الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                ومنها أن لا يقع نكاح المرأة التي يتزوجها جمعا بين ذوات الأرحام ولا بين أكثر من أربع نسوة في الأجنبيات .

                                                                                                                                وجملة الكلام في الجمع أن الجمع في الأصل نوعان : جمع بين ذوات الأرحام وجمع بين الأجنبيات ، أما .

                                                                                                                                الجمع بين ذوات الأرحام فنوعان : أيضا جمع في النكاح وجمع في الوطء ودواعيه بملك اليمين ، أما .

                                                                                                                                الجمع بين ذوات الأرحام في النكاح فنقول : لا خلاف في أن الجمع بين الأختين في النكاح حرام ; لقوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } معطوفا على قوله عز وجل : { حرمت عليكم أمهاتكم } ، ولأن الجمع بينهما يفضي إلى قطيعة الرحم ; لأن العداوة بين الضرتين ظاهرة ، وأنها تفضي إلى قطيعة الرحم ، وقطيعة الرحم حرام فكذا المفضي ، وكذا الجمع بين المرأة وبنتها لما قلنا بل أولى ; لأن قرابة الولاد مفترضة الوصل بلا خلاف ، واختلف في الجمع بين ذواتي رحم محرم سوى هذين الجمعين بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لا يجوز له نكاح الأخرى من الجانبين جميعا أيتهما كانت غير عين كالجمع بين امرأة وعمتها ، والجمع بين امرأة وخالتها ونحو ذلك .

                                                                                                                                قال عامة العلماء : لا يجوز وقال عثمان البتي : الجمع فيما سوى الأختين وسوى المرأة وبنتها ليس بحرام ، واحتج بقوله تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ذكر المحرمات .

                                                                                                                                وذكر فيما حرم الجمع بين الأختين ، وأحل ما وراء ذلك ، والجمع فيما سوى الأختين لم يدخل في التحريم فكان داخلا في الإحلال إلا أن الجمع بين المرأة وبنتها حرم بدلالة النص ; لأن قرابة الولاد أقوى ، فالنص الوارد ثمة يكون واردا ههنا من طريق الأولى ، ولنا الحديث المشهور ، وهو ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها } ، وزاد في بعض الروايات " لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى " الحديث أخبر أن من تزوج عمة ثم بنت أخيها أو خالة ثم بنت أختها لا يجوز ، ثم أخبر أنه إذا تزوج بنت الأخ أولا ثم العمة أو بنت الأخت أولا ثم الخالة لا يجوز أيضا لئلا يشكل أن حرمة الجمع يجوز أن تكون مختصة بأحد الطرفين دون الآخر كنكاح الأمة على الحرة أنه لا يجوز ، ويجوز نكاح الحرة على الأمة ; ولأن الجمع بين ذواتي رحم محرم في النكاح سبب لقطيعة الرحم ; لأن الضرتين يتنازعان ويختلفان ولا يأتلفان هذا أمر معلوم بالعرف والعادة ، وذلك يفضي إلى قطع الرحم ، وأنه حرام ، والنكاح سبب فيحرم حتى لا يؤدي إليه ، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فيما روي أنه قال : { إنكم لو فعلتم ذلك لقطعتم أرحامهن } وروي في بعض الروايات [ ص: 263 ] فإنهن يتقاطعن " ، وفي بعضها " أنه يوجب القطيعة " .

                                                                                                                                وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الجمع بين القرابة في النكاح ، وقالوا : إنه يورث الضغائن .

                                                                                                                                وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كره الجمع بين بنتي عمين ، وقال : لا أحرم ذلك لكن أكرهه أما الكراهة فلمكان القطيعة ، وأما عدم الحرمة ، فلأن القرابة بينهما ليست بمفترضة الوصل .

                                                                                                                                أما الآية فيحتمل أن يكون معنى قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أي : ما وراء ما حرمه الله تعالى ، والجمع بين المرأة وعمتها وبنتها وبين خالتها مما قد حرمه الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحي غير متلو على أن حرمة الجمع بين الأختين معلولة بقطع الرحم ، والجمع ههنا يفضي إلى قطع الرحم ، فكانت حرمة ثابتة بدلالة النص فلم يكن ما وراء ما حرم في آية التحريم ، ويجوز الجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل ، أو بين امرأة وزوجة كانت لأبيها وهما واحد ; لأنه لا رحم بينهما فلم يوجد الجمع بين ذواتي رحم .

                                                                                                                                وقال زفر وابن أبي ليلى : لا يجوز ; لأن البنت لو كانت رجلا لكان لا يجوز له أن يتزوج الأخرى ; لأنها منكوحة أبيه فلا يجوز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع بين الأختين ، وإنا نقول : الشرط أن تكون الحرمة ثابتة من الجانبين جميعا ، وهو أن يكون كل واحدة منهما أيتهما كانت بحيث لو قدرت رجلا لكان لا يجوز له نكاح الأخرى ، ولم يوجد هذا الشرط ; لأن الزوجة منهما لو كانت رجلا لكان يجوز له أن يتزوج الأخرى ; لأن الأخرى لا تكون بنت الزوج فلم تكن الحرمة ثابتة من الجانبين فجاز الجمع بينهما كالجمع بين الأختين ولو تزوج الأختين معا فسد نكاحهما ; لأن نكاحهما حصل جمعا بينهما في النكاح وليست إحداهما بفساد النكاح بأولى من الأخرى فيفرق بينه وبينهما ، ثم إن كان قبل الدخول فلا مهر لهما ولا عدة عليهما ; لأن النكاح الفاسد لا حكم له قبل الدخول ، وإن كان قد دخل بهما فلكل واحدة منهما العقر وعليهما العدة ; لأن هذا حكم الدخول في النكاح الفاسد على ما نذكره - إن شاء الله تعالى - في موضعه .

                                                                                                                                وإن تزوج إحداهما بعد الأخرى جاز نكاح الأولى ، وفسد نكاح الثانية ولا يفسد نكاح الأولى لفساد نكاح الثانية ; لأن الجمع حصل بنكاح الثانية فاقتصر الفساد عليه ويفرق بينه وبين الثانية فإن كان لم يدخل بها فلا مهر ولا عدة ، وإن كان دخل بها فلها المهر وعليها العدة لما بينا ، ولا يجوز له أن يطأ الأولى ما لم تنقض عدة الثانية لما نذكر - إن شاء الله تعالى - وإن تزوج أختين في عقدتين لا يدري أيتهما أولى لا يجوز له التحري بل يفرق بينه وبينهما ; لأن نكاح إحداهما فاسد بيقين - وهي مجهولة - ولا يتصور حصول مقاصد النكاح من المجهولة فلا بد من التفريق ثم إن ادعت كل واحدة منهما أنها هي الأولى ولا بينة لها يقضى لها بنصف المهر ; لأن النكاح الصحيح أحدهما ، وقد حصلت الفرقة قبل الدخول لا بصنع المرأة فكان الواجب نصف المهر ، ويكون بينهما لعدم الترجيح إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه لا يلزم الزوج شيء ، وروي عن محمد أنه يجب عليه المهر كاملا ، وإن قالتا لا ندري أيتنا الأولى لا يقضى لهما بشيء ; لكون المدعية منهما مجهولة إلا إذا اصطلحت على شيء فحينئذ يقضى لها ، وكذلك المرأة وعمتها وخالتها في جميع ما وصفنا ، وكما لا يجوز للرجل أن يتزوج امرأة في نكاح أختها لا يجوز له أن يتزوجها في عدة أختها ، وكذلك التزوج بامرأة هي ذات رحم محرم من امرأة بعقد منه ، والأصل أن ما يمنع صلب النكاح من الجمع بين ذواتي المحارم فالعدة تمنع منه .

                                                                                                                                وكذا لا يجوز له أن يتزوج أربعا من الأجنبيات ، والخامسة تعتد منه سواء كانت العدة من طلاق رجعي أو بائن أو ثلاث أو بالمحرمية الطارئة بعد الدخول ، أو بالدخول في نكاح فاسد أو بالوطء في شبهة ، وهذا عندنا وقال الشافعي : - رحمه الله - يجوز إلا في عدة من طلاق رجعي وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مثل قولنا نحو [ ص: 264 ] علي وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ( وجه ) قوله : إن المحرم هو الجمع بين الأختين في النكاح ، والنكاح قد زال من كل وجه ; لوجود المزيل له - وهو الطلاق الثلاث أو البائن - ولهذا لو وطئها بعد الطلاق الثلاث مع العلم بالحرمة لزمه الحد فلم يتحقق الجمع في النكاح فلا تثبت الحرمة ، ولنا أن ملك الحبس بالعقد قائم ، فإن الزوج يملك منعها من الخروج والبروز ، وحرمة التزوج بزوج آخر ثابتة والفراش قائم حتى لو جاءت بولد إلى سنتين من وقت الطلاق ، وقد كان قد دخل بها يثبت النسب ، فلو جاز النكاح لكان النكاح جمعا بين الأختين في هذه الأحكام ، فيدخل تحت النص ، ولأن هذه أحكام النكاح ; لأنها شرعت وسيلة إلى أحكام النكاح فكان النكاح قائما من وجه ببقاء بعض أحكامه ، والثابت من وجه ملحق بالثابت من وجه في باب الحرمة احتياطا ألا ترى أنه ألحقت الأم والبنت من وجه بالرضاعة بالأم والبنت من كل وجه بالقرابة ، وألحقت المنكوحة من وجه - وهي المعتدة - بالمنكوحة من كل وجه في حرمة النكاح كذا هذا ; ولأن الجمع قبل الطلاق إنما حرم ; لكونه مفضيا إلى قطيعة الرحم ، لأنه يورث الضغينة ، وإنها تفضي إلى القطيعة ، والضغينة ههنا أشد ; لأن معظم النعمة - وهو ملك الحل - الذي هو سبب اقتضاء الشهوة قد زال في حق المعتدة ، وبنكاح الثانية يصير جميع ذلك لها وتقوم مقامها وتبقى هي محرومة الحظ للحال من الأزواج فكانت الضغينة أشد فكانت أدعى إلى القطيعة بخلاف ما بعد انقضاء العدة ; لأن هناك لم يبق شيء من علائق الزوج الأول فكان لها سبيل الوصول إلى زوج آخر فتستوفي حظها من الثاني فتسلى به فلا تلحقها الضغينة ، أو كانت أقل منه في حال قيام العدة فلا يستقيم الاستدلال .

                                                                                                                                ولو خلا بامرأته ثم طلقها لم يتزوج أختها حتى تنقضي عدتها ; لأنه وجبت عليها العدة بالخلوة فيمنع نكاح الأخت كما لو وجبت بالدخول حقيقة .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية