الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل الفرق الثالث : أن الحسنة يضاعفها الله وينميها ، ويثيب على الهم بها . والسيئة لا يضاعفها ، ولا يؤاخذ على الهم بها فيعطي صاحب الحسنة : من الحسنات فوق ما عمل .

                وصاحب السيئة : لا يجزيه إلا بقدر عمله . قال تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون } . الفرق الرابع : أن الحسنة مضافة إليه ، لأنه أحسن بها من كل وجه ، كما تقدم . فما من وجه من وجوهها : إلا وهو يقتضي الإضافة إليه . [ ص: 266 ] وأما السيئة : فهو إنما يخلقها بحكمة .

                وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه . فإن الرب لا يفعل سيئة قط . بل فعله كله حسن وحسنات . وفعله كله خير . ولهذا { كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح والخير بيديك . والشر ليس إليك } فإنه لا يخلق شرا محضا . بل كل ما يخلقه : ففيه حكمة ، هو باعتبارها خير . ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس . وهو شر جزئي إضافي . فأما شر كلي ، أو شر مطلق : فالرب منزه عنه . وهذا هو الشر الذي ليس إليه . وأما الشر الجزئي الإضافي : فهو خير باعتبار حكمته . ولهذا لا يضاف الشر إليه مفردا قط . بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات ، كقوله { وخلق كل شيء } . وإما أن يضاف إلى السبب كقوله { من شر ما خلق } . وإما أن يحذف فاعله ، كقول الجن { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا }

                . وهذا الموضع ضل فيه فريقان من الناس الخائضين في القدر بالباطل . [ ص: 267 ] فرقة كذبت بهذا ، وقالت : إنه لا يخلق أفعال العباد ، ولا يشاء كل ما يكون . لأن الذنوب قبيحة ، وهو لا يفعل القبيح . وإرادتها قبيحة ، وهو لا يريد القبيح . وفرقة : لما رأت أنه خالق هذا كله ولم تؤمن أنه خلق هذا لحكمة بل قالت : إذا كان يخلق هذا : فيجوز أن يخلق كل شر ، ولا يخلق شيئا لحكمة . وما ثم فعل تنزه عنه . بل كل ما كان ممكنا جاز أن يفعله . وجوزوا : أن يأمر بكل كفر ومعصية . وينهى عن كل إيمان وطاعة ، وصدق وعدل . وأن يعذب الأنبياء ، وينعم الفراعنة والمشركين وغير ذلك . ولم يفرقوا بين مفعول ومفعول . وهذا منكر من القول وزور ، كالأول . قال تعالى { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } وقال تعالى { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } { ما لكم كيف تحكمون } وقال تعالى { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } ونحو ذلك مما يوجب أنه يفرق بين الحسنات والسيئات ، وبين المحسن [ ص: 268 ] والمسيء . وأن من جوز عليه التسوية بينهما : فقد أتى بقول منكر ، وزور ينكر عليه . وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان : لا يكون فيه حكمة .

                بل فيه من الحكمة والرحمة ما يخفى على بعضهم مما لا يقدر قدره إلا الله . وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة : يكون شرا كليا عاما . بل الأمور العامة الكلية : لا تكون إلا خيرا ومصلحة للعباد . كالمطر العام وكإرسال رسول عام . وهذا مما يقتضي : أنه لا يجوز أن يؤيد الله كذابا عليه بالمعجزات التي أيد بها أنبياءه الصادقين . فإن هذا شر عام للناس ، يضلهم ويفسد عليهم دينهم ودنياهم وآخرتهم . وليس هذا كالملك الظالم ، والعدو . فإن الملك الظالم : لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه . وقد قيل : ستون سنة بإمام ظالم : خير من ليلة واحدة بلا إمام . [ ص: 269 ]

                وإذا قدر كثرة ظلمه : فذاك ضرر في الدين ، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم ويثابون عليها ، ويرجعون فيها إلى الله ، ويستغفرونه ويتوبون إليه . وكذلك ما يسلط عليهم من العدو . وأما من يكذب على الله ، ويقول - أي يدعي - أنه نبي : فلو أيده الله تأييد الصادق : للزم أن يسوي بينه وبين الصادق . فيستوي الهدى والضلال ، والخير والشر ، وطريق الجنة وطريق النار .

                ويرتفع التمييز بين هذا وهذا . وهذا مما يوجب الفساد العام للناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم . ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من يقاتل على الدين الفاسد من أهل البدع ، كالخوارج . وأمر بالصبر على جور الأئمة . ونهى عن قتالهم والخروج عليهم . ولهذا قد يمكن الله كثيرا من الملوك الظالمين مدة . وأما المتنبئون الكذابون : فلا يطيل تمكينهم . بل لا بد أن يهلكهم . لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة . قال تعالى { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } { لأخذنا منه باليمين } { ثم لقطعنا منه الوتين } وقال تعالى { أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك } فأخبر : أنه - بتقدير الافتراء - لا بد أن يعاقب من افترى عليه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية