الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

544 - عن عكرمة ، قال : إن ناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا : يا ابن عباس ، أترى الغسل يوم الجمعة واجبا ؟ قال : لا ; ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل ، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب . وسأخبركم كيف بدء الغسل : كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ، ويعملون على ظهورهم ، وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف ، إنما هو عريش ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار ، وعرق الناس في ذلك الصوف ، حتى ثارت منهم رياح ، آذى بذلك بعضهم بعضا . فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرياح ، قال : أيها الناس ، إذا كان هذا اليوم ; فاغتسلوا ، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه " قال ابن عباس : ثم جاء الله بالخير ، ولبسوا غير الصوف ، وكفوا العمل ، ووسع مسجدهم ، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق . رواه أبو داود .

التالي السابق


الفصل الثالث

544 - ( عن عكرمة ) : هو مولى ابن عباس ، أصله من البربر ، وهو أحد فقهاء مكة وتابعيها ، سمع ابن عباس وغيره من الصحابة ، وروى عنه خلق كثير ، مات سنة سبع ومائة وله ثلاث وثمانون سنة . قيل لسعيد بن جبير هل أحد أعلم منك ؟ قال : عكرمة . ( قال : إن ناسا ) : وفي نسخة : أناسا ( من أهل العراق ) : وهو بلاد من عبادان إلى موصل طولا ، ومن القادسية إلى حلوان عرضا ، والعراقان : الكوفة والبصرة . كذا في القاموس .

( جاءوا فقالوا : يا ابن عباس ) : جروا فيه على عادة العرب من عدم رعاية مزيد الأدب في الخطاب مع الأكابر ( أترى ) : بفتح التاء من الرأي : تعتقد ( الغسل يوم الجمعة ) : ظرف للغسل ( واجبا ؟ قال : لا ) : أي : لا أراه واجبا ( ولكنه أطهر ) : أي : أكمل طهارة وأفضل مثوبة ; لأنه ورد الأمر بالسنة ( وخير ) : أي : نفع كثير ( لمن اغتسل ) : وأفضل له من الوضوء ( ومن لم يغتسل ) : واكتفى بالوضوء ( فليس عليه بواجب ) : هذا دليل لجواب مقدر ، تقديره : فلا بأس ; إذ ليس الغسل فيه واجبا ( وسأخبركم ) : السين للتأكيد لا للاستقبال ( كيف بدء الغسل ) : بضم الهمزة أي : سبب ابتداء مشروعيته ، أو سنيته للجمعة ( كان الناس ) : استئناف بيان ، والمراد من الناس الصحابة ; فإنهم هم الناس ( مجهودين ) : يقال : جهد الرجل بالضم فهو مجهود ، إذا وجد مشقة ، كذا في النهاية .

وقال ابن حجر : أي مسلطا عليهم الجهد والمشقة في أمر دنياهم ; لأن الله تعالى اختار لهم أكمل الأحوال وأولاها ، وهو التنزه عن الدنيا وقواطعها إلا ما يضطر إلى مباشرته من أسبابها ، فإن ذلك لا يترتب عليه شيء من محذورها ( يلبسون الصوف ) : جملة مبينة ( ويعملون على ظهورهم ) أي : فيعرقون ( وكان مسجدهم ) : أي : مسجده عليه الصلاة والسلام ، وأضيف إليهم لصلاتهم فيه ( ضيقا ) : بالطول والعرض ( مقارب السقف ) : لعدم ارتفاعه فيكون غيرها ( إنما هو عريش ) : أي : كان سقف المسجد كعريش الكرم يعني القصد منه الاستظلال ، [ ص: 491 ] وإن كان على رأس الواقف ( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار ) : من أيام الجمعة ( وعرق الناس ) : جملة حالية ، أو عطف على فخرج ( في ذلك الصوف ) : أي : الذي يعملونه على ظهورهم حين لبسه ( حتى ثارت ) : أي : انتشرت ( منهم رياح ، آذى بذلك ) أي : بما ذكر من العرق والرياح ( بعضهم بعضا ) : وتأذى الكل ( فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرياح ) : أي : أحسها أو وجد أثرها وتأثيرها من الأذى ( قال : " أيها الناس " ) : أي : يا أيها كما في نسخة ( " إذا كان هذا اليوم " ) إشارة إلى الجنس ، أو المراد مثل هذا اليوم ( " فاغتسلوا " ) : أي : لحضور الجمعة ( وليمس أحدكم ) : بسكون اللام ويجوز كسرها ، وبفتح الميم والسين ( أفضل ما يجد ) : أي أحسنه ( من دهنه ) : أي : لشعره ( وطيبه ) : أي : لسائر بدنه . وأغرب ابن حجر بقوله : عطف عام على خاص ؛ إذ الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد مجرد الدهن ، وإنما أراد الدهن المطيب ، فإنه على تسليمه ليس من باب عطف العام كما لا يخفى على الخاص ، ثم قال : وهذا كالخبر الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام كان يقلم أظفاره ، ويقص شاربه يوم الجمعة قبل الخروج إلى الصلاة ، ورواية خلافه عن ابني عمر وعباس باطلة اهـ .

وهو كلام موهم مخالف للأدب ، فإنه إن أراد به سند الرواية فكان عليه بيانه ، وإن كان معناها فلا دلالة في هذا الحديث ولا غيره على بطلانه ، بل ظاهر هذا الحديث أن هذه الأفعال تفعل في هذا اليوم ، وإن كان الجمهور قيدوها مما قبل الصلاة لما قام عندهم من الدليل النقلي أو العقلي وكلامهم غير حجة عليهما . ( قال ابن عباس ) : أعاده لطول الكلام ( ثم جاء الله بالخير ) : أي : المال أو الرفاهية ، عطف على أول القصة ، وهو " كان الناس " أو على " بدء الغسل " وآثر ثم لدلالتها على التراخي في الزمان ; لأنهم مكثوا مجهودين مدة طويلة ، والفتوحات إنما حصلت أواخر حياته صلى الله عليه وسلم . قيل : وعلى التراخي في الرتبة أيضا ; ولذا نسبه إلى الله تعالى اهـ .

ووجهه أن أحوال جهدهم كانت منبئة عن عدم ظهور الإسلام بخلاف أحوال سعتهم ، فإنها منبئة عن ظهوره ، وليس المراد أن الغنى خير من الفقر ليكون الشكر أفضل من الصبر ، فإن الجمهور على خلافه ( ولبسوا غير الصوف ) : عطف تفسير ( وكفوا ) : بالتخفيف مجهولا ( العمل ) : مفعول ثاني أي : كفاهم الله تعالى العمل باستغنائهم أو بإعطائهم الخدم ( ووسع مسجدهم ) : من كل جانب قال ابن حجر : وسعه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره ( وذهب بعض الذي كان يؤذي ) : أي : به : ( بعضهم بعضا ) : ويتأذى الكل ( من العرق ) : بيان للبعض ، أو تعليل إن كان حكمه التعبير بالبعض الذي المراد به الأكثر ، كما هو ظاهر الاحتياط في الأخبار ; لأن بعضهم ربما تساهل في إزالته ، فآذى غيره من غير أن يشعر بذلك ، ثم ظاهر فحوى كلام ابن عباس أن الغسل كان في أول الإسلام واجبا ؛ لكثرة الإيذاء بالريح الكريهة حينئذ ، ثم لما خفت نسخ وجوبه ، فإن صح هذا به يجمع بين الأحاديث السابقة ( رواه أبو داود ) وسكت عليه ، ورجال إسناده ثقات .




الخدمات العلمية