الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      استغفر لهم أو لا تستغفر لهم الظاهر أن المراد به وبمثله التخيير ، ويؤيد إرادته هنا : فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ستعلم إن شاء الله تعالى ذلك منه فكأنه قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام ، إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت فلا ، وكلام النسفي تنسفه صحة الأخبار نسفا ، واختار غير واحد أن المراد التسوية بين الأمرين كما في قوله تعالى : ( أنفقوا طوعا أو كرها ) والبيت المار :


                                                                                                                                                                                                                                      أسيئي بنا أو أحسني إلخ ، والمقصود الإخبار بعدم الفائدة في ذلك، وفيه من المبالغة ما فيه ، وقال بعض المحققين بعد اختياره للتسوية في مثل ذلك : إنها لا تنافي التخيير فإن ثبت فهو بطريق الاقتضاء لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما، فلا بد من أحدهما، ويختلف الحال فتارة يكون الإثبات كما في قوله تعالى : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وأخرى النفي كما هنا وفي قوله سبحانه : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم بيان لعدم المغفرة وإن استغفر لهم حسبما أريد إثر التخيير، أو بيان لاستحالة المغفرة بعد المبالغة في الاستغفار إثر بيان الاستواء بين الاستغفار وعدمه .



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 148 ] وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله سبحانه : ( سخر الله منهم ) إلخ سأله عليه الصلاة والسلام اللامزون الاستغفار لهم فهم أن يفعل فنزلت فلم يفعل ، وقيل : نزلت بعد أن فعل ، واختار الإمام عدمه وقال : إنه لا يجوز الاستغفار للكافر فكيف يصدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ، ورد بأنه يجوز لأحيائهم بمعنى طلب سبب الغفران ، والقول بأن الاستغفار للمصر لا ينفع، لا ينفع لأنه لا قطع بعدم نفعه إلا أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام بأنه لا يؤمن كأبي لهب ، والقول بأن الاستغفار للمنافق إغراء له على النفاق لا نفاق له أصلا وإلا لامتنع الاستغفار لعصاة المؤمنين ولا قائل به ، وقال بعضهم : إنه على تقدير وقوع الاستغفار منه عليه الصلاة والسلام، والقول بتقديم النهي المفاد بقوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين لا إشكال فيه إذ النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم الفائدة وهو كلام واه لأن قصارى ما تدل عليه الآية المنع من الاستغفار للكفار وهو لا يقتضي المنع عن الاستغفار لمن ظاهر حاله الإسلام ، والقول بأنه حيث لم يستجب يكون نقصا في منصب النبوة ممنوع لأنه عليه الصلاة والسلام قد لا يجاب دعاؤه لحكمة كما لم يجب دعاء بعض إخوانه الأنبياء عليهم السلام، ولا يعد ذلك نقصا كما لا يخفى ، ومناسبة الآية لما قبلها على هذه الرواية في غاية الوضوح إلا أنه قيل : إن الصحيح المعول عليه في ذلك أن عبد الله وكان اسمه الحباب وكان من المخلصين ابن عبد الله بن أبي سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل، فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام : لأزيدن على السبعين فنزلت سواء عليهم أستغفرت لهم إلخ ، وفيه رد على الإمام أيضا في اختياره عدم الاستغفار، وكذا في إنكاره كون مفهوم العدد حجة كما نقله عنه الأسنوي في التمهيد مخالفا في ذلك الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قائل بحجيته كما نقله الغزالي عنه في المنخول، وشيخه إمام الحرمين في البرهان، وصرح بأن ذلك قول الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المطلب لابن الرفعة أن مفهوم العدد هو العمدة عندنا في عدم تنقيص الحجارة في الاستنجاء على الثلاثة والزيادة على ثلاثة أيام في الخيار ، وما نقل عن النووي من أن مفهوم العدد باطل عند الأصوليين محمول على أن المراد باطل عند جمع من الأصوليين كما يدل عليه كلامه في " شرح مسلم " في " باب الجنائز " وإلا فهو عجيب منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلام العلامة البيضاوي مضطرب ، ففي المنهاج التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص أي إنه نص في مدلوله لا يحتمل الزيادة والنقصان ، وفي التفسير عند هذه الآية بعد سوق خبر سبب النزول أنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل، فجاز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين عليه الصلاة والسلام أن المراد به التكثير لا التحديد ، وذكر في تفسير سورة البقرة عند قوله سبحانه : فسواهن سبع سماوات أنه ليس في الآية نفي الزائد ، وإرادة التكثير من السبعين شائع في كلامهم وكذا إرادته من السبعة والسبعمائة ، وعلل في " شرح المصابيح " ذلك بأن السبعة مشتملة على جملة أقسام العدد فإنه ينقسم إلى فرد وزوج، وكل منهما إلى أول ومركب، فالفرد الأول ثلاثة والمركب من خمسة والزوج الأول اثنان والمركب أربعة ، وينقسم أيضا إلى منطق كالأربعة وأصم كالستة; والسبعة تشتمل على جميع هذه الأقسام ، ثم إن أريد المبالغة جعلت آحادها أعشارا وأعشارها مئات ، وأريد بالفرد الأول الذي لا يكون مسبوقا بفرد آخر عددي كالثلاثة إذ الواحد ليس بعدد بناء على أنه ما ساوى نصف مجموع حاشيته الصحيحتين ، وبالفرد المركب الذي يكون مسبوقا بفرد آخر فإن الخمسة مسبوق بثلاثة ، وأريد بالزوج الأول الغير مسبوق بزوج آخر كالاثنين وبالمركب [ ص: 149 ] ما يكون مسبوقا به كالأربعة المسبوقة بالاثنين ، وقد يقسم العدد ابتداء إلى أول ومركب ويراد بالأول ما لا يعده إلا الواحد كالثلاثة والخمسة والسبعة، وبالمركب ما يعده غير الواحد كالأربعة فإنه يعدها الاثنان والتسعة فإنه يعدها الثلاثة ، وللمنطق اطلاقان فيطلق ويراد به ما له كسر صحيح من الكسور التسعة ، والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كأحد عشر ، ويطلق ويراد به المجذور وهو ما يكون حاصلا من ضرب عدد في نفسه كالأربعة الحاصلة من ضرب الاثنين في نفسها، والتسعة الحاصلة من ضرب الثلاثة في نفسها، والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كالاثنين والثلاثة وهذا مراد شارح المصابيح حيث مثل الأصم بالستة مع أن لها كسرا صحيحا بل كسران النصف والسدس لكنها ليست حاصلة من ضرب عدد في نفسه ، ومعنى اشتمال السبعة على هذه الأقسام أنه إذا جمع الفرد الأول مع الزوج المركب أو الفرد المركب مع الزوج الأول كان سبعة ، وكذا إذا جمع المنطق كالأربعة مع الأصم كالثلاثة كان الحاصل سبعة وهذه الخاصة لا توجد في العدد قبل السبعة ، فمن ظن أن الأنسب بالاعتبار بحسب هذا الاشتمال هو الستة لا السبعة لأنها المشتملة على ما ذكر فهو لم يحصل معنى الاشتمال أو لم يعرف هذه الاصطلاحات لكونها من وظيفة علم الإرتماطيقي .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما ذكرنا من معنى الاشتمال يندفع أيضا ما يتوهم من أن التحقيق أن كل عدد مركب من الوحدات لا من الأعداد التي تحته إذ ليس المراد من الاشتمال التركيب على أن في هذا التحقيق مقالا مذكورا في محله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عيسى الربعي : إن السبعة أكمل الأعداد لأن الستة أول عدد تام وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ ليس بعد التمام إلا الكمال ، ولذا سمي الأسد سبعا لكمال قوته ، وفسر العدد التام بما يساوي مجموع كسوره، وكون الستة كذلك ظاهر فإن كسورها سدس وهو واحد وثلث وهو اثنان ونصف وهو ثلاثة ومجموعها ستة ، لكن استبعد عدم فهم من هو أفصح الناس وأعرفهم باللسان صلى الله تعالى عليه وسلم إرادة التكثير من السبعين هنا ، ولذا قال البعض : إنه عليه الصلاة والسلام لم يخف عليه ذلك لكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رأفته ورحمته لمن بعث إليه كقول إبراهيم عليه السلام : ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) يعني أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير فجوز الإجابة بالزيادة قصدا إلى إظهار الرأفة والرحمة كما جعل إبراهيم عليه السلام جزاء من عصاني أي لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام قوله : فإنك غفور رحيم دون " إنك شديد العقاب " مثلا فخيل أنه سبحانه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم وحثا على الاتباع ، وتعقب بأن ذكره للتمويه والتخييل بعد ما فهم عليه الصلاة والسلام منه التكثير لا يليق بمقامه الرفيع ، وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي الفصاحة والمعرفة باللسان، فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل ، ورجحه عنده عليه الصلاة والسلام شغفه بهدايتهم ورأفته بهم واستعطاف من عداهم ، ولعل هذا أولى من القول بالتمويه بلا تمويه ، وأنكر إمام الحرمين صحة ما يدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام فهم على أن حكم ما زاد على السبعين بخلافه وهو غريب منه ، فقد جاء ذلك من رواية البخاري ، ومسلم ، وابن ماجه ، والنسائي وكفى بهم ، وقول الطبرسي : إن خبر " لأزيدن " إلخ خبر واحد لا يعول عليه لا يعول عليه ، وتمسك في ذلك بما هو كحبل الشمس وهو عند القائلين بالمفهوم كجبال القمر ، وأجاب المنكرون له بمنع فهم ذلك لأن ذكر السبعين للمبالغة، وما زاد عليه مثله في الحكم وهو مبادرة عدم المغفرة فكيف يفهم منه المخالفة ، ولعله علم صلى الله عليه وسلم أنه غير مراد ههنا بخصوصه سلمناه لكن لا نسلم فهمه منه ، ولعله [ ص: 150 ] باق على أصله في الجواز إذ لو لم يتعرض له بنفي ولا إثبات والأصل جواز الاستغفار للرسول عليه الصلاة والسلام، وكونه مظنة الإجابة ففهم من حيث إنه الأصل لا من التخصيص بالذكر ، وحاصل الأول منه فهمه منه مطلقا بل إنما فهم من الخارج ، وحاصل الثاني تسليم فهمه منه في الجملة لكن لا بطريق المفهوم بل من جهة الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أن ظاهر الخبر مع القائلين بالمفهوم غاية الأمر أن الله سبحانه أعلم نبيه عليه الصلاة والسلام بآية المنافقين أن المراد بالعدد هنا التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور، فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا ، لكن في دعوى نزول آية المنافقين بعد هذه الآية إشكال ، أما على القول بأن براءة آخر ما نزل فظاهر وأما على القول بأن أكثرها أو صدرها كذلك وحينئذ لا مانع من تأخر نزول بعض الآيات منها عن نزول بعض من غيرها، فلأن صدر ما في سورة المنافقين يقتضي أنها نزلت في غير قصة هذه التي سلفت آنفا ، وظاهر الأخبار كما ستعلم إن شاء الله تعالى يقتضي أنها نزلت في ابن أبي ولم يكن مريضا ، وما تقدم في سبب نزول ما هنا نص في أنه نزل وهو مريض ، والقول بأن تلك نزلت مرتين يحتاج إلى النقل ولا يكتفى في مثله بالرأي وأنى به ، على أنه يشكل حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام " لأزيدن على السبعين " مع تقدم نزول المبين للمراد منه ، والقول بالغفلة لا أراه إلا ناشئا من الغفلة عن قوله تعالى : ( سنقرئك فلا تنسى ) بل الجهل بمقامه الرفيع عليه الصلاة والسلام ومزيد اعتنائه بكلام ربه سبحانه ، ولم أر من تعرض لدفع هذا الإشكال ، ولا سبيل إلى دفعه إلا بمنع نزول ما في سورة المنافقين في قصة أخرى ومنع دلالة الصدر على ذلك ، نعم ذكروا أن الصدر نزل في ابن أبي ولم يكن مريضا إذ ذاك; ولم نقف على نص في أن العجز نزل فيه كذلك ، والظاهر نزوله بعد قوله سبحانه : ولا تصل على أحد منهم إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد ذلك عند تفسير الآية فافهم ( ذلك ) أي : امتناع المغفرة لهم ولو بعد ذلك الاستغفار ( بأنهم ) أي بسبب أنهم كفروا بالله ورسوله يعني ليس الامتناع لعدم الاعتداد باستغفارك بل بسبب عدم قابليتهم لأنهم كفروا كفرا متجاوزا للحد كما يشير إليه وصفهم بالفسق في قوله سبحانه : والله لا يهدي القوم الفاسقين فإن الفسق في كل شيء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده ، والمراد بالهداية الدلالة الموصلة لا الدلالة على ما يوصل لأنها واقعة لكن لم يقبلوها لسوء اختيارهم ، والجملة تذييل مؤكد لما قبله من الحكم، فإن مغفرة الكفار بالإقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق، والمنهمك فيه المطبوع عليه بمعزل من ذلك ، وفيه تنبيه على عذر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الاستغفار لهم وهو عدم يأسه من إيمانهم حيث لم يعلم إذ ذاك أنهم مطبوعون على الغي لا ينجع فيهم العلاج ولا يفيدهم الإرشاد ، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم بموتهم كفارا كما يشهد له قوله سبحانه : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ولعل نزول قوله سبحانه : ( بأنهم ) إلخ متراخ عن نزول قوله سبحانه : استغفر لهم إلخ كما قيل وإلا لم يكن له صلى الله عليه وسلم عذر في الاستغفار بعد النزول .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول بأن هذا العذر إنما يصح لو كان الاستغفار للحي كما مر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه نظر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية