الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            وأما العمرة فهي سنة مؤكدة مرة في العمر وأطلق المصنف - رحمه الله - في قوله : إنها سنة مرة في العمر ولا [ ص: 467 ] بد من زيادة كونها مؤكدة كما صرح به غير واحد من أهل المذهب ، قال في الرسالة : والعمرة سنة مؤكدة مرة في العمر وقال في النوادر : قال مالك : العمرة سنة واجبة كالوتر لا ينبغي تركها انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن الحاج في منسكه هي أوكد من الوتر ، وفي الموطإ قال مالك : العمرة سنة ولا نعلم أحدا من المسلمين رخص في تركها انتهى .

                                                                                                                            قال أبو عمر : حمل بعضهم قول مالك في الموطإ لا نعلم من رخص في تركها على أنها فرض وذلك جهل منه انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن الحاج في منسكه : قال مالك : العمرة سنة مؤكدة وليست بفرض كالحج وهي أوكد من الوتر وقد قيل : إن قوله تعالى { العمرة لله } بعد قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } كلام مؤتنف وقد قرئت بالرفع ، وقيل : إنما أمر بإتمامها من دخل فيها ، وقال ابن حبيب وأبو بكر بن الجهم : هي فرض كالحج ، وبه قال الشافعي وبه قال جماعة من أهل المدينة والمشهور الأول ; لقوله عليه الصلاة والسلام : { الحج جهاد والعمرة تطوع } رواه الترمذي وقال : حديث حسن ، وفي بعض الروايات : حسن صحيح ونازعه النووي في تصحيحه ; ولأنها نسك غير مؤقت فلا تكون واجبة كطواف التطوع ولعدم ذكرها في حديث بني الإسلام على خمس ، انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن حارث عن ابن حبيب : هي فرض على غير أهل مكة وقال الزركشي من الشافعية : كره مالك الاعتمار لأهل مكة والمجاورين بها وقال : يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت ، وهو قول عطاء وطاوس بخلاف غيرهم فإنها واجبة عليهم انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) : وهو غريب لا يعرف في المذهب عن مالك قال ابن فرحون في شرح ابن الحاجب : وعن عطاء أنه قال : العمرة واجبة على الناس إلا على أهل مكة ; لأنهم يطوفون بالبيت انتهى .

                                                                                                                            ( تنبيه ) ولا خلاف أنها تجب بالنذر ويجب إتمامها بعد الشروع فيها والله أعلم .

                                                                                                                            وحكمها بعد المرة الأولى الاستحباب قال الشيخ أبو الحسن الكبير في أواخر كتاب الحج الثاني قال أبو محمد : والعمرة سنة مؤكدة مرة في العمر ، وأما أكثر من مرة فينتفي عنها التأكيد وتبقى بعد ذلك مستحبة انتهى .

                                                                                                                            ويستحب في كل سنة مرة ويكره تكرارها في العام الواحد على المشهور وقاله مالك في المدونة ; لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكررها في عام واحد مع قدرته على ذلك وقد كرهه جماعة من السلف وأجاز ذلك مطرف وابن الماجشون وقال ابن حبيب : لا بأس بها في كل شهر مرة ، وقال أبو الحسن وغيره : وفرطت عائشة رضي الله عنها في العمرة سبع سنين ثم قضتها في عام واحد وروي عن علي رضي الله عنه : في كل شهر مرة وروي عن ابن عمر أنه اعتمر ألف عمرة وحج ستين حجة وحمل على ألف فرس في سبيل الله وأعتق ألف رقبة انتهى .

                                                                                                                            وقال سند : كره مالك تكررها في السنة الواحدة تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه اعتمر في كل عام مرة وحكى كراهة ذلك عن كثير من السلف وما روي أن عليا كان يعتمر كل يوم وأن ابن عمر كان يعتمر في كل يوم من أيام ابن الزبير فيحتمل أن يكون قضاء عن نذر أو لوجه رآه ، كما روي أن عائشة فرطت في العمرة سبع سنين فقضتها في عام واحد ، ولو كان مستحبا لفعله عليه الصلاة والسلام والأئمة بعده أو ندب إليه على وجه يقطع العذر ، انتهى ملخصا .

                                                                                                                            ونقل اللخمي عن مطرف وابن المواز جواز تكرارها في السنة مرارا واختاره ونصه : قال مطرف في كتاب ابن حبيب : لا بأس بالعمرة في السنة مرارا ، قال : أرجو أن لا يكون به بأس ، قال اللخمي : ولا أرى أن يمنع أحد من أن يتقرب إلى الله بشيء من الطاعات ولا من الازدياد من الخير في موضع لم يأت بالمنع منه نص ، انتهى .

                                                                                                                            وكلامه يوهم أن ابن المواز قال ذلك في الاعتمار مرارا ، وظاهر كلام ابن المواز أنه إنما قاله في المرتين فقط ، قال في التوضيح عند قول ابن الحاجب وفي كراهة تكرار العمرة في السنة الواحدة قولان : المشهور الكراهة ، وهو مذهب [ ص: 468 ] المدونة ، والشاذ لمطرف إجازة تكرارها ونحوه لابن المواز ; لأنه قال : أرجو أن لا يكون بالعمرة مرتين في سنة بأس وقد اعتمرت عائشة مرتين في عام واحد وفعله ابن عمر وابن المنكدر وكرهت عائشة عمرتين في شهر ، وكرهه القاسم بن محمد انتهى .

                                                                                                                            وما ذكره صاحب التوضيح عن ابن المواز هو كذلك في النوادر وهو أولى مما قاله اللخمي . ونص النوادر قال ابن المواز : وكره مالك أن يعتمر عمرتين في سنة واحدة يريد فإن فعل لزمه قال محمد : وأرجو أن لا يكون به بأس انتهى .

                                                                                                                            ( فرع ) وعلى المشهور من أن يكره تكرارها في السنة الواحدة فلو أحرم بثانية انعقد إحرامه إجماعا ، قاله سند وغيره وتقدم ذلك في كلام ابن المواز حيث قال : يريد فإن فعل لزمه ، وقال في المدونة : والعمرة في السنة إنما هي مرة واحدة ولو اعتمر بعدها لزمته كانت الأولى في أشهر الحج أم لا أراد الحج من عامه ذلك أم لا انتهى .

                                                                                                                            ( تنبيه ) قال المصنف في مناسكه : وعلى المشهور من أنه يكره تكرارها في العام الواحد فأول السنة المحرم فيجوز لمن اعتمر في أواخر ذي الحجة أن يعتمر في المحرم قاله مالك ، قال ابن القاسم : ثم استثقله مالك وقال : أحب إلي لمن أقام بمكة أن لا يعتمر حتى يدخل المحرم أي لقرب الزمن انتهى .

                                                                                                                            وقوله ثم استثقله أي استثقل أن يعتمر في أواخر ذي الحجة ثم يعتمر في المحرم لقرب الزمن أي فلا يفعل إلا واحدة ، وإذا كان لا يفعل إلا واحدة فهل الأولى أن تكون في أواخر ذي الحجة أو المحرم ؟ قال : أحب إلي لمن أقام بمكة أن لا يعتمر حتى يدخل المحرم فتضمن كلام مالك الثاني مسألتين : إحداهما استثقال الإتيان بعمرة في ذي الحجة ، ثم أخرى في المحرم ، والثانية استحباب أن تكون العمرة في المحرم لمن أقام بمكة وكذلك نقلها التادلي مسألتين وقال في المواضع المختلف فيها في العمرة ، الثالث هل يستحب للحاج أن تكن في المحرم أو لا ؟ قال مالك : أحب إلي أن تكون في المحرم ; لأن فعلها في غير أشهر الحج أفضل له وقيل : له فعلها بعد حجه ، وسبب الخلاف هل ذو الحجة كله من أشهر الحج أم لا .

                                                                                                                            الرابع إذا اعتمر بعد حجه هل له أن يعتمر أخرى في المحرم عن مالك روايتان ، انتهى .

                                                                                                                            فقوله : لقرب الزمن ; تعليل الاستثقال فقط وأما استحباب كونها في المحرم فلتكن في غير أشهر الحج على ما قاله التادلي ولا ينبغي أن يفهم من قول المصنف وعلى المشهور فأول السنة المحرم إلخ أن في أول السنة خلافا هل هو المحرم أو ذو الحجة ؟ إذ ليس في كلامه ما يدل على ذلك ولا في كلام مالك وإلا لعلل استثقاله العمرة في المحرم بعد العمرة في ذي الحجة بأن ذلك في سنة واحدة ، وهذا إنما علله بقرب الزمن وقال صاحب الطراز وإذا راعينا العمرة في السنة مرة فهل هي من الحج إلى الحج أو من المحرم إلى المحرم ؟ واختلف فيه قول مالك قال في الموازية : ولا بأس أن يعتمر بعد أيام الرمي في آخر ذي الحجة ثم يعتمر في المحرم عمرة أخرى فيصير في كل سنة مرة ، ثم رجع فقال : أحب إلي لمن أقام أن لا يعتمر بعد الحج حتى يدخل المحرم فعلى هذا يعتمر قبل الحج وبعده ويكون انتهاء العمرة وقت فعل الحج ، وعلى الأول إذا اعتمر قبل الحج فلا يعتمر بعده حتى يدخل المحرم انتهى .

                                                                                                                            وما قاله غير ظاهر وليس في كلام مالك ما يدل عليه فأول السنة المحرم على كل حال والله أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) يستثنى من كراهة تكرار العمرة في السنة من تكرر دخوله إلى مكة من موضع يجب عليه الإحرام منه وهو الظاهر ولم أر من صرح به ; لأنه إن أحرم بحج فقد أحرم قبل وقته وإن لم يحرم دخل عليه بغير إحرام ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) قال مالك : ولا بأس أن يعتمر الصرورة قبل أن يحج انتهى .

                                                                                                                            ويعني بذلك أن من قدم في أشهر الحج وهو صرورة فلا يتعين أن يحرم بالحج بل يجوز له أن يعتمر ، وأما إذا قدم الصرورة قبل أشهر الحج فالمطلوب منه يومئذ الإحرام بالعمرة من غير خلاف ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( فرع ) قال في الطراز : ويجوز لمن دخل مكة معتمرا أن يخرج بعد انقضاء عمرته وفي كتاب ابن حبيب [ ص: 469 ] أحب للمعتمر أن يقيم لعمرته ثلاثا بمكة ، وفي الموطإ عن عثمان أنه كان إذا اعتمر لم يحطط عن راحلته حتى يرجع ، والله أعلم .

                                                                                                                            وقول المصنف : فرض الحج وسنة العمرة الموجودة في غالب النسخ بالبناء للمفعول ورفع الحج والعمرة على النيابة للفاعل ونصب مرة على النيابة على المفعول المطلق والعامل فيه العمرة ويقدر مثله للحج ; لأن العمرة والحج مصدران يقدر كل واحد منهما بأن والفعل والمعنى فرض بأن يحج مرة وسن أن يعتمر مرة ولا يصح أن يكون العامل فيه فرض وسنت ; لأنه إنما يفيد أن الفرض والسنة وقع من الشارع مرة ولا يفيد المعنى المراد ; لأن المفعول المطلق قيد في عامله ويجوز أن ينصب مرة على التمييز المحول عن النائب عن الفاعل والمعنى فرض المرة من الحج وسنة العمرة من العمرة ويوجد في بعض النسخ فرض الحج بفتح الفاء وسكون الراء على أنه مصدر مرفوع بالابتداء ، ويرفع سنة بالعطف عليه ويجر الحج والعمرة بالإضافة ، ومرة مرفوع على أنه خبر وعليها شرح البساطي .

                                                                                                                            ويتعين حينئذ أن يكون المصدر بمعنى اسم المفعول ، أي المفروض من الحج مرة ، والمسنون من العمرة مرة ، والله أعلم .

                                                                                                                            وإنما أطلت الكلام هنا ; لأن هذه المسائل محتاج إليها ولم ينبه الشارح عليها

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية