الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : العجماء جرحها جبار ، والمعدن جبار وفي الركاز الخمس وعن همام عن أبي هريرة مثله ولم يقل جرحها ، وفي رواية لمسلم والبئر جرحها جبار . والمعدن جرحها جبار ولأبي داود والنسائي وابن ماجه النار جبار ولأبي داود الرجل جبار .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الثاني عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العجماء جرحها جبار والمعدن جبار والبئر جبار وفي الركاز الخمس وعن همام عن أبي هريرة مثله ولم يقل جرحها . (فيه فوائد) : الأولى أخرجه من الطريق [ ص: 16 ] الأولى مسلم وأصحاب السنن الأربعة من هذا الوجه من رواية سفيان بن عيينة والشيخان والترمذي والنسائي من طريق الليث بن سعد والشيخان والنسائي من طريق مالك والنسائي من طريق معمر أربعتهم عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة وليس عند الترمذي والنسائي من طريق ابن عيينة ذكر أبي سلمة وليس عند البخاري قوله جرحها وأخرجه مسلم والنسائي أيضا من رواية يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كلاهما عن أبي هريرة ورواه أبو داود والنسائي من رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد وحده عن أبي هريرة مرفوعا الرجل جبار مقتصرين على هذه الجملة ، وذكر الدارقطني في العلل أن هذه الجملة رويت من طريق أبي سلمة أيضا قال وليس أبو سلمة بمحفوظ وقال في أصل الحديث الصحيح عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة ، وحديثه عن عبيد الله غير مدفوع ؛ لأنه اجتمع عليه اثنان أي روياه عن يونس وقال الدارقطني لم يتابع سفيان بن حسين على قوله الرجل جبار وهو وهم ؛ لأن الثقات خالفوه مثل أبي صالح السمان وعبد الرحمن الأعرج ومحمد بن سيرين ومحمد بن زياد وغيرهم ولم يذكروا الرجل وهو المحفوظ عن أبي هريرة

                                                            انتهى . وحكى ابن عبد البر عن الشافعي أنه قال : لا يصح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الرجل جبار لأن الحفاظ لم يحفظوه وأخرجه من الطريق الثانية أبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق عبد الرزاق ، لفظ النسائي النار جبار والبئر جبار واقتصر أبو داود وابن ماجه على ذكر النار واتفق الشيخان أيضا على إخراج الحديث من طريق شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة وأخرجه مسلم من رواية الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ البئر جرحها جبار والمعدن جرحها جبار والعجماء جرحها جبار وفي الزكاة الخمس .

                                                            (الثانية) العجماء بفتح العين المهملة وإسكان الجيم ممدود ، البهيمة وإنما سميت عجماء ؛ لأنها لا تتكلم [ ص: 17 ] فكل من لا يقدر على الكلام أصلا فهو أعجم قاله أهل اللغة ، وقوله جرحها قال صاحب النهاية هو هنا بفتح الجيم على المصدر لا غير قاله الأزهري فأما الجرح بالضم فهو الاسم ، وقوله جبار بضم الجيم بعدها باء موحدة مخففة وآخره راء وهو الهدر الذي لا ضمان فيه ، وذكر ابن العربي ما حاصله أن بناء ج ب ر للرفع والإهدار من باب السلب وهو كثير في العربية يأتي اسم الفعل والفاعل لسلب معناه كما يأتي لإثبات معناه واعترضه والدي رحمه الله بأنه لا حاجة لجعله من السلب بل هو للرفع على بابه ؛ لأن إتلافات الآدميين مضمونة مقهور متلفها على ضمانها ، وهذا إتلاف قد ارتفع على أن يؤخذ به انتهى .

                                                            ويجوز في إعراب هذه الجملة وجهان (أحدهما) أن يكون قوله جرحها جبار جملة من مبتدأ وخبر وهي خبر عن المبتدأ الذي هو العجماء والثاني أن يكون قوله جرحها بدلا من العجماء وهو بدل اشتمال والخبر قوله جبار والكلام جملة واحدة والمصدر في قوله جرحها مضاف للفاعل أي كون العجماء تجرح غيرها مضمون .



                                                            (الثالثة) فيه أن جرح البهيمة هدر غير مضمون ، وذكر القاضي عياض والنووي وغيرهما أنه عبر بالجرح عما عداه من إتلافها سواء أكان لجرح أو غيره سواء أكان على نفس أو مال ، فإن قلت ويؤيد ذلك أن في رواية البخاري العجماء جبار ولم يقيده بجرحها قلت تلك الرواية لا بد فيها من تقدير إذ لا معنى لكون العجماء نفسها هدرا ، وقد دلت رواية غيره على أن ذلك المقدر هو الجرح فوجب الرجوع إليه لكن الحكم غير مختص به بل هو مثال منه يستدل به على ما عداه كما تقدم ، ولو لم تدل رواية أخرى على تعيين ذلك المقدر لم يكن لرواية البخاري عموم في جميع المقدرات التي يستقيم الكلام بتقدير واحد منها هذا هو الصحيح المنصور في الأصول أن المقتضى لا عموم له ثم ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون البهيمة منفردة أو معها صاحبها وبهذا قال أهل الظاهر فلم يضمنوا صاحبها ، ولو كان معها إلا إن كان الفعل منسوبا إليه بأن حملها على ذلك الفعل فيهما إذا كان راكبا أو قادها حتى أتلفت ما مشت عليه فيما إذا كان قائدا أو حملها عليه بضرب أو نخذ أو زجر فيما إذا كان سائقا ، فإن أتلفت [ ص: 18 ] شيئا برأسها أو بعضها أو ذنبها أو نفحتها بالرجل أو ضربت بيدها في غير المشي فليس من فعله فلا ضمان عليه وقال أصحابنا الشافعية متى كان مع البهيمة شخص فعليه ضمان ما أتلفته من نفس أو مال سواء أتلفت ليلا أو نهارا وسواء كان سائقها أو قائدها أو راكبها وسواء كان مالكها أو أجيره أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو عضها أو ذنبها وقال مالك القائد والسائق والراكب كلهم ضامنون لما أصابت الدابة إلا أن ترمح الدابة من غير أن يفعل بها شيء ترمح له وحكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء وقال الحنفية إن الراكب والقائد لا يضمنان وما نفحت الدابة برجلها أو ذنبها إلا إن أوقفها في الطريق ، واختلفوا في السائق فقال القدوري وآخرون إنه ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها ؛ لأن النفحة بمرأى عينه فأمكنه الاحتراز عنها وقال أكثرهم لا يضمن النفحة أيضا وإن كان يراها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه بخلاف الكدم لإمكانه كبحها بلجامها وصححه صاحب الهداية وكذا قال الحنابلة إن الراكب لا يضمن ما تتلفه البهيمة برجلها وحكى ابن حزم نفي الضمان من النفحة عن شريح القاضي والحسن البصري وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح وعن الحكم والشعبي : يضمن لا يبطل دم المسلم وتمسك من نفى الضمان من النفحة بعموم هذا الحديث مع الرواية التي فيها الرجل جبار ، وقد تقدم ذكرها في الفائدة الأولى وذكرنا تضعيف من ضعفها وذكروا من حيث المعنى ما تقدم من أنه لا اطلاع له على رمحها ولا قدرة له على دفعه ، ومن أوجب الضمان قال باب الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره ومن هو مع البهيمة حاكم لها فهي كالآلة بيده ففعلها منسوب إليه حملها عليه أم لا علم به أم لم يعلم والله أعلم .

                                                            (الرابعة) وظاهره أيضا أنه لا فرق في إتلاف البهيمة للزروع ونحوها من الأموال فيما إذا لم يكن صاحبها معها بين أن يكون ذلك ليلا أو نهارا وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وداود وأهل الظاهر قال ابن حزم وروي عن سفيان الثوري .

                                                            وقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور إنما لا يجب الضمان على أصحاب البهائم إذا كان ذلك نهارا فأما إذا كان بالليل فإن عليهم حفظها فإذا انفلتت بتقصير منهم وجب عليهم ضمان ما أتلفته [ ص: 19 ] واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال : كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل .

                                                            ورواه أبو داود أيضا من رواية الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل .

                                                            ولابن ماجه عن ابن شهاب أن ابن محيصة أخبره أن ناقة للبراء كانت ضارية فذكره مرسلا .

                                                            قال أصحابنا جاء هذا الحديث على عادة الناس في أن أصحاب الزروع والبساتين يحفظونها نهارا دون الليل ولا بد من إرسال المواشي للرعي نهارا ولم تجر العادة بتركها بالليل منتشرة فلو جرت العادة في ناحية بالعكس فكانوا يرسلون البهائم ليلا للرعي ويحفظونها نهارا وكانوا يحفظون الزرع ليلا ، فوجهان :

                                                            أصحهما أنه ينعكس الحكم فيضمن ما أتلفته بالنهار دون الليل إتباعا لمعنى الخبر وللعادة ثم هذا كله في المزارع ونحوها فأما لو أرسل دابة في البلد وحدها فأتلفت شيئا فالأصح عند أصحابنا أنه يضمنه مطلقا .

                                                            وهذا الحديث الذي ذكرناه يقتضي أنه لا فرق بين الضاربة وغيرها ؛ لأنه قال ذلك في ناقة ضاربة ، وهو قول جمهور العلماء كما حكاه النووي في شرح مسلم ، وقال مالك وأصحابه يضمن مالك الضارية ما أتلفت قال وكذا قال أصحاب الشافعي يضمن إذا كانت معروفة بالإفساد ؛ لأنه عليه ربطها والحالة هذه ، انتهى .

                                                            وذكر ابن حزم من طريق عبد الرزاق بإسناده إلى عمر بن الخطاب أنه قال (يرد الضاري إلى أهله ثلاث مرات ثم يعقر) قال ابن حزم فلم يضمن ولم يخص ليلا ولا نهارا وضعف ابن حزم الحديث المتقدم وقال هذا خبر مرسل أحسن طرقه ما رواه مالك ومعمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب وابن جريج عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل وإنما أسند من طريق حرام بن سعد بن محيصة مرة عن أبيه ولا صحبة لأبيه ومرة عن البراء ، وحرام [ ص: 20 ] هذا مجهول لم يرو عنه إلا الزهري ولم يوثقه .



                                                            (الخامسة) قوله والمعدن جبار وفي رواية لمسلم جرحها جبار ومعناه إذا حفر معدنا في ملكه أو في موات فوقع شخص فيها ومات لا يضمنه بل دمه هدر وكذلك لو استأجر أجراء يعملون فيها فوقعت عليهم وماتوا لا ضمان عليه في ذلك ويلتحق بذلك كل أجير استؤجر على عمل كان ذلك العمل سبب هلاكه كمن استؤجر على صعود نخلة فسقط منها ونحو ذلك .

                                                            (السادسة) قوله والبئر جبار وفي رواية لمسلم جرحها جبار والمشهور في الرواية البئر بكسر الباء الموحدة بعدها همزة ساكنة ويجوز تسهيلها قال ابن العربي وقيل رواه بعضهم النار جبار وقالوا إن أهل اليمن يكتبون النار بالياء ومعناه عندهم أن من استوقد نارا بما يجوز له فتعدت إلى ما لا يجوز فلا شيء عليه قال ، وهذا متفق عليه على تفصيل بيانه في كتب الفقه . قال والدي رحمه الله في مسند أحمد والبزار من حديث جابر والجب جبار ، وهذا يدل على أن المراد البئر لا النار كما هو في الكتب الستة المشهورة قلت قد جمع النسائي بين ذكر النار والبئر في حديث واحد وذلك يدل على ورودهما وأنه ليس أحدهما تصحيفا من الآخر ، وقد تقدم ذلك في الفائدة الأولى وقال ابن عبد البر قال يحيى بن معين أصله والبئر ولكن معمرا صحفه قال ابن عبد البر لم يأت ابن معين على قوله هذا بدليل وليس هكذا ترد أحاديث الثقات ، والكلام في قوله والبئر جبار كما تقدم في قوله والمعدن جبار أن معناه أن يحفر بئرا في ملكه أو في موات فيقع فيها إنسان أو غيره ويتلف فلا ضمان وكذا لو استأجره لحفرها فوقعت عليه فمات فلا ضمان أما إذا حفر البئر في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير إذن فتلف فيها إنسان وجب ضمانه على عاقلة حافرها والكفارة في مال الحافر وإن تلف بها غير الآدمي وجب ضمانه في مال الحافر .



                                                            (السابعة) الركاز بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي قال في الصحاح دفين أهل الجاهلية كأنه ركز في الأرض أي غرز وقال في المحكم قطع ذهب وفضة تخرج من الأرض أو المعدن وقال في المشارق وهو عند أهل الحجاز من الفقهاء واللغويين الكنوز وعند أهل العراق المعادن [ ص: 21 ] لأنها ركزت في الأرض أي ثبتت وقال في النهاية : والقولان تحتملهما اللغة ؛ لأن كلا منهما مركوز في الأرض أي ثابت يقال ركزه يركزه ركزا إذا دفنه والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجاهلي وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه وقال ابن العربي حقيقة ركز الإثبات والمعدن ثابت خلقة وما يدفن ثابت بتكلف متكلف ، قلت ، وهذا الحديث يدل على إرادة دفين الجاهلية أيضا لكونه عليه الصلاة والسلام عطف الركاز على المعدن وفرق بينهما وجعل لكل منهما حكما ، ولو كانا بمعنى واحد لجمع بينهما وقال والمعدن جبار وفيه الخمس وقال الركاز جبار وفيه الخمس فلما فرق بينهما دل على تغايرهما ، وقال ابن المنذر في الإشراف قال الحسن البصري الركاز المدفون دفن الجاهلية دون المعادن وبه قال الشعبي ومالك والحسن بن صالح والأوزاعي وأبو ثور ، وقال الزهري وأبو عبيد الركاز المال المدفون والمعدن جميعا وفيهما جميعا الخمس انتهى وحكى ابن عبد البر هذا القول الثاني عن الأوزاعي فقال قال الأوزاعي الركاز أموال أهل الكتاب المدفونة في الأرض والذهب بعينه يصيبه الرجل في المعدن انتهى .

                                                            والظاهر أنه أخص من قول الزهري وأبي عبيد لكونه خصه في المعدن بالذهب بعينه لكن نقل عن ابن عبد البر في موضع آخر أنه قال في ذهب المعدن وفضته الخمس ولا شيء فيما يخرج منه غيرهما .

                                                            (الثامنة) فيه وجوب الزكاة فيما وجده المسلم من دفين أهل الجاهلية سواء كان في دار الإسلام أو في دار الحرب وبه قال مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وسائر العلماء من السلف والخلف . قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا الحسن البصري فإنه فرق بين ما يوجد منه في أرض الحرب وأرض العرب فأوجب الخمس فيه إذا وجد في أرض الحرب وإذا وجد في أرض العرب ففيه الزكاة انتهى . وحكى ابن قدامة الإجماع على الأول ثم حكى كلام ابن المنذر المتقدم قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ويعرف كونه من دفن الجاهلية بأن يكون على ضربهم أو عليه اسم ملك من ملوكهم واستشكله الرافعي وغيره بأنه لا يلزم من كونه على ضربهم كونه من دفنهم لاحتمال أنه وجده مسلم بكنز جاهلي فكنزه ثانيا [ ص: 22 ] والحكم مدار على كونه من دفن الجاهلية لا على كونه ضربهم وأجيب عنه بأن هذا الاحتمال مدفوع بالأصل . قالوا : فلو كان الموجود على ضرب الإسلام بأن كان عليه شيء من القرآن أو اسم ملك من ملوك الإسلام لم يملكه الواجد بل يرده إلى مالكه إن علمه وإن لم يعلمه فوجهان ، الصحيح الذي قطع به الجمهور أنه لقطة يعرفه الواجد سنة ثم له تملكه إن لم يظهر مالكه وقال الشيخ أبو علي هو مال ضائع يمسكه الآخذ للمالك أبدا ويحفظه الإمام له في بيت المال ولا يملك بحال فلو لم يعرف أن الموجود من ضرب الجاهلية أو الإسلام ففيه للشافعي قولان أظهرهما أنه ليس بركاز بل هو لقطة على الأصح والقول الثاني أنه ركاز فيخمس وهو الأصح عند الحنفية قال صاحب الهداية : ولو اشتبه الضرب يجعل جاهليا في ظاهر المذهب ؛ لأنه الأصل وقيل إسلاميا في زماننا لتقادم العهد انتهى .



                                                            (التاسعة) خص أصحابنا الركاز بما يوجد في الموات سواء في ذلك موات دار الإسلام ودار الحرب أما لو وجد في طريق مسلوك أو مسجد فهو لقطة ، ولو وجد في أرض مملوكة إن وجده المالك فهو له وإن وجده غير المالك لم يملكه ، فإن ادعاه المالك فهو له كأمتعة الدار وإن لم يدعه انتقل إلى من تلقاه المالك عنه وهكذا حتى يصل الحال إلى من أحيا تلك الأرض ، ومن المصرحين بملك الركاز بإحياء الأرض القفال وبنى الإمام ذلك على مسألة الظبية إذا دخلت دارا فأغلق عليها الباب صاحب الدار لا على قصد ضبطها ، وفيه وجهان أصحهما أنه لا يملكها لكنه يصير أولى بها وإن كان في أرض موقوفة فهو لمن في يده الأرض قال البغوي وإن وجده في أرض مملوكة في دار الحرب ، فإن أخذ بقهر وغلبة فهو غنيمة وإلا فهو فيء قاله الإمام في النهاية قال الرافعي وهو محمول على ما إذا دخل دار الحرب بغير أمان ؛ لأنه إذا دخل بأمان لا يجوز له أخذ كنزه لا بقتال ولا غيره قاله الشيخ أبو علي ، ثم في الحكم بكونه فيئا إشكال فإنه إن أخذه خفية كان سارقا وإن أخذه جهارا كان مختلسا لا جرم أطلق كثير من الأئمة كالصيدلاني وابن الصباغ القول بأنه غنيمة وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة تكلم الفقهاء في الأراضي التي يوجد فيها الركاز [ ص: 23 ] وجعل الحكم مختلفا باختلافها ومن قال منهم بأن في الركاز الخمس إما مطلقا أو في أكثر الصور فهو أقرب إلى الحديث ا هـ .



                                                            (العاشرة) ليس في الحديث بيان من يصرف له الخمس وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مالك والشافعي مصرفه مصرف الزكوات وقال أبو حنيفة إنه يصرف مصرف خمس الفيء وبه قال المزني وهو قول عن الشافعي وعن أحمد روايتان ، قال ابن قدامة : والثانية أصح وأقيس على مذهبه .



                                                            (الحادية عشرة) ظاهره أنه لا فرق في وجوب الخمس في الركاز بين أن يبلغ نصابا أم لا وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وهو قول قديم عن الشافعي ومن أصحابنا من لم يثبته وحكاه ابن المنذر عن إسحاق وأبي عبيد وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي في الجديد يعتبر فيه النصاب فلا تجب الزكاة فيما دونه إلا إذا كان في ملكه ما يكمله من جنس النقد الموجود قال ابن المنذر القول الأول أولى بظاهر الحديث وبه قال جل أهل العلم .



                                                            (الثانية عشرة) ظاهره أيضا أنه لا يشترط فيه الحول بل يجب إخراج الخمس منه في الحال ولا أعلم في ذلك خلافا في مذهب الشافعي ولا غيره وقال القاضي أبو بكر بن العربي اختلف الناس في اعتبار الحول فيه فرأى مالك أنه كالزرع ؛ لأنه مال زكوي يخرج من الأرض ورأى الشافعي أنه ذهب وفضة يجريا على حكمهما ، فراعى الشافعي اللفظ وراعى مالك المعنى وهو أسعد به ا هـ ، وقد صرح النووي في الروضة تبعا للرافعي بأنه لا يشترط فيه الحول بلا خلاف ويحتمل أن يكون ابن العربي إنما حكى هذا الخلاف في المعدن ، والخلاف في اشتراط الحول في زكاة المعدن عندنا معروف والله أعلم .



                                                            (الثالثة عشرة) ظاهره أيضا أنه لا فرق بين أن يكون الركاز ذهبا وفضة أو غيرهما كالنحاس والحديد والجواهر وسائر الأموال وهو مذهب أحمد بن حنبل ، وحكاه ابن المنذر عنه وعن إسحاق وأبي عبيد وأصحاب الرأي . قال : وبه أقول . قال : وقال الأوزاعي : ما أرى بأخذ الخمس من ذلك كله بأسا وذهب الشافعي إلى اختصاص ذلك بالذهب والفضة وعن مالك روايتان كالقولين وحكى كل منهما عن ابن القاسم وقال بالتعميم مطرف وابن الماجشون وابن نافع وبالتخصيص ابن المواز قال ابن المنذر وأصح قولي [ ص: 24 ] مالك ما عليه سائر أهل العلم ا هـ وحكي التعميم عن الشافعي في القديم ومن أصحابنا من لم يثبته .



                                                            (الرابعة عشرة) ظاهره أيضا أنه لا فرق في وجوب إخراج الخمس منه بين أن يكون الواجد له مسلما أو ذميا وكاد ابن المنذر أن يدعي الإجماع على ذلك فقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم يقول إن على الذمي في الركاز يجده الخمس ، هذا قول مالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق من أصحاب الرأي وغيرهم والأوزاعي وأبي ثور ومن تبعهم من أهل العلم وكذلك نقول ، وهذا يدل على أن خمس الركاز ليس سبيله سبيل الصدقات ؛ لأن الذي لا زكاة عليه إنما سبيله سبيل مال الفيء ا هـ ولما كان مذهب الشافعي أن مصرفه مصرف الزكوات قال لا يؤخذ من الذمي شيء قال أصحابنا وإذا قلنا بذلك القول أن مصرفه مصرف الفيء أخذ من الذمي والله أعلم .



                                                            (الخامسة عشرة) ليس في الحديث تعرض لمن يتعاطى إخراج الخمس من الركاز أهو الواجد أو يتعين أن يكون الفاعل لذلك الإمام أو نائبه وينبغي أن يقال إن قلنا مصرفه مصرف الزكاة فلو أخرجه الواجد له وقع الموقع وإن قلنا مصرف الفيء فذلك من وظيفة الإمام أو نائبه الذي أقامه لذلك ، وقد حكى ابن المنذر عن أبي ثور أنه لا يسعه أن يتصدق بخمسه ، فإن فعل ضمنه الإمام ، وعن أصحاب الرأي أنه يسعه ذلك قال ابن المنذر ، وهذا أصح وقال ابن قدامة في المغني ويجوز أن يتولى الإنسان تفرقة الخمس بنفسه ؛ لأن عليا رضي الله عنه أمر واجد الكنز بتفرقته على المساكين قاله الإمام أحمد ثم قال ويتخرج أن لا يجوز ذلك ؛ لأن الصحيح أنه فيء فلم يملك تفرقته بنفسه كخمس الغنيمة . قال القاضي من الحنابلة : وليس للإمام رده على واجده ؛ لأنه حق مال فلم يجز رده على من وجب عليه كالزكاة وخمس الغنيمة ، وقال ابن عقيل يجوز ؛ لأنه روي عن عمر أنه رد بعضه على واجده ولأنه فيء فجاز رده عليه كخراج الأرض ، وهذا قول أبي حنيفة .



                                                            (السادسة عشرة) استدل به الحنفية على وجوب الخمس في المستخرج من المعادن سواء أكان ذهبا أو فضة أو غيرهما من معادن الأرض كالحديد والنحاس والرصاص وغيرها بناء على دخول ذلك في اسم الركاز ، وقد تقدم ذلك عن الزهري وأبي عبيد ولم يعتبروا [ ص: 25 ] في ذلك نصابا ولا حولا وجعلوا مصرفه مصرف الفيء وذهب الأئمة الثلاثة والأكثرون إلى أن المعدن لا يدخل تحت اسم الركاز ولا له حكمه واتفقوا على الإخراج منه في الجملة وأن مصرف المخرج منه مصرف الزكاة ، والمشهور من مذاهبهم اعتبار النصاب فيه دون الحول ثم اختلفت تفاصيل مذاهبهم في ذلك فقال الشافعية إن كان المستخرج من المعدن غير الذهب والفضة فلا زكاة فيه إلا في وجه شاذ وإن كان أحد النقدين ففيه الزكاة وفي قدر الواجب ثلاثة أقوال للشافعي (أصحها) ربع العشر كزكاة النقدين (والثاني) الخمس (والثالث) إن ناله بلا تعب ومؤنة فالخمس وإلا فربع العشر ولم يخص الحنابلة ذلك بالذهب والفضة بل قالوا بوجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة ، ووسعوا ذلك حتى قالوه في المعادن الجارية كالقار والنفط والكبريت ، والحنفية خصوا ذلك بما ينطبع كالحديد والنحاس . قال الحنابلة والواجب فيه ربع العشر وخص المالكية ذلك بالنقدين وقالوا إن الواجب ربع العشر إلا ما لا يتكلف فيه إلى عمل ففيه الخمس ، واعتبر إسحاق بن راهويه وابن المنذر في زكاة المعدن الحول وحكى قولا عن الشافعي ، وذكر ابن حزم أن الأمة مجمعة على أنه لا زكاة في الصفر والحديد والرصاص والقصدير وأن طائفة قالوا بوجوب الزكاة فيها عند امتزاجها في المعدن بالذهب أو الفضة وأسقطوا الزكاة عنها إذا كانت صرفا ا هـ ، وقد عرفت أن الحنفية والحنابلة أوجبوا الإخراج من سائر المعادن ، ولو كانت غير ذهب وفضة إلا أن الحنفية أوجبوا الخمس وجعلوه فيئا والحنابلة أوجبوا ربع العشر وجعلوه زكاة .




                                                            الخدمات العلمية