم في كل واد من أودية الشعر، يهيمون فتارة في مدح، وتارة في قدح، وتارة في صدق، وتارة في كذب، وتارة يتغزلون، وأخرى يسخرون، ومرة يمرحون، وآونة يحزنون، فلا يستقر لهم قرار، ولا يثبتون على حال من الأحوال.

                                                                                                                                                                                                                                        وأنهم يقولون ما لا يفعلون أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق قلت: هذا أشد الناس غراما، وقلبه فارغ من ذاك، وإذا سمعته يمدح أو يذم قلت: هذا صدق وهو كذب، وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها، وتروك لم يتركها، وكرم لم يحم حول ساحته، وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم.

                                                                                                                                                                                                                                        فانظر، هل يطابق حالة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - الراشد البار، الذي يتبعه كل راشد ومهتد، الذي قد استقام على الهدى، وجانب الردى، ولم تتناقض أفعاله، ولم [ ص: 1239 ] تخالف أقواله أفعاله؟ الذي لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، ولا أخبر بشيء إلا صدق، ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له، ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له، فهل تناسب حاله حالة الشعراء أو يقاربهم؟! أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه؟ فصلوات الله وسلامه على هذا الرسول الأكمل، والهمام الأفضل، أبد الآبدين، ودهر الداهرين، الذي ليس بشاعر ولا ساحر ولا مجنون، ولا يليق به إلا كل كمال.

                                                                                                                                                                                                                                        (227) ولما وصف الشعراء بما وصفهم به استثنى منهم من آمن بالله ورسوله، وعمل صالحا، وأكثر من ذكر الله، وانتصر من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم، فصار شعرهم من أعمالهم الصالحة، وآثار إيمانهم؛ لاشتماله على مدح أهل الإيمان، والانتصار من أهل الشرك والكفر، والذب عن دين الله، وتبيين العلوم النافعة، والحث على الأخلاق الفاضلة فقال: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ينقلبون إلى موقف وحساب، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا حقا إلا استوفاه، والحمد لله رب العالمين.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية