الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أين من هذه المقاصد السامية الهادية إلى تزكية النفس وإعدادها لسعادتي الدنيا والآخرة ، صيغة الصلاة في ملة هذا المختصر المستأجر ، وهي كما في إنجيل متى ( أبانا الذي في السماوات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا ، ولا تدخلنا في تجربة ، ولكن نجنا من الشرير آمين ) ( 6 : 9 - 13 ) أهـ . زاد في نسخة الأميركان : ( لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد ) وجعلوا هذه الزيادة بين علامتي الكلام الدخيل هكذا ( ) فمن ذا الذي زادها على كلام المسيح ؟

                          وقد يقول لهم من لا يؤمن بأن هذه الصيغة منقولة نقلا صحيحا عن المسيح - عليه السلام - ، أو من لا يؤمن به نفسه : إنها صلاة ليس فيها من الثناء على الله تعالى ما في فاتحة المسلمين ولا بعضه ، وطلب تقديس اسم الأب وإتيان ملكوته تحصيل حاصل ، فهو لغو لا يليق بالعاقل ، [ ص: 69 ] وذكره بصيغة الأمر باللام غير لائق - إن لم نقل في انتقاده ما هو أشد من ذلك - وأبعد من ذلك عن اللياقة والأدب مع الرب تبارك وتعالى طلب كون مشيئته على الأرض كمشيئته في السماء . وكونها بصيغة الأمر باللام أيضا ، فمشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه من سمائه وأرضه بالضرورة ، فلا معنى لطلبها ، وطلب المساواة بين السماء والأرض فيها إن أريد به من كل وجه ، فهو تحكم لا يخفى ما يترتب عليه .

                          وأما طلب الخبز الكفاف في كل يوم بصيغة الحصر فهو يفيد أن كل همهم وكل مطلبهم من ربهم ولو لدنياهم هو الخبز الذي يكفيهم ، فأين هذا المطلب من طلب الهداية إلى الصراط المستقيم الموصل إلى سعادتي الدنيا والآخرة على أكمل وجه ، لكونه نفس صراط خيار الناس دون شرارهم .

                          وأما مطلب المغفرة - فهو على كونه يليق أن يطلب منه تعالى - ينتقد منه تشبيهها بمغفرة الطالب للمذنب المسيء إليه من وجهين :

                          ( أحدهما ) أن مغفرة الله لعبده أجل وأعظم وأعم من مغفرة العبد لمثله .

                          ( ثانيهما ) أن الذي يغفر لجميع المسيئين إليه نادر ، ومن المشاهد أن أكثر الناس يجزون على السيئة إما بمثلها ، وإما بأكثر منها ، فكيف يكلف هؤلاء بمخاطبة ربهم بالكذب عليه ، الذي حاصله أنهم يطلبون ألا يغفر لهم ، لأنهم لا يغفرون للمسيئين إليهم .

                          قد يقولون : نعم نحن نلتزم هذا ؛ لأن ديننا يوجب علينا أن نغفر لجميع من أذنب وأساء إلينا ، ونعتقد أن ربنا لا يغفر لنا إذا لم نغفر لهم ؛ لأن من علمنا هذه الصلاة قال بعدها : ( فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا أبوكم السماوي ، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم ) ( متى 6 : 14 ) .

                          فنقول : هذا التعبير يدل على وجوب مغفرة جميع الذنوب لجميع الناس عامة كانت أو خاصة ، فأين منكم يا معشر النصارى من يفعل ذلك ؟ وهل يوجد في الألف أو الألوف منكم واحد كذلك ؟ ألسنا نرى أكثركم ومن تعدونهم أرقاكم وتفتخرون بهم كالإفرنج لا يغفرون لأحد أدنى زلة ، بل لا يكتفون بعقاب من يسئ إلى أحد منهم إذا كان من غيرهم بمثل ذنبه ، وإنما يضاعفون له العقاب أضعافا ، بل ينتقمون من أمته كلها إذا كانت ضعيفة لا يمكنها أن تصدهم بالقوة ، فهم لا يمنعهم من الجزاء على السيئة بأضعافها من السيئات ولا من ابتداء الظلم والعدوان إلا العجز .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية