الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) أي وتاب أيضا على الثلاثة الذين خلفوا عن الخروج إلى تبوك معه - صلى الله عليه وسلم - وهم المرجون لأمر الله في الآية ( 106 ) أو خلفوا بمعنى أرجئوا حتى ينزل فيهم أمر الله ، وهم كعب بن مالك من بني سلمة وهلال بن أمية من بني واقف ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف : ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) أي خلفوا وأبهم الله أمرهم إلى أن شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم برحبها أي بما وسعت من الخلق خوفا من العاقبة وتألما وامتعاضا من إعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عنهم وهجرهم إياهم في المجالسة والمحادثة والتحية ( وضاقت عليهم أنفسهم ) أي وضاقت أنفسهم على أنفسهم ، وإنما كان ذلك بما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم بامتلاء قلوبهم من الهم والغم حتى لا متسع فيها لشيء من البسط والسرور ، فكأنهم لا يجدون لأنفسهم مكانا ترتاح إليه وتطمئن به ( وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ) واعتقدوا أنه لا ملجأ لهم من سخط الله يلجئون إليه إلا إليه تعالى بأن يتوبوا إليه ويستغفروه ويرجون رحمته فإن الرسول البر الرءوف الرحيم بأصحابه ما عاد ينظر إليهم ولا يكلمهم حتى يطلبوا دعاءه واستغفاره ، وهو [ ص: 54 ] - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع في الدنيا ولا في الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم ( ثم تاب عليهم ) أي بعد ذلك كله عطف تعالى ورجع عليهم وأنزل قبول توبتهم أو وفقهم للتوبة المقبولة عنده ( ليتوبوا ) ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ( وإن الله هو التواب الرحيم ) : إنه تعالى هو كثير القبول لتوبة التائبين ، الواسع الرحمة للمحسنين ، وتقدم مثله قريبا .

                          وإن العبرة بهذه القصة لا تتم إلا بذكر أصح الروايات وأوسعها في شرح ما بين الله من حالهم فيها وهو حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - .

                          أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأشهر مدوني التفسير المأثور من طريق الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي . قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد . ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر . وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر ، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا ، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان .

                          قال كعب - رضي الله عنه - : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل ، وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، وأنا إليها أصعر ، فتجهز إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا ، فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إن أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ، وقلت الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه ، فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ، ثم [ ص: 55 ] غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليت أني فعلت ، ثم لم يقدر لي ذلك ، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذر الله ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ( ( ما فعل كعب بن مالك ؟ ) ) فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه . فقال له معاذ بن جبل ، بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                          قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه ، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعا وثمانين رجلا فقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم علانيتهم ، وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي : ( ( تعال ) ) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : ( ( ما خلفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك ؟ ) ) فقلت يا رسول الله ، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، لقد أعطيت جدلا ، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله يسخطك علي ، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه ، إني لأرجو فيه عقبى من الله والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ) ) فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت قبل هذا ، لقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر به المتخلفون ، فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكذب نفسي ، ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك ، فقلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي .

                          [ ص: 56 ] قال : ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس - أو قال تغيروا لنا - حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي فإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي وأحب الناس إلي - فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله ورسوله قال فسكت ، قال فعدت فنشدته فسكت ، فعدت فنشدته . قال الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار .

                          وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا ، فقرأته فإذا فيه :

                          أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . فقلت حين قرأتها وهذه أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرتها .

                          حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال بل اعتزلها ولا تقربنها ، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك ، فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر . فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع وليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : ( ( لا ولكن لا يقربنك ) ) فقالت إنه والله ما به من حركة إلى شيء ووالله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا ، فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أدري ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب .

                          قال : فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا ، قال : ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى [ ص: 57 ] على جبل سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر ، فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء الفرج ، فآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا حين صلى الفجر . فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض إلي رجل فرسا ، وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه لبشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ ! فاستعرت ثوبين فلبستهما ، فانطلقت أؤم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئوني بالتوبة ، ويقولون ليهنك توبة الله عليك ، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحوله الناس ، فقام إلي طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ، قال فكان كعب - رضي الله عنه - لا ينساها لطلحة .

                          قال كعب - رضي الله عنه - : فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يبرق وجهه من السرور ( ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) ) قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال ( ( لا بل من عند الله ) ) وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) ) فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر ، وقلت يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت قال : فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني الله تعالى ، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي ، وأنزل الله : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) - إلى قوله - ( وكونوا مع الصادقين ) .

                          قال كعب فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ) - إلى قوله ( الفاسقين ) ( 9 : 95 ، 96 ) .

                          قال كعب وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى الله فيه فلذلك قال الله : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه ا هـ .

                          [ ص: 58 ] ( أقول ) : إن في هذه القصة لأكبر عبرة تفيض لها عبرات المؤمنين ، وتخشع لها قلوب المتقين ، وكان الإمام أحمد لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات وحديث كعب في تفصيل خبرهم فيها . وأي مؤمن يملك عينيه أن تفيض من الدمع ، وقلبه أن يجف ويرجف من الخوف إذا قرأ أو سمع هذا الخبر ، وتأمل ما فيه من العبر التي لا يمكن بسطها إلا في كتاب مستقل ، ولا أدري ما عسى أن ينال من قسوة قلوب المقلدين ، وجهل المغرورين الذين يقترفون الفواحش والمنكرات ، ويتركون الفرائض والواجبات ، ويصرون على ما فعلوا وهم يعلمون . فلا يتوبون ولا هم يذكرون ، وإذا وعظهم واعظ أو ذكرهم مذكر ؛ وجد اللابسين لباس الإسلام منهم بين جازم بالمغفرة والعفو عنه ، وبين متكل على شفاعة الشافعين له ، ومنهم من يحفظ من أخبار المكفرات للذنوب ما لا يصح له سند ، ولا يستقيم له على أصول الدين متن . وما له أصل من هذه الأخبار - يراد به تكفير الصغائر بشرط اجتناب الكبائر لقوله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) ( 4 : 31 ) وما كان العمل الصالح فيه مقرونا بالتوبة أخذا من قوله تعالى : ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) ( 16 : 119 ) وتقدم بيان هذه المسألة في مواضع ( آخرها ص 158 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) .

                          ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ) باتباع ما أمر به بقدر الاستطاعة ، وترك ما نهى عنه وبين تحريمه مطلقا ( وكونوا مع الصادقين ) أي مع جماعة الصادقين أو منهم ( وفاقا لقراءة ابن مسعود وقد تكون تفسيرا ) دون المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب ويؤيدونه بالحلف . والصادقون هم المعتصمون بالصدق والإخلاص في جهادهم إذا جاهدوا ، وفي عهودهم إذا عاهدوا ، وفي أقوالهم ووعودهم إذا حدثوا ووعدوا ، وفي توبتهم إذا أذنبوا أو قصروا ، والمنافقون ضدهم في ذلك وغيره .

                          تقدم في آخر حديث كعب بن مالك المتفق عليه أن هذه الآية نزلت فيه وفي أصحابه بما صدقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينتحلوا لأنفسهم عذرا كاذبا في التخلف عن النفر معه . وبه قال نافع والسدي . وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ( وكونوا مع الصادقين ) مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . وقال سعيد بن جبير والضحاك : مع أبي بكر وعمر . وابن عباس وأبو جعفر : مع علي . والحق أنها عامة كما قال ابن عمر في [ ص: 59 ] عهده ، ومثله يقال في ( الصادقين ) من بعده ، وأن الثلاثة الذين نزلت في قصتهم يدخلون في عمومها دخولا أوليا . وأن أبا بكر وعمر وعليا أفضل من هؤلاء الثلاثة وأعرق في الصدق وأكمل . ولكني أشم من الروايتين رائحة وضع النواصب والروافض . وقيل إن المراد بــ ( الصادقين ) المهاجرون وأن أبا بكر احتج بالآية على الأنصار يوم السقيفة . وهذا القول لا وجه له والاحتجاج به لا يصح ، ووجهه القائلون به بأنه جعل الصادقين هنا هم الصادقين في آية سورة الحشر : ( للفقراء المهاجرين ) إلى قوله - ( أولئك هم الصادقون ) ( 59 : 8 ) ومقتضاه أن يكون هذا الوصف خاصا بالمهاجرين حيث وجد في القرآن معرفا كآية ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ) - إلى قوله - ( أولئك هم الصادقون ) ( 49 : 15 ) وقوله : ( ليسأل الصادقين ) ( 33 : 8 ) - ( ليجزي الله الصادقين ) ( 33 : 24 ) وغيرهن - وهو باطل ولم يقل به أحد ، ومع هذا لا يدل على وجوب اتباع الأنصار وغيرهم لهم في الإمامة كما قال الطوفي .

                          أخرج سعد بن منصور وابن أبي شيبة وأشهر رواة التفسير والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ، ولا يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه ، اقرءوا إن شئتم ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) ( 9 : 119 ) فهل تجدون لأحد رخصة في الكذب ؟ وأخرجه عنه الحاكم وصححه ، والبيهقي مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ ( ( إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له ، إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار إنه يقال للصادق : صدق وبر ، ويقال للكاذب : كذب وفجر . وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) ) وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن الرجل ليصدق - إلى آخر ما تقدم آنفا - وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الرجل ليكذب ) ) - إلى آخر ما تقدم فيما قبله - والأحاديث في فضيلة الصدق ورذيلة الكذب وكونها من صفات المنافقين كثيرة تقدم بعضها ، وفي روايات عديدة ( ( إن المؤمن قد يطبع على كل خلق إلا الكذب والخيانة ) ) وإنه لا رخصة في الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب أو إصلاح بين اثنين ، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها - يعني في مثل التحبب إليها بوصف محاسنها ورضاه عنها ، لا في مصالح الدار والعيال وغيرها - والرواية في هذا على علاتها تقيد بحديث ( ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ، وفي رواية ( ( ما يغني الرجل العاقل عن الكذب ) ) روى ابن عدي الأول عن عمران بن حصين والثاني عن علي - رضي الله عنهما - .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية