الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وكيع : عن سفيان : لو أن اليقين ثبت في القلب ، لطار فرحا ، أو حزنا ، أو شوقا إلى الجنة ، أو خوفا من النار . قال قتيبة : لولا سفيان ، لمات الورع .

                                                                                      ابن المبارك : قال لي سفيان : إياك والشهرة ، فما أتيت أحدا إلا وقد نهى عن الشهرة .

                                                                                      وعن الفريابي قال : أتى سفيان بيت المقدس ، فأقام ثلاثة أيام ، ورابط بعسقلان أربعين يوما ، وصحبته إلى مكة . أحمد بن يونس : سمعت سفيان يقول : ما رأيت للإنسان خيرا من أن يدخل جحرا .

                                                                                      قال عطاء بن مسلم : قال لي الثوري : إذا كنت بالشام ، فاذكر مناقب علي ، وإذا كنت بالكوفة ، فاذكر مناقب أبي بكر وعمر . [ ص: 261 ] وعنه : من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة - وهو يعلم - خرج من عصمة الله ، ووكل إلى نفسه . وعنه : من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه ، لا يلقها في قلوبهم .

                                                                                      قلت : أكثر أئمة السلف على هذا التحذير ، يرون أن القلوب ضعيفة ، والشبه خطافة .

                                                                                      قال محمد بن مسلم الطائفي : إذا رأيت عراقيا ، فتعوذ من شره ، وإذا رأيت سفيان ، فسل الله الجنة . وعن الأصمعي : أن الثوري أوصى أن تدفن كتبه ، وكان ندم على أشياء كتبها عن قوم .

                                                                                      عبد الله بن خبيق : حدثنا الهيثم بن جميل ، عن مفضل بن مهلهل ، قال : حججت مع سفيان ، فوافينا بمكة الأوزاعي ، فاجتمعنا في دار ، وكان على الموسم عبد الصمد بن علي ، فدق داق الباب ، قلنا : من ذا ؟ قال : الأمير . فقام الثوري ، فدخل المخرج ، وقام الأوزاعي فتلقاه ، فقال له : من أنت أيها الشيخ ؟ قال : أنا الأوزاعي . قال : حياك الله بالسلام ، أما إن كتبك كانت تأتينا فنقضي حوائجك ، ما فعل سفيان ؟ قال : فقلت : دخل المخرج . قال : فدخل الأوزاعي في إثره ، فقال : إن هذا الرجل ما قصد إلا قصدك . فخرج سفيان مقطبا ، فقال : سلام عليكم ، كيف أنتم ؟ فقال له عبد الصمد : أتيت أكتب عنك هذه المناسك ، قال : أولا أدلك على ما هو أنفع لك منها ؟ قال : وما هو ؟ قال : تدع ما أنت فيه ، قال : وكيف أصنع بأمير المؤمنين ؟ قال : إن أردت كفاك الله أبا جعفر . فقال له الأوزاعي : يا أبا عبد الله ! إن هؤلاء ليس يرضون منك إلا بالإعظام لهم . فقال : يا أبا عمرو ! إنا لسنا نقدر أن نضربهم ، وإنما نؤدبهم بمثل هذا الذي ترى . قال مفضل : فالتفت إلي الأوزاعي ، [ ص: 262 ] فقال لي : قم بنا من ها هنا ، فإني لا آمن أن يبعث هذا من يضع في رقابنا حبالا ، وإن هذا ما يبالي .

                                                                                      يوسف بن أسباط : سمعت سفيان يقول : ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة ، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب ، فإن نوزع الرئاسة ، حامى عليها ، وعادى . عبد الله بن خبيق : حدثنا عبيد بن جناد ، حدثنا عطاء بن مسلم ، قال : لما استخلف المهدي ، بعث إلى سفيان ، فلما دخل عليه ، خلع خاتمه ، فرمى به إليه ، وقال : يا أبا عبد الله ! هذا خاتمي ، فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة . فأخذ الخاتم بيده ، وقال : تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين ؟ - قلت لعطاء : قال له : يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم - قال : أتكلم على أني آمن ؟ قال : نعم . قال : لا تبعث إلي حتى آتيك ، ولا تعطني حتى أسألك . قال : فغضب ، وهم به ، فقال له كاتبه : أليس قد آمنته ؟ قال : بلى . فلما خرج ، حف به أصحابه ، فقالوا : ما منعك ، وقد أمرك ، أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة ؟ فاستصغر عقولهم ، وخرج هاربا إلى البصرة .

                                                                                      وعن سفيان قال : ليس أخاف إهانتهم ، إنما أخاف كرامتهم ، فلا أرى سيئتهم سيئة ، لم أر للسلطان مثلا إلا مثلا ضرب على لسان الثعلب ، قال : عرفت للكلب نيفا وسبعين دستانا ليس منها دستان خيرا من أن لا أرى الكلب ولا يراني . محمد بن يوسف الفريابي : سمعت سفيان يقول : أدخلت على أبي جعفر بمنى ، [ ص: 263 ] فقلت له : اتق الله ، فإنما أنزلت في هذه المنزلة ، وصرت في هذا الموضع ، بسيوف المهاجرين والأنصار ، وأبناؤهم يموتون جوعا . حج عمر فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا ، وكان ينزل تحت الشجر . فقال : أتريد أن أكون مثلك ؟ قلت : لا ، ولكن دون ما أنت فيه ، وفوق ما أنا فيه . قال : اخرج .

                                                                                      قال عصام بن يزيد : لما أراد سفيان أن يوجهني إلى المهدي ، قلت له : إني غلام جبلي ، لعلي أسقط بشيء ، فأفضحك . قال : يا ناعس ! ترى هؤلاء الذين يجيئوني ؟ لو قلت لأحدهم ، لظن أني قد أسديت إليه معروفا ، ولكن قد رضيت بك ، قل ما تعلم ، ولا تقل ما لا تعلم . قال : فلما رجعت ، قلت : لأي شيء تهرب منه ، وهو يقول : لو جاء ، لخرجت معه إلى السوق فأمرنا ونهينا ؟ فقال : يا ناعس ! حتى يعمل بما يعلم ، فإذا فعل ، لم يسعنا إلا أن نذهب ، فنعلمه ما لا يعلم . قال عصام : فكتب معي سفيان إلى المهدي ، وإلى وزيره أبي عبيد الله ، قال : وأدخلت عليه ، فجرى كلامي ، فقال : لو جاءنا أبو عبد الله ، لوضعنا أيدينا في يده ، وارتدينا بردا ، واتزرنا بآخر ، وخرجنا إلى السوق ، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر ، فإذا توارى عنا مثل أبي عبد الله ، لقد جاءني قراؤكم الذين هم قراؤكم ، فأمروني ونهوني ووعظوني ، وبكوا - والله - لي ، وتباكيت لهم ، ثم لم يفجأني من أحدهم إلا أن أخرج من كمه رقعة : أن افعل بي كذا ، وافعل بي كذا ، ففعلت ، ومقتهم .

                                                                                      قال : وإنما كتب إليه ; لأنه طال مهربه ، أن يعطيه الأمان ، فأتيته فقدمت [ ص: 264 ] عليه البصرة بالأمان ثم مرض ومات .

                                                                                      أبو نعيم : حدثنا الطبراني ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني عمرو بن علي : سمعت يحيى بن سعيد يقول : أملى علي سفيان كتابه إلى المهدي ، فقال : اكتب : من سفيان بن سعيد إلى محمد بن عبد الله . فقلت : إذا كتبت هذا لم يقرأه . قال : اكتب كما تريد . فكتبت . ثم قال : اكتب : فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، تبارك وتعالى ، وهو للحمد أهل ، وهو على كل شيء قدير . فقلت : من كان يكتب هذا الصدر ؟ قال : حدثني منصور عن إبراهيم ، أنه كان يكتبه .

                                                                                      وعن إبراهيم الفراء ، قال : كتب سفيان إلى المهدي مع عصام جبر : طردتني ، وشردتني وخوفتني ، والله بيني وبينك ، وأرجو أن يخير الله لي قبل مرجوع الكتاب . فرجع الكتاب وقد مات .

                                                                                      أخبرنا إسحاق الأسدي ، أنبأنا ابن خليل ، أنبأنا أبو المكارم التيمي ، أنبأنا أبو علي الحداد ، أنبأنا أبو نعيم ، حدثنا ابن حيان ، حدثنا الحسن بن هارون ، حدثنا الحسن بن شاذان النيسابوري ، حدثني محمد بن مسعود ، عن سفيان قال : أدخلت على المهدي بمنى ، فسلمت عليه بالإمرة ، فقال : أيها الرجل ! طلبناك ، فأعجزتنا ، فالحمد لله الذي جاء بك ، فارفع إلينا حاجتك . فقلت : قد ملأت الأرض ظلما وجورا ، فاتق الله ، وليكن منك في ذلك عبرة . فطأطأ رأسه ، ثم قال : أرأيت إن لم أستطع دفعه ؟ قال : تخليه [ ص: 265 ] وغيرك . فطأطأ رأسه ، ثم قال : ارفع إلينا حاجتك . قلت : أبناء المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان بالباب ، فاتق الله ، وأوصل إليهم حقوقهم . فطأطأ رأسه ، فقال أبو عبيد الله : أيها الرجل ! ارفع إلينا حاجتك . قلت : وما أرفع ؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد ، قال : حج عمر ، فقال لخازنه : كم أنفقت ؟ قال : بضعة عشر درهما . وإني أرى ها هنا أمورا لا تطيقها الجبال .

                                                                                      وبه : قال أبو نعيم : حدثنا سعد بن محمد الناقد ، حدثنا محمد بن عثمان ، حدثنا ابن نمير ، حدثنا أبي : لقيني الثوري بمكة فأخذ بيدي ، وسلم علي ، ثم انطلق إلى منزله ، فإذا عبد الصمد قاعد على بابه ينتظره ، وكان والي مكة ، فلما رآه ، قال : ما أعلم في المسلمين أحدا أغش لهم منك . فقال سفيان : كنت فيما هو أوجب علي من إتيانك ، إنه كان يتهيأ للصلاة ، فأخبره عبد الصمد أنه قد جاءه قوم ، فأخبروه أنهم قد رأوا الهلال - هلال ذي الحجة - فأمره أن يأمر من يصعد الجبال ، ثم يؤذن الناس بذلك ، ويده في يدي ، وترك عبد الصمد قاعدا على الباب ، فأخرج إلي سفرة ، فيها فضلة من طعام : خبز مكسر وجبن ، فأكلنا . قال : فأخذه عبد الصمد ، فذهب به إلى المهدي وهو بمنى ، فلما رآه ، صاح بأعلى صوته : ما هذه الفساطيط ؟ ما هذه السرادقات ؟ . [ ص: 266 ]

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية