الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) هذه الآية مستأنفة لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتبت علينا وأنها أيام شهر رمضان ، وأن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن ، وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمن ، ببعثة محمد [ ص: 128 ] خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - ، بالرسالة العامة للأنام ، الدائمة إلى آخر الزمان ; فالمراد بإنزال القرآن فيه بدؤه وأوله ( هدى للناس ) أي : أنزل حال كونه هدى كاملا للناس كافة ( وبينات من الهدى ) أي : وآيات بينات واضحات لا لبس في حقيتها ، ولا خفاء في حكمها وأحكامها ، من جنس الهدى الذي جاء به الرسل من قبل ، ولكنه أبينه وأكمله ( والفرقان ) الذي يفرق للمهتدي به بين الحق والباطل ، ويفصل بين الفضائل والرذائل ، فحق أن يعبد الله تعالى فيه ما لا يعبد في غيره تذكرا لإنعامه بهذه الهداية وشكرا عليها . والحكمة في ذكر الأيام مبهمة أولا وتعيينها بعد ذلك : أن ذلك الإبهام الذي يشعر بالقلة يخفف وقع التكليف بالصيام الشاق على النفوس وهو الأصل ; إذ ليس رمضان عاما في الأرض كما سيأتي بيانه قريبا .

                          ثم إن هذا التعيين والبيان بعد ذكر حكمة الصيام وفائدته وذكر الرخص لمن يشق عليه ، وذكر خيرية الصيام في نفسه واستحباب التطوع فيه ، وكل ذلك مما يعد النفس لأن تتلقى بالقبول والرضى جعل تلك الأيام شهرا كاملا .

                          وانظر كيف ابتدأ هنا بذكر شهر رمضان وإنزال القرآن فيه ، ووصف القرآن بما وصفه به حتى كأنه يحكي عنه لذاته بعد الانتهاء من حكم الصوم ، ثم ثنى بالأمر فلم يفاجئ النفوس به مع ذلك التمهيد له حتى قدم العلة على المعلول ، ولعل هذا من حكمة حذف خبر المبتدأ إذا قلنا إن كلمة ( شهر رمضان ) مبتدأ ، أو حذف المبتدأ إذا قلنا إنها خبر لمحذوف .

                          وقال الأستاذ الإمام : إن حذف الخبر جار على ما نعهده من إيجاز القرآن بحذف ما لا يقع الاشتباه بحذفه ، وإن البيان بعد الإبهام جاء على أسلوبه في ذكر الأشياء ثم ذكر علتها وحكمتها ، وهي هنا إنزال القرآن الذي هدانا الله تعالى به وجعله آيات بينات من الهدى ; أي : من الكتب المنزلة ، والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل ، فوصفه بأنه هدى في نفسه لجميع الناس ، وأنه من جنس الكتب الإلهية ، ولكنه الجنس العالي على جميع الأجناس ، فإنه آيات بينات من ذلك الهدى السماوي ، وكتب الله كلها هدى ولكنها ليست في بيانها كالقرآن ، واضرب لهم مثلا كتاب دانيال النبي فإن الله ما أنزله عليه إلا ليهتدي به من يقرؤه عليهم ولكنه لم يكن آيات بينات ، بل هو كالألغاز والرموز لا يفهم إلا بعناء ، وكذلك التوراة التي سماها الله تعالى ( نورا وهدى ) ( 6 : 91 ) فيها غوامض ومشكلات وقع الاشتباه فيها ، فلم يكن ضياء الحق والهداية متبلجا وساطعا من سطورها سطوعه من القرآن . والذي نراه في الأناجيل أن تلاميذ المسيح أنفسهم ما كانوا يفهمون كل ما يخاطبهم به من المواعظ والأحكام والبشائر وهي الإنجيل الحقيقي في اعتقادنا .

                          أقول : بل فيها أن المسيح قال لهم إنه لم يقل لهم كل شيء ، وأن ثم أشياء كثيرة ينبغي أن تقال لهم ; أي : لولا الموانع منها في عهده ، وبشرهم بأنه سيأتي بعده الفارقليط روح الحق [ ص: 129 ] الذي يقول لهم كل شيء - يعني محمدا خاتم النبيين عليهما الصلاة والسلام - وسيرى القارئ تفصيل ذلك في تفسير سورة الأعراف ولكن لم ينقل إلينا أن الصحابة عمي عليهم شيء من آيات القرآن فلم يفهموها ، ولا أن علماء السلف حاروا في شيء منها ، فالقرآن يمتاز على سائر الكتب السماوية بأنه آيات بينات من الهدى الذي توصف به كلها ، وبينات من الأمر الإلهي الفارق بين الحق والباطل ، بيد أن المقلدين من المسلمين لم يرضوا كافة بأن يمتاز القرآن بالبيان الذي ليس بعده بيان والهدى لجميع الناس - كما وصف نفسه - فحاول بعضهم تغميضه ، وسلم لهم مقلدتهم أنه غامض لا يفهمه إلا أفراد من الناس أوتوا علما جما ، وفاقوا سائر البشر بعقولهم وأفهامهم ، كما فاقوهم بعلومهم ومعارفهم ، ثم زعموا أن هؤلاء الأفراد كانوا في بعض القرون الأولى وهم المجتهدون ، وأنهم قد انقرضوا ولم يأت بعدهم ولن يأتي من يسهل عليه أن يفهم القرآن ولو أحكامه فقط ، وتجد هذا القول المناقض للقرآن والناقض له مسلما بين جماهير المسلمين المقلدين ، حتى الذين يدعون أنهم علماء الدين ، ومن نبذه اهتداء بالقرآن ، ربما نبذوه بلقب الكفر والطغيان ، فأي الفريقين أحق بصدق الإيمان ؟ أما وسر الحق لولا أن المسلمين لبسوا على أنفسهم من القرآن ما يلبسون ، وحكموا فيه آراء من يقلدون لكان نور بيانه مشرقا عليهم وعلى سائر الناس ، كالشمس ليس دونها سحاب ، ولكنهم أبوا إلا أن يتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، ويضعوا كتبا في الدين يزعمون أن بيانها أجلى ، والاهتداء بها أولى ; لأنها بزعمهم أبين حكما ، وأقرب إلى الأذهان فهما .

                          قلنا : إن الله تعالى فرض علينا صيام هذا الشهر بخصوصه ، تذكيرا بنعمته علينا بإنزال القرآن فيه لنصومه شكرا له عليها ، ومن الشكر أن تكون هدايتنا بالقرآن في مثل وقت نزوله أكمل ، ومنها أن يكون الصيام موصلا إلى حقيقة التقوى ، فإذا لم ننتفع بالصيام في أخلاقنا وأعمالنا ، ولم نهتد بالقرآن في عامة أحوالنا ، فأين الانتفاع بالنعمة وأين الشكر عليها ؟ كان جبريل يدارس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في رمضان ، ولذلك كان السلف يتدارسونه فيه ويقومون ليله به لزيادة الاهتداء والاعتبار ، فماذا كان من اقتداء الخلف بهم ؟ كان أن بعض الوجهاء والأغنياء يستحضرون في رمضان من القراء من كان حسن الصوت يتغنى لهم بالقرآن في حجرات الخدم وهم في الغرفات مع أمثالهم وأقتالهم لاهون لاعبون ، ومن عساه يصغي منهم أحيانا إلى القارئ ; فإنما يريد التلذذ بسماع صوته الحسن وتوقيعه الغنائي ، فقد جعلوا القرآن إما مهجورا ، وإما لذة نفسية فصدق عليهم قوله : ( اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ) ( 6 : 70 ) .

                          [ ص: 130 ] وأما معنى إنزال القرآن في رمضان - مع أن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجما متفرقا في مدة البعثة كلها - فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان ، وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر ; أي : الشرف ، والليلة المباركة كما في آيات أخرى ، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه ، على أن لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كله ، ويطلق على بعضه ، وقد ظن الذين تصدوا للتفسير منذ عصر الرواية أن الآية مشكلة ، ورووا في حل الإشكال أن القرآن نزل في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا ، وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات ، ثم أنزل على النبي منجما بالتدريج ، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منه شيء خلافا لظاهر الآيات ، ولا تظهر المنة علينا ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا ; لأن وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السماوات أو اللوح المحفوظ من حيث إنه لم يكن هداية لنا ، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار ، وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أنزلت في رمضان ، كما قالوا : إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان .

                          قال الأستاذ الإمام : ولم يصح من هذه الأقوال والروايات شيء وإنما هي حواش أضافوها لتعظيم رمضان ، ولا حاجة لنا بها إذ يكفينا أن الله تعالى أنزل فيه هدايتنا وجعله من شعائر ديننا ومواسم عبادتنا ، ولم يقل تعالى إنه أنزل القرآن جملة واحدة في رمضان ، ولا إنه أنزله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، بل قال بعد إنزاله : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) ( 85 : 21 ، 22 ) فهو محفوظ في لوح بعد نزوله قطعا ، وأما اللوح المحفوظ الذي ذكروا أنه فوق السماوات السبع وأن مساحته كذا ، وأنه كتب فيه كل ما علم الله تعالى فلا ذكر له في القرآن ، وهو من عالم الغيب ، فالإيمان به إيمان بالغيب يجب أن يوقف فيه عند النصوص الثابتة بلا زيادة ولا نقص ولا تفصيل ، وليس عندنا في هذا المقام نص يجب الإيمان به .

                          ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) أي : فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن لم يكن مسافرا فليصمه ، وإنما يكون ذلك في أكثر البلاد التي تتألف السنة منها من اثني عشر شهرا .

                          وشهوده فيها يكون برؤية هلاله ، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره له أن يصوم ، وإذا لم يره أحد في الليلة الثلاثين من شعبان وجب صيام يومها وكان أول رمضان ما بعده ، والأحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن ، وجرى عليها العمل من الصدر الأول إلى اليوم . وقال بعض المفسرين : إن المراد بالشهر هنا الهلال ، وكانت العرب تعبر عن الهلال بالشهر ، ويرده أنهم لا يقولون : شهد الهلال ، وإنما يقولون : رآه ، ومعنى شهد حضر ، [ ص: 131 ] وقال بعضهم : إن المعنى فمن كان حاضرا منكم حلول الشهر فليصمه . قال الأستاذ الإمام : وإنما عبر بهذه العبارة ولم يقل ( ( فصوموه ) ) لمثل الحكمة التي لم يحدد القرآن مواقيت الصلاة لأجلها ، وذلك أن القرآن خطاب الله العام لجميع البشر ، وهو يعلم أن من المواقع ما لا شهور فيها ولا أيام معتدلة ، بل السنة كلها قد تكون فيها يوما وليلة تقريبا كالجهات القطبية ، فالمدة التي يكون فيها القطب الشمالي في ليل - وهي نصف السنة - يكون القطب الجنوبي في نهار وبالعكس ، ويقصر الليل والنهار ويطولان على نسبة القرب والبعد عن القطبين ويستويان في خط الاستواء وهو وسط الأرض .

                          أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين وما يقرب منهما أن يصلي في يومه - وهو سنة أو مقدار عدة أشهر - خمس صلوات إحداها حين يطلع الفجر ، والثانية بعد زوال الشمس إلخ ، ويكلفه أن يصوم شهر رمضان بالتعيين ولا رمضان له ولا شهور ؟ كلا إن من الآيات الكبرى على كون هذا القرآن من عند الله المحيط علمه بكل شيء - لا من تأليف البشر - ما تراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه ، ولو كان من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان كل ما فيه مناسبا لحال زمانه وبلاده وما يليها من البلاد التي يعرفها ، ولم تكن العرب تعرف أن في الأرض بلادا نهارها كعدة أنهر أو أشهر من أنهرنا وأشهرنا ولياليها كذلك .

                          فمنزل القرآن - وهو علام الغيوب وخالق الأرض والأفلاك - خاطب الناس كافة بما يمكن أن يمتثلوه ، فأطلق الأمر بالصلاة ، والرسول بين أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي هي القسم الأعظم من الأرض ، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل البلاد التي أشرنا إليها يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم والقياس على ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الله المطلق . وكذلك الصيام ، ما أوجب رمضان إلا على من شهد الشهر وحضره ، والذين ليس لهم شهر مثله يسهل عليهم أن يقدروا له قدره ، وقد ذكر الفقهاء مسألة التقدير بعدما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها ويقصر نهارها والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها ، واختلفوا في التقدير على أي البلاد يكون فقيل على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة ، وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم ، وكل منهما جائز فإنه اجتهادي لا نص فيه .

                          ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) أعيد ذكر الرخصة لئلا يتوهم - بعد تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ويندب التطوع به ، وبعد تحديده بشهر رمضان الذي له من الفضل والشرف ما له - أن صوم هذا الشهر حتم لا تتناوله الرخصة ، أو تتناوله ولكن لا تحمد فيه ، ولعمري إن تأكيد الصوم بمثل ما أكده الله تعالى به يقتضي تأكيد أمر الرخصة أيضا ، ولولا ذلك ما أتاها متق لله في صيامه ، بل روى المحدثون : أن بعض الصحابة [ ص: 132 ] عليهم الرضوان كانوا - على تأكيد أمر الرخصة في القرآن - يتحامون الفطر في السفر أولا ، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم به في بعض الأسفار فلم يمتثلوا حتى أفطر هو بالفعل ، وسمى الممتنع عن الفطر عاصيا كما تقدم .

                          ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) هذا تعليل لما قبله ; أي : يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام ، وسائر ما يشرعه لكم من الأحكام ، أن يكون دينكم يسرا تاما لا عسر فيه . قال الأستاذ : إن في هذا التعبير ضربا من التحريض والترغيب في إتيان الرخصة ، ولا غرو فالله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه . وقد اختلف العلماء في الأفضل للمريض والمسافر على أقوال ثالثها ( ( التخيير ) ) .

                          ( أقول ) : والآية تشعر بأن الأفضل أن يصوم إذا لم يلحقه مشقة أو عسر ; لانتفاء علة الرخصة ، وإلا كان الأفضل أن يفطر لوجود علتها ، ويتأكد بوجود مصلحة أخرى في الفطر كالقوة على الجهاد وتقدم بسطه ; ذلك بأن الله لا يريد إعنات الناس بأحكامه وإنما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم ، وهذا أصل في الدين يرجع إليه غيره ، ومنه أخذوا قاعدة ( ( المشقة تجلب التيسير ) ) وورد في هذا أحاديث كثيرة من أشهرها ( ( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ) ) متفق عليه من حديث أنس . والمراد بالإرادة هنا حكمة التشريع لا إرادة التكوين .

                          زرت بيت المقدس في عهد طلبي للعلم بطرابلس في المحرم سنة 1311هـ فاجتمعت في مدينة الخليل عليه السلام بمفتيها الرجل الصالح من آل التميمي فسألني ممتحنا : يقول الله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وما يريده الله تعالى لا يجوز تخلفه عقلا ولكننا نرى العسر واقعا مشاهدا فكيف هذا ؟ قلت : إن الآية في تعليل الرخصة في الصيام للمريض والمسافر ، لا في التكوين والتقدير كالعسر في المال والرزق ، فأعجبه الجواب ودعا لي بالفتح ، ولم أكن حضرت شيئا من تفسير القرآن في ذلك العهد .

                          ثم قال : ( ولتكملوا العدة ) قرأ الجمهور ( لتكملوا ) بالتخفيف . من الإكمال ، وأبو بكر عن عاصم - بالتشديد - من التكميل ، واللام للتعليل وهي معطوفة على التعليل المستفاد من قوله : ( يريد الله بكم اليسر ) كأنه قال : رخص لكم في حالي المرض والسفر ; لأنه يريد بكم اليسر وأن تكملوا العدة ، فمن لم يكملها أداء لعذر المرض أو السفر أكملها قضاء بعده . وقيل : إنها لتقوية الفعل كما في قوله : ( يريدون ليطفئوا نور الله ) ( 61 : 8 ) أي : يريد الله بكم اليسر وأن تكملوا العدة ، وهو يجري في كلام البلغاء كثيرا ورجحه الأستاذ الإمام ( ولتكبروا الله على ما هداكم ) إليه من الأحكام النافعة لكم بأن تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده ، وأنه يربيهم بما يشاء من الأحكام ، ويؤدبهم بما يختار من التكاليف ، ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص اللائقة بحالهم ( ولعلكم تشكرون ) [ ص: 133 ] له هذه النعم كلها ، بالقيام بها على وجهها ، وإعطاء كل من العزيمة والرخصة حقها ، فتكونوا من الكاملين .

                          ذهب جمهور المفسرين إلى أن في الكلام ثلاثة تعليلات مرتبة بأسلوب النشر على اللف بتقدير فعل محذوف عامل في جملة الأحكام الماضية ; أي : شرع لكم ما ذكر من صيام أيام معدودات هي شهر رمضان لمن شهده سالما صحيحا لتكملوا العدة ، والتعبير بالعدة دون عدة الشهر يشعر بما قاله الأستاذ الإمام من أن الأصل في التكليف العام للصوم هو الأيام المعدودات ، وكونها رمضان بعينه خاص بمن شهده ممن لم تتناوله الرخصة ، وهذا من دقة القرآن الغريبة وبلاغته التي لا يخطر مثلها على قلب بشر ، وشرع لكم القضاء على من أفطر في مرض يرجى برؤه أو سفر ; لتكبروه وتعظموا شأنه على ما هداكم إليه من الجمع بين الرخصة بالفطر والعزيمة بالقضاء ، وشرع لكم الفدية في حال المشقة المستمرة بالصوم ، وأراد بكم اليسر دون العسر لعلكم تشكرون هذه النعمة ، وقد صورنا ترتيب التعليل الذي ذكروه بما نراه أوضح مما صوروه به . هذا ما كتبته أولا وطبع في المرة الأولى .

                          وأقول الآن : إن الأظهر أن يقال : إن إكمال العدة تعليل لكون الصيام المشروع أياما معدودات ، لا بد من استيفائها أداء في حال العزيمة وقضاء في حال الرخصة ، وإرادة اليسر دون العسر تعليل للرخص الثلاث : للسفر ، والمرض ، والمشقة التي تقتضي الفدية ، والتكبير تعليل لإكمال العدة بصيام الشهر كله ، ومظهره الأكبر في عيد الفطر إذ شرع فيه التكبير القولي عامة ليله وإلى ما بعد صلاته ، وبذلك كله نكون من الشاكرين له على هذه النعم كلها وعلى غيرها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية