الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5685 حدثنا عمرو بن عيسى حدثنا محمد بن سواء حدثنا روح بن القاسم عن محمد بن المنكدر عن عروة عن عائشة أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه فلما انطلق الرجل قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة متى عهدتني فحاشا إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        حديث عائشة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا عمرو بن عيسى ) هو أبو عثمان الضبعي البصري ، ثقة مستقيم الحديث قاله ابن حبان وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في كتاب الصلاة . وشيخه محمد بن سواء هو أبو الخطاب السدوسي البصري ثقة أيضا ، له عند البخاري هذا الحديث وآخر في المناقب . وشيخه روح بن القاسم مشهور كثير الحديث وقد تابعه عن محمد بن المنكدر سفيان بن عيينة كما سيأتي في " باب اغتياب أهل الفساد " وفي " باب المداراة " ومعمر عند مسلم وسياق روح أتم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عروة عن عائشة ) في رواية ابن عيينة " سمعت عروة أن عائشة أخبرته " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن رجلا ) قال ابن بطال هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، وكان يقال له الأحمق المطاع ، ورجا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقباله عليه تألفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم ، وكذا فسره به عياض ثم القرطبي والنووي جازمين بذلك ، ونقله ابن التين عن الداودي لكن احتمالا لا جزما ، وقد أخرجه عبد الغني بن سعيد في " المبهمات " من طريق عبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنه بلغه عن عائشة " استأذن عيينة بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : بئس ابن العشيرة " الحديث ، وأخرجه ابن بشكوال في " المبهمات " من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلا ، وأخرج عبد الغني أيضا من طريق أبي عامر الخراز عن أبي يزيد المدني عن عائشة قالت : " جاء مخرمة بن نوفل يستأذن ، فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوته قال : بئس أخو العشيرة " الحديث وهكذا وقع لنا في أواخر الجزء الأول من " فوائد أبي إسحاق الهاشمي " وأخرجه الخطيب ، فيحمل على التعدد . وقد حكى المنذر في مختصره القولين فقال : هو عيينة ، وقيل مخرمة . وأما شيخنا ابن الملقن فاقتصر على أنه مخرمة وذكر أنه نقله من حاشية بخط الدمياطي فقصر ، لكنه حكى بعد ذلك عن ابن التين أنه جوز أنه عيينة قال : وصرح به ابن بطال .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ) في رواية معمر بئس أخو القوم وابن القوم وهي بالمعنى ، قال عياض المراد بالعشيرة الجماعة أو القبيلة ، وقال غيره العشيرة الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 469 ] قوله : ( فلما جلس تطلق ) بفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي أبدى له طلاقة وجهه ، يقال وجهه طلق وطليق أي مسترسل منبسط غير عبوس ، ووقع في رواية ابن عامر " بش في وجهه " ولأحمد من وجه آخر عن عائشة " واستأذن آخر فقال نعم أخو العشيرة " فلما دخل لم يهش له ولم ينبسط كما فعل بالآخر ، فسألته فذكر الحديث . قال الخطابي جمع هذا الحديث علما وأدبا ، وليس في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة ، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض ، بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره ، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة ، ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبه بالمكروه لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله ، وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته . قلت : وظاهر كلامه أن يكون هذا من جملة الخصائص ، وليس كذلك ، بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته ، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكشف له عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة ، بخلاف غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه . وقال القرطبي : في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله - تعالى - . ثم قال تبعا لعياض : والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا ، وهي مباحة ، وربما استحبت ، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله ، فإن قوله فيه قول حق ، وفعله معه حسن عشرة ، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله - تعالى - .

                                                                                                                                                                                                        وقال عياض : لم يكن عيينة - والله أعلم - حينئذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة ، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه ، وقد كانت منه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه فيكون ما وصفه به النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة علامات النبوة ، وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألف له . ثم ذكر نحو ما تقدم . وهذا الحديث أصل في المداراة ، وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق " ونحوهم والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( متى عهدتني فاحشا ) في رواية الكشميهني فحاشا بصيغة المبالغة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من تركه الناس ) في رواية عيينة من تركه أو ودعه الناس قال المازري : ذكر بعض النحاة أن العرب أماتوا مصدر يدع وماضيه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب ، وقد نطق بالمصدر في قوله : لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات وبماضيه في هذا الحديث . وأجاب عياض بأن المراد بقولهم أماتوه أي تركوا استعماله إلا نادرا ، قال : ولفظ أماتوه يدل عليه ويؤيد ذلك أنه لم ينقل في الحديث إلا في هذين الحديثين مع شك الراوي في حديث الباب مع كثرة استعمال ترك ولم يقل أحد من النحاة إنه لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( اتقاء شره ) أي قبح كلامه ; لأن المذكور كان من جفاة العرب . وقال القرطبي : في هذا الحديث إشارة إلى أن عيينة المذكور ختم له بسوء ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتقى فحشه وشره ، أخبر أن من يكون كذلك [ ص: 470 ] يكون شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة . قلت : ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال ، فإن الحديث ورد بلفظ العموم فمن اتصف بالصفة المذكورة فهو الذي يتوجه عليه الوعيد ، وشرط ذلك أن يموت على ذلك ، ومن أين له أن عيينة مات على ذلك ؟ واللفظ المذكور يحتمل لأن يقيد بتلك الحالة التي قيل فيها ذلك ، وما المانع أن يكون تاب وأناب ؟ وقد كان عيينة ارتد في زمن أبي بكر وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر ، وله مع عمر قصة ذكرت في تفسير الأعراف ، ويأتي شرحها في كتاب الاعتصام إن شاء الله - تعالى - ، وفيها ما يدل على جفائه .

                                                                                                                                                                                                        والحديث الذي فيه أنه أحمق مطاع أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي قال : " جاء عيينة بن حصن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده عائشة فقال : من هذه ؟ قال : أم المؤمنين : قال ألا أنزل لك عن أجمل منها . فغضبت عائشة وقالت : من هذا ؟ قال : هذا أحمق " ووصله الطبراني من حديث جرير وزاد فيه : اخرج فاستأذن ، قال : إنها يمين علي أن لا أستأذن على مضري . وعلى تقدير أن يسلم له ذلك وللقاضي قبله في عيينة لا يسلم له ذلك في مخرمة بن نوفل وسيأتي في " باب المداراة " ما يدل على أن تفسير المبهم هنا بمخرمة هو الراجح .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية