الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5541 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله تعالى : يا آدم ! فيقول : لبيك وسعديك والخير كله في يديك . قال : أخرج بعث النار ، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، فعنده يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد . قالوا : يا رسول الله ! وأينا ذلك الواحد ؟ أبشروا فإن منكم رجلا ، ومن يأجوج ومأجوج ألف ، ثم قال : " والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبرنا . فقال : " أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبرنا ، فقال : " أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " فكبرنا ، قال : " ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض ، أوكشعرة بيضاء في جلد ثور أسود " . متفق عليه .

التالي السابق


5541 - ( وعن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يقول الله تعالى ) أي : يوم القيامة كما في رواية البغوي ( يا آدم ! فيقول : لبيك وسعديك والخير كله في يديك . قال : أخرج ) : بفتح الهمزة وكسر الراء أي : أظهر وميز من بين أولادك ( بعث النار ) أي : جمعا يستحقون البعث إليها ( قال : وما بعث النار ) ؟ قيل : عطف على مقدر أي : سمعت وأطعت وما بعث النار ، أي : وما مقدار مبعوث النار ؟ وقيل : ( ما ) بمعنى كم العددية ، والأظهر أن الواو استئنافية تفيد الربط بين سابقها ولاحقها ، ( قال ) أي : الله تعالى ( من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) ، قيل : يخالفه ما في حديث أبي هريرة من كل مائة تسعة وتسعين . وأجاب الكرماني : بأن مفهوم العدد مما لا اعتبار له ، والمقصود منه تقليل عدد المؤمنين ، وتكثير عدد الكافرين ، ويمكن حمل حديث أبي سعيد على جميع ذرية آدم ; فيكون من كل ألف عشرة ، ويقرب من ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة ، ويحتمل أن يكون الأول يتعلق بالخلق أجمعين ، والثاني بخصوص هذه الأمة ، وأن يكون المراد ببعث النار الكفار ، ومن يدخل النار من العصاة ، فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافرا ، ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصيا ، وهذا هو الأظهر ، والله تعالى أعلم . ( فعنده ) أي : عند هذا الحكم ( يشيب الصغير ) أي : من الحزن الكثير والهم الكبير ، وفي رواية البغوي : فحينئذ يشيب المولود ، وظهور الشيب إما على الحقيقة ، أو على الفرض ، والتقدير : هذا هو الأظهر الملائم لقوله : وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى أي : من الخوف وما هم بسكارى أي : من الخمر ولكن عذاب الله شديد .

[ ص: 3518 ] ثم اعلم أن هذا الحديث مقتبس من قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم أي احذروا بطاعته عقابه حتى ترجوا ثوابه إن زلزلة الساعة شيء عظيم والزلزلة شدة الحركة على الحالة الهائلة ، واختلفوا فيها فقال علقمة والشعبي : هي من أشراط الساعة قبل قيامها ، وقال الحسن والسدي : هي تكون يوم القيامة . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما : زلزلة الساعة قيامها ، فتكون معها يوم ترونها أي الساعة ، أو الزلزلة تذهل كل مرضعة أي تشغل عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها أي سقط ولدها من هول ذلك اليوم . قال الحسن : تذهل المرضع عن ولدها بغير فطام ، وتضع الحامل ما في بطنها من غير تمام ، وهذا بظاهره يؤيد قول من قال : إن هذه الزلزلة تكون في الدنيا ; لأن بعد البعث لا يكون حبل ، ومن قال تكون في القيامة قال : هذا على وجه التعظيم للأمر لا على حقيقته ، كقولهم : أصابنا أمر يشيب فيه الوليد ، يريد به شدته . ( قالوا يا رسول الله ! وأينا ذلك الواحد ) ؟ ولما استعظموا ذلك الأمر واستشعروا الخوف منه ، ( قال ) أي : في جوابهم تسلية لفؤادهم ( أبشروا ) ، قال الطيبي - رحمه الله : لا يخلو هذا الاستفهام من أن يكون مجرى على حقيقته ، أو يكون استعظاما لذلك الحكم واستشعار خوف منه ، فالأول يستدعي أن يجاب بأن ذلك الواحد فلان ، أو متصف بالصفة الفلانية ، والثاني يستدعي أن يجاب بما يزيل ذلك الخوف رفقا للناس ، والثاني هو المراد ; لقوله : أبشروا ، وكأنه قال : وأينا من أمة محمد ذلك الناجي المفلح من بين سائر بني آدم ، فقال : أبشروا ، ( فإن منكم رجلا ، ومن يأجوج ومأجوج ) : بالألف ويهمز فيهما ( ألف ) : بالرفع في الأصول المصححة ، فالجملة حالية ، وقدم الجار لكون المبتدأ نكرة ، وفي نسخة السيد عفيف الدين ألفا بالنصب ، وهو الظاهر ; فإنه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين والمجرور مقدم ، والمعنى : سيوجد بعدد كل رجل منكم ألف من يأجوج ومأجوج ; فحينئذ يكثر أهل الجنة ، وفيه إشعار بأن أهل النار أكثر من أهل الجنة ، ولعل أهلها يكثرون بوجود الملائكة المقربين والحور العين ، فصح معنى الحديث القدسي : " غلبت رحمتي غضبي " ، زاد البغوي قال : فقال الناس : الله أكبر .

( ثم قال : والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ) أي : أنتم أيها الصحابة ، أو أيها الأمة وهو الأظهر ( ربع أهل الجنة ، فكبرنا ) : التكبير للعجب والفرح التام ، والاستبشار والاستعظام ، ( فقال : أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبرنا ) ، ولعله - صلى الله عليه وسلم - درج الأمر ; لئلا تنقطع قلوبهم بالفرح الكثير دفعة ، أو بالنظر إلى دخولهم في دفعات ، أو أوحي إليه وحيا بعد وحي فأخبر بما بشر ( فقال : أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، فكبرنا ) ، قال الطيبي - رحمه الله : في الحديث تنبيه على أن يأجوج ومأجوج داخلون في هذا الوعيد ، ودل بقوله : أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة أن غير يأجوج ومأجوج من الأمم السالفة الفائتة للحصر أيضا داخلون في الوعيد ، فإذا وزع نصف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مع مثله من الأمم السالفة على هؤلاء يكون كالواحد من الألف ; يدل عليه رواية الراوي ( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي نسخة صحيحة فقال : ( ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض ، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود ) ، الظاهر أن أو للتخيير في التعبير وتحتمل الشك . قال الطيبي - رحمه الله : وقولهم : الله أكبر مرارا ثلاثا متعجبين استبشار منهم ، واستعظام لهذه النعمة العظمى والمنحة الكبرى ، فيكون في هذا الاستعظام بعد ذلك الاستعظام إشارة إلى فوزهم بالبغية بعد اليأس منها اهـ . ولعل ورود هذا الحديث قبل علمه - صلى الله عليه وسلم - بأن أمته ثلثا أهل الجنة ; إذ قد ورد أن أهل الجنة مائة وعشرون صفا : ثمانون صفا أمته - صلى الله عليه وسلم - وأربعون سائر الأمم ، ويمكن أن يكونوا نصفا بالنسبة إلى الداخلين أولا ، والأظهر أن هذا الحديث وقع مختصرا على ما سيأتي الحديث بطوله . ( متفق عليه ) . ورواه النسائي .

[ ص: 3519 ] وفي المعالم : روي عن عمران بن الحصين وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلا ، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأها عليهم ، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب ، ولم يضربوا الخيام ، ولم يطبخوا قدرا ، والناس بين باك أو جالس حزين متفكرين ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أتدرون أي يوم ذلك " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " ذلك يوم يقول الله عز وجل : يا آدم قم فابعث بعث النار من ولدك ، قال : فيقول آدم : من كل كم كم ؟ فيقول الله عز وجل : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة " . قال : فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا : فمن ينجو إذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أبشروا وسددوا وقاربوا ; فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه ، يأجوج ومأجوج " ثم قال : " فإني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبروا وحمدوا الله ، ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " فكبروا وحمدوا الله ، ثم قال : " إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة وأن أهل الجنة مائة وعشرون صفا : ثمانون منها أمتي ، وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير ، أو كالرقبة في ذراع الدابة ، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود " ، ثم قال : " ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب " فقال عمر - رضي الله تعالى عنه : سبعون ألفا ؟ قال : " نعم ومع كل واحد سبعون ألفا " فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ! ادع الله لي أن يجعلني منهم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أنت منهم " فقام رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ! ادع الله لي أن يجعلني منهم ، فقال : " سبقك بها عكاشة " .




الخدمات العلمية