الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء من الكفارة

                                                                                                          718 حدثنا قتيبة حدثنا عبثر بن القاسم عن أشعث عن محمد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا قال أبو عيسى حديث ابن عمر لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه والصحيح عن ابن عمر موقوف قوله واختلف أهل العلم في هذا الباب فقال بعضهم يصام عن الميت وبه يقول أحمد وإسحق قالا إذا كان على الميت نذر صيام يصوم عنه وإذا كان عليه قضاء رمضان أطعم عنه وقال مالك وسفيان والشافعي لا يصوم أحد عن أحد قال وأشعث هو ابن سوار ومحمد هو عندي ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( أخبرنا عبثر ) بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح المثلثة ، ابن القاسم الزبيدي بالضم أبو زبيد كذلك الكوفي ، ثقة .

                                                                                                          قوله : ( فليطعم عنه ) على بناء الفاعل ، أي فليطعم ولي من مات ( مكان كل يوم ) من أيام الصيام الفائتة ( مسكينا ) كذا وقع بالنصب في نسخ الترمذي الموجودة عندنا ، ووقع في كتاب المشكاة مسكين بالرفع ، وعلى هذا يكون قوله " فليطعم " على بناء المجهول ، ولم يبين في هذا الحديث مقدار الطعام وقد جاء في رواية البيهقي أنه مد من الحنطة وستجيء فانتظر .

                                                                                                          قوله : ( لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه . والصحيح عن ابن عمر موقوف قوله ) قال الحافظ في التلخيص بعد نقل قول الترمذي هذا ما لفظه : رواه ابن ماجه من هذا الوجه ووقع [ ص: 334 ] عنده عن محمد بن سيرين بدل محمد بن عبد الرحمن وهو وهم منه أو من شيخه وقال الدارقطني : المحفوظ وقفه على ابن عمر وتابعه البيهقي على ذلك ، انتهى .

                                                                                                          وقال الزيلعي في نصب الراية : وضعفه عبد الحق في أحكامه بأشعث وابن أبي ليلى . وقال الدارقطني في علله : المحفوظ موقوفا ، هكذا رواه عبد الوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر . وقال البيهقي في المعرفة : لا يصح هذا الحديث فإن محمد بن أبي ليلى كثير الوهم ورواه أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر قوله ثم أخرجه عن عبيد الله بن الأخنس عن نافع عن ابن عمر قال : " من مات وعليه صيام رمضان فليطعم عنه كل يوم مسكينا مدا من حنطة " ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( واختلف أهل العلم في هذا ، فقال بعضهم : يصام عن الميت ، وبه يقول أحمد وإسحاق قالا إذا كان على الميت نذر صيام يصام عنه ، وإذا كان عليه قضاء رمضان أطعم عنه ) وهو قول الليث وأبي عبيد ، واستدلوا بحديث ابن عباس المذكور في الباب فإن قوله فيه : " وعليها صوم شهرين متتابعين يقتضي أنه لم يكن عليها صوم شهر رمضان ، بل كان عليها صوم النذر " ، بل قد وقع في رواية للشيخين : " وعليها صوم نذر " ، وقد جاء في رواية أحمد وغيره بيان سبب النذر بلفظ : إن امرأة ركبت البحر فنذرت : إن الله نجاها أن تصوم شهرا ، فأنجاها الله فلم تصم حتى ماتت ، فجاءت قريبة لها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك فقال : " صومي عنها " . وحملوا العموم الذي في حديث عائشة الذي أشار إليه الترمذي وذكرنا لفظه على المقيد في حديث ابن عباس .

                                                                                                          وفيه أنه ليس بين حديث ابن عباس وحديث عائشة تعارض حتى يجمع بينهما ، فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له ، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة ، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قيل في آخره : " فدين الله أحق أن يقضى " ( وقال مالك وسفيان والشافعي لا يصوم أحد عن أحد ) وهو قول الحنفية واستدلوا بحديث ابن عمر المذكور في الباب ، وفيه أنه قد تقدم أن المحفوظ أنه موقوف ، وللاجتهاد فيه مسرح فلا يصلح للاستدلال ، ثم ليس فيه ما يمنع الصيام .

                                                                                                          [ ص: 335 ] فإن قلت : روى مالك بلاغا أن ابن عمر كان يسأل : هل يصوم أحد عن أحد أو يصلي أحد عن أحد؟ فيقول : لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد ، ففيه ما يمنع الصيام .

                                                                                                          قلت : قد جاء عن ابن عمر خلاف ذلك ، كما ذكره البخاري تعليقا وسيجيء فاختلف قوله على أنه موقوف أيضا ، والحديث الصحيح أولى بالاتباع .

                                                                                                          واستدلوا أيضا بما روى النسائي في الكبرى بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ، وبما روي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم قالت : يطعم عنها . وعن عائشة قالت : لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم ، أخرجه البيهقي .

                                                                                                          قالوا فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه ، وفيه أن هذا الاستدلال أيضا مخدوش ، أما أولا فلأنه جاء عن ابن عباس خلاف ذلك ، فروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سند ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال : يصام عنه النذر ، وفي صحيح البخاري تعليقا . أمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة فقال : صلي عنها . وقال ابن عباس نحوه . قال ابن عبد البر : والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب .

                                                                                                          قال الحافظ في الفتح : ويمكن الجمع بحمل الإثبات في حق من مات والنفي في حق الحي ، انتهى . وأما أثر عائشة الأول فليس فيه ما يمنع الصيام ، وأما أثرها الثاني فضعيف جدا كما صرح به الحافظ في الفتح ، وأما ثانيا فلأن الراجح أن المعتبر ما رواه الصحابي لا ما رآه كما تقرر في مقره .

                                                                                                          تنبيه :

                                                                                                          ذكر الترمذي في هذا الباب قولين ، وفيه قول ثالث : وهو أنه يجوز للولي أن يصوم عن الميت إذا مات وعليه صوم ، أي صوم كان . قال الحافظ في الفتح : قد اختلف السلف في هذه المسألة فأجاز الصيام عن الميت أصحاب الحديث ، وهو قول ابن ثور وجماعة من محدثي الشافعية ، وقال البيهقي في الخلافيات : هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها ، فوجب العمل بها ، ثم ساق بسنده إلى الشافعي كل ما قلت وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلافه ، فخذوا بالحديث ولا تقلدوني ، ثم ذكر الحافظ القولين اللذين ذكرهما الترمذي .

                                                                                                          قلت : هذا القول الثالث الذي قال به أهل الحديث هو الراجح المعول عليه عندي ، يدل عليه حديث ابن عباس ، وحديث بريدة وحديث عائشة ، وهذه الأحاديث الثلاثة قد تقدمت في الباب المتقدم .

                                                                                                          [ ص: 336 ]



                                                                                                          الخدمات العلمية