الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الثامن : حكم الحاكي لهذا الكلام عن غيره

          الوجه السادس : أن يقول القائل ذلك حاكيا عن غيره ، وآثرا له عن سواه ، فهذا ينظر في صورة حكايته ، وقرينة مقالته ، ويختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه : الوجوب ، والندب ، والكراهة ، والتحريم ، فإن كان أخبر به على وجه الشهادة والتعريف بقائله ، والإنكار والإعلام بقوله ، والتنفير منه والتجريح له ، فهذا مما ينبغي امتثاله ويحمد فاعله ، وكذلك إن حكاه [ ص: 559 ] في كتاب أو في مجلس على طريق الرد له ، والنقض على قائله ، وللفتيا بما يلزمه .

          وهذا منه ما يجب ، ومنه ما يستحب بحسب حالات الحاكي لذلك ، والمحكي عنه ، فإن كان القائل لذلك ممن تصدى لأن يؤخذ عنه العلم أو رواية الحديث ، أو يقطع بحكمه أو شهادته ، أو فتياه في الحقوق ، وجب على سامعه الإشادة بما سمع منه ، والتنفير للناس عنه ، والشهادة عليه بما قاله ، ووجب على من بلغه ذلك من أئمة المسلمين إنكاره ، وبيان كفره وفساد قوله ، لقطع ضرره عن المسلمين ، وقياما بحق سيد المرسلين ، وكذلك إن كان ممن يعظ العامة ، أو يؤدب الصبيان فإن من هذه سريرته لا يؤمن على إلقاء ذلك في قلوبهم ، فيتأكد في هؤلاء الإيجاب لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولحق شريعته .

          وإن لم يكن القائل بهذه السبيل فالقيام بحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واجب ، وحماية عرضه متعين ، ونصرته عن الأذى حيا وميتا مستحق على كل مؤمن لكنه إذا قام بهذا من ظهر به الحق ، وفصلت به القضية ، وبان به الأمر سقط عن الباقي الفرض ، وبقي الاستحباب في تكثير الشهادة عليه ، وعضد التحذير منه .

          وقد أجمع السلف على بيان حال المتهم في الحديث ، فكيف بمثل هذا ؟ .

          وقد سئل أبو محمد بن أبي زيد عن الشاهد يسمع مثل هذا في حق الله - تعالى - : أيسعه ألا يؤدي شهادته ؟ قال : إن رجا نفاذ الحكم بشهادته فليشهد .

          وكذلك إن علم أن الحاكم لا يرى القتل بما شهد به ، ويرى الاستتابة ، والأدب فليشهد ، ويلزمه ذلك .

          وأما الإباحة لحكاية قوله لغير هذين المقصدين ، فلا أرى لها مدخلا في هذا الباب ، فليس التفكه بعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتمضمض بسوء ذكره لأحد ، لا ذاكرا ولا آثرا لغير غرض شرعي بمباح .

          وأما للأغراض المتقدمة فمتردد بين الإيجاب والاستحباب .

          وقد حكى الله - تعالى - مقالات المفترين عليه وعلى رسله في كتابه على وجه الإنكار لقولهم والتحذير من كفرهم والوعيد عليه ، والرد عليهم بما تلاه الله علينا في محكم كتابه .

          وكذلك وقع من أمثاله في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة على الوجوه المتقدمة ، وأجمع السلف والخلف من أئمة الهدى على حكايات مقالات الكفرة والملحدين في كتبهم ومجالسهم ليبينوها للناس ، وينقضوا شبهها عليهم ، وإن كان ورد لأحمد بن حنبل إنكار لبعض هذا على الحارث بن أسد ، فقد صنع أحمد مثله في رده على الجهمية ، والقائلين بالمخلوق .

          هذه الوجوه السائغة الحكاية عنها ، فأما ذكرها على غير هذا من حكاية سبه والإزراء بمنصبه على وجه الحكايات والأسمار والطرف وأحاديث الناس ، ومقالاتهم في الغث والسمين ومضاحك المجان ونوادر السخفاء والخوض في قيل وقال ، وما لا يعني فكل هذا ممنوع ، وبعضه أشد في المنع والعقوبة من بعض ، فما كان من قائله الحاكي له على غير قصد أو معرفة بمقدار ما حكاه ، أو لم تكن . [ ص: 560 ] عادته ، أو لم يكن الكلام من البشاعة حيث هو ، ولم يظهر على حاكيه استحسانه واستصوابه زجر عن ذلك ، ونهي عن العودة إليه ، وإن قوم ببعض الأدب فهو مستوجب له ، وإن كان لفظه من البشاعة حيث هو كان الأدب أشد .

          وقد حكي أن رجلا سأل مالكا عمن يقول : القرآن مخلوق . فقال مالك : كافر فاقتلوه . فقال : إنما حكيته عن غيري . فقال مالك : إنما سمعناه منك .

          وهذا من مالك على طريق الزجر ، والتغليظ ، بدليل أنه لم ينفذ قتله .

          وإن اتهم هذا الحاكي فيما حكاه أنه اختلقه ، ونسبه إلى غيره ، أو كانت تلك عادة له ، أو ظهر استحسانه لذلك ، أو كان مولعا بمثله ، والاستخفاف له ، أو التحفظ لمثله ، وطلبه ، ورواية أشعار هجوه - صلى الله عليه وسلم - ، وسبه ، فحكم هذا حكم الساب نفسه ، يؤاخذ بقوله ، ولا تنفعه نسبته إلى غيره ، فيبادر بقتله ، ويعجل إلى الهاوية أمه .

          وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيمن حفظ شطر بيت مما هجي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كفر .

          وقد ذكر بعض من ألف في الإجماع إجماع المسلمين على تحريم رواية ما هجي به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكتابته وقراءته وتركه متى وجد دون محو ، ورحم الله أسلافنا المتقين المتحرزين لدينهم ، فقد أسقطوا من أحاديث المغازي والسير ما كان هذا سبيله ، وتركوا روايته إلا أشياء ذكروها يسيرة وغير مستبشعة على نحو الوجوه الأول ، ليروا نقمة الله من قائلها ، وأخذه المفتري عليه بذنبه .

          وهذا أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - قد تحرى فيما اضطر إلى الاستشهاد به من أهاجي أشعار العرب في كتبه ، فكنى عن اسم المهجو بوزن اسمه ، استبراء لدينه ، وتحفظا من المشاركة في ذم أحد أو نشره ، فكيف بما يتطرق إلى عرض سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية