الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ طمع الرسول في إسلام أبي طالب ، وحديث ذلك ]

            فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : والله يا ابن أخي ، ما رأيتك سألتهم شططا ، قال : فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسلامه ، فجعل يقول له : أي عم ، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة . قال : فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ، قال : يا ابن أخي ، والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها . قال : فلما تقارب من أبي طالب الموت قال : نظر العباس إليه يحرك شفتيه ، قال : فأصغى إليه بأذنه ، قال : فقال يا ابن أخي . والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أسمع فصل

            قد تقدم ذكر موت أبي طالب ، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان ناصرا له ، وقائما في صفه ، ومدافعا عنه بكل ما يقدر عليه; من نفس ، ومال ، وفعال ، فلما مات ، اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ، ولا يقدرون عليه .

            كما قد رواه البيهقي ، عن الحاكم ، عن الأصم ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، حدثنا يوسف بن بهلول ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عمن حدثه ، عن عروة بن الزبير ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : لما مات أبو طالب ، عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش ، فألقى عليه ترابا ، فرجع إلى بيته ، فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي ، فجعل يقول : " أي بنية ، لا تبكين فإن الله مانع أباك " . ويقول ما بين ذلك : " ما نالت قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " . وقد رواه زياد البكائي ، عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه مرسلا . فالله أعلم .

            وروى البيهقي أيضا ، عن الحاكم وغيره ، عن الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار ، عن يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما زالت قريش كاعين عني حتى مات أبو طالب " . ثم رواه عن الحاكم ، عن الأصم ، عن عباس الدوري ، عن يحيى بن معين ، حدثنا عقبة المجدر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما زالت قريش كاعة حتى توفي أبو طالب " .

            وقد روى الحافظ أبو الفرج بن الجوزي بسنده ، عن ثعلبة بن صعير وحكيم بن حزام ، أنهما قالا : لما توفي أبو طالب وخديجة - وكان بينهما شهر وخمسة أيام - اجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان ، فلزم بيته ، وأقل الخروج ، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه ، فبلغ ذلك أبا لهب ، فجاءه فقال : يا محمد ، امض لما أردت ، وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه ، لا واللات ، لا يوصل إليك حتى أموت . وسب ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل إليه أبو لهب فنال منه ، فولى يصيح : يا معشر قريش ، صبأ أبو عتبة . فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب ، فقال : ما فارقت دين عبد المطلب ، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد . فقالوا : قد أحسنت ، وأجملت ، ووصلت الرحم . فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يأتي ويذهب ، لا يعرض له أحد من قريش ، وهابوا أبا لهب إلى أن جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب ، فقالا له : أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ؟ فقال له أبو لهب : يا محمد ، أين مدخل عبد المطلب ؟ قال : " مع قومه " . فخرج إليهما ، فقال : قد سألته ، فقال : مع قومه . فقالا : يزعم أنه في النار . فقال : يا محمد ، أيدخل عبد المطلب النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار " . فقال أبو لهب : - لعنه الله - والله لا برحت لك إلا عدوا أبدا ، وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار . واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه

            قال ابن إسحاق : وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته; أبو لهب ، والحكم بن أبي العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن الحمراء ، وابن الأصداء الهذلي ، وكانوا جيرانه ، لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص ، وكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له ، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا يستتر به منهم إذا صلى ، فكان إذا طرحوا شيئا من ذلك ، يحمله على عود ثم يقف به على بابه ، ثم يقول : " يا بني عبد مناف ، أي جوار هذا ؟ " . ثم يلقيه في الطريق .

            قلت : وعندي أن غالب ما روي مما تقدم - من طرحهم سلى الجزور بين كتفيه وهو يصلي كما رواه ابن مسعود ، وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه ، وأقبلت عليهم فشتمتهم ، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة منهم كما تقدم ، وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له ، عليه السلام ، خنقا شديدا حتى حال دونه أبو بكر الصديق ، قائلا : أتقتلون رجلا أن يقول : ربي الله . وكذلك عزم أبي جهل ، لعنه الله ، على أن يطأ على عنقه وهو يصلي ، فحيل بينه وبين ذلك ، وما أشبه ذلك - كان بعد وفاة أبي طالب ، والله أعلم ، فذكرها هاهنا أنسب وأشبه.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية