الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون

كلام جامع وهو تزييل للسورة مؤذن بختامها ، فهو من براعة المقطع . والواو عاطفة كلاما على كلام ، أو واو الاعتراض في آخر الكلام ومثله كثير .

واللام في لله للملك وهو ملك إحاطة العلم ، أي لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض . وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وعدوا من النعيم المغيب عنهم ، ونذارة المشركين بما توعدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة .

وتقديم المجرورين في ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر لإفادة الاختصاص ، أي الله لا غيره يملك غيب السماوات والأرض ؛ لأن ذلك مما لا يشاركه فيه أحد . وإلى الله لا إلى غيره يرجع الأمر كله ، وهو تعريض [ ص: 195 ] بفساد آراء الذين عبدوا غيره ؛ لأن من لم يكن كذلك لا يستحق أن يعبد ، ومن كان كذلك كان حقيقا بأن يفرد بالعبادة .

ومعنى إرجاع الأمر إليه : أن أمر التدبير والنصر والخذلان وغير ذلك يرجع إلى الله ، أي إلى علمه وقدرته ، وإن حسب الناس وهيأوا فطالما كانت الأمور حاصلة على خلاف ما استعد إليه المستعد ، وكثيرا ما اعتز العزيز بعزته فلقي الخذلان من حيث لا يرتقب ، وربما كان المستضعفون بمحل العزة والنصرة على أولي العزة والقوة .

والتعريف في الأمر تعريف الجنس فيعم الأمور ، وتأكيد الأمر بـ كله للتنصيص على العموم .

وقرأ من عدا نافعا يرجع ببناء الفعل بصيغة النائب ، أي يرجع كل ذي أمر أمره إلى الله . وقرأه نافع بصيغة الفاعل على أن يكون الأمر هو فاعل الرجوع ، أي يرجع هو إلى الله .

وعلى كلتا القراءتين فالرجوع تمثيل لهيئة عجز الناس عن التصرف في الأمور حسب رغباتهم بهيئة متناول شيء للتصرف به ثم عدم استطاعته التصرف به فيرجعه إلى الحري بالتصرف به ، أو تمثيل لهيئة خضوع الأمور إلى تصرف الله دون تصرف المحاولين التصرف فيها بهيئة المتجول الباحث عن مكان يستقر به ثم إيوائه إلى المقر اللائق به ورجوعه إليه ، فهي تمثيلية مكنية رمز إليها بفعل يرجع وتعديته بـ إليه .

وتفريع أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعبادة الله والتوكل عليه على رجوع الأمر كله إليه ظاهر ؛ لأن الله هو الحقيق بأن يعبد وأن يتوكل عليه في كل مهم . وهو تعريض بالتخطئة للذين عبدوا غيره وتوكلوا على شفاعة الآلهة ونفعها . ويتضمن أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالدوام على العبادة والتوكل .

[ ص: 196 ] والمراد أن يعبده دون غيره ويتوكل عليه دون غيره بقرينة وإليه يرجع الأمر كله ، وبقرينة التفريع لأن الذي يرجع إليه كل أمر لا يعقل أن يصرف شيء من العبادة ولا من التوكل إلى غيره ، فلذلك لم يؤت بصيغة تدل على تخصيصه بالعبادة للاستغناء عن ذلك بوجوب سبب تخصيصه بهما .

وجملة وما ربك بغافل عما تعملون فذلكة جامعة ، فهو تذييل لما تقدم . والواو فيه كالواو في قوله : ولله غيب السماوات والأرض فإن عدم غفلته عن أي عمل أنه يعطي كل عامل جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ولذلك علق وصف الغافل بالعمل ولم يعلق بالذوات نحو : بغافل عنكم ، إيماء إلى أن على العمل جزاء .

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب عما تعملون - بتاء فوقية - خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والناس معه في الخطاب . وقرأ من عداهم بالمثناة التحتية على أن يعود الضمير إلى الكفار فهو تسلية للنبي - عليه الصلاة والسلام - وتهديد للمشركين .

التالي السابق


الخدمات العلمية