الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعنها أنها كانت ترجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف يناولها رأسه وهي في حجرتها والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وفي رواية لهما وهو مجاور .

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 172 ] الحديث الثاني وعنها أنها كانت ترجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف يناولها رأسه وهي في حجرتها والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد .

                                                            (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه النسائي من هذا الوجه من طريق عبد الرزاق ، وأخرجه البخاري من طريق هشام وهو ابن يوسف الصنعاني كلاهما عن معمر ، وأخرجه الأئمة الستة من طريق الليث بن سعد والترمذي والنسائي أيضا من طريق مالك ثلاثتهم عن الزهري .

                                                            ورواه عن الزهري أيضا غير واحد وله عن عائشة طرق أخرى في الصحيحين وغيرهما ، وفي رواية الليث عند الأئمة الستة .

                                                            وكذا في رواية الترمذي من طريق مالك عروة وعمرة كلاهما عن عائشة ، وأخرج مسلم في صحيحه وغيره رواية مالك ، وفيها عن عروة عن عمرة فهذه ثلاثة أوجه من الاختلاف فيه على مالك هل رواه الزهري عن عروة أو عن عروة وعمرة أو عن عروة عن عمرة .

                                                            وقال الترمذي هكذا روى غير واحد عن مالك يعني عن عروة وعمرة ، وروى بعضهم عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة .

                                                            والصحيح عن عروة وعمرة عن عائشة وهكذا روى الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة . انتهى .

                                                            وقال البخاري هو صحيح عن عروة وعمرة ولا أعلم أحدا قال عن عروة عن عمرة غير مالك وعبيد الله بن عمر ؛ وقال أبو داود لم يتابع أحد مالكا على عروة عن عمرة ، وقال الدارقطني في العلل رواه عبيد الله بن عمر وأبو أويس عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة .

                                                            وكذلك رواه مالك في الموطإ رواه عنه القعنبي ويحيى بن يحيى يعني النيسابوري ومعن بن عيسى وأبو مصعب [ ص: 173 ] ومحمد بن الحسن وروح بن عبادة وخالد بن مخلد ومنصور بن سلمة وإسحاق بن الطباع وخالفهم عبد الرحمن بن مهدي والوليد بن مسلم وعيسى بن خالد والحجبي فرووه عن مالك عن الزهري عن عروة لم يذكروا فيه عمرة (قلت) .

                                                            رواه هكذا النسائي من رواية عبد الرحمن بن مهدي وقتيبة ومعن ثلاثتهم عن مالك قال الدارقطني وقيل عن الوليد بن مسلم عن مالك عن الزهري عن عمرة عن عائشة ولم يذكر فيه عروة ، وروي عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون فوهم فيه وهما قبيحا ، فقال عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن عروة عن عمرة عن عائشة .

                                                            ورواه ابن وهب عن مالك والليث بن سعد ويونس بن يزيد عن الزهري عن عروة وعمرة كلاهما عن عائشة قال ابن عبد البر أدخل حديث بعضهم في بعض ، وإنما يعرف جمع عروة وعمرة ليونس والليث لا لمالك وكذا قال البيهقي كأنه حمل رواية مالك على رواية الليث ويونس ثم قال الدارقطني وكذلك قال شبيب بن سعيد عن يونس وكذا قال القعنبي وابن رمح عن الليث عن الزهري .

                                                            وكذا قال عبد العزيز بن الحصين عن الزهري كلهم قالوا عن عروة وعمرة عن عائشة ، ورواه زياد بن سعد والأوزاعي ومحمد بن إسحاق ومحمد بن ميسرة وهو ابن أبي حفصة وسفيان بن حسين وعبد الله بن بديل بن ورقاء عن الزهري عن عروة عن عائشة .

                                                            وقال ابن عبد البر كذا رواه جمهور رواة الموطإ عن عروة عن عمرة وهو المحفوظ لمالك عند أكثر رواته ، وقال أكثر أصحاب ابن شهاب عنه عن عروة عن عائشة ثم حكى عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال . قلت لمالك عن عروة عن عمرة وأعدت عليه .

                                                            فقال الزهري عن عروة عن عمرة أو الزهري عن عمرة ثم حكى ابن عبد البر عن محمد بن يحيى الذهلي أنه ذكره في علل حديث الزهري عن جماعة من أصحابه منهم يونس والأوزاعي والليث ومعمر وسفيان بن حسين والزبيدي .

                                                            ثم قال اجتمع هؤلاء كلهم على خلاف مالك فجمع يونس والليث عروة وعمرة واجتمع معمر والأوزاعي وسفيان بن حسين عن عروة عن عائشة قال والمحفوظ عندنا حديث هؤلاء قال والذي أنكر على مالك ذكر عمرة لا غير ؛ لأن ترجيل عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف لا يوجد إلا [ ص: 174 ] في حديث عروة وحده (قلت) وجد من حديث عمرة أيضا . وقد تقدم أن جماعة رووه عنهما وهو في الصحيحين من طريق الليث عنهما كما تقدم قال ابن عبد البر . وقد رواه عنه ابنه هشام وتمام بن سلمة ، وفي حديثهما وأنا حائض . وليس ذلك في حديث الزهري من وجه يثبت (قلت) الرواية التي تقدم ذكرها من صحيح البخاري من طريق معمر عن الزهري فيها وهي حائض ، وقد رواها غير البخاري أيضا بهذا اللفظ والله أعلم .

                                                            قال ابن عبد البر ، وقد رواه الأسود بن يزيد عن عائشة مثل رواية عروة سواء ، إلا أن في حديث الأسود يخرج إلي رأسه ، وفي حديث عروة يدني (قلت) رواية الأسود وهشام بن عروة عن أبيه كلاهما في الصحيحين ، وقد رواه عن عروة أيضا ، وفيه وأنا حائض محمد بن عبد الرحمن بن نوفل رواه مسلم في صحيحه وغيره .

                                                            (الثانية) قولها ترجل بفتح الراء وكسر الجيم وتشديدها أي تسرح وهو على حذف مضاف أي شعر رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه محذوفان كما قال في قوله تعالى فقبضت قبضة من أثر الرسول أي من أثر حافر فرس الرسول ، وقال في النهاية تبعا للهروي : الترجيل تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه ، وقال في المشارق رجل شعره أي مشطه وأرسله ويقال شعر رجل بكسر الجيم وفتحها وضمها ثلاث لغات إذا كان بين السبوطة والجعودة (قلت) وفيه لغة رابعة وهي إسكان الجيم حكاها في المحكم ثم قال في المشارق قال الجوهري الترجيل بل الشعر ثم يمشط (قلت) لم أر ذلك في الصحاح وجزم به ابن عبد البر .

                                                            (الثالثة) فيه استحباب تسريح الشعر وإذا لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في زمن الاعتكاف مع قصره واشتغاله بالعبادة ففي غيره أولى ، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان له شعر فليكرمه ، وفيه أيضا من حديث عبد الله بن مغفل النهي عن الترجيل إلا غبا ، وروى ابن طاهر في كتاب صفة التصوف من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفارق مصلاه سواكه ومشطه ، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة قال والدي رحمه الله وإسنادهما ضعيف .

                                                            (الرابعة) لفظ رواية المصنف محتمل لتسريح شعر الرأس ولتسريح شعر اللحية وكذا لفظ البخاري من طريق معمر أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 175 ] لكن بقية ألفاظ الصحيحين متعينة في شعر الرأس كقولها يدني إلي رأسه فأرجله فإن حملت الأولى على بقية الروايات وفسرت بها فتسريح شعر اللحية بالقياس ، وروى الترمذي في الشمائل بإسناد ضعيف من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته ، لكن ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكل تسريح لحيته إلى أحد وإنما كان يتعاطى ذلك بنفسه بخلاف شعر الرأس فإنه يعسر مباشرة تسريحه ولا سيما في مؤخره فلهذا كان يستعين عليه بزوجاته .

                                                            (الخامسة) وفيه أن الاشتغال بتسريح الشعر لا ينافي الاعتكاف قال الخطابي ، وفي معناه حلق الرأس وتقليم الأظفار وتنظيف البدن من الشعث والدرن انتهى ويؤخذ من ذلك جواز فعل سائر الأمور المباحة كالأكل والشرب وكلام الدنيا وعمل الصنعة من خياطة وغيرها وبهذا صرح أصحابنا وغيرهم ، وعن مالك رحمه الله أنه لا يشتغل في مجالس العلم ولا يكتبه وإن لم يخرج من المسجد والجمهور على خلافه ، وهذا الحديث يرد عليه فإن الاشتغال بالعلم وكتابته أهم من تسريح الشعر .



                                                            (السادسة) وفيه أن مماسة المعتكف للنساء ومماستهن له إذا كان ذلك بغير شهوة لا ينافي اعتكافه وهو كذلك بلا خلاف فإن كان بشهوة فهو حرام وهل يبطل به الاعتكاف ؟ ينظر فإن اقترن به إنزال أبطل الاعتكاف وإلا فلا ، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم ، وقال مالك يبطل به الاعتكاف وإن لم ينزل وأما الجماع في الاعتكاف فهو حرام مفسد له بالإجماع مع التعمد فإن كان ناسيا ، فقال الشافعي لا يفسد الاعتكاف ، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد يفسد .



                                                            (السابعة) قال ابن عبد البر فيه أن اليدين من المرأة ليستا بعورة ولو كانتا عورة ما باشرته بهما في اعتكافه ؛ لأن المعتكف منهي عن المباشرة قال الله عز وجل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد واعترضه والدي رحمه الله في شرح الترمذي ، فقال : إن كانت المباشرة المنهي عنها تختص بالعورة ؛ فلو قبل المعتكف لم يكن بذلك آتيا لما نهي عنه ؛ لأن الوجه ليس بعورة وهو لا يقول به فإن مذهب إمامه أن القبلة مبطلة للاعتكاف أما من يحمل المباشرة على الجماع فلا إشكال في أنه غير مبطل إلا أن يتصل به [ ص: 176 ] الإنزال فالمرجح حينئذ عند الشافعية البطلان ، وحكى ابن العربي عن الشافعي أن النهي عن المباشرة هو على الخصوص في الوطء ، ثم قال وعجبنا له كيف يحمل اللمس هناك على اللمس بقصد وبغير قصد ويقول المباشرة هنا على الجماع قال وهذه المناقضة ليس له عنها مرام ، هذا كلام ابن العربي وهو مردود وأي مناقضة في هذا والمباشرة واللمس أمران مختلفان في اللفظ والمعنى فحمل الشافعي رحمه الله كلا منهما على اللائق به ، أما حمل المباشرة على الجماع فهو قول ترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وقال به أيضا عطاء بن أبي رباح والضحاك والربيع بن أنس وآخرون وكفى ابن المنذر في ذلك الخلاف ، فقال في الإشراف : المباشرة التي نهى الله عنها المعتكف الجماع لا اختلاف فيه أعلمه انتهى .

                                                            وأما كونه يرى النقض باللمس وإن كان بغير قصد فالأحداث كلها كذلك لو خرج حدثه بلا قصد انتقض وضوءه بالإجماع وغاية ما يتعلق به ابن العربي صيغة المفاعلة في قوله تعالى أو لامستم النساء وقد عرف أن المفاعلة قد تخرج عن بابها كقوله عاقبت اللص وطارقت النعل وهي هنا كذلك فإنه لو لمس امرأته بلا حائل متلذذا بها وهي نائمة انتقض وضوءه ولو جامعها وهي كذلك بطل اعتكافه ويدل لذلك قراءة حمزة والكسائي أو لامستم النساء وهي مفسرة للقراءة الأخرى ثم إن الشافعي لا يخص المباشرة المحرمة في الاعتكاف بالجماع بل يعديه إلى المباشرة بشهوة أيضا وإن لم يكن جماع كالقبلة واللمس بشهوة فيحرم ذلك وهل يفسد به الاعتكاف إن فعله ؟ المرجح عند أصحاب الشافعي أنه إن اقترن به إنزال أفسد الاعتكاف وإلا فلا ، وقد تقدم ذلك .



                                                            (الثامنة) وفيه أنه لا بأس باستخدام الزوجة في مثل ذلك وأنه ليس فيه نقص ولا هتك حرمة ولا إضرار بها ، وقال النووي في شرح مسلم فيه جواز استخدام الزوجة في الغسل والطبخ والخبز وغيرها برضاها وعلى هذا تظاهرت دلائل السنة وعمل السلف وإجماع الأمة وأما بغير رضاها فلا يجوز ؛ لأن الواجب عليها تمكين الزوج من نفسها وملازمة بيته فقط انتهى وهذا الذي ذكره إنما هو بطريق القياس فإنه ليس منصوصا وشرط القياس [ ص: 177 ] مساواة الفرع للأصل ، وفي الفرع هنا زيادة مانعة من الإلحاق وهي المشقة الحاصلة من الغسل والطبخ ونحوهما فلا يلزم من استخدامها في الأمر الخفيف احتمال ذلك في الثقيل الشديد ولسنا ننكر هذا الحكم فإنه متفق عليه وإنما الكلام في الاستدلال من الحديث والله أعلم .



                                                            (التاسعة) استدل به الخطابي على أن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد إلا لغائط أو بول ، ووجهه أنه لو جاز له الخروج لغير ذلك لما احتاج إلى إخراج رأسه من المسجد خاصة ولكان يخرج بجملته ليفعل حاجته من تسريح رأسه في بيته ، وقد أكدت ذلك بقولها في بقية الحديث وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وهي في الصحيحين ، وقد يقال هذا فعل لا يدل على الوجوب وجوابه أنه بين به الاعتكاف المذكور في القرآن وذلك يدل على أن هذه طريقة الاعتكاف وهيئته المشروعة والله أعلم .

                                                            (العاشرة) وفيه أن إخراج الرأس من المسجد لا يبطل به الاعتكاف وتقاس به بقية الأعضاء ويترتب عليه في الأيمان لو حلف لا يدخل بيتا فأدخل فيه بعض أعضائه كرأسه لم يحنث وبهذا صرح أصحابنا ، فقالوا لو أدخل في الدار يده أو رأسه أو إحدى رجليه لم يحنث وكذا لو مد رجليه وأدخلهما الدار وهو خارجها لم يحنث وإنما يحنث إذا وضعهما في الدار واعتمد عليهما أو حصل في الدار متعلقا بشيء وكذا في الحلف على الخروج منها ، وقال البغوي في فتاويه فيما لو أدخل رجلا واحدة إن اعتمد على الخارجة أي كان قواه عليها بحيث لو رفع الداخلة لم يسقط فلم يدخل وإن اعتمد على الداخلة فقد دخل وهو حسن ، وقال شيخنا الإسنوي في المهمات . لو اضطجع وأخرج بعض بدنه فيحتمل اعتبار الأكثر بالمساحة ويتجه اعتباره بالفعل لاستقراره في الحقيقة عليه فأشبه الاعتماد على الرجل .



                                                            (الحادية عشرة) هذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها لم تكن تعتكف معه كلما كان يعتكف وهو كذلك ، وقد تبين بالروايات الأخر أنها كانت حينئذ حائضا ولعل ذلك هو المانع من اعتكافها ، وفيها دليل على أنه لا بأس بمماسة الحائض في ترجيل شعر الرأس وغسله ونحو ذلك وهو [ ص: 178 ] أمر مجمع عليه .

                                                            (الثانية عشرة) الحجرة بضم الحاء المهملة وإسكان الجيم البيت ، سميت بذلك لبنائها بالحجارة أو لمنعها المال ، قولان لأهل اللغة وأضاف الحجرة إلى عائشة رضي الله عنها باعتبار سكنها بها وإلا فهي للنبي صلى الله عليه وسلم ومن هذا قوله تعالى واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة .




                                                            الخدمات العلمية