الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الإشهاد عليهم هناك ، فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وعمر رضي الله عنهم . ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرتهم على التوحيد ، كما تقدم كلام المفسرين على هذه الآية الكريمة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ومعنى قوله شهدنا : أي قالوا : بلى شهدنا أنك ربنا . وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب . وقال ابن عباس أيضا : أشهد بعضهم على بعض . وقيل : شهدنا من قول الملائكة ، والوقف على قوله بلى . وهذا قول مجاهد والضحاك وقال السدي أيضا : هو خبر من الله تعالى عن نفسه [ ص: 309 ] وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم . والأول أظهر ، وما عداه احتمال لا دليل عليه ، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول .

واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم ، كالثعلبي والبغوي وغيرهما . ومنهم من لم يذكره ، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم ، كالزمخشري وغيره ، ومنهم من ذكر القولين ، كالواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم ، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة ، والثاني إلى المعتزلة .

ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول ، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم ، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم ، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث ، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار ، كما في [ ص: 310 ] حديث عمر رضي الله عنه ، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد ، كما في حديث أبي هريرة . والذي فيه الإشهاد - على الصفة التي قالها أهل القول الأول - موقوف على ابن عباس وعمر ، وتكلم فيه أهل الحديث ، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين والحاكم معروف تساهله رحمه الله .

والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر . وذلك شواهده كثيرة ، ولا نزاع فيه بين أهل السنة ، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون .

وأما الأول : فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف ، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك ، وما قيل من الكلام عليها ، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة .

قال القرطبي : وهذه الآية مشكلة ، وقد تكلم العلماء في تأويلها ، فنذكر ما ذكروه من ذلك ، حسب ما وقفنا عليه . فقال قوم : معنى الآية : أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض ، [ قالوا ] ومعنى أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، دلهم على توحيده ، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا . ألست بربكم أي : [ ص: 311 ] قال ، فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم ، كما قال تعالى في السماوات والأرض : قالتا أتينا طائعين ( فصلت : 11 ) ، ذهب إلى هذا القفال وأطنب . وقيل : إنه سبحانه وتعالى أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد ، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها . ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك ، إلى آخر كلامه .

وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول : حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه : قد أردت منك ما هو أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي . ولكن قد روي من طريق أخرى : قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد إلى النار . وليس فيه : في ظهر آدم . وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول .

بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين :

أحدهما : كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة .

[ ص: 312 ] والثاني : أن الآية دلت على ذلك ، والآية لا تدل عليه لوجوه :

أحدها : أنه قال : من بني آدم ، ولم يقل : من آدم .

الثاني : أنه قال : من ظهورهم ، ولم يقل : من ظهره ، وهذا بدل بعض ، أو بدل اشتمال ، وهو أحسن .

الثالث : أنه قال : ذرياتهم ولم يقل : ذريته .

الرابع : أنه قال : وأشهدهم على أنفسهم ، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به ، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار - كما تأتي الإشارة إلى ذلك - لا يذكر شهادة قبله .

الخامس : أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة للحجة عليهم ، لئلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها ، كما قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ( النساء : 165 ) .

السادس : تذكيرهم بذلك ، لئلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ( الأعراف : 172 ) ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت ، فهذا لا يذكره أحد منهم .

[ ص: 313 ] السابع : قوله تعالى : أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ( الأعراف : 173 ) ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد ؛ لئلا يدعوا الغفلة ، أو يدعوا التقليد ، فالغافل لا شعور له ، والمقلد متبع في تقليده لغيره . ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة .

الثامن : قوله : أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( الأعراف : 173 ) ، أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك ، وهو سبحانه إنما يهلكهم بمخالفة رسله وتكذيبهم ، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل .

التاسع : أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه ، واحتج عليه بهذا في غير موضع من كتابه ، كقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( لقمان : 25 ) ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها ، وذكرتهم بها رسله ، بقولهم : أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ( إبراهيم : 10 ) .

[ ص: 314 ] العاشر : أنه جعل هذا آية ، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها [ بحيث لا يتخلف عنها المدلول ] وهذا شأن آيات الرب تعالى ، [ فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به ] فقال تعالى : وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ( الأعراف : 174 ) ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، فما من مولود إلا يولد على الفطرة ، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة ، هذا أمر مفروغ منه ، لا يتبدل ولا يتغير . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا . والله أعلم .

وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره ، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم . وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني ، وتكلم عليه ومال إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية