الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 4 ] وسئل رحمه الله عن أحاديث هل هي صحيحة وهل رواها أحد من المعتبرين بإسناد صحيح ؟ إلخ فقال .

                [ ص: 35 ]

                التالي السابق


                فصل وأما حديث فاتحة الكتاب فقد ثبت في الصحيح عن { النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } قال الله : حمدني عبدي وإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال الله : أثنى علي عبدي وإذا قال : { مالك يوم الدين } قال الله : مجدني عبدي . وإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال : هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل } [ ص: 5 ] وثبت في صحيح مسلم عن { ابن عباس قال : بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض ولم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته } وفي بعض الأحاديث : { إن فاتحة الكتاب أعطيها من كنز تحت العرش . }



                فصل قال الله تعالى : في أم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم : { إياك نعبد وإياك نستعين } وهذه السورة هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي الشافية وهي الواجبة في الصلوات لا صلاة إلا بها وهي الكافية تكفي من غيرها ولا يكفي غيرها عنها .

                والصلاة أفضل الأعمال وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح ; أفضل كلمها الطيب وأوجبه القرآن وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود كما جمع بين الأمرين في أول سورة أنزلها على رسوله حيث افتتحها [ ص: 6 ] بقوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } وختمها بقوله : { واسجد واقترب } فوضعت الصلاة على ذلك أولها القراءة وآخرها السجود .

                ولهذا قال سبحانه في صلاة الخوف : { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } والمراد بالسجود الركعة التي يفعلونها وحدهم بعد مفارقتهم للإمام وما قبل القراءة من تكبير واستفتاح واستعاذة هي تحريم للصلاة ومقدمة لما بعده أول ما يبتدئ به كالتقدمة وما يفعل بعد السجود من قعود وتشهد فيه التحية لله والسلام على عباده الصالحين والدعاء والسلام على الحاضرين فهو تحليل للصلاة ومعقبة لما قبله قال النبي صلى الله عليه وسلم { مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم .

                } ولهذا لما تنازع العلماء أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام أو هما سواء ؟ على ثلاثة أقوال عن أحمد وغيره : كان الصحيح أنهما سواء القيام فيه أفضل الأذكار والسجود أفضل الأعمال فاعتدلا ; ولهذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة يجعل الأركان قريبا من السواء وإذا أطال القيام طولا كثيرا - كما كان يفعل في قيام الليل وصلاة الكسوف - أطال معه الركوع والسجود وإذا اقتصد فيه اقتصد في الركوع والسجود وأم الكتاب كما أنها القراءة الواجبة فهي أفضل سورة في القرآن . قال النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 7 ] في الحديث الصحيح : { لم ينزل في التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن مثلها وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته } وفضائلها كثيرة جدا .

                وقد جاء مأثورا عن الحسن البصري رواه ابن ماجه وغيره أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع علمها في الأربعة وجمع علم الأربعة في القرآن وجمع علم القرآن في المفصل وجمع علم المفصل في أم القرآن وجمع علم أم القرآن في هاتين الكلمتين الجامعتين { إياك نعبد وإياك نستعين } وإن علم الكتب المنزلة من السماء اجتمع في هاتين الكلمتين الجامعتين .

                ولهذا ثبت في الحديث الصحيح حديث : { إن الله تعالى يقول : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال : { الحمد لله رب العالمين } قال الله : حمدني عبدي وإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال الله أثنى علي عبدي وإذا قال : { مالك يوم الدين } قال الله عز وجل : مجدني عبدي وفي رواية : فوض إلي عبدي وإذا قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } قال : فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل } [ ص: 8 ] فقد ثبت بهذا النص أن هذه السورة منقسمة بين الله وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة ف { إياك نعبد } مع ما قبله لله { وإياك نستعين } مع ما بعده للعبد وله ما سأل . ولهذا قال من قال من السلف : نصفها ثناء ونصفها مسألة وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء .

                وإذا كان الله قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في كل صلاة فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه ; إذ إيجاب القول الذي هو إقرار واعتراف ودعاء وسؤال هو إيجاب لمعناه ليس إيجابا لمجرد لفظ لا معنى له فإن هذا لا يجوز أن يقع ; بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب أو القلب والبدن بل أوجب دعاء الله عز وجل ومناجاته وتكليمه ومخاطبته بذلك ليكون الواجب من ذلك كاملا صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد .

                وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجابا وغير إيجاب في مواضع كقوله في آخر سورة هود : { فاعبده وتوكل عليه } وقول العبد الصالح شعيب : { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } وقول إبراهيم والذين معه : { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } وقوله سبحانه إذ أمر رسوله أن يقول : { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } .

                فأمر نبيه بأن يقول : على الرحمن توكلت وإليه متاب كما أمره بهما في قوله : { فاعبده وتوكل عليه } والأمر له أمر لأمته وأمره بذلك في أم القرآن وفي غيرها لأمته ليكون فعلهم ذلك طاعة لله وامتثالا لأمره ولا يتقدموا بين يدي الله ورسوله ; ولهذا كان عامة ما يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم والخالصون من أمته من الأدعية والعبادات وغيرها إنما هو بأمر من الله ; بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به وإن كان حسنا أو عفوا وهذا أحد الأسباب الموجبة لفضله وفضل أمته على من سواهم وفضل الخالصين من أمته على المشوبين الذين شابوا ما جاء به بغيره كالمنحرفين عن الصراط المستقيم .

                وإلى هذين الأصلين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد في عباداته وأذكاره ومناجاته مثل قوله في الأضحية : { اللهم هذا منك ولك } فإن قوله : " منك " هو معنى التوكل والاستعانة وقوله : " لك " هو معنى العبادة ومثل قوله في قيامه من الليل : { لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا تموت والجن والإنس يموتون } إلى أمثال ذلك .

                [ ص: 10 ] إذا تقرر هذا الأصل فالإنسان في هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة الممكنة إما أن يأتي بهما وإما أن يأتي بالعبادة فقط وإما أن يأتي بالاستعانة فقط وإما أن يتركهما جميعا .

                ولهذا كان الناس في هذه الأقسام الأربعة ; بل أهل الديانات هم أهل هذه الأقسام وهم المقصودون هنا بالكلام .

                قسم يغلب عليه قصد التأله لله ومتابعة الأمر والنهي والإخلاص لله تعالى واتباع الشريعة في الخضوع لأوامره وزواجره وكلماته الكونيات ; لكن يكون منقوصا من جانب الاستعانة والتوكل فيكون إما عاجزا وإما مفرطا وهو مغلوب إما مع عدوه الباطن وإما مع عدوه الظاهر وربما يكثر منه الجزع مما يصيبه والحزن لما يفوته وهذا حال كثير ممن يعرف شريعة الله وأمره ويرى أنه متبع للشريعة وللعبادة الشرعية ولا يعرف قضاءه وقدره وهو حسن القصد طالب للحق لكنه غير عارف بالسبيل الموصلة والطريق المفضية .

                وقسم يغلب عليه قصد الاستعانة بالله والتوكل عليه وإظهار الفقر والفاقة بين يديه والخضوع لقضائه وقدره وكلماته الكونيات ; لكن يكون منقوصا من جانب العبادة وإخلاص الدين لله فلا يكون مقصوده [ ص: 11 ] أن يكون الدين كله لله وإن كان مقصوده ذلك فلا يكون متبعا لشريعة الله عز وجل ومنهاجه ; بل قصده نوع سلطان في العالم إما سلطان قدرة وتأثير وإما سلطان كشف وإخبار أو قصده طلب ما يريده ودفع ما يكرهه بأي طريق كان أو مقصوده نوع عبادة وتأله بأي وجه كان همته في الاستعانة والتوكل المعينة له على مقصوده فيكون إما جاهلا وإما ظالما تاركا لبعض ما أمره الله به راكبا لبعض ما نهى الله عنه وهذه حال كثير ممن يتأله ويتصوف ويتفقر ويشهد قدر الله وقضاءه ولا يشهد أمر الله ونهيه ويشهد قيام الأكوان بالله وفقرها إليه وإقامته لها ولا يشهد ما أمر به وما نهى عنه وما الذي يحبه الله منه ويرضاه وما الذي يكرهه منه ويسخطه .

                ولهذا يكثر في هؤلاء من له كشف وتأثير وخرق عادة مع انحلال عن بعض الشريعة ومخالفة لبعض الأمر وإذا أوغل الرجل منهم دخل في الإباحية والانحلال وربما صعد إلى فساد التوحيد فيخرج إلى الاتحاد والحلول المقيد كما قد وقع لكثير من الشيوخ ويوجد في كلام صاحب " منازل السائرين " وغيره ما يفضي إلى ذلك .

                وقد يدخل بعضهم في " الاتحاد المطلق والقول بوحدة الوجود " فيعتقد أن الله هو الوجود المطلق كما يقول صاحب " الفتوحات المكية " في أولها : [ ص: 12 ]

                الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت
                أو قلت رب أنى يكلف

                وقسم ثالث معرضون عن عبادة الله وعن الاستعانة به جميعا .

                وهم فريقان : أهل دنيا وأهل دين فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير الله ويستعينون غير الله بظنهم وهواهم { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب .

                واعلم أنه يجب التفريق بين من قد يعرض عن عبادة الله والاستعانة به وبين من يعبد غيره ويستعين بسواه .



                فصل قال الله عز وجل في أول السورة : { الحمد لله رب العالمين } فبدأ بهذين الاسمين : الله والرب . و " الله " هو الإله المعبود فهذا الاسم أحق بالعبادة ; ولهذا يقال : الله أكبر . الحمد لله سبحان الله [ ص: 13 ] لا إله إلا الله و " الرب " هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة .

                ولهذا يقال : { رب اغفر لي ولوالدي } { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } . فعامة المسألة والاستعانة المشروعة باسم الرب .

                فالاسم الأول يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه وما خلق له وما فيه صلاحه وكماله وهو عبادة الله والاسم الثاني يتضمن خلق العبد ومبتداه وهو أنه يربه ويتولاه مع أن الثاني يدخل في الأول دخول الربوبية في الإلهية والربوبية تستلزم الألوهية أيضا . والاسم " الرحمن " يتضمن كمال التعليقين وبوصف الحالين فيه تتم سعادته في دنياه وأخراه .

                ولهذا قال تعالى : { وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } فذكر هنا الأسماء الثلاثة : ( الرحمن و ( ربي و ( الإله وقال : { عليه توكلت وإليه متاب } كما ذكر الأسماء الثلاثة في أم القرآن ; لكن بدأ هناك باسم الله ; ولهذا بدأ في السورة بـ ( إياك نعبد فقدم الاسم وما يتعلق به من العبادة ; لأن [ ص: 14 ] تلك السورة فاتحة الكتاب وأم القرآن فقدم فيها المقصود الذي هو العلة الغائية فإنها علة فاعلية للعلة الغائية . وقد بسطت هذا المعنى في مواضع ; في أول " التفسير " وفي " قاعدة المحبة والإرادة " وفي غير ذلك .



                فصل ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له والإنابة إليه .

                ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية وقد أخبر عنهم أنهم { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال : { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين } فأخبر أنهم مقرون بربوبيته وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم .

                وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى الله من جهة ربوبيته ; لما يمدهم به في الباطن من الأحوال التي بها يتصرفون وهؤلاء من جنس الملوك وقد ذم الله عز وجل في القرآن هذا الصنف كثيرا فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون في الحقائق ويعملون عليها وهم لعمري في نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به والله سبحانه أعلم .



                فصل وذلك أن الإنسان بل وجميع المخلوقات عباد لله تعالى فقراء إليه مماليك له وهو ربهم ومليكهم وإلههم لا إله إلا هو فالمخلوق ليس له من نفسه شيء أصلا ; بل نفسه وصفاته وأفعاله وما ينتفع به أو يستحقه وغير ذلك إنما هو من خلق الله والله عز وجل رب [ ص: 16 ] ذلك كله ومليكه وبارئه وخالقه ومصوره .

                وإذا قلنا ليس له من نفسه إلا العدم فالعدم ليس هو شيئا يفتقر إلى فاعل موجود ; بل العدم ليس بشيء وبقاؤه مشروط بعدم فعل الفاعل لا أن عدم الفاعل يوجبه ويقتضيه كما يوجب الفاعل المفعول الموجود ; بل قد يضاف عدم المعلول إلى عدم العلة وبينهما فرق وذلك أن المفعول الموجود إنما خلقه وأبدعه الفاعل وليس المعدوم أبدعه عدم الفاعل فإنه يفضي إلى التسلسل والدور ; ولأنه ليس اقتضاء أحد العدمين للآخر بأولى من العكس ; فإنه ليس أحد العدمين مميزا لحقيقة استوجب بها أن يكون فاعلا وإن كان يعقل أن عدم المقتضي أولى بعدم الأثر من العكس فهذا لأنه لما كان وجود المقتضي هو المفيد لوجود المقتضي صار العقل يضيف عدمه إلى عدمه إضافة لزومية ; لأن عدم الشيء إما أن يكون لعدم المقتضي أو لوجود المانع . وبعد قيام المقتضي لا يتصور أن يكون العدم إلا لأجل هاتين الصورتين أو الحالتين ; فلما كان الشيء الذي انعقد سبب وجوده يعوقه [ ويمنعه ] المانع المنافي وهو أمر موجود وتارة لا يكون سببه قد انعقد صار عدمه تارة ينسب إلى عدم مقتضيه وتارة إلى وجود مانعه ومنافيه .

                وهذا معنى قول المسلمين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ; إذ [ ص: 17 ] مشيئته هي الموجبة وحدها لا غيرها فيلزم من انتفائها انتفاؤه لا يكون شيء حتى تكون مشيئته لا يكون شيء بدونها بحال فليس لنا سبب يقتضي وجود شيء حتى تكون مشيئته مانعة من وجوده بل مشيئته هي السبب الكامل فمع وجودها لا مانع ومع عدمها لا مقتضى { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده } { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله } { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } .

                وإذا عرف أن العبد ليس له من نفسه خير أصلا ; بل ما بنا من نعمة فمن الله وإذا مسنا الضر فإليه نجأر والخير كله بيديه كما قال : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وقال : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار الذي في صحيح البخاري : { اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت } وقال في دعاء الاستفتاح الذي في صحيح مسلم : [ ص: 18 ] { لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك تباركت ربنا وتعاليت .

                } وذلك أن الشر إما أن يكون موجودا أو معدوما فالمعدوم سواء كان عدم ذات أو عدم صفة من صفات كمالها أو فعل من أفعالها مثل عدم الحياة أو العلم أو السمع أو البصر أو الكلام أو العقل أو العمل الصالح على تنوع أصنافه مثل معرفة الله ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه ورجائه وخشيته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وغير ذلك من الأمور المحمودة الباطنة والظاهرة من الأقوال والأفعال . فإن هذه الأمور كلها خيرات وحسنات وعدمها شر وسيئات ; لكن هذا العدم ليس بشيء أصلا حتى يكون له بارئ وفاعل فيضاف إلى الله وإنما هو من لوازم النفس التي هي حقيقة الإنسان قبل أن تخلق وبعد أن خلقت ; فإنها قبل أن تخلق عدم مستلزم لهذا العدم وبعد أن خلقت - وقد خلقت ضعيفة ناقصة - فيها النقص والضعف والعجز فإن هذه الأمور عدمية فأضيف إلى النفس من باب إضافة عدم المعلول إلى عدم علته وعدم مقتضيه وقد تكون من باب إضافته إلى وجود منافيه من وجه آخر سنبينه إن شاء الله تعالى .

                و " نكتة الأمر " أن هذا الشر والسيئات العدمية ليست موجودة حتى يكون الله خالقها فإن الله خالق كل شيء .

                [ ص: 19 ] والمعدومات تنسب تارة إلى عدم فاعلها وتارة إلى وجود مانعها فلا تنسب إليه هذه الشرور العدمية على الوجهين : أما " الأول " فلأنه الحق المبين فلا يقال عدمت لعدم فاعلها ومقتضيها .

                وأما " الثاني " - وهو وجود المانع - فلأن المانع إنما يحتاج إليه إذا وجد المقتضي ولو شاء فعلها لما منعه مانع وهو - سبحانه - لا يمنع نفسه ما شاء فعله ; بل هو فعال لما يشاء ; ولكن الله قد يخلق هذا سببا ومقتضيا ومانعا فإن جعل السبب تاما لم يمنعه شيء وإن لم يجعله تاما منعه المانع لضعف السبب وعدم إعانة الله له فلا يعدم أمر إلا لأنه لم يشأه كما لا يوجد أمر إلا لأنه يشاؤه وإنما تضاف هذه السيئات العدمية إلى العبد لعدم السبب منه تارة ولوجود المانع منه أخرى .

                أما عدم السبب فظاهر فإنه ليس منه قوة ولا حول ولا خير ولا سبب خير أصالة ولو كان منه شيء لكان سببا فأضيف إليه لعدم السبب ; ولأنه قد صدرت منه أفعال كان سببا لها بإعانة الله له فما لم يصدر منه كان لعدم السبب .

                [ ص: 20 ] وأما وجود المانع المضاد له المنافي فلأن نفسه قد تضيق وتضعف وتعجز أن تجمع بين أفعال ممكنة في نفسها متنافية في حقه فإذا اشتغل بسمع شيء أو بصره أو الكلام في شيء أو النظر فيه أو إرادته أو اشتغلت جوارحه بعمل كثير اشتغلت عن عمل آخر وإن كان ذلك خيرا لضيقه وعجزه ; فصار قيام إحدى الصفات والأفعال به مانعا وصادا عن آخر .

                والضيق والعجز يعود إلى عدم قدرته فعاد إلى العدم الذي هو منه والعدم المحض ليس بشيء حتى يضاف إلى الله تعالى وأما إن كان الشيء موجودا كالألم وسبب الألم فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس شرا على الإطلاق ولا شرا محضا وإنما هو شر في حق من تألم به وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد .

                ولهذا جاء في الحديث الذي رويناه مسلسلا { آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره } وفي الحديث الذي رواه أبو داود : { لو أنفقت ملء الأرض ذهبا لما قبله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك } فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو والمر سواء وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس في حقه شرا ومن تنعم به فهو في حقه خير كما { كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من قص عليه أخوه رؤيا أن [ ص: 21 ] يقول : خيرا تلقاه وشرا توقاه خيرا لنا وشرا لأعدائنا } فإنه إذا أصاب العبد شر سر قلب عدوه ; فهو خير لهذا وشر لهذا ; ومن لم يكن له وليا ولا عدوا فليس في حقه خيرا ولا شرا وليس في مخلوقات الله ما يؤلم الخلق كلهم دائما ولا ما يؤلم جمهورهم دائما ; بل مخلوقاته إما منعمة لهم أو لجمهورهم في أغلب الأوقات كالشمس والعافية فلم يكن في الموجودات التي خلقها الله ما هو شر مطلقا عاما .

                فعلم أن الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص وفيه وجه آخر هو به خير وحسن وهو أغلب وجهيه كما قال تعالى : { أحسن كل شيء خلقه } وقال تعالى : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وقال تعالى : { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } وقال : { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا } .

                وقد علم المسلمون أن الله لم يخلق شيئا ما إلا لحكمة ; فتلك الحكمة وجه حسنه وخيره ولا يكون في المخلوقات شر محض لا خير فيه ولا فائدة فيه بوجه من الوجوه ; وبهذا يظهر معنى قوله : { والشر ليس إليك } وكون الشر لم يضف إلى الله وحده ; بل إما بطريق العموم أو يضاف إلى السبب أو يحذف فاعله .

                [ ص: 22 ] فهذا الشر الموجود الخاص المقيد سببه : إما عدم وإما وجود ; فالعدم مثل عدم شرط أو جزء سبب إذ لا يكون سببه عدما محضا فإن العدم المحض لا يكون سببا تاما لوجود ; ولكن يكون سبب الخير واللذة قد انعقد ولا يحصل الشرط فيقع الألم ; وذلك مثل عدم فعل الواجبات الذي هو سبب الذم والعقاب ومثل عدم العلم الذي هو سبب ألم الجهل وعدم السمع والبصر والنطق الذي هو سبب الألم بالعمى والصمم والبكم وعدم الصحة والقوة الذي هو سبب الألم والمرض والضعف .

                فهذه المواضع ونحوها يكون الشر أيضا مضافا إلى العدم المضاف إلى العبد حتى يتحقق قول الخليل : { وإذا مرضت فهو يشفين } فإن المرض وإن كان ألما موجودا فسببه ضعف القوة وانتفاء الصحة الموجودة وذلك عدم هو من الإنسان المعدوم بنفسه حتى يتحقق قول الحق { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وقوله : { قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } ونحو ذلك فيما كان سببه عدم فعل الواجب وكذلك قول الصحابي : وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان .



                يبين ذلك أن المحرمات جميعها من الكفر والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته فإنه إذا كان عالما بمضرتها وهو غني عنها امتنع أن يفعلها والجهل أصله عدم والحاجة أصلها العدم .

                [ ص: 23 ] فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم والغنى ولهذا يقول في القرآن : { ما كانوا يستطيعون السمع } { أفلم تكونوا تعقلون } ؟ { إنهم ألفوا آباءهم ضالين } { فهم على آثارهم يهرعون } إلى نحو هذه المعاني .

                وأما الموجود الذي هو سبب الشر الموجود الذي هو خاص كالآلام مثل الأفعال المحرمة من الكفر الذي هو تكذيب أو استكبار والفسوق الذي هو فعل المحرمات ونحو ذلك . فإن ذلك سبب الذم والعقاب وكذلك تناول الأغذية الضارة وكذلك الحركات الشديدة المورثة للألم فهذا الوجود لا يكون وجودا تاما محضا ; إذ الوجود التام المحض لا يورث إلا خيرا كما قلنا إن العدم المحض لا يقتضي وجودا ; بل يكون وجودا ناقصا إما في السبب وإما في المحل كما يكون سبب التكذيب عدم معرفة الحق والإقرار به وسبب عدم هذا العلم والقول عدم أسبابه من النظر التام والاستماع التام لآيات الحق وأعلامه .

                وسبب عدم النظر والاستماع : إما عدم المقتضي فيكون عدما محضا وإما وجود مانع من الكبر أو الحسد في النفس { والله لا يحب كل مختال فخور } وهو تصور باطل وسببه عدم غنى النفس بالحق فتعتاض عنه بالخيال الباطل .

                [ ص: 24 ] و " الحسد " أيضا سببه عدم النعمة التي يصير بها مثل المحسود أو أفضل منه ; فإن ذلك يوجب كراهة الحاسد لأن يكافئه المحسود أو يتفضل عليه .

                وكذلك الفسوق كالقتل والزنا وسائر القبائح إنما سببها حاجة النفس إلى الاشتفاء بالقتل والالتذاذ بالزنا وإلا فمن حصل غرضه بلا قتل أو نال اللذة بلا زنا لا يفعل ذلك والحاجة مصدرها العدم وهذا يبين - إذا تدبره الإنسان - أن الشر الموجود إذا أضيف إلى عدم أو وجود فلا بد أن يكون وجودا ناقصا فتارة يضاف إلى عدم كمال السبب أو فوات الشرط وتارة يضاف إلى وجود ويعبر عنه تارة بالسبب الناقص والمحل الناقص وسبب ذلك إما عدم شرط أو وجود مانع والمانع لا يكون مانعا إلا لضعف المقتضي وكل ما ذكرته واضح بين إلا هذا الموضع ففيه غموض يتبين عند التأمل وله طرفان : " أحدهما " أن الموجود لا يكون سببه عدما محضا .

                و " الثاني " أن الموجود لا يكون سببا للعدم المحض وهذا معلوم بالبديهة أن الكائنات الموجودة لا تصدر إلا عن حق موجود .

                [ ص: 25 ] ولهذا كان معلوما بالفطرة أنه لا بد لكل مصنوع من صانع كما قال تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } يقول : أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم خلقوا أنفسهم ؟ .

                ومن المتكلمين من استدل على هذا المطلوب بالقياس وضرب المثال . والاستدلال عليه ممكن ودلائله كثيرة . والفطرة عند صحتها أشد إقرارا به وهو لها أبده وهي إليه أشد اضطرارا من المثال الذي يقاس به .

                وقد اختلف أهل الأصول في العلة الشرعية هل يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي فيها مع قولهم : إن العدمي يعلل بالعدمي ؟ فمنهم من قال : يعلل به ومنهم من أنكر ذلك ومنهم من فصل بين ما لا يجوز أن يكون علة للوجود في قياس العلة ويجوز أن تكون علته له في قياس الدلالة فلا يضاف إليه في قياس الدلالة وهذا فصل الخطاب وهو أن قياس الدلالة يجوز أن يكون العدم فيه علة وجزءا من علة ; لأن عدم الوصف قد يكون دليلا على وصف وجودي يقتضي الحكم .

                وأما " قياس العلة " فلا يكون العدم فيه علة تامة ; لكن يكون جزءا من العلة التامة وشرطا للعلة المقتضية التي ليست بتامة وقلنا : جزء من العلة التامة . وهو معنى كونه شرطا في اقتضاء العلة الوجودية [ ص: 26 ] وهذا نزاع لفظي فإذا حققت المعاني ارتفع . فهذا في بيان أحد الطرفين وهو أن الموجود لا يكون سببه عدما محضا .

                وأما " الطرف الثاني " وهو أن الموجود لا يكون سببا لوجود يستلزم عدما فلأن العدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود بل يكفي فيه عدم السبب الموجود ; ولأن السبب الموجود إذا أثر فلا بد أن يؤثر شيئا والعدم المحض ليس بشيء فالأثر الذي هو عدم محض بمنزلة عدم الأثر ; بل إذا أثر الإعدام فالإعدام أمر وجودي فيه عدم فإن جعل الموجود معدوما والمعدوم موجودا أمر معقول أما جعل المعدوم معدوما فلا يعقل إلا بمعنى الإبقاء على العدم والإبقاء على العدم يكفي فيه عدم الفاعل والفرق معلوم بين عدم الفاعل وعدم الموجب في عدم العلة وبين فاعل العدم وموجب العدم وعلة العدم . والعدم لا يفتقر إلى الثاني ; بل يكفي فيه الأول .

                فتبين بذلك الطرفان وهو أن العدم المحض الذي ليس فيه شوب وجود لا يكون وجودا ما : لا سببا ولا مسببا ولا فاعلا ولا مفعولا أصلا فالوجود المحض التام الذي ليس فيه شوب عدم لا يكون سببا لعدم أصلا ولا مسببا عنه ولا فاعلا له ولا مفعولا أما كونه ليس مسببا عنه ولا مفعولا له فظاهر وأما كونه ليس سببا له فإن كان سببا لعدم محض فالعدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود وإن كان لعدم [ ص: 27 ] فيه وجود فذاك الوجود لا بد له من سبب ولو كان سببه تاما وهو قابل لما دخل فيه عدم ; فإنه إذا كان السبب تاما والمحل قابلا وجب وجود المسبب فحيث كان فيه عدم فلعدم ما في السبب أو في المحل فلا يكون وجودا محضا .

                فظهر أن السبب حيث تخلف حكمه إن كان لفوات شرط فهو عدم وإن كان لوجود مانع فإنما صار مانعا لضعف السبب وهو أيضا عدم قوته وكماله فظهر أن الوجود ليس سبب العدم المحض وظهر بذلك القسمة الرباعية وهي أن الوجود المحض لا يكون إلا خيرا .

                يبين ذلك أن كل شر في العالم لا يخرج عن قسمين إما ألم وإما سبب الألم وسبب الألم مثل الأفعال السيئة المقتضية للعذاب والألم الموجود لا يكون إلا لنوع عدم فكما يكون سببه تفرق الاتصال ; وتفرق الاتصال هو عدم التأليف والاتصال الذي بينهما وهو الشر والفساد .

                وأما سبب الألم فقد قررت في " قاعدة كبيرة " أن أصل الذنوب هو عدم الواجبات لا فعل المحرمات وأن فعل المحرمات إنما وقع لعدم الواجبات فصار أصل الذنوب عدم الواجبات وأصل الألم [ ص: 28 ] عدم الصحة ; ولهذا { كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم في خطبة الحاجة أن يقولوا : ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا } فيستعيذ من شر النفس الذي نشأ عنها من ذنوبها وخطاياها ويستعيذ من سيئات الأعمال التي هي عقوباتها وآلامها ; فإن قوله : { ومن سيئات أعمالنا } قد يراد به السيئات في الأعمال وقد يراد به العقوبات ; فإن لفظ السيئات في كتاب الله يراد به ما يسوء الإنسان من الشر وقد يراد به الأعمال السيئة قال تعالى : { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } وقال تعالى : { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } .

                ومعلوم أن شر النفس هو الأعمال السيئة فتكون سيئات الأعمال هي الشر والعقوبات الحاصلة بها فيكون مستعيذا من نوعي السيئات : الأعمال السيئة وعقوباتها كما في الاستعاذة المأمور بها في الصلاة : { أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال } فأمرنا بالاستعاذة من العذاب عذاب الآخرة وعذاب البرزخ ومن سبب العذاب ومن فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال وذكر الفتنة الخاصة بعد الفتنة العامة فتنة المسيح الدجال فإنها أعظم الفتن كما في الحديث الصحيح : { ما من خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال } .



                [ ص: 29 ] فصل إذا ظهر أن العبد وكل مخلوق فقير إلى الله محتاج إليه ليس فقيرا إلى سواه فليس هو مستغنيا بنفسه ولا بغير ربه ; فإن ذلك الغير فقير أيضا محتاج إلى الله ومن المأثور عن أبي يزيد - رحمه الله - أنه قال : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق . وعن الشيخ أبي عبد الله القرشي أنه قال : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون . وهذا تقريب وإلا فهو كاستغاثة العدم بالعدم ; فإن المستغاث به إن لم يخلق الحق فيه قوة وحولا وإلا فليس له من نفسه شيء قال سبحانه : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقال تعالى : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } واسم العبد يتناول معنيين .

                " أحدهما " بمعنى العابد كرها كما قال : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } وقال : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وقال : { بديع السماوات والأرض } { كل له قانتون } وقال : { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها } .

                و " الثاني " بمعنى العابد طوعا وهو الذي يعبده ويستعينه وهذا هو المذكور في قوله : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } وقوله : { عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا } وقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقوله : { إلا عبادك منهم المخلصين } وقوله : { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } وقوله : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب } وقوله : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } وقوله : { نعم العبد إنه أواب } وقوله : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } وقوله : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه } .

                وهذه العبودية قد يخلو الإنسان منها تارة وأما الأولى فوصف لازم إذا أريد بها جريان القدر عليه وتصريف الخالق له قال تعالى : { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون } وعامة السلف على أن المراد بالاستسلام استسلامهم له بالخضوع والذل لا مجرد تصريف الرب لهم كما في قوله : { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وهذا الخضوع والذل هو أيضا لازم لكل عبد لا بد له من ذلك وإن [ ص: 31 ] كان قد يعرض له أحيانا الإعراض عن ربه والاستكبار فلا بد له عند التحقيق من الخضوع والذل له ; لكن المؤمن يسلم له طوعا فيحبه ويطيع أمره والكافر إنما يخضع له عند رغبة ورهبة فإذا زال عنه ذلك أعرض عن ربه كما قال : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } وقال : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } .

                وفقر المخلوق وعبوديته أمر ذاتي له لا وجود له بدون ذلك والحاجة ضرورية لكل المصنوعات المخلوقات وبذلك هي أنها لخالقها وفاطرها إذ لا قيام لها بدونه وإنما يفترق الناس في شهود هذا الفقر والاضطرار وعزوبه عن قلوبهم .

                و " أيضا " فالعبد يفتقر إلى الله من جهة أنه معبوده الذي يحبه حب إجلال وتعظيم فهو غاية مطلوبه ومراده ومنتهى همته ولا صلاح له إلا بهذا وأصل الحركات الحب والذي يستحق المحبة لذاته هو الله فكل من أحب مع الله شيئا فهو مشرك وحبه فساد ; وإنما الحب الصالح النافع حب الله والحب لله والإنسان فقير إلى الله من جهة عبادته له ومن جهة استعانته به للاستسلام والانقياد لمن أنت إليه فقير وهو ربك وإلهك .

                [ ص: 32 ] وهذا العلم والعمل أمر فطري ضروري ; فإن النفوس تعلم فقرها إلى خالقها وتذل لمن افتقرت إليه وغناه من الصمدية التي انفرد بها فإنه { يسأله من في السماوات والأرض } وهو شهود الربوبية بالاستعانة والتوكل والدعاء والسؤال ثم هذا لا يكفيها حتى تعلم ما يصلحها من العلم والعمل وذلك هو عبادته والإنابة إليه ; فإن العبد إنما خلق لعبادة ربه فصلاحه وكماله ولذته وفرحه وسروره في أن يعبد ربه وينيب إليه وذلك قدر زائد على مسألته والافتقار إليه ; فإن جميع الكائنات حادثة بمشيئته قائمة بقدرته وكلمته محتاجة إليه فقيرة إليه مسلمة له طوعا وكرها فإذا شهد العبد ذلك وأسلم له وخضع فقد آمن بربوبيته ورأى حاجته وفقره إليه صار سائلا له متوكلا عليه مستعينا به إما بحاله أو بقاله بخلاف المستكبر عنه المعرض عن مسألته .

                ثم هذا المستعين به السائل له إما أن يسأل ما هو مأمور به أو ما هو منهي عنه أو ما هو مباح له ; ف " الأول " حال المؤمنين السعداء الذين حالهم { إياك نعبد وإياك نستعين } و " الثاني " حال الكفار والفساق والعصاة الذين فيهم إيمان به وإن كانوا كفارا كما قال : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } فهم مؤمنون بربوبيته مشركون في عبادته كما { قال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي : [ ص: 33 ] يا حصين كم تعبد ؟ قال : سبعة آلهة : ستة في الأرض وواحدا في السماء قال : فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء قال : أسلم حتى أعلمك كلمة ينفعك الله تعالى بها فأسلم فقال : قل : اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي } رواه أحمد وغيره .

                ولهذا قال سبحانه وتعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } أخبر سبحانه أنه قريب من عباده يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فهذا إخبار عن ربوبيته لهم وإعطائه سؤلهم وإجابة دعائهم ; فإنهم إذا دعوه فقد آمنوا بربوبيته لهم وإن كانوا مع ذلك كفارا من وجه آخر وفساقا أو عصاة قال تعالى : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } وقال تعالى : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } ونظائره في القرآن كثيرة ثم أمرهم بأمرين فقال : { فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ف " الأول " أن يطيعوه فيما أمرهم به من العبادة والاستعانة و " الثاني " الإيمان بربوبيته وألوهيته وأنه ربهم وإلههم .

                ولهذا قيل : إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد وعن كمال [ ص: 34 ] الطاعة ; لأنه عقب آية الدعاء بقوله : { فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي } والطاعة والعبادة هي مصلحة العبد التي فيها سعادته ونجاته وأما إجابة دعائه وإعطاء سؤاله فقد يكون منفعة وقد يكون مضرة قال تعالى : { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا } وقال تعالى : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } وقال تعالى عن المشركين : { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } وقال : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم } وقال : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } وقال : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه } الآية وقال : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } { وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أهل جابر فقال : لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير ; فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون } .



                [ ص: 35 ] فصل فالعبد كما أنه فقير إلى الله دائما في إعانته وإجابة دعوته وإعطاء سؤاله وقضاء حوائجه فهو فقير إليه في أن يعلم ما يصلحه وما هو الذي يقصده ويريده وهذا هو الأمر والنهي والشريعة وإلا فإذا قضيت حاجته التي طلبها وأرادها ولم تكن مصلحة له كان ذلك ضررا عليه وإن كان في الحال له فيه لذة ومنفعة فالاعتبار بالمنفعة الخالصة أو الراجحة وهذا قد عرفه الله عباده برسله وكتبه : علموهم وزكوهم وأمروهم بما ينفعهم ونهوهم عما يضرهم وبينوا لهم أن مطلوبهم ومقصودهم ومعبودهم يجب أن يكون هو الله وحده لا شريك له ; كما أنه هو ربهم وخالقهم وأنهم إن تركوا عبادته أو أشركوا به غيره خسروا خسرانا مبينا وضلوا ضلالا بعيدا وكان ما أوتوه من قوة ومعرفة وجاه ومال وغير ذلك - وإن كانوا فيه فقراء إلى الله مستعينين به عليه مقرين بربوبيته - فإنه ضرر عليهم ولهم بئس المصير وسوء الدار .

                وهذا هو الذي تعلق به الأمر الديني الشرعي والإرادة الدينية [ ص: 36 ] الشرعية كما تعلق بالأول الأمر الكوني القدري والإرادة الكونية القدرية .

                والله سبحانه قد أنعم على المؤمنين بالإعانة والهداية ; فإنه بين لهم هداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وأعانهم على اتباع ذلك علما وعملا كما من عليهم وعلى سائر الخلق بأن خلقهم ورزقهم وعافاهم ومن على أكثر الخلق بأن عرفهم ربوبيته لهم وحاجتهم إليه وأعطاهم سؤلهم وأجاب دعاءهم قال تعالى : { يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن } فكل أهل السموات والأرض يسألونه فصارت الدرجات أربعة .

                " قوم " لم يعبدوه ولم يستعينوه وقد خلقهم ورزقهم وعافاهم . و " قوم " استعانوه فأعانهم ولم يعبدوه .

                و " قوم " طلبوا عبادته وطاعته ولم يستعينوه ولم يتوكلوا عليه . و " الصنف الرابع " الذين عبدوه واستعانوه فأعانهم على عبادته وطاعته وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقد بين سبحانه ما خص به المؤمنين في قوله : { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون } .

                والحمد لله رب العالمين وصلى الله على أفضل المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين .




                الخدمات العلمية