الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) فاعلم أنه يقال : وسع فلانا الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ، ولا يسعك هذا ، أي لا تطيقه ولا تحتمله ، ومنه قوله عليه السلام : " لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " أي : لا يحتمل غير ذلك ، وأما الكرسي فأصله في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض ، والكرس أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض ، وأكرست الدار إذا كثرت فيها الأبعار والأبوال وتلبد بعضها على بعض ، وتكارس الشيء إذا تركب ، ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض " والكرسي " هو هذا الشيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعض .

                                                                                                                                                                                                                                            واختلف المفسرون على أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه جسم عظيم يسع السماوات والأرض ، ثم اختلفوا فيه فقال الحسن : " الكرسي " هو نفس العرش ، لأن السرير قد يوصف بأنه عرش ، وبأنه كرسي ، لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه ، وقال بعضهم : بل الكرسي غير العرش ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : إنه دون العرش وفوق السماء السابعة ، وقال آخرون : إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن لفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ، ولا امتناع في القول به ، فوجب القول باتباعه ، وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : موضع القدمين ، ومن البعيد أن يقول ابن عباس : هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء ، وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ، فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن المراد من " الكرسي " السلطان والقدرة والملك ، ثم تارة يقال : الإلهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد ، والعرب يسمون أصل كل شيء " الكرسي " وتارة يسمى الملك بالكرسي ، لأن الملك يجلس على الكرسي ، فيسمى الملك باسم مكان الملك .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 12 ] القول الثالث : أن " الكرسي " هو العلم ، لأن العلم موضع العالم وهو الكرسي ، فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز ؛ لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه ، والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم : أوتاد الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الرابع : ما اختاره القفال ، وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ، وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم ، من ذلك أنه جعل الكعبة بيتا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم ، وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعا للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم ، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين ، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشا ، فقال : ( الرحمن على العرش استوى ) [طه : 5] ثم وصف عرشه فقال : ( وكان عرشه على الماء ) [هود : 7] ثم قال : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ) [الزمر : 75] وقال : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [الحاقة : 17] وقال : ( الذين يحملون العرش ومن حوله ) [غافر : 7] ثم أثبت لنفسه كرسيا فقال : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي ، فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ، ولما توافقنا ههنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزه عن الكعبة ، فكذا الكلام في العرش والكرسي ، وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول ، لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ولا يئوده حفظهما ) فاعلم أنه يقال : آده يؤوده : إذا أثقله وأجهده ، وأدت العود أودا ، وذلك إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته ، والمعنى : لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما أي : حفظ السماوات والأرض .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وهو العلي العظيم ) واعلم أنه لا يجوز أن يكون المراد منه العلو بالجهة ، وقد دللنا على ذلك بوجوه كثيرة ، ونزيد ههنا وجهين آخرين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه لو كان علوه بسبب المكان ، لكان لا يخلو إما أن يكون متناهيا في جهة فوق ، أو غير متناه في تلك الجهة ، والأول باطل لأنه إذا كان متناهيا في جهة فوق ، كان الجزء المفروض فوقه أعلى منه ، فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه ، بل يكون غيره أعلى منه ، وإن كان غير متناه فهذا محال ، لأن القول بإثبات بعد لا نهاية له باطل بالبراهين اليقينية ، وأيضا فإنا إذا قدرنا بعدا لا نهاية له ، لافترض في ذلك البعد نقط غير متناهية ، فلا يخلو إما أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا يفترض فوقها نقطة أخرى ، وإما أن لا يحصل ، فإن كان الأول كانت النقطة طرفا لذلك البعد ، فيكون ذلك البعد متناهيا ، وقد فرضناه غير متناه ، هذا خلف ، وإن لم يوجد فيها نقطة إلا وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البعد سفلا ، ولا يكون فيها ما يكون فوقا على الإطلاق ، فحينئذ لا يكون لشيء من النقطات المفترضة في ذلك البعد علو مطلق البتة ، وذلك ينفي صفة العلوية .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 13 ] الحجة الثانية : أن العالم كرة ، ومتى كان الأمر كذلك فكل جانب يفرض علوا بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض يكون سفلا بالنسبة إلى الوجه الثاني ، فينقلب غاية العلو غاية السفل .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أن كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته ، وللآخر بتبعية الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل ، وفي العرضي أقل وأضعف ، فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتية ، ولكان حصول هذا العلو لله تعالى حصولا بتبعية حصوله في المكان ، فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى ، فيكون علو الله ناقصا وعلو غيره كاملا ، وذلك محال ، فهذه الوجوه قاطعة في أن علو الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة ، وما أحسن ما قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله : ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ) [الأنعام : 12] قال : وهذا يدل على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته ، ثم قال : ( وله ما سكن في الليل والنهار ) [الأنعام : 13] وهذا يدل على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته ، فتعالى وتقدس عن أن يكون علوه بسبب المكان ، وأما عظمته فهي أيضا بالمهابة والقهر والكبرياء ، ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم ؛ لأنه إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال لما ثبت بالبراهين القاطعة عدم إثبات أبعاد غير متناهية ، وإن كان متناهيا من كل الجهات كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه ، فلا يكون مثل هذا الشيء عظيما على الإطلاق ، فالحق أنه سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية