[ ص: 432 ] فصل منزلة الإنابة
قد علمت أن
من نزل من منزل التوبة وقام في مقامها نزل في جميع منازل الإسلام ، فإن التوبة الكاملة متضمنة لها ، وهي مندرجة فيها ، ولكن لا بد من إفرادها بالذكر والتفصيل ، تبيينا لحقائقها وخواصها وشروطها .
فإذا استقرت قدمه في منزل التوبة نزل بعده منزل الإنابة ، وقد أمر الله تعالى بها في كتابه ، وأثنى على خليله بها ، فقال
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=54وأنيبوا إلى ربكم وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=75إن إبراهيم لحليم أواه منيب وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة ، فقال
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها إلى أن قال
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=8تبصرة وذكرى لكل عبد منيب وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=13هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=31منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة الآية
" فمنيبين " منصوب على الحال من الضمير المستكن في قوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فأقم وجهك " لأن هذا الخطاب له ولأمته ، أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه ، نظيره قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1ياأيها النبي إذا طلقتم النساء ويجوز أن يكون حالا من المفعول في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فطر الناس عليها أي فطرهم منيبين إليه ، فلو خلوا وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه ، ولكنها تتحول وتتغير عما فطرت عليه ، كما قال صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=980275ما من مولود إلا يولد على الفطرة وفي رواية : على الملة حتى يعرب عنه لسانه وقال عن نبيه
داود nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=24فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب وأخبر
[ ص: 433 ] أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة ، فقال
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=31وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام وأخبر سبحانه أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة ، فقال
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=17والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى .
والإنابة إنابتان : إنابة لربوبيته ، وهي إنابة المخلوقات كلها ، يشترك فيها المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=33وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر ، كما هو الواقع ، وهذه
الإنابة لا تستلزم الإسلام ، بل تجامع الشرك والكفر ، كما قال تعالى في حق هؤلاء
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=33ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فهذا حالهم بعد إنابتهم .
والإنابة الثانية إنابة أوليائه ، وهي إنابة لإلهيته ، إنابة عبودية ومحبة .
وهي تتضمن أربعة أمور : محبته ، والخضوع له ، والإقبال عليه ، والإعراض عما سواه ، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع ، وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك .
وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع والتقدم ،
nindex.php?page=treesubj&link=19704والمنيب إلى الله المسرع إلى مرضاته ، الراجع إليه كل وقت ، المتقدم إلى محابه .
قال صاحب المنازل : الإنابة في اللغة الرجوع ، وهي هاهنا الرجوع إلى الحق .
وهي ثلاثة أشياء : الرجوع إلى الحق إصلاحا ، كما رجع إليه اعتذارا ، والرجوع إليه وفاء ، كما رجع إليه عهدا ، والرجوع إليه حالا ، كما رجعت إليه إجابة .
لما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته ، كان من تتمة ذلك رجوعه إليه بالاجتهاد ، والنصح في طاعته ، كما قال
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=70إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا [ ص: 434 ] وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إلا الذين تابوا وأصلحوا فلا تنفع توبة وبطالة ، فلا بد من توبة وعمل صالح ، ترك لما يكره ، وفعل لما يحب ، تخل عن معصيته ، وتحل بطاعته .
وكذلك الرجوع إليه بالوفاء بعهده ، كما رجعت إليه عند أخذ العهد عليك ، فرجعت إليه بالدخول تحت عهده أولا ، فعليك بالرجوع بالوفاء بما عاهدته عليه ثانيا ، والدين كله عهد ووفاء ، فإن الله أخذ عهده على جميع المكلفين بطاعته ، فأخذ عهده على أنبيائه ورسله على لسان ملائكته ، أو منه إلى الرسول بلا واسطة كما كلم
موسى ، وأخذ عهده على الأمم بواسطة الرسل ، وأخذ عهده على الجهال بواسطة العلماء ، فأخذ عهده على هؤلاء بالتعليم ، وعلى هؤلاء بالتعلم ، ومدح الموفين بعهده ، وأخبر بما لهم عنده من الأجر ، فقال
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=34وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=91وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177والموفون بعهدهم إذا عاهدوا .
وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطاعة ، وعهودهم مع الخلق .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم
أن من علامات النفاق الغدر بعد العهد .
فما أناب إلى الله من خان عهده وغدر به ، كما أنه لم ينب إليه من لم يدخل تحت عهده ،
nindex.php?page=treesubj&link=19704فالإنابة لا تتحقق إلا بالتزام العهد والوفاء به .
وقوله : والرجوع إليه حالا ، كما رجعت إليه إجابة .
أي هو سبحانه قد دعاك فأجبته بلبيك وسعديك قولا ، فلا بد من الإجابة حالا تصدق به المقال ، فإن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها ، وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد
[ ص: 435 ] من حال قائله ، فكما رجعت إلى الله إجابة بالمقال ، فارجع إليه إجابة بالحال ، قال
الحسن : ابن آدم ؟ لك قول وعمل ، وعملك أولى بك من قولك ، ولك سريرة وعلانية ، وسريرتك أملك بك من علانيتك .
[ ص: 432 ] فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِنَابَةِ
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ
مَنْ نَزَلَ مِنْ مَنْزِلِ التَّوْبَةِ وَقَامَ فِي مَقَامِهَا نَزَلَ فِي جَمِيعِ مَنَازِلِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْكَامِلَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لَهَا ، وَهِيَ مُنْدَرِجَةٌ فِيهَا ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ وَالتَّفْصِيلِ ، تَبْيِينًا لِحَقَائِقِهَا وَخَوَاصِّهَا وَشُرُوطِهَا .
فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي مَنْزِلِ التَّوْبَةِ نَزَلَ بَعْدَهُ مَنْزِلَ الْإِنَابَةِ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ ، وَأَثْنَى عَلَى خَلِيلِهِ بِهَا ، فَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=54وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=75إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَاتِهِ إِنَّمَا يَتَبَصَّرُ بِهَا وَيَتَذَكَّرُ أَهْلُ الْإِنَابَةِ ، فَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا إِلَى أَنْ قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=8تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=13هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=31مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ الْآيَةَ
" فَمُنِيبِينَ " مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي قَوْلِهِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فَأَقِمْ وَجْهَكَ " لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ ، أَيْ أَقِمْ وَجْهَكَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا أَيْ فَطَرَهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ، فَلَوْ خُلُّوا وَفَطَرَهُمْ لَمَا عَدَلَتْ عَنِ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ، وَلَكِنَّهَا تَتَحَوَّلُ وَتَتَغَيَّرُ عَمَّا فُطِرَتْ عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980275مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَفِي رِوَايَةٍ : عَلَى الْمِلَّةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ
دَاوُدَ nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=24فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ وَأَخْبَرَ
[ ص: 433 ] أَنَّ ثَوَابَهُ وَجَنَّتَهُ لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ ، فَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=31وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْبُشْرَى مِنْهُ إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ الْإِنَابَةِ ، فَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=17وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى .
وَالْإِنَابَةُ إِنَابَتَانِ : إِنَابَةٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ ، وَهِيَ إِنَابَةُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا ، يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=33وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ فَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ دَاعٍ أَصَابَهُ ضُرٌّ ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ، وَهَذِهِ
الْإِنَابَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ ، بَلْ تُجَامِعُ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=33ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَهَذَا حَالُهُمْ بَعْدَ إِنَابَتِهِمْ .
وَالْإِنَابَةُ الثَّانِيَةُ إِنَابَةُ أَوْلِيَائِهِ ، وَهِيَ إِنَابَةٌ لِإِلَهِيَّتِهِ ، إِنَابَةَ عُبُودِيَّةٍ وَمَحَبَّةٍ .
وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ : مَحَبَّتَهُ ، وَالْخُضُوعَ لَهُ ، وَالْإِقْبَالَ عَلَيْهِ ، وَالْإِعْرَاضَ عَمَّا سِوَاهُ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ اسْمُ الْمُنِيبِ إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَرْبَعُ ، وَتَفْسِيرُ السَّلَفِ لِهَذِهِ اللَّفْظَةِ يَدُورُ عَلَى ذَلِكَ .
وَفِي اللَّفْظَةِ مَعْنَى الْإِسْرَاعِ وَالرُّجُوعِ وَالتَّقَدُّمِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19704وَالْمُنِيبُ إِلَى اللَّهِ الْمُسْرِعُ إِلَى مَرْضَاتِهِ ، الرَّاجِعُ إِلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ ، الْمُتَقَدِّمُ إِلَى مُحَابِّهِ .
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ : الْإِنَابَةُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ ، وَهِيَ هَاهُنَا الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ .
وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ إِصْلَاحًا ، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ اعْتِذَارًا ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَفَاءً ، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ عَهْدًا ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ حَالًا ، كَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ إِجَابَةً .
لَمَّا كَانَ التَّائِبُ قَدْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِالِاعْتِذَارِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، كَانَ مِنْ تَتِمَّةِ ذَلِكَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ ، وَالنُّصْحِ فِي طَاعَتِهِ ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=70إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [ ص: 434 ] وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا فَلَا تَنْفَعُ تَوْبَةٌ وَبَطَالَةٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْبَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ ، تَرْكٍ لِمَا يَكْرَهُ ، وَفِعْلٍ لِمَا يُحِبُّ ، تَخَلٍّ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَتَحَلٍّ بِطَاعَتِهِ .
وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ ، كَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْكَ ، فَرَجَعْتَ إِلَيْهِ بِالدُّخُولِ تَحْتَ عَهْدِهِ أَوَّلًا ، فَعَلَيْكَ بِالرُّجُوعِ بِالْوَفَاءِ بِمَا عَاهَدْتَهُ عَلَيْهِ ثَانِيًا ، وَالدِّينُ كُلُّهُ عَهْدٌ وَوَفَاءٌ ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِطَاعَتِهِ ، فَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَتِهِ ، أَوْ مِنْهُ إِلَى الرَّسُولِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا كَلَّمَ
مُوسَى ، وَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى الْأُمَمِ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ ، وَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى الْجُهَّالِ بِوَاسِطَةِ الْعُلَمَاءِ ، فَأَخَذَ عَهْدَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالتَّعْلِيمِ ، وَعَلَى هَؤُلَاءِ بِالتَّعَلُّمِ ، وَمَدَحَ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ ، وَأَخْبَرَ بِمَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْرِ ، فَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=34وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=91وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=177وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا .
وَهَذَا يَتَنَاوَلُ عُهُودَهُمْ مَعَ اللَّهِ بِالْوَفَاءِ لَهُ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ ، وَعُهُودَهُمْ مَعَ الْخَلْقِ .
وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ الْغَدْرَ بَعْدَ الْعَهْدِ .
فَمَا أَنَابَ إِلَى اللَّهِ مَنْ خَانَ عَهْدَهُ وَغَدَرَ بِهِ ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُنِبْ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ عَهْدِهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19704فَالْإِنَابَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْتِزَامِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ : وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ حَالًا ، كَمَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ إِجَابَةً .
أَيْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ دَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَوْلًا ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِجَابَةِ حَالًا تُصَدِّقُ بِهِ الْمَقَالَ ، فَإِنَّ الْأَحْوَالَ تُصَدِّقُ الْأَقْوَالَ أَوْ تُكَذِّبُهَا ، وَكُلُّ قَوْلٍ فَلِصِدْقِهِ وَكَذِبِهِ شَاهِدٌ
[ ص: 435 ] مِنْ حَالِ قَائِلِهِ ، فَكَمَا رَجَعْتَ إِلَى اللَّهِ إِجَابَةً بِالْمَقَالِ ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ إِجَابَةً بِالْحَالِ ، قَالَ
الْحَسَنُ : ابْنَ آدَمَ ؟ لَكَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، وَعَمَلُكَ أَوْلَى بِكَ مِنْ قَوْلِكَ ، وَلَكَ سَرِيرَةٌ وَعَلَانِيَةٌ ، وَسَرِيرَتُكَ أَمْلَكُ بِكَ مِنْ عَلَانِيَتِكَ .