الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما آية الليل - قوله { إن علينا للهدى } - فابن عطية مثلها بهذه الآية لكنه فسرها بالوجه الأول فقال : [ ص: 210 ] ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعا أي تعريفهم بالسبل كلها ومنحهم الإدراك كما قال { وعلى الله قصد السبيل } ثم كل أحد يتكسب ما قدر له . وليست هذه الهداية بالإرشاد إلى الإيمان ولو كان كذلك لم يوجد كافر .

                ( قلت : وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي - وذكره عن الزجاج . قال الزجاج : إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال .

                وهذا التفسير ثابت عن قتادة رواه عبد بن حميد . قال : حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة : { إن علينا للهدى } علينا بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته . وكذلك رواه ابن أبي حاتم في تفسير سعيد عن قتادة في قوله { إن علينا للهدى } يقول : على الله البيان - بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته . لكن قتادة ذكر أنه البيان الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فتبين به حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .

                وأما الثعلبي والواحدي والبغوي وغيرهم فذكروا القولين وزادوا أقوالا أخر . فقالوا - واللفظ للبغوي : [ ص: 211 ] { إن علينا للهدى } يعني البيان . قال الزجاج : علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة . وهو قول قتادة قال : على الله بيان حلاله وحرامه .

                وقال الفراء : يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله كقوله تعالى { وعلى الله قصد السبيل } يقول : من أراد الله فهو على السبيل القاصد .

                قال : وقيل معناه إن علينا للهدى والإضلال كقوله " بيدك الخير " ( قلت : هذا القول هو من الأقوال المحدثة التي لم تعرف عن السلف وكذلك ما أشبهه . فإنهم قالوا : معناه بيدك الخير والشر والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يقول { والخير بيديك والشر ليس إليك } .

                والله تعالى خالق كل شيء - لا يكون في ملكه إلا ما يشاء - والقدر حق . لكن فهم القرآن ووضع كل شيء موضعه وبيان حكمة الرب وعدله مع الإيمان بالقدر هو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان .

                وقد ذكر المهدوي الأقوال الثلاثة فقال : إن علينا للهدى [ ص: 212 ] والضلال . فحذف قتادة . المعنى : إن علينا بيان الحلال والحرام .

                وقيل : المعنى إن علينا أن نهدي من سلك سبيل الهدى .

                قلت : هذا هو قول الفراء لكن عبارة الفراء أبين في معرفة هذا القول .

                فقد تبين أن جمهور المتقدمين فسروا الآيات الثلاث بأن الطريق المستقيم لا يدل إلا على الله . ومنهم من فسرها بأن عليه بيان الطريق المستقيم . والمعنى الأول متفق عليه بين المسلمين .

                وأما الثاني فقد يقول طائفة : ليس على الله شيء - لا بيان هذا ولا هذا . فإنهم متنازعون هل أوجب على نفسه كما قال { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقوله { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } وقوله { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها

                } وإذا كان عليه بيان الهدى من الضلال وبيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فهذا يوافق قول من يقول : إن عليه إرسال الرسل وإن ذلك واجب عليه فإن البيان لا يحصل إلا بهذا .

                وهذا يتعلق بأصل آخر وهو أن كل ما فعله فهو واجب منه [ ص: 213 ] أوجبته مشيئته وحكمته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . فما شاءه وجب وجوده وما لم يشأه امتنع وجوده . وبسط هذا له موضع آخر .

                ودلالة الآيات على هذا فيها نظر .

                وأما المعنى المتفق عليه فهو مراد من الآيات الثلاث قطعا وأنه أرشد بها إلى [ الطريق ] المستقيم وهي الطريق القصد وهي الهدى إنما تدل عليه - وهو الحق طريقه على الله لا يعرج عنه .

                لكن نشأت الشبهة من كونه قال " علينا " بحرف الاستعلاء ولم يقل " إلينا " والمعروف أن يقال لمن يشار إليه أن يقال " هذه الطريق إلى فلان " ولمن يمر به ويجتاز عليه أن يقول " طريقنا على فلان " .

                وذكر هذا المعنى بحرف الاستعلاء . وهو من محاسن القرآن الذي لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء .

                فإن الخلق كلهم مصيرهم ومرجعهم إلى الله على أي طريق سلكوا كما قال تعالى { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } وقال { وإلى الله المصير } { إن إلينا إيابهم } أي إلينا مرجعهم وقال [ ص: 214 ] { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } { وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون } { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } وقال { أم لم ينبأ بما في صحف موسى } { وإبراهيم الذي وفى } { ألا تزر وازرة وزر أخرى } { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } { وأن سعيه سوف يرى } { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } { وأن إلى ربك المنتهى } وقال { وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون } فأي سبيل سلكها العبد فإلى الله مرجعه ومنتهاه لا بد له من لقاء الله { ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى

                } وتلك الآيات قصد بها أن سبيل الحق والهدى وهو الصراط المستقيم هو الذي يسعد أصحابه وينالون به ولاية الله ورحمته وكرامته فيكون الله وليهم دون الشيطان . وهذه سبيل من عبد الله وحده وأطاع رسله . فلهذا قال { إن علينا للهدى } { وعلى الله قصد السبيل } { قال هذا صراط علي مستقيم } . فالهدى وقصد السبيل والصراط المستقيم إنما يدل على عبادته وطاعته - لا يدل على معصيته وطاعة الشيطان .

                [ ص: 215 ] فالكلام تضمن معنى " الدلالة " إذ ليس المراد ذكر الجزاء في الآخرة فإن الجزاء يعم الخلق كلهم . بل المقصود بيان ما أمر الله به من عبادته وطاعته وطاعة رسله - ما الذي يدل على ذلك ؟ فكأنه قيل : الصراط المستقيم يدل على الله - على عبادته وطاعته .

                وذلك يبين أن من لغة العرب أنهم يقولون " هذه الطريق على فلان " إذا كانت تدل عليه وكان هو الغاية المقصود بها ; وهذا غير كونها " عليه " بمعنى أن صاحبها يمر عليه . وقد قيل :

                فهن المنايا أي واد سلكته عليها طريقي أو علي طريقها

                وهو كما قال الفراء : من سلك الهدى فعلى الله سبيله .

                فالمقصود بالسبيل هو : الذي يدل ويوقع عليه كما يقال : إن سلكت هذه السبيل وقعت على المقصود ونحو ذلك وكما يقال " على الخبير سقطت " . فإن الغاية المطلوبة إذا كانت عظيمة فالسالك يقع عليها ويرمي نفسه عليها .

                وأيضا فسالك طريق الله متوكل عليه . فلا بد له من عبادته ومن التوكل عليه .

                فإذا قيل " عليه الطريق المستقيم " تضمن أن سالكه عليه يتوكل [ ص: 216 ] وعليه تدله الطريق وعلى عبادته وطاعته يقع ويسقط لا يعدل عن ذلك إلى نحو ذلك من المعاني التي يدل عليها حرف الاستعلاء دون حرف الغاية .

                وهو سبحانه قد أخبر أنه على صراط مستقيم . فعليه الصراط المستقيم وهو على صراط مستقيم - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية