الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ تعذيب قريش لابن ياسر ، وتصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم له ]

            قال ابن إسحاق : وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر ، وبأبيه وأمه ، وكانوا أهل بيت إسلام ، إذا حميت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ، فيما بلغني : صبرا آل ياسر ، موعدكم الجنة فأما أمه فقتلوها ، وهي تأبى إلا الإسلام . وكان ياسر حليفا لبني مخزوم ، فكانوا يخرجون عمارا وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء ، فمر بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة " . فمات ياسر في العذاب ، وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل ، فطعنها في قبلها بحربة في يديه فماتت ، وهي أول شهيد في الإسلام ، وشددوا العذاب على عمار ، بالحر تارة ، وبوضع الصخر على صدره أخرى ، وبالتغريق أخرى فقالوا : لا نتركك حتى تسب محمدا وتقول في اللات والعزى خيرا ، ففعل ، فتركوه فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي . فقال : ما وراءك ؟ قال : شر يا رسول الله ، كان الأمر كذا وكذا . قال فكيف تجد قلبك ؟ قال : أجده مطمئنا بالإيمان . فقال : يا عمار فعد ، فأنزل الله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) من امتنع عن الإسلام ظاهرا لسبب تعذيبه [ سئل ابن عباس عن عذر من امتنع عن الإسلام لسبب تعذيبه فأجاز ]

            قال ابن إسحاق : وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لعبد الله بن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال : نعم والله ، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ، حتى يقولوا له ؛ آللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم ، حتى إن الجعل ليمر بهم ، فيقولون له : أهذا الجعل إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم ، افتداء منهم مما يبلغون من جهده . [ رفض هشام تسليم أخيه لقريش ليقتلوه على إسلامه ، وشعره في ذلك ]

            قال ابن إسحاق : وحدثني الزبير بن عكاشة بن عبد الله بن أبي أحمد أنه حدث أن رجالا من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد ، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد ( بن المغيرة ) ، وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا ، منهم : سلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة . قال : فقالوا له . وخشوا شرهم : إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا ، فإنا نأمن بذلك في غيرهم . قال : هذا ، فعليكم به ، فعاتبوه وإياكم ونفسه ، وأنشأ يقول :

            :


            ألا لا يقتلن أخي عييس فيبقى بيننا أبدا تلاحي

            احذروا على نفسه ، فأقسم الله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلا . قال : فقالوا : اللهم العنه ، من يغرر بهذا الحديث ، فوالله لو أصيب في أيدينا لقتل أشرفنا رجلا . ( قال ) ، فتركوه ونزعوا عنه . قال : وكان ذلك مما دفع الله به عنهم . ما جاء في تعذيب خباب بن الأرت وخباب بن الأرت ، كان أبوه سواديا من كسكر ، فسباه قوم من ربيعة ، وحملوه إلى مكة فباعوه من سباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني زهرة ، وسباع هو الذي بارزه حمزة يوم أحد ، وخباب تميمي ، وكان إسلامه قديما ، قيل : سادس ستة قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم ، فأخذه الكفار وعذبوه عذابا شديدا ، فكانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرضف ، وهي الحجارة المحماة بالنار ، ولووا رأسه ، فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا منه. وعن أبي ليلى الكندي قال ، جاء خباب إلى عمر رضي الله تعالى عنهما فقال له عمر : ادنه ، ادنه . فأجلسه على متكئه وقال : ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا رجل واحد . قال : ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال : بلال - وفي رواية الشعبي ، عمار بن ياسر قال : ما هو بأحق مني إن بلالا كان له في المشركين من يمنعه الله به ، ولم يكن لي أحد ، لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها ثم وضع رجل رجله على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري ثم كشف خباب عن ظهره فإذا هو قد برص . وعن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه ، فقال : لا والله ، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد . فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ، ثم تبعث . قال : فإني إذا مت ثم بعثت ، جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك . فأنزل الله تعالى أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله ونرثه ما يقول ويأتينا فردا [ مريم : 77 - 80 ] أخرجاه في " الصحيحين " ذكر بعض من كان يعذب من المؤمنين روى ابن سعد عن عروة قال : كان صهيب من المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا يعذبون في الله .

            ومنهم عامر بن فهيرة .

            قال البلاذري : قالوا كان عامر من المستضعفين فكان يعذب بمكة ليرجع عن دينه حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه .

            وروى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي - بضم القاف وكسر الظاء المشالة المعجمة- قال : كان عامر بن فهيرة يعذب حتى لا يدري ما يقول .

            ومنهم أبو فكيهة واسمه أفلح ويقال يسار . وكان عبدا لصفوان بن أمية فأسلم حين أسلم بلال ، فمر به أبو بكر رضي الله عنه وقد أخذه أمية بن خلف فربط في رجله حبلا وأمر به فجر ثم ألقاه في الرمضاء فمر به جعل فقال : أليس هذا ربك فقال : الله ربي خلقني وخلقك وخلق هذا الجعل فغلط عليه وجعل يخنقه ومعه أخوه أبي بن خلف يقول : زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره . فأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء ووضع على بطنه صخرة فدلع لسانه فلم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات ، ثم أفاق فمر به أبو بكر رضي الله عنه فاشتراه وأعتقه .

            وروى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال : كان أبو فكيهة يعذب حتى- لا يدري ما يقول .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية