الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذا الجحيم سعرت. وإذا الجنة أزلفت ..

                                                                                                                                                                                                                                      حيث تتوقد الجحيم وتتسعر، ويزداد لهيبها ووهجها وحرارتها.. أما أين هي؟ وكيف تتسعر وتتوقد؟ وبأي شيء تتوقد؟ فليس لدينا من ذلك إلا قوله تعالى: وقودها الناس والحجارة . وذلك بعد إلقاء أهلها فيها. أما قبل ذلك فالله أعلم بها وبوقودها!

                                                                                                                                                                                                                                      وحيث تقرب الجنة وتظهر لروادها الموعودين بها، وتبدو لهم سهولة مدخلها، ويسر ولوجها. فهي مزلفة مقربة مهيأة. واللفظ كأنما يزحلقها أو يزحلق الأقدام بيسر إليها!!

                                                                                                                                                                                                                                      عند ما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها، في كيان الكون، وفي أحوال الأحياء والأشياء. عندئذ لا يبقى لدى النفوس شك في حقيقة ما عملت، وما تزودت به لهذا اليوم، وما حملت معها للعرض، وما أحضرت للحساب:

                                                                                                                                                                                                                                      علمت نفس ما أحضرت ..

                                                                                                                                                                                                                                      كل نفس تعلم، في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها.. تعلم وهذا الهول يحيط بها ويغمرها.. تعلم وهي لا تملك أن تغير شيئا مما أحضرت، ولا أن تزيد عليه ولا أن تنقص منه.. تعلم وقد انفصلت عن كل ما هو مألوف لها، معهود في حياتها أو تصورها. وقد انقطعت عن عالمها وانقطع عنها عالمها. وقد تغير كل شيء وتبدل كل شيء، ولم يبق إلا وجه الله الكريم، الذي لا يتحول ولا يتبدل.. فما أولى أن تتجه النفوس إلى وجه الله الكريم، فتجده - سبحانه - عند ما يتحول الكون كله ويتبدل!

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا الإيقاع ينتهي المقطع الأول وقد امتلأ الحس وفاض بمشاهد اليوم الذي يتم فيه هذا الانقلاب.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يجيء المقطع الثاني في السورة يبدأ بالتلويح بالقسم بمشاهد كونية جميلة، تختار لها تعبيرات أنيقة.. القسم على طبيعة الوحي، وصفة الرسول الذي يحمله، والرسول الذي يتلقاه، وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله:

                                                                                                                                                                                                                                      فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس. إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين. وما صاحبكم بمجنون. ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين. وما هو بقول شيطان رجيم. فأين تذهبون؟ إن هو إلا ذكر للعالمين. لمن شاء منكم أن يستقيم. وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      والخنس الجوار الكنس.. هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي. والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء. وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى. فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها. في اختفائها وفي ظهورها. في تواريها وفي سفورها. في جريها وفي عودتها. يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه.

                                                                                                                                                                                                                                      والليل إذا عسعس .. أي إذا أظلم. ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك. فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين: عس. عس. وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3842 ] وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع.

                                                                                                                                                                                                                                      ومثله: والصبح إذا تنفس .. بل هو أظهر حيوية، وأشد إيحاء. والصبح حي يتنفس. أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي. وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح. ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح.

                                                                                                                                                                                                                                      وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى: فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس .. ثروة شعورية وتعبيرية. فوق ما يشير إليه من حقائق كونية. ثروة جميلة بديعة رشيقة تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر، وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر.

                                                                                                                                                                                                                                      يلوح بهذه المشاهد الكونية التي يخلع عليها الحياة ويصل روح الإنسان بأرواحها من خلال التعبير الحي الجميل عنها لتسكب في روح الإنسان أسرارها، وتشي لها بالقدرة التي وراءها، وتحدثها بصدق الحقيقة الإيمانية التي تدعى إليها.. ثم يذكر هذه الحقيقة في أنسب الحالات لذكرها واستقبالها:

                                                                                                                                                                                                                                      إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين. مطاع ثم أمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا القرآن، وهذا الوصف لليوم الآخر.. لقول رسول كريم.. وهو جبريل الذي حمل هذا القول وأبلغه.. فصار قوله باعتبار تبليغه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويذكر صفة هذا الرسول، الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه.. كريم عند ربه. فربه هو الذي يقول.. ذي قوة .. مما يوحي بأن هذا القول يحتاج في حمله إلى قوة. عند ذي العرش مكين .. في مقامه ومكانته.. وعند من؟ عند ذي العرش العلي الأعلى. مطاع ثم هناك في الملإ الأعلى. أمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      على ما يحمل وما يبلغ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول وضخامته وسموه كذلك وارتفاعه. كما توحي بعناية الله سبحانه بالإنسان، حتى ليختار هذا الرسول صاحب هذه الصفة ليحمل الرسالة إليه، ويبلغ الوحي إلى النبي المختار منه.. وهي عناية تخجل هذا الكائن، الذي لا يساوي في ملك الله شيئا، لولا أن الله - سبحانه - يتفضل عليه فيكرمه هذه الكرامة!

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو صاحبكم .. عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا. فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون. وتذهبون في أمره المذاهب، وهو صاحبكم الذي لا تجهلون. وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين:

                                                                                                                                                                                                                                      وما صاحبكم بمجنون. ولقد رآه بالأفق المبين. وما هو على الغيب بضنين. وما هو بقول شيطان رجيم. فأين تذهبون؟ إن هو إلا ذكر للعالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة، ويعرفون رجاحة عقله، وصدقه وأمانته وتثبته، قالوا عنه: إنه مجنون. وإن شيطانا يتنزل عليه بما يقول. قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار. وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون. وتمشيا مع ظنهم [ ص: 3843 ] أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد. وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد. وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب! وتركوا التعليل الوحيد الصادق، وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين.

                                                                                                                                                                                                                                      فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع، وحيوية مشاهده الجميلة. ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة، التي أنشأت ذلك الجمال. على غير مثال. وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله، والرسول الذي بلغه. وهو صاحبهم الذي عرفوه. غير مجنون. والذي رأى الرسول الكريم - جبريل - حق الرؤية، بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين. وأنه - صلى الله عليه وسلم - لمؤتمن على الغيب، لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه، فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين. وما هو بقول شيطان رجيم فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم. ويسألهم مستنكرا: فأين تذهبون؟ .. أين تذهبون في حكمكم وقولكم؟ أو أين تذهبون منصرفين عن الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم! إن هو إلا ذكر للعالمين ذكر يذكرهم بحقيقة وجودهم، وحقيقة نشأتهم، وحقيقة الكون من حولهم.. للعالمين .. فهو دعوة عالمية من أول مرحلة. والدعوة في مكة محاصرة مطاردة. كما تشهد مثل هذه النصوص المكية..

                                                                                                                                                                                                                                      وأمام هذا البيان الموحي الدقيق يذكرهم أن طريق الهداية ميسر لمن يريد. وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم، وقد منحهم الله هذا التيسير:

                                                                                                                                                                                                                                      لمن شاء منكم أن يستقيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      أن يستقيم على هدى الله، في الطريق إليه، بعد هذا البيان، الذي يكشف كل شبهة، وينفي كل ريبة، ويسقط كل عذر. ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم. فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه. فقد كان أمامه أن يستقيم.

                                                                                                                                                                                                                                      والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد. وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ. وما ينحرف عن طريق الله - بعد ذلك - إلا من يريد أن ينحرف. في غير عذر ولا مبرر!

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا سجل عليهم إمكان الهدى، ويسر الاستقامة، عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم. حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه..

                                                                                                                                                                                                                                      وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى، التي يرجع إليها كل أمر. فإعطاؤهم حرية الاختيار، ويسر الاهتداء، إنما يرجع إلى تلك المشيئة. المحيطة بكل شيء كان أو يكون!

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق، يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة: حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله. وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئة ككل تقدير آخر وتدبير. شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة [ ص: 3844 ] المطلقة لما يؤمرون، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون. فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين، ليدركوا ما هو الحق لذاته. وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية