الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ) مما يدخل في عموم تأسيكم به على إطلاقه ، فإنه ما كان وما وقع لسبب ولا علة ( إلا عن موعدة وعدها إياه ) في حياته إذا كان يرجو إيمانه فقال له : ( لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ) ( 60 : 4 ) أي لا أملك لك هداية ولا نجاة وإنما أملك دعاء الله تعالى . وقد وفى بوعده وما كان إلا وفيا كما شهد له تعالى بقوله : ( وإبراهيم الذي وفى ) ( 53 : 37 ) فكان من دعائه ( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) ( 26 : 86 - 89 ) أي من الشرك والكفر والشك المقتضي للنفاق ، فمن استغفر لحي يرجو إيمانه ، يقصد سؤال الله أن يهديه لما يكون به أهلا للمغفرة فلا بأس .

                          [ ص: 49 ] ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) قال ابن عباس : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه . وفي رواية عنه : فلما تبين له أنه عدو لله يقول لما مات على كفره . وقال قتادة : تبين له حين مات وعلم أن التوبة انقطعت عنه . وقيل : إنه تبين له ذلك بوحي من الله تعالى ، فحينئذ تبرأ منه ومن قرابته ، وترك الاستغفار له كما هو مقتضى الإيمان ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم ) ( 58 : 22 ) الآية .

                          وورد أن إبراهيم يعد من الخزي له يوم القيامة أن يكون أبوه في النار كما رواه البخاري من حديث رؤيته في النار وأنه يقول : يا رب إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ) ) فيمسخ الله أباه ذيخا - وهو ذكر الضباع الكثير الشعر - حتى لا يخزى إبراهيم ابنه برؤيته في النار على صورته المعروفة له ولقومه . وقد تقدم لفظ الحديث في قصة إبراهيم مع أبيه من تفسير سورة الأنعام ص 449 ج 7 ط الهيئة .

                          ( إن إبراهيم لأواه حليم ) هذه الجملة المؤكدة بوصف إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بالمبالغة في خشية الله والخشوع له ، وبالحلم والثبات في أموره كلها ، تعليل لامتناعه عن الاستغفار لأبيه بعد العلم برسوخه في الشرك وعداوة الله عز وجل . الأواه : الكثير التأوه والتحسر وإنما يتأوه إبراهيم من خشية الله ، ويتحسر على المشركين من قومه ولا سيما أبيه ، ويطلق الأواه على الخاشع الكثير الدعاء والتضرع لله . وأصل التأوه قول ( ( أوه ) ) أو آه ( بالكسر منونا وغير منون ) أو واه ، أو أوه . وفي حديث مرفوع في التفسير المأثور ( ( الأواه الخاشع المتضرع ) ) وعن ابن عباس فيه روايات منها : أنه المؤمن أو الموقن بلسان الحبشة ، والحليم : الذي لا يستفزه الغضب ولا يعبث به الطيش ، ولا يستخفه الجهل أو هوى النفس ، ومن لوازمه الصبر والثبات والصفح والتأني في الأمور ، واتقاء العجلة في كل من الرغب والرهب ، وذهب الزمخشري إلى أن الجملة تعليل لما كان من استغفاره لأبيه ، قال بعد تفسير الأواه بالذي يكثر التأوه : ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه وقوله : ( لأرجمنك ) ا هـ .

                          ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم ) أي وما كان من شأن الله تعالى في حلمه ورحمته ولا من سننه في خلقه التي هي مظهر عدله وحكمته أن يصف قوما بالضلال ، ويجري عليهم أحكامه بالذم والعقاب ، بعد إذ هداهم إلى الإيمان ، وشرح صدورهم بالإسلام ، بمجرد قول أو عمل صدر عنهم بخطأ الاجتهاد .

                          ( حتى يبين لهم ما يتقون ) من الأقوال والأفعال ، بيانا جليا واضحا لا شبهة فيه ولا إشكال ( إن الله بكل شيء عليم ) فهو يشرع لهم من الأحكام ما تكمل به فطرتهم ، ويستقيم به رأيهم [ ص: 50 ] وفهمهم ، فيبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء نفوسهم ، ويترك لهم مجالا للاجتهاد فيما دون ذلك من مصالحهم ، فهو لهذا لم يؤاخذ إبراهيم في استغفاره لأبيه قبل أن يتبين له حاله ، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولي القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله في ذلك ، وإن كان من شأنه أن يعلم أنه من لوازم الإيمان ، قال مجاهد في تفسير الجملة : بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيان طاعته ومعصيته عامة ، ما فعلوا أو تركوا . ا هـ .

                          يعني أن الآية عامة وإن نزلت في مسألة استغفارهم للمشركين . وعن ابن عباس أنها نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى ، قال : لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم . ولكن ما كان الله ليعذب قوما بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون ، قال : حتى ينهاهم قبل ذلك ا هـ .

                          وأقول : الآية متأخرة النزول عن غزوة بدر ولكنها شاملة لحكمها فقد تقدم أن أخذ الفداء من الأسرى هو في معنى الاستغفار للمشركين هنا من حيث إنه خلاف ما يقتضيه شأن النبوة والإيمان لقوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ( 8 : 67 ) فهذا نفي للشأن كنفي الاستغفار هنا . ثم قال تعالى هنالك بعد عتابهم الشديد : ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) ( 8 : 68 ) فابن عباس يفسر هذا الكتاب بحكمه تعالى في هذه الآية بأنه لا يحكم بضلال قوم في شيء فيعاقبهم عليه إلا بعد أن يبين لهم ما يتقون بيانا واضحا تاما لا مجال معه للاجتهاد الذي يكون عذرا في المخالفة ، سواء كانت هذه الآية نزلت وقتئذ أم لا . فهذا حكم الله تعالى .

                          أخرج ابن المنذر أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يخطب أصحابه كل عشية خميس ثم يقول : فمن استطاع منكم أن يغدو عالما أو متعلما فليفعل ولا يغدو لسوى ذلك ، فإن العالم والمتعلم شريكان في الخير . أيها الناس : إني والله ما أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم يبين لكم وقد قال الله تعالى : ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) فقد بين لكم ما تتقون .

                          ويؤخذ من هذا قاعدة هي أن أحكام الإسلام العامة التي عليها مدار الجزاء في الآخرة ويكلف العمل بها كل من بلغته إن كانت من الأحكام الشخصية التي خوطب بها أفراد الأمة كلهم ، وينفذها أئمتها وأمراؤها فيها ، هي ما كانت قطعية الدلالة ببيان من الله تعالى ورسوله لا حجة معه لأحد في تركه ، وأن ما عداها منوط بالاجتهاد ، فمن ظهر له من نص ظني الدلالة حكم واعتقد أنه مراد الله من الآية وجب عليه اتباعه ، ومن لا فلا ، كما وقع عند نزول آية البقرة في الخمر والميسر إذ فهم بعض الصحابة من قوله تعالى : ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) ( 2 : 219 ) تحريمهما فترك ، وبقي من لم يفهم هذا يشرب الخمر حتى بين الله تحريمها مع الميسر بيانا قطعيا [ ص: 51 ] بآيات المائدة . وأصل مذهب الحنفية أن الفرائض والتحريم الديني لا يثبتان إلا بالنص القطعي أو بنص القرآن القطعي بل هذا ما كان عليه علماء السلف . وتقدم تحقيق المسألة ( في ص 323 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) والآية تدل على بطلان قول بعض المبتدعة بالمؤاخذة على ما يجب بحكم العقل كالصدق والأمانة ، صرح به مفسرهم الزمخشري واستثناه من حكم الآية بأنه غير موقوف على التوقيف ) ) نعم إن حسنه يعلم بالعقل . ولكن التكليف الذي يبنى عليه جزاء الآخرة لا يصح إلا بالشرع ، كما تدل عليه الآية وغيرها . وقد أمر الله بالصدق والأمانة وأوجبهما وحرم الكذب والخيانة ، كما بين كل ما أراد جعله دينا للناس . وقد أخبرنا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن ما سكت عنه فلم يبينه لنا فهو عفو منه تعالى غير نسيان ، فليس لنا أن نسأل عنه ولا أن نضع له أحكاما بآراء عقولنا . وقد بسطنا هذه المسألة في تفسير : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا ) ( 5 : 101 ) إلخ راجع ص 107 وما بعدها ج 7 ط الهيئة مع الفصل الملحق به ص 117 ط الهيئة إلخ .

                          ( إن الله له ملك السماوات والأرض ) لا شريك له في خلقهما ولا في تدبير شئونهما ولا في التشريع الديني للمكلفين فيهما ( يحيي ويميت ) أي يهب الحياة الحيوانية والحياة المعنوية الروحية بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه في التكوين والهداية الفعلية ويميت ما شاء من الأبدان بانقضاء آجالها المقدرة في علمه ، ومن الأنفس بنكوبها عن صراط هدايته ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) أي وليس لكم أيها المؤمنون أحد غير الله يتولى أمركم ، ولا نصير ينصركم على عدوكم ، فلا تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولي القربى الذين هم أهل الولاية والنصرة من عصباتكم في الأنساب ، ولا في غير ذلك من أوامره ونواهيه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية