الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ( السابع ) أنه قال : " ومنا من علم فلم يقل مثل هذا وهو أعلى القول بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز وهذا هو أعلى عالم بالله وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء وما يراه أحد من الأولياء والرسل : إلا من مشكاة الرسول الخاتم ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم ; حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء .

                فإن الرسالة والنبوة - أعني نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا ; فالمرسلون من كونهم أولياء : لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء ؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا [ ص: 220 ] في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى - إلى قوله - ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن .

                ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى ; وما أشبهه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل : فخر عليهم السقف من تحتهم أن هذا لا عقل ولا قرآن .

                وكذلك ما ذكره هنا - من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم - هو مخالف للعقل فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر . ومخالف للشرع فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام : أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا .

                وقد يزعم أن العلم - الذي هو عنده - أعلى العلم وهو القول بوحدة الوجود وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق وحقيقة تعطيل الصانع وجحده وهو القول الذي يظهره فرعون فلم يكفه زعمه أن هذا حق حتى زعم أنه أعلى العلم ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء .

                فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته .

                ثم أخذ يبين ذلك فقال : فإن الرسالة والنبوة : - أعني نبوة التشريع [ ص: 221 ] ورسالته - ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا . فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف بالأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا ؟ وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا فإن هذا كفر ظاهر فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته يعني وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق - وهي الولاية عندهم - فلم تنقطع وهذه الولاية عندهم هي أفضل من النبوة والرسالة ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه : -

                مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

                وقال في الفصوص في : ( كلمة عزيرية فإذا سمعت أحدا من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال : الولاية أعلى من النبوة : فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه .

                أو يقول : إن الولي فوق النبي والرسول ; فإنه يعني بذلك في شخص واحد وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي : أتم منه من حيث هو نبي ورسول لا أن الولي التابع له أعلى منه فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه إذ لو أدركه لم يكن تابعا له " .

                وإذا حققوا على ذلك قالوا : إن ولاية النبي فوق نبوته وإن نبوته فوق رسالته لأنه يأخذ بولايته عن الله ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي ادعوه .

                [ ص: 222 ] وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع :

                ( منها ) أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما ادعوه باطل لا أصل له .

                ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب ( ختم الولاية وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع .

                وهو - رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة وله من الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة - ففي كلامه من الخطأ : ما يجب رده ومن أشنعها ما ذكره في كتاب ( ختم الولاية مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر وعمر وغيرهما .

                ثم إنه تناقض في موضع آخر ; لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفردا عن الناس فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال : يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر وأبطل ذلك .

                ( ومنها ) أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة - ولو أنها التطوعات المشروعة - أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية وهذا أيضا خطأ عند أئمة الطريق فإن أكمل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وما زال محافظا على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته .

                [ ص: 223 ] ( ومنها ) ما ادعاه من خاتم الأولياء الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء . وهذا ضلال واضح ; فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة .

                وخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح : { خير القرون قرني الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } وفي الترمذي وغيره أنه { قال في أبي بكر وعمر : هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين } قال الترمذي حديث حسن .

                وفي صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال له ابنه : يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا بني أبو بكر " قال : ثم من ؟ قال : " ثم عمر " وروى بضع وثمانون نفسا عنه أنه قال : " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر " .

                وهذا باب واسع وقد قال تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } وهذه الأربعة هي مراتب العباد : أفضلهم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون .

                وقد { نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل أحد منا نفسه على يونس بن متى - } مع قوله { ولا تكن كصاحب الحوت } وقوله { وهو مليم } - تنبيها على أن غيره أولى أن لا يفضل أحد نفسه عليه ففي صحيح البخاري عن ابن [ ص: 224 ] مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقولن أحدكم إني خير من يونس ابن متى } وفي صحيح البخاري أيضا عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما ينبغي لعبد أن يكون خيرا من يونس بن متى } وفي لفظ : { أن يقول : أنا خير من يونس بن متى } وفي البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب } وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - يعني رسول الله - { لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى } وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ : { فيما يرويه عن ربه لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى } وهذا فيه نهي عام .

                وأما ما يرويه بعض الناس أنه قال : { لا تفضلوني على يونس بن متى } ويفسره باستواء حال صاحب المعراج وحال صاحب الحوت : فنقل باطل وتفسير باطل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { اثبت أحد فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد } وأبو بكر أفضل الصديقين .

                ولفظ خاتم الأولياء : لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي فإن الله يقول : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } الآية " فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا " .

                وهم على درجتين : السابقون المقربون وأصحاب اليمين المقتصدون كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر وسورة الواقعة والإنسان والمطففين .

                [ ص: 225 ] وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } .

                فالمتقربون إلى الله بالفرائض : هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض . هم السابقون المقربون وإنما تكون النوافل بعد الفرائض . وقد قال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر ابن الخطاب : اعلم أن لله عليك حقا بالليل لا يقبله بالنهار وحقا بالنهار لا يقبله بالليل وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة .

                والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل : يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه وأن قرب الفرائض : يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله وهذا فاسد من وجوه كثيرة بل كفر صريح كما بيناه في غير هذا الموضع .

                وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء ولا أكملهم بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم فإنه كلما كان الولي أعظم اختصاصا بالرسول وأخذا عنه وموافقة له : كان أفضل إذ الولي لا يكون وليا لله إلا بمتابعة الرسول باطنا وظاهرا ; فعلى قدر المتابعة للرسول : يكون قدر الولاية لله .

                [ ص: 226 ] والأولياء وإن كان فيهم محدثون كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر } فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر ; وأبو بكر أفضل منه إذ هو الصديق فالمحدث - وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإنه ليس بمعصوم كما قال أبو الحسن الشاذلي : قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام .

                ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافا عند كتاب الله وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له كما بين له يوم الحديبية ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة ; فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه وربما قال القول : فترد عليه امرأة من المسلمين قوله وتبين له الحق فيرجع إليها ويدع قوله كما قدر الصداق وربما يرى رأيا فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعمل به ويدع رأيه وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة وكان يقول القول فيقال له : أصبت فيقول والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه ؟ .

                فإذا كان هذا إمام المحدثين فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر فليس فيهم معصوم بل الخطأ يجوز عليهم كلهم وإن [ ص: 227 ] كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا - فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع .

                ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس : يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا متفاضلين في الهدى والنور والإصابة ; ولهذا كان الصديق أفضل من المحدث لأن الصديق يأخذ من مشكاة النبوة فلا يأخذ إلا شيئا معصوما محفوظا .

                وأما المحدث فيقع له صواب وخطأ والكتاب والسنة تميز صوابه من خطئه ; وبهذا صار جمع الأولياء مفتقرين إلى الكتاب والسنة لا بد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول فما وافق آثار الرسول فهو الحق وما خالف ذلك فهو باطل وإن كانوا مجتهدين فيه والله تعالى يثيبهم على اجتهادهم ويغفر لهم خطأهم .

                ومعلوم أن السابقين الأولين أعظم اهتداء واتباعا للآثار النبوية فهم أعظم إيمانا وتقوى وأما آخر الأولياء : فلا يحصل له مثل ما حصل لهم .

                والحديث الذي يروى : { مثل أمتي كمثل الغيث لا يدرى أوله خير أم آخره ؟ } قد تكلم في إسناده وبتقدير صحته إنما معناه يكون في آخر الأمة من يقارب أولها حتى يشتبه على بعض الناس أيهما خير كما يشتبه على بعض الناس طرفا الثوب مع القطع بأن الأول خير من الآخر ولهذا قال : " لا يدرى " ومعلوم أن هذا السلب ليس عاما لها فإنه لا بد أن يكون معلوما أيهما أفضل .

                [ ص: 228 ] ثم إن هذا خاتم الأولياء صار مرتبة موهومة لا حقيقة له وصار يدعيها لنفسه أو لشيخه طوائف وقد ادعاها غير واحد ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل ما لم تقله اليهود ولا النصارى كما ادعاها صاحب الفصوص وتابعه صاحب الكلام في الحروف وشيخ من أتباعهم كان بدمشق وآخر كان يزعم أنه المهدي الذي يزوج بنته بعيسى ابن مريم وأنه خاتم الأولياء ويدعي هؤلاء وأمثالهم من الأمور ما لا يصلح إلا لله وحده كما قد يدعي المدعي منهم لنفسه أو لشيخه ما ادعته النصارى في المسيح .

                ثم صاحب الفصوص وأمثاله بنوا الأمر : على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة والنبي يأخذ بواسطة الملك فلهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة وهذا باطل وكذب فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه وإذا كان محدثا قد ألقي إليه شيء : وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة .

                وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه : -

                من وراء حجاب كما كلم موسى .

                وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء .

                وبالإيحاء وهذا فيه للولي نصيب وأما المرتبتان الأوليان : فإنهما للأنبياء خاصة فالأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم ولو لم يكن إلا عرضه على ما جاء به الرسول [ ص: 229 ] ولن يصلوا في أخذهم عن الله إلى مرتبة نبي أو رسول فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة ويكون هذا الأخذ أعلى وهم لا يصلون إلى مقام تكليم موسى ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم كما نزلت على الأنبياء ؟ وهذا دين المسلمين واليهود والنصارى .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية