الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 403 ] فصل في قوله في آخر الآية : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } فوائد جليلة : منها أن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة في هذا السياق تنبيه على أنه لا يخلو مؤمن من بعض هذه الذنوب التي هي : ترك غض البصر وحفظ الفرج وترك إبداء الزينة وما يتبع ذلك فمستقل ومستكثر كما في الحديث : { ما من أحد من بني آدم إلا أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا } وذلك لا يكون إلا عن نظر وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون } وفي الصحيح عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم { يقول الله تعالى : يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم .

                } وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : " ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة : { إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان النطق } الحديث إلى آخره . وفيه : { والنفس [ ص: 404 ] تتمنى ذلك وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } أخرجه البخاري تعليقا من حديث طاووس عن أبي هريرة . ورواه مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة : العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليدان زناهما البطش والرجلان زناهما الخطى والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه } وقد روى الترمذي حديثا واستغربه عن ابن عباس في قوله { إلا اللمم } { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما .

                } ومنها أن أهل الفواحش الذين لم يغضوا أبصارهم ولم يحفظوا فروجهم مأمورون بالتوبة وإنما أمروا بها لتقبل منهم فالتوبة مقبولة منهم ومن سائر المذنبين كما قال تعالى : { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } وقال تعالى : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون } وسواء كانت الفواحش مغلظة لشدتها وكثرتها - كإتيان ذوات المحارم وعمل قوم لوط أو غير ذلك - وسواء تاب الفاعل أو المفعول به فمن تاب تاب الله عليه بخلاف ما عليه طائفة من الناس فإنهم إذا رأوا من عمل من هذه الفواحش شيئا أيسوه من رحمة الله حتى يقول [ ص: 405 ] أحدهم : من عمل من ذلك شيئا لا يفلح أبدا ولا يرجون له قبول توبة ويروى عن علي أنه قال : منا كذا ومنا كذا والمعفوج ليس منا ويقولون : إن هذا لا يعود صالحا ولو تاب مع كونه مسلما مقرا بتحريم ما فعل .

                ويدخلون في ذلك من استكره على فعل شيء من هذه الفواحش ويقولون : لو كان لهذا عند الله خير ما سلط عليه من فعل به مثل هذا واستكرهه كما يفعل بكثير من المماليك طوعا وكرها وكما يفعل بأجراء أهل الصناعات طوعا وكرها وكذلك من في معناهم من صبيان الكتاتيب وغيرهم ونسوا قوله تعالى { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } وهؤلاء قد لا يعلمون صورة التوبة وقد يكون هذا حالا وعملا لأحدهم وقد يكون اعتقادا فهذا من أعظم الضلال والغي ; فإن القنوط من رحمة الله بمنزلة الأمن من مكر الله تعالى وحالهم مقابل لحال مستحلي الفواحش ; فإن هذا أمن مكر الله بأهلها وذاك قنط أهلها من رحمة الله ; والفقيه كل الفقيه هو الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله .

                وهذا في أصل الذنوب الإرادية نظير ما عليه أهل الأهواء والبدع [ ص: 406 ] فإن أحدهم يعتقد تلك السيئات حسنات فيأمن مكر الله وكثير من الناس يعتقد أن توبة المبتدع لا تقبل وقد قال تعالى : { إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } . وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال : أنا محمد وأنا أحمد والمقفى والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة } وفي حديث آخر : { أنا نبي الرحمة وأنا نبي الملحمة } وذلك أنه بعث بالملحمة وهي : المقتلة لمن عصاه وبالتوبة لمن أطاعه وبالرحمة لمن صدقه واتبعه وهو رحمة للعالمين وكان من قبله من الأنبياء لا يؤمر بقتال .

                وكان الواحد من أممهم إذا أصاب بعض الذنوب يحتاج مع التوبة إلى عقوبات شديدة كما قال تعالى : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم } وقد روي عن أبي العالية وغيره : أن أحدهم كان إذا أصاب ذنبا أصبحت الخطيئة والكفارة مكتوبة على بابه فأنزل الله في حق هذه الأمة : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } إلى قوله : { ونعم أجر العاملين } فخص الفاحشة بالذكر مع قوله { ظلموا أنفسهم } والظلم يتناول الفاحشة وغيرها تحقيقا لما ذكرناه [ ص: 407 ] من قبول التوبة من الفواحش مطلقا : من الذين يأتيانها من الرجال والنساء جميعا .

                وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها } وفي الصحيح عنه أنه قال : { من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه } وفي السنن عنه أيضا أنه قال : { لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها } وعنه صلى الله عليه وسلم قال : { قال الشيطان وعزتك يا رب لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب تعالى : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني } وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقول الله يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطيئة ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة .

                } والذي يمنع توبة أحد هؤلاء إما بحاله وإما بقاله ولا يخلو من أحد أمرين : أن يقول : إذا تاب أحدهم لم تقبل توبته وإما أن [ ص: 408 ] يقول أحدهم : لا يتوب الله علي أبدا أما الأول فباطل بكتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين وإن كان قد تكلم بعض العلماء في توبة القاتل وتوبة الداعي إلى البدع وفي ذلك نزاع في مذهب أحمد وفي مذهب مالك أيضا نزاع ذكره صاحب التمثيل والبيان في " الجامع " وغيره وتكلموا أيضا في توبة الزنديق ونحو ذلك .

                فهم قد يتنازعون في كون التوبة في الظاهر تدفع العقوبة : إما لعدم العلم بصحتها وإما لكونها لا تمنع ما وجب من الحد ولم يقل أحد من الفقهاء : إن الزنديق ونحوه إذا تاب فيما بينه وبين الله توبة صحيحة لم يتقبلها الله منه وأما القاتل والمضل فذاك لأجل تعلق حق الغير به والتوبة من حقوق العباد لها حال آخر وليس هذا موضع الكلام فيها وفي تفصيلها وإنما الغرض أن الله يقبل التوبة من كل ذنب كما دل عليه الكتاب والسنة . والفواحش خصوصا ما علمت أحدا نازع في التوبة منها والزاني والمزنى به مشتركان في ذلك إن تابا تاب الله عليهما ويبين التوبة خصوصا من عمل قوم لوط من الجانبين ما ذكره الله في قصة قوم لوط ; فإنهم كانوا يفعلون الفاحشة بعضهم ببعض ومع هذا فقد دعاهم جميعهم إلى تقوى الله والتوبة منها فلو كانت توبة المفعول به أو غيره لا تقبل لم يأمرهم بما لا يقبل قال تعالى : { كذبت قوم لوط المرسلين } { إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون } { [ ص: 409 ] إني لكم رسول أمين } { فاتقوا الله وأطيعون } فأمرهم بتقوى الله المتضمنة لتوبتهم من هذه الفاحشة والخطاب وإن كان للفاعل فإنه إنما خص به لأنه صاحب الشهوة والطلب في العادة ; بخلاف المفعول به ; فإنه لم تخلق فيه شهوة لذلك في الأصل ; وإن كانت قد تعرض له لمرض طارئ أو أجر يأخذه من الفاعل أو لغرض آخر . والله سبحانه وتعالى أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية