[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . سورة الإخلاص سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه قل هو الله أحد } أنها تعدل ثلث القرآن وكذلك ورد في سورة ( الزلزلة و { عما ورد في سورة { قل يا أيها الكافرون } و ( الفاتحة هل ما ورد في هذه المعادلة ثابت في المجموع أم في البعض ؟ ومن روى ذلك ؟ وما ثبت من ذلك ؟ وما معنى هذه المعادلة وكلام الله واحد بالنسبة إليه عز وجل ؟ وهل هذه المفاضلة - بتقدير [ ص: 6 ] ثبوتها - متعدية إلى الأسماء والصفات أم لا ؟ ؟ ومن القائل بذلك وفي أي كتبه قال ذلك ووجه الترجيح في ذلك بما يمكن من دليل عقلي ونقلي ؟ والصفات القديمة والأسماء القديمة هل يجوز المفاضلة بينها مع أنها قديمة
التفسير »
مسألة ما ورد في فضل سورة الإخلاص وسورة الزلزلة وسورة الكافرون
[ ص: 5 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُورَةُ الْإِخْلَاصِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ nindex.php?page=treesubj&link=29566عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ وَ { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ [ ص: 6 ] ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ nindex.php?page=treesubj&link=28706وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
التالي
السابق
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ - كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ - فَأَخْرَجُوا nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890_29083فَضْلَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَرُوِيَ عَنْ الدارقطني أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَصِحَّ فِي فَضْلِ سُورَةٍ أَكْثَرُ مِمَّا صَحَّ فِي فَضْلِهَا . وَكَذَلِكَ أَخْرَجُوا nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890فَضْلَ ( فَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597909إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ جُزْءًا مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597910قَالَ فِي { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ الضَّحَّاكِ الْمَشْرِقِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597911أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا : أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ معدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597912النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ [ ص: 7 ] قَالُوا : وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=70610إنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597913أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَانَ الرَّجُلُ يتقالها فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَخِي قتادة بْنُ النُّعْمَانِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597914أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ مِنْ السِّحْرِ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا . . الْحَدِيثَ } بِنَحْوِهِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597915قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُحْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالَ : فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضِ : إنِّي أَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنْ السَّمَاءِ فَذَاكَ الَّذِي أَدَخَلَهُ . ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي قُلْت لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلَا إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597916قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ [ ص: 8 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=2اللَّهُ الصَّمَدُ } حَتَّى خَتَمَهَا . } وَأُمًّا حَدِيثُ " الزَّلْزَلَةِ " و ( { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597917قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890مَنْ قَرَأَ إذَا زُلْزِلَتْ عَدَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْقُرْآنِ . nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890وَمَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ عَدَلَتْ لَهُ رُبُعَ الْقُرْآنِ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597918قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=1إذَا زُلْزِلَتِ } تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ و { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ } رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا : غَرِيبٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ ( الْفَاتِحَةِ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597919عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ابْنِ الْمُعَلَّى قَالَ : كُنْت أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَجِبْهُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت أُصَلِّي . قَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ } ثُمَّ قَالَ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ قَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ } . وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدُ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597920أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=34لأبي بْنِ كَعْبٍ أَلَا أُعَلِّمُك سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا - قَالَ - فَإِنِّي أَرْجُو [ ص: 9 ] أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ حَتَّى تَعْلَمَهَا وَقَالَ فِيهِ كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَرَأْت عَلَيْهِ أُمَّ الْقُرْآنِ فَقَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا إنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيته } . وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كريز مُرْسَلًا .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597921قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ { nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=1قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } } . وَفِي لَفْظٍ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597922قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ الْمُعَوِّذَتَانِ } فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يُرَ مِثْلُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ الْفَاتِحَةِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ nindex.php?page=treesubj&link=29566فَضْلَ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597915قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُحْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالَ : فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضِ : إنِّي أَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَهُ مِنْ السَّمَاءِ فَذَاكَ الَّذِي أَدَخَلَهُ . ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنِّي قُلْت لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلَا إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597916قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ [ ص: 8 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=2اللَّهُ الصَّمَدُ } حَتَّى خَتَمَهَا . } وَأُمًّا حَدِيثُ " الزَّلْزَلَةِ " و ( { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597917قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890مَنْ قَرَأَ إذَا زُلْزِلَتْ عَدَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْقُرْآنِ . nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890وَمَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ عَدَلَتْ لَهُ رُبُعَ الْقُرْآنِ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597918قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=1إذَا زُلْزِلَتِ } تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ و { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ } رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا : غَرِيبٌ . وَأَمَّا حَدِيثُ ( الْفَاتِحَةِ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597919عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ابْنِ الْمُعَلَّى قَالَ : كُنْت أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَجِبْهُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت أُصَلِّي . قَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ } ثُمَّ قَالَ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ قَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ } . وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدُ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597920أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=34لأبي بْنِ كَعْبٍ أَلَا أُعَلِّمُك سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا - قَالَ - فَإِنِّي أَرْجُو [ ص: 9 ] أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ حَتَّى تَعْلَمَهَا وَقَالَ فِيهِ كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَرَأْت عَلَيْهِ أُمَّ الْقُرْآنِ فَقَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا إنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيته } . وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كريز مُرْسَلًا .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597921قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ { nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=1قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } } . وَفِي لَفْظٍ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597922قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ الْمُعَوِّذَتَانِ } فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمْ يُرَ مِثْلُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ الْفَاتِحَةِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ nindex.php?page=treesubj&link=29566فَضْلَ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ .
فَصْلٌ وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي كَوْنِ الْجَمِيعِ كَلَامُ اللَّهِ فَهَذَا السُّؤَالُ يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566كَلَامَ اللَّهِ هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ وَالثَّانِي : nindex.php?page=treesubj&link=29566مَا مَعْنَى كَوْنِ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؟ وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ ؟ [ ص: 10 ] فَنَقُولُ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ " مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ " وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِيهَا نِزَاعًا مُنْتَشِرًا فَطَوَائِفُ يَقُولُونَ : بَعْضُ كَلَامِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ : حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ ( الْفَاتِحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ مِثْلُهَا . وَأَخْبَرَ عَنْ سُورَةِ ( الْإِخْلَاصِ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَعَدْلُهَا لِثُلُثِهِ يَمْنَعُ مُسَاوَاتَهَا لِمِقْدَارِهَا فِي الْحُرُوفِ . وَجَعَلَ ( آيَةَ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا وَكَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597923النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=34لأبي بْنِ كَعْبٍ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ ؟ قَالَ : قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : فَقُلْت : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قَالَ : فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ : ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } .
وَرَوَاهُ nindex.php?page=showalam&ids=12508ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ وَزَادَ فِيهِ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ } . وَرُوِيَ أَنَّهَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597924سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ . } وَقَالَ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597925لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ اللَّهِ لِكَوْنِ تِلْكَ الْآيَةِ قَدْ يَأْتِي بِمَثَلِهَا تَارَةً أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا أُخْرَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ [ ص: 11 ] الْآيَاتِ تَتَمَاثَلُ تَارَةً وَتَتَفَاضَلُ أُخْرَى . وَأَيْضًا فَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ جَمِيعُهَا كَلَامُ اللَّهِ مَعَ عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ . قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَغَيْرِ الْمُنَزَّلَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَدْ nindex.php?page=treesubj&link=29568سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَجِيدًا وَكَرِيمًا وَعَزِيزًا . وَقَدْ تَحَدَّى الْخَلْقَ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِمِثْلِ عَشْرِ سُورٍ مِنْهُ أَوْ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ فَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ } . وَقَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } . وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } وَخَصَّهُ بِأَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا هُوَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِ وَلَا بِدُونِ قِرَاءَتِهِ وَلَا يُصَلِّي بِلَا قُرْآنٍ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ [ ص: 12 ] مَقَامَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=29566لَا يَقُومُ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ مَقَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ قِيلَ بِأَنَّهَا فَرْضٌ تُعَادُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا أَوْ قِيلَ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ يَأْثَمُ تَارِكُهَا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَوْ قِيلَ إنَّهَا سُنَّةٌ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ قِرَاءَةَ غَيْرِهَا مُسَاوٍ لِقِرَاءَتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . nindex.php?page=treesubj&link=29568وَخُصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ لَا يُمَسُّ مُصْحَفُهُ إلَّا طَاهِرٌ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ - مِثْلَ سَعْدٍ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ - وَجَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَمَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ كَتَبَهُ لَهُ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=29568لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ . وَتَفْضِيلُ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِأَحْكَامِ تُوجِبُ تَشْرِيفَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ وَهَذَا خِلَافُ مَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي شَرْعِهِ بَلْ وَفِي خَلْقِهِ وَخِلَافُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مَعَ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=55وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=17فَبَشِّرْ عِبَادِي } { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=18الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=145فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } . فَدَلَّ عَلَى [ ص: 13 ] أَنَّ فِيمَا أُنْزِلَ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ سَوَاءٌ كَانَ الْأَحْسَنُ هُوَ وَالنَّاسِخُ الَّذِي يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ دُونَ الْمَنْسُوخِ إذْ كَانَ لَا يَنْسَخُ آيَةً إلَّا يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ .
nindex.php?page=treesubj&link=29566وَالْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ هُوَ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَلَامُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ثُلُثٌ مِنْهُ أَحْكَامٌ وَثُلُثٌ مِنْهُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ مِنْهُ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ . وَهَذِهِ السُّورَةُ جَمَعَتْ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ . وَمِثْلَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي مَسْأَلَةِ nindex.php?page=treesubj&link=29566تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدٍ السمعاني الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ " الِاصْطِلَامِ " وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرْآنِ لَا تَخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ قُلْت : سَائِرُ الْأَحْكَامِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْعُمُومِ وَهَذَا عَلَى الْخُصُوصِ بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَنَا قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَعِنْدَكُمْ عَلَى السُّنَّةِ . قَالَ : وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ الْفَاتِحَةُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ امْتَازَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْإِعْجَازِ وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْجَازُ سُورَةٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ أَشْرَفُ السُّوَرِ لِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَلِأَنَّهَا تَصْلُحُ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ السُّورِ وَلَا [ ص: 14 ] تَصْلُحُ جَمِيعُ السُّورِ عِوَضًا عَنْهَا وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا تَشْتَمِلُ سُورَةٌ مَا عَلَى قَدْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ وَذَلِكَ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ لِلرَّبِّ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْعَبْدِ . فَإِذَا صَارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَشْرَفَ السُّوَرِ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ أَشْرَفَ الْحَالَاتِ فَتَعَيَّنَتْ أَشْرَفَ السُّوَرِ فِي أَشْرَفِ الْحَالَاتِ . هَذَا لَفْظُهُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَشْرَفُ السُّوَرِ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْحَالَاتِ وَبَيَّنُوا مِنْ شَرَفِهَا عَلَى غَيْرِهَا مَا ذَكَرُوهُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْقَاضِي أَبِي حَازِمِ بْنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ قَالَ فِي تَعْلِيقِهِ - وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْت - قَالَ فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ : أَمَّا الطَّرِيقُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ : الصَّلَاةُ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ فِيهَا الْقِرَاءَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهَا أَشْرَفُ السُّورِ وَالْفَاتِحَةُ أَشْرَفُ السُّوَرِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ .
قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي تَمْهِيدِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَمْدَ أَشْرَفُ السُّوَرِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ : وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَشْرَفُ فَالنَّصُّ وَالْمَعْنَى وَالْحَكَمُ : أَمَّا النَّصُّ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ غَيْرِهَا . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ [ ص: 15 ] الخدري عَنْ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597926النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَاتِحَةُ الْكِتَابُ شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ } . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ مِنْ السَّمَاءِ أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً مِنْهَا : التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْفُرْقَانَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْمُفَصَّلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ . فَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَهَا كَانَ كَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَمَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْقُرْآنَ . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ قَابَلَهَا بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا يُدَانِيهَا غَيْرُهَا فِيهَا قُلْت : هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ . قَالَ : وَلِأَنَّهَا تُسَمَّى " أُمَّ الْقُرْآنِ " وَأُمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَمَادَّتُهُ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهَ مَكَّةَ " أُمَّ الْقُرَى " لِشَرَفِهَا عَلَيْهِنَّ . وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سُورَةٌ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ لِلرَّبِّ تَعَالَى وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597927قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي } الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنَزِّلْ مِثْلَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَيَسَّرَ قِرَاءَتُهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا لَا يَتَيَسَّرُ غَيْرُهَا مِنْ الْقُرْآنِ . [ ص: 16 ] وَتُضْرَبُ بِهَا الْأَمْثَالُ وَلِهَذَا يُقَالُ : فُلَانٌ يَحْفَظُ الشَّيْءَ مِثْلَ الْفَاتِحَةِ وَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَغَيْرُهَا لَا يُسَاوِيهَا فِي هَذَا فَاخْتَصَّتْ بِالشَّرَفِ وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَثَنَّى قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . قَالَ بَعْضُهُمْ : ثُنِّيَ نُزُولُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت : وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ . قَالَ : وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ تُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَيُكْرَهُ الْإِخْلَالُ بِهَا وَلَوْلَا أَنَّهَا أَشْرَفُ لَمَا اخْتَصَّتْ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَ الْمُنَازِعِينَ - يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِقِرَاءَتِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ .
فَنَقُولُ : لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ رُكْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِرُكْنِ فَإِنْ كَانَتْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا تُجْبَرَ بِالسُّجُودِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ سُجُودٌ . قُلْت : يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ فِي حَالِ الْعَمْدِ فَإِذَا سَهَا عَنْهُ وَجَبَ لَهُ السُّجُودُ وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَإِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَهُ وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ سَهَا عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْبِرَ مَا تَرَكَهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ لِأَنَّ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَهُمْ مَا إذَا تَرَكَهُ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ . كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ سَهْوًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ زَادَ عَمْدًا لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ . لَكِنَّ مَالِكًا وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا يَقُولَانِ : [ ص: 17 ] مَا كَانَ وَاجِبًا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِذَا تَرَكَهُ سَهْوًا فَمِنْهُ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَمِنْهُ مَا يَنْجَبِرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَتَرْكُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَتَرْكُ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ عَمْدُهُ وَيَجِبُ السُّجُودُ لِسَهْوِهِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ : الْوَاجِبُ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضِ - كَالْفَاتِحَةِ - إذَا تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يُفَرِّقُ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْوَاجِبِ . وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَجِّ هُوَ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قَالَ إنَّ الْفَاتِحَةَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهَا . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَأَمَّا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597928قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي . هَلْ تَعْلَمُ سُورَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا ؟ } فَمَعْنَاهُ مِثْلُهَا فِي جَمْعِهَا لِمَعَانِي الْخَيْرِ لِأَنَّ فِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ وَخَيْرٍ مِنْهُ لَا مِنْ سِوَاهُ فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ حُمِدَ غَيْرُهُ فَإِلَيْهِ يَعُودُ الْحَمْدُ . وَفِيهَا التَّعْظِيمُ لَهُ وَأَنَّهُ الرَّبُّ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَالْمُسْتَعَانُ . وَفِيهَا تَعْلِيمُ الدُّعَاءِ وَالْهُدَى وَمُجَانَبَةُ طَرِيقِ مَنْ ضَلَّ وَغَوَى . وَالدُّعَاءُ لُبَابُ الْعِبَادَةِ فَهِيَ أَجْمَعُ سُورَةٍ لِلْخَيْرِ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ مِثْلُهَا عَلَى هَذِهِ [ ص: 18 ] الْوُجُوهِ . قَالَ : وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَلَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا عَنْهَا . وَلَيْسَ هَذَا بِتَأْوِيلِ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ . قُلْت : يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كَوْنُ الصَّلَاةِ لَا تُجْزِئُ إلَّا بِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْأَوَّلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّهَا أَفْضَلُ السُّوَرِ .
وَرَوَاهُ nindex.php?page=showalam&ids=12508ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ وَزَادَ فِيهِ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ } . وَرُوِيَ أَنَّهَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597924سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ . } وَقَالَ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597925لَمْ يُرَ مَثَلُهُنَّ قَطُّ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ اللَّهِ لِكَوْنِ تِلْكَ الْآيَةِ قَدْ يَأْتِي بِمَثَلِهَا تَارَةً أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا أُخْرَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ [ ص: 11 ] الْآيَاتِ تَتَمَاثَلُ تَارَةً وَتَتَفَاضَلُ أُخْرَى . وَأَيْضًا فَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ جَمِيعُهَا كَلَامُ اللَّهِ مَعَ عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ . قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَغَيْرِ الْمُنَزَّلَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَدْ nindex.php?page=treesubj&link=29568سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَجِيدًا وَكَرِيمًا وَعَزِيزًا . وَقَدْ تَحَدَّى الْخَلْقَ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِمِثْلِ عَشْرِ سُورٍ مِنْهُ أَوْ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ فَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ } . وَقَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } . وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } وَخَصَّهُ بِأَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا هُوَ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِ وَلَا بِدُونِ قِرَاءَتِهِ وَلَا يُصَلِّي بِلَا قُرْآنٍ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ [ ص: 12 ] مَقَامَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=29566لَا يَقُومُ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ مَقَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ قِيلَ بِأَنَّهَا فَرْضٌ تُعَادُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا أَوْ قِيلَ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ يَأْثَمُ تَارِكُهَا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَوْ قِيلَ إنَّهَا سُنَّةٌ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ قِرَاءَةَ غَيْرِهَا مُسَاوٍ لِقِرَاءَتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . nindex.php?page=treesubj&link=29568وَخُصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ لَا يُمَسُّ مُصْحَفُهُ إلَّا طَاهِرٌ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ - مِثْلَ سَعْدٍ وَسَلْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ - وَجَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَمَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ كَتَبَهُ لَهُ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=29568لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ . وَتَفْضِيلُ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِأَحْكَامِ تُوجِبُ تَشْرِيفَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ وَهَذَا خِلَافُ مَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي شَرْعِهِ بَلْ وَفِي خَلْقِهِ وَخِلَافُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مَعَ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=55وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=17فَبَشِّرْ عِبَادِي } { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=18الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=145فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } . فَدَلَّ عَلَى [ ص: 13 ] أَنَّ فِيمَا أُنْزِلَ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ سَوَاءٌ كَانَ الْأَحْسَنُ هُوَ وَالنَّاسِخُ الَّذِي يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ دُونَ الْمَنْسُوخِ إذْ كَانَ لَا يَنْسَخُ آيَةً إلَّا يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ .
nindex.php?page=treesubj&link=29566وَالْقَوْلُ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ هُوَ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَلَامُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ثُلُثٌ مِنْهُ أَحْكَامٌ وَثُلُثٌ مِنْهُ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ مِنْهُ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ . وَهَذِهِ السُّورَةُ جَمَعَتْ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ . وَمِثْلَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي مَسْأَلَةِ nindex.php?page=treesubj&link=29566تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدٍ السمعاني الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ " الِاصْطِلَامِ " وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرْآنِ لَا تَخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ قُلْت : سَائِرُ الْأَحْكَامِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْعُمُومِ وَهَذَا عَلَى الْخُصُوصِ بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَنَا قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَعِنْدَكُمْ عَلَى السُّنَّةِ . قَالَ : وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لَمَّا وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ الْفَاتِحَةُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ امْتَازَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْإِعْجَازِ وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْجَازُ سُورَةٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ أَشْرَفُ السُّوَرِ لِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَلِأَنَّهَا تَصْلُحُ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ السُّورِ وَلَا [ ص: 14 ] تَصْلُحُ جَمِيعُ السُّورِ عِوَضًا عَنْهَا وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا تَشْتَمِلُ سُورَةٌ مَا عَلَى قَدْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ وَذَلِكَ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ لِلرَّبِّ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْعَبْدِ . فَإِذَا صَارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَشْرَفَ السُّوَرِ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ أَشْرَفَ الْحَالَاتِ فَتَعَيَّنَتْ أَشْرَفَ السُّوَرِ فِي أَشْرَفِ الْحَالَاتِ . هَذَا لَفْظُهُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَشْرَفُ السُّوَرِ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْحَالَاتِ وَبَيَّنُوا مِنْ شَرَفِهَا عَلَى غَيْرِهَا مَا ذَكَرُوهُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْقَاضِي أَبِي حَازِمِ بْنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ قَالَ فِي تَعْلِيقِهِ - وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْت - قَالَ فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ رُكْنًا فِي الصَّلَاةِ : أَمَّا الطَّرِيقُ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ : الصَّلَاةُ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ فِيهَا الْقِرَاءَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهَا أَشْرَفُ السُّورِ وَالْفَاتِحَةُ أَشْرَفُ السُّوَرِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ .
قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي تَمْهِيدِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إلَى شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَمْدَ أَشْرَفُ السُّوَرِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ : وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَشْرَفُ فَالنَّصُّ وَالْمَعْنَى وَالْحَكَمُ : أَمَّا النَّصُّ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ غَيْرِهَا . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ [ ص: 15 ] الخدري عَنْ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597926النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَاتِحَةُ الْكِتَابُ شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ } . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ مِنْ السَّمَاءِ أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً مِنْهَا : التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْفُرْقَانَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْمُفَصَّلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ . فَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَهَا كَانَ كَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَمَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْقُرْآنَ . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ قَابَلَهَا بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا يُدَانِيهَا غَيْرُهَا فِيهَا قُلْت : هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ . قَالَ : وَلِأَنَّهَا تُسَمَّى " أُمَّ الْقُرْآنِ " وَأُمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَمَادَّتُهُ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهَ مَكَّةَ " أُمَّ الْقُرَى " لِشَرَفِهَا عَلَيْهِنَّ . وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سُورَةٌ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ لِلرَّبِّ تَعَالَى وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597927قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي } الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ . قَالَ : وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنَزِّلْ مِثْلَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَيَسَّرَ قِرَاءَتُهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا لَا يَتَيَسَّرُ غَيْرُهَا مِنْ الْقُرْآنِ . [ ص: 16 ] وَتُضْرَبُ بِهَا الْأَمْثَالُ وَلِهَذَا يُقَالُ : فُلَانٌ يَحْفَظُ الشَّيْءَ مِثْلَ الْفَاتِحَةِ وَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَغَيْرُهَا لَا يُسَاوِيهَا فِي هَذَا فَاخْتَصَّتْ بِالشَّرَفِ وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَثَنَّى قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . قَالَ بَعْضُهُمْ : ثُنِّيَ نُزُولُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت : وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ . قَالَ : وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ تُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَيُكْرَهُ الْإِخْلَالُ بِهَا وَلَوْلَا أَنَّهَا أَشْرَفُ لَمَا اخْتَصَّتْ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَ الْمُنَازِعِينَ - يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِقِرَاءَتِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ .
فَنَقُولُ : لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ رُكْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِرُكْنِ فَإِنْ كَانَتْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا تُجْبَرَ بِالسُّجُودِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ سُجُودٌ . قُلْت : يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ فِي حَالِ الْعَمْدِ فَإِذَا سَهَا عَنْهُ وَجَبَ لَهُ السُّجُودُ وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَإِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَهُ وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ سَهَا عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْبِرَ مَا تَرَكَهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ لِأَنَّ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَهُمْ مَا إذَا تَرَكَهُ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ . كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ سَهْوًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ زَادَ عَمْدًا لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ . لَكِنَّ مَالِكًا وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا يَقُولَانِ : [ ص: 17 ] مَا كَانَ وَاجِبًا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِذَا تَرَكَهُ سَهْوًا فَمِنْهُ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَمِنْهُ مَا يَنْجَبِرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَتَرْكُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَتَرْكُ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ عَمْدُهُ وَيَجِبُ السُّجُودُ لِسَهْوِهِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ : الْوَاجِبُ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضِ - كَالْفَاتِحَةِ - إذَا تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يُفَرِّقُ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْوَاجِبِ . وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَجِّ هُوَ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قَالَ إنَّ الْفَاتِحَةَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهَا . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَأَمَّا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597928قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي . هَلْ تَعْلَمُ سُورَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا ؟ } فَمَعْنَاهُ مِثْلُهَا فِي جَمْعِهَا لِمَعَانِي الْخَيْرِ لِأَنَّ فِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ وَخَيْرٍ مِنْهُ لَا مِنْ سِوَاهُ فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ حُمِدَ غَيْرُهُ فَإِلَيْهِ يَعُودُ الْحَمْدُ . وَفِيهَا التَّعْظِيمُ لَهُ وَأَنَّهُ الرَّبُّ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَالْمُسْتَعَانُ . وَفِيهَا تَعْلِيمُ الدُّعَاءِ وَالْهُدَى وَمُجَانَبَةُ طَرِيقِ مَنْ ضَلَّ وَغَوَى . وَالدُّعَاءُ لُبَابُ الْعِبَادَةِ فَهِيَ أَجْمَعُ سُورَةٍ لِلْخَيْرِ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ مِثْلُهَا عَلَى هَذِهِ [ ص: 18 ] الْوُجُوهِ . قَالَ : وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَلَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا عَنْهَا . وَلَيْسَ هَذَا بِتَأْوِيلِ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ . قُلْت : يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كَوْنُ الصَّلَاةِ لَا تُجْزِئُ إلَّا بِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْأَوَّلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّهَا أَفْضَلُ السُّوَرِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ nindex.php?page=treesubj&link=29566_29568تَفْضِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ وَأَنَّ السَّلَفَ كُلَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ الْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يُفَضِّلُ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِهِ nindex.php?page=treesubj&link=29568_29566قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } . " وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ " قِيلَ إنَّهُ مَصْدَرٌ وَقِيلَ إنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ . قِيلَ : الْمَعْنَى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الِاقْتِصَاصِ كَمَا يُقَالُ نُكَلِّمُك أَحْسَنَ التَّكْلِيمِ وَنُبَيِّنُ لَك أَحْسَنَ الْبَيَانِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : نَحْنُ نُبَيِّنُ لَك أَحْسَنَ الْبَيَانِ . وَالْقَاصُّ الَّذِي يَأْتِي بِالْقِصَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا . قَالَ nindex.php?page=treesubj&link=29566وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } أَيْ بِوَحْيِنَا إلَيْك هَذَا الْقُرْآنَ وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْك هَذَا الْقُرْآنَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : نَقْرَأُ [ ص: 19 ] عَلَيْك أَحْسَنَ الْقِرَاءَةِ وَنَتَلُوا عَلَيْك أَحْسَنَ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ مَا يُقَصُّ أَيْ أَحْسَنَ الْأَخْبَارِ الْمَقْصُوصَاتِ كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=122وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=25فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } nindex.php?page=treesubj&link=28901وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } الْمُرَادُ خَبَرُهُمْ وَنَبَؤُهُمْ وَحَدِيثُهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْمَصْدَرِ . وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْمَعْنَى كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَنْصُوبَ قَدْ جَمَعَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُبَايِنُ فِيهَا الْفِعْلُ الْمَفْعُولَ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا انْتَصَبَ بِهَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ الْمَعْنَى الْآخَرُ .
وَمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ مِنْ النُّحَاةِ - كَالزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ - قَالُوا : الْقَصَصُ مَصْدَرٌ يُقَالُ قَصَّ أَثَرَهُ يَقُصُّهُ قَصَصًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=64فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } . وَكَذَلِكَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَتَقَصَّصَ وَقَدْ اقْتَصَصْت الْحَدِيثَ : رَوَيْته عَلَى وَجْهِهِ وَقَدْ اقْتَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ قَصَصًا . وَلَيْسَ الْقَصَصُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ قِصَّةٍ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ . فَإِنَّ ذَلِكَ يُقَالُ فِي قِصَصٍ بِالْكَسْرِ وَاحِدُهُ قِصَّةٌ وَالْقِصَّةُ هِيَ الْأَمْرُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُقَصُّ فِعْلَةُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَجَمْعُهُ قِصَصٌ بِالْكَسْرِ . وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } بِالْفَتْحِ لَمْ يَقُلْ أَحْسَنَ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَلَكِنْ [ ص: 20 ] بَعْضُ النَّاسِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَأَنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ قِصَّةُ يُوسُفَ وَذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . ثُمَّ ذَكَرُوا : لِمَ سُمِّيَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ؟ فَقِيلَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةٌ تَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالنُّكَتِ مَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْقِصَّةُ . وَقِيلَ : لِامْتِدَادِ الْأَوْقَاتِ بَيْنَ مُبْتَدَاهَا وَمُنْتَهَاهَا . وَقِيلَ لِحُسْنِ مُحَاوَرَةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى أَذَاهُمْ وَإِغْضَائِهِ عَنْ ذِكْرِ مَا تَعَاطَوْهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَكَرَمِهِ فِي الْعَفْوِ . وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَسِيَرِ الْمُلُوكِ وَالْمَمَالِيكِ وَالتُّجَّارِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمَكْرِهِنَّ وَحِيَلِهِنَّ وَفِيهَا أَيْضًا ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْفِقْهِ وَالسِّيَرِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالسِّيَاسَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَتَدْبِيرِ الْمَعَاشِ فَصَارَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَقِيلَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَبِيبِ وَالْمَحْبُوبِ . وَقِيلَ " أَحْسَنُ " بِمَعْنَى أَعْجَبَ . وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ " الْقَصَصَ " بِالْفَتْحِ هُوَ النَّبَأُ وَالْخَبَرُ وَيَقُولُونَ هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ( أَحْسَنَ الْقَصَصِ قِصَّةَ يُوسُفَ وَحْدَهَا بَلْ هِيَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْسَنِ الْقَصَصِ [ ص: 21 ] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28901الْعِبْرَةَ فِي قَصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَأَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَاقِبَتُهُمْ بِالنَّصْرِ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ وَلِهَذَا هِيَ nindex.php?page=treesubj&link=28901أَعْظَمُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ ثَنَّاهَا اللَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا وَبَسَطَهَا وَطَوَّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا ; بَلْ قَصَصُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُرْسَلِينَ - أَعْظَمُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَلِهَذَا ثَنَّى اللَّهُ تِلْكَ الْقَصَصَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُثَنِّ قِصَّةَ يُوسُفَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ عَادُوا يُوسُفَ لَمْ يُعَادُوهُ عَلَى الدِّينِ بَلْ عَادَوْهُ عَدَاوَةً دُنْيَوِيَّةً وَحَسَدُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ أَبِيهِ لَهُ وَظَلَمُوهُ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ وَابْتُلِيَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَنْ ظَلَمَهُ وَبِمَنْ دَعَاهُ إلَى الْفَاحِشَةِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَفِي هَذَا وَابْتُلِيَ أَيْضًا بِالْمُلْكِ فَابْتُلِيَ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَهَذَا فَكَانَتْ قِصَّتُهُ مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ وَهِيَ [ ص: 22 ] أَحْسَنُ مِنْ الْقَصَصِ الَّتِي لَمْ تُقَصَّ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يَظْلِمُونَ وَيَحْسُدُونَ وَيَدْعُونَ إلَى الْفَاحِشَةِ وَيُبْتَلَوْنَ بِالْمُلْكِ لَكِنْ لَيْسَ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ مِثْلَ يُوسُفَ وَلَا فِيهِمْ مَنْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَحْسَنَ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِثْلَ يُوسُفَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ Multitarajem.php?tid=15872,15873ذِي الْقَرْنَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا هِيَ فِي جِنْسِهَا أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا . فَقِصَّةُ Multitarajem.php?tid=15872,15873ذِي الْقَرْنَيْنِ أَحْسَنُ قَصَصِ الْمُلُوكِ وَقِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ أَحْسَنُ قَصَصِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا قَصَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا لَمْ يَقُصُّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنُ مَا قُصَّ فِي الْقُرْآنِ . وَأَيْنَ مَا جَرَى لِيُوسُفَ مِمَّا جَرَى لِمُوسَى وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الرُّسُلِ وَأَيْنَ مَا عُودِيَ أُولَئِكَ مِمَّا عُودِيَ فِيهِ يُوسُفُ وَأَيْنَ فَضْلُ أُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَعُلُوُّ دَرَجَتِهِمْ مِنْ يُوسُفَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ؟ وَأَيْنَ نَصْرُ أُولَئِكَ مِنْ نَصْرِ يُوسُفَ ؟ فَإِنَّ يُوسُفَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَأَذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ ظَلَمُوهُ ثُمَّ تَابُوا فَكَانَ فِيهَا مِنْ الْعِبْرَةِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28901_19572الْمَظْلُومَ الْمَحْسُودَ إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ وَأَنَّ الظَّالِمَ الْحَاسِدَ قَدْ [ ص: 23 ] يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَعْفُو عَنْهُ وَأَنَّ الْمَظْلُومَ يَنْبَغِي لَهُ الْعَفْوُ عَنْ ظَالِمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ . وَبِهَذَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597929اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ لَهُ الَّذِينَ عَادُوهُ وَحَارَبُوهُ مِنْ الطُّلَقَاءِ - فَقَالَ : مَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ فَقَالُوا : نَقُولُ أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ عَمٍّ كَرِيمٌ . فَقَالَ : إنِّي قَائِلٌ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=92لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } } . وَكَذَلِكَ { عَائِشَةُ لَمَّا ظُلِمَتْ وَافْتُرِيَ عَلَيْهَا وَقِيلَ لَهَا : إنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ فَقَالَتْ فِي كَلَامِهَا : أَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=18فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } } .
فَفِي قِصَّةِ يُوسُفَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِبْرَةِ لِلْمَظْلُومِ وَالْمَحْسُودِ وَالْمُبْتَلَى بِدَوَاعِي الْفَوَاحِشِ وَالذُّنُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . لَكِنْ أَيْنَ قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَالْمَسِيحِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ قِصَّتُهُ أَنَّهُ دَعَا الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ وَآذَوْا مَنْ آمَنَ بِهِ ؟ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أُوذُوا اخْتِيَارًا مِنْهُمْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فَعُودُوا وَأُوذُوا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ بِاخْتِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْلَا إيمَانُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ لَمَا أُوذُوا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أُوذِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا أُخِذَ يُوسُفُ مِنْ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ مِحْنَةُ يُوسُفَ بِالنِّسْوَةِ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَاخْتِيَارِهِ السِّجْنَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ [ ص: 24 ] أَعْظَمَ مِنْ إيمَانِهِ وَدَرَجَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَجْرِهِ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ لَهُ ; وَلِهَذَا يَعْظُمُ يُوسُفُ بِهَذَا أَعْظَمَ مِمَّا يَعْظُمُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَهَذَا كَالصَّبْرِ عَنْ الْمَعَاصِي مَعَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ فَالْأَوَّلُ أَعْظَمُ وَهُوَ صَبْرُ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : أَفْعَالُ الْبِرِّ يَفْعَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَلَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْمَعَاصِي إلَّا صِدِّيقٌ وَيُوسُفُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . وَأَمَّا مَنْ يُظْلَمُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَيَصْبِرُ فَهَذَا كَثِيرٌ وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سَلْوَ الْبَهَائِمِ . وَكَذَلِكَ إذَا مُكِّنَ الْمَظْلُومُ وَقَهَرَ ظَالِمَهُ فَتَابَ الظَّالِمُ وَخَضَعَ لَهُ فَعَفْوُهُ عَنْهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ وَالْفَضَائِلِ لَكِنَّ هَذَا يَفْعَلُهُ خَلْقٌ كَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَعُقَلَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ حِلْمَ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ أَجْمَعُ لِأَمْرِهِمْ وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُمْ وَتَأْلِيفِهِمْ لِقُلُوبِ النَّاسِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ مِنْ أَحْلَمِ النَّاسِ وَكَانَ الْمَأْمُونُ حَلِيمًا حَتَّى كَانَ يَقُولُ : لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَحَبَّتِي فِي الْعَفْوِ تَقَرَّبُوا إلَيَّ بِالذُّنُوبِ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَرَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِي الْمُلْكِ - وَهُوَ عَمُّهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ - عَفَا عَنْهُ . وَأَمَّا nindex.php?page=treesubj&link=19590_28901الصَّبْرُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَالْهَوَى الْغَالِبِ لِلَّهِ لَا رَجَاءً لِمَخْلُوقِ وَلَا خَوْفًا مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الدَّوَاعِي إلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَاخْتِيَارِهِ الْحَبْسَ الطَّوِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ يُوسُفُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=33رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } فَهَذَا لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ إلَّا فِي خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَائِهِ [ ص: 25 ] الْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَهَذَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَلِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ ذَنَبٌ أَصْلًا بَلْ الْهَمُّ الَّذِي هَمَّ بِهِ لَمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ تَوْبَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَآدَمَ وداود وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فَاحِشَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَوْبَاتُهُمْ مِنْ أُمُورٍ أُخَرَ هِيَ حَسَنَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ لِيُوسُفَ نَظِيرٌ فِيمَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ وَتَقْوَاهُ وَصَبْرِهِ فِي ذَلِكَ .
وَإِنَّمَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597931سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ قَلْبُهُ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ } وَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ الْفَاحِشَةَ أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ فَكَيْفَ بِصَبْرِ الرُّسُلِ عَلَى أَذَى الْمُكَذِّبِينَ لِئَلَّا يَتْرُكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ [ ص: 26 ] الْمُنْكَرِ ؟ فَهَذَا الصَّبْرُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذْ كَانَ الْجِهَادُ مَقْصُودًا بِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَالْجِهَادُ وَالصَّبْرُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=19005رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد والترمذي وَصَحَّحَهُ وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ الطَّوِيلِ - وَهُوَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ - فَالصَّبْرُ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ صَبْرُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي هَجَرَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَصَبْرُ الْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ وَجَاهَدَ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَالْمُهَاجِرُ الصَّابِرُ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ إنَّمَا جَاهَدَ نَفْسَهُ وَشَيْطَانَهُ ثُمَّ يُجَاهِدُ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَصَبْرُ الْمَظْلُومِ صَبْرُ الْمُصَابِ . لَكِنَّ الْمُصَابَ بِمُصِيبَةٍ سَمَاوِيَّةٍ تَصْبِرُ نَفْسُهُ مَا لَا تَصْبِرُ نَفْسُ مَنْ ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ ذَاكَ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ هَذَا فَتَيْأَسُ نَفْسُهُ مِنْ الدَّفْعِ وَالْمُعَاقَبَةِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ بِخِلَافِ الْمَظْلُومِ الَّذِي ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَسْتَشْعِرُ أَنَّ ظَالِمَهُ يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَعُقُوبَتُهُ وَأَخْذُ ثَأْرِهِ مِنْهُ فَالصَّبْرُ عَلَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ كَصَبْرِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَهَذَا يَكُونُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ فَيَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ كَالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ وَيَكُونُ أَيْضًا لِيَنَالَ ثَوَابَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ [ ص: 27 ] النَّاسِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَلِيُسْلِمَ قَلْبَهُ مِنْ الْغِلِّ لِلنَّاسِ وَكِلَا النَّوْعَيْنِ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِذُنُوبِهِ وَهُوَ مِمَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ وَأَيْضًا فَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْجَزَعَ مِمَّا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ . وَإِنْ ارْتَقَى إلَى الرِّضَا رَأَى أَنَّ الرِّضَا جَنَّةُ الدُّنْيَا وَمُسْتَرَاحُ الْعَابِدِينَ وَبَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ . وَإِنْ رَأَى ذَلِكَ نِعْمَةً لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَقُرْبِهِ إلَى اللَّهِ وَتَكْفِيرَ سَيِّئَاتِهِ وَصَوْنَهُ عَنْ ذُنُوبٍ تَدْعُوهُ إلَيْهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ شَكَرَ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ . فَالْمَصَائِبُ السَّمَاوِيَّةُ وَالْآدَمِيَّةُ تَشْتَرِكُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَعِلْمُهُمْ بِهَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ; وَلِهَذَا كَانَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَصَائِبِ وَغَيْرِهَا مُتَبَايِنَةً تَبَايُنًا عَظِيمًا . ثُمَّ إذَا شَهِدَ الْعَبْدُ الْقَدَرَ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُ فَهُوَ مَعَ الصَّبْرِ يُسَلِّمُ لِلرَّبِّ الْقَادِرِ الْمَالِكِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهَذَا حَالُ الصَّابِرِ وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ الْمُدَبِّرِ لَهُ بِحُسْنِ اخْتِيَارِهِ الَّذِي { nindex.php?page=hadith&LINKID=69351لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا تَسْلِيمُ رَاضٍ لِعِلْمِهِ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ وَهَذَا يُورِثُ الشُّكْرَ . وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ إلَيْهِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيْهِ بِنِعَمِ عَظِيمَةٍ . وَإِنْ لَمْ [ ص: 28 ] يَرَ هَذَا نِعْمَةً فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ تَسْلِيمَ رَاضٍ غَيْرَ شَاكِرٍ . وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ فَإِنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إلَّا لِحِكْمَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحَمْدِهِ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَهُ . فَهَذَا تَسْلِيمُ عَبْدٍ عَابِدٍ حَامِدٍ وَهَذَا مِنْ الْحَامِدِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ وَمِنْ بَيْنِهِمْ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ . وَهَذَا يَكُونُ الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ وَنِعْمَةً مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ . لَكِنْ يَكُونُ حَمْدُهُ لِلَّهِ وَرِضَاهُ بِقَضَائِهِ مِنْ حَيْثُ عَرَفَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ وَعَبَدَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيَكُونُ صَبْرُهُ وَرِضَاهُ وَحَمْدُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَهَذَا يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْإِلَهُ عِنْدَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا مُجَرَّدَ رُبُوبِيَّتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ مُجَرَّدَ إحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ فَإِنَّهُمَا مَشْهَدَانِ نَاقِصَانِ قَاصِرَانِ وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِمَا مَنْ نَقَصَ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ وَبِدِينِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَشْهَدُ أُولَئِكَ وَالثَّانِي مَشْهَدُ هَؤُلَاءِ وَشُهُودُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مَعَ شُهُودِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ مَعَ شُهُودِ إلَهِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَمَجْدِهِ هُوَ مَشْهَدُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ [ ص: 29 ] لِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فِي عُمُومِ الْمَصَائِبِ وَمَا يَكُونُ بِأَفْعَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُ فِيهِ كَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ عَنْ النَّاسِ . وَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ هَذَا وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرُ عَنْ الْفَاحِشَةِ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَيْهَا فَهَذَا الصَّبْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرِ بَلْ وَأَعْظَمُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ .
وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعَدَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=133وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=134الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=136أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } فَوَصَفَهُمْ بِالْكَرَمِ وَالْحِلْمِ وَبِالْإِنْفَاقِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ عَنْ النَّاسِ . ثُمَّ لَمَّا جَاءَتْ الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَاتُ وَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَقَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } فَوَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا لَا بِتَرْكِ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=28584كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ : فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْمَنْطِقُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . وَفِي الْحَدِيثِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597932كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } . فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْكَبِيرَةِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقَعُ فِي الْكَبِيرَةِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُؤْمَرُونَ أَنْ لَا يُصِرُّوا عَلَى صَغِيرَةٍ فَإِنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ . وَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَرَ عَلَى الذَّنْبِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا هَمٌّ تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُقَدِّمَاتِ مِثْلَ حَلِّ السَّرَاوِيلِ وَالْجُلُوسِ مَجْلِسَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا يُصَدَّقُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِثْلَ هَذِهِ الإسْرائيليَّاتِ إذَا لَمْ تُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْرَفْ صِدْقُهَا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهَا وَلَا تَكْذِيبُهَا إلَّا بِدَلِيلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ [ ص: 31 ] وَالْفَحْشَاءَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَ صَغِيرَةً لَتَابَ مِنْهَا . وَالْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَوْبَتِهِ . nindex.php?page=treesubj&link=28901_28965وَمَنْ وَقَعَ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْ صُرِفَ عَنْهُ بَلْ يَكُونُ قَدْ وَقَعَ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا .
وَقَدْ شَهِدَتْ النِّسْوَةُ لَهُ أَنَّهُنَّ مَا عَلِمْنَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَلَوْ كَانَ قَدْ بَدَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ رَأَتْ ذَلِكَ وَهِيَ مِنْ النِّسْوَةِ اللَّاتِي شَهِدْنَ وَقُلْنَ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَقَالَتْ مَعَ ذَلِكَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=32وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } وَقَالَتْ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=51أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } . وَقَوْلُهُ ( سُوءٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَرَ مِنْهُ سُوءًا فَإِنَّ الْهَمَّ فِي الْقَلْبِ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ وَلَوْ اطَّلَعَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذًا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ حَسَنَةً وَلَوْ تَرَكَهُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً فَإِنَّهُ لَا إثْمَ فِيهِ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ أَوْ الْعَمَلِ . وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ أَعْظَمُ وَالْوَاقِعُ فِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمَا فَعَلَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَمُجَاهَدَةِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلِهَذَا كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَمَا صَبَرُوا عَلَيْهِ وَعَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي صَبَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ وَعِبَادَتُهُمْ لِلَّهِ [ ص: 32 ] وَطَاعَتُهُمْ وَتَقْوَاهُمْ وَصَبْرُهُمْ بِمَا فَعَلُوهُ أَعْظَمُ مِنْ طَاعَةِ يُوسُفَ وَعِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ أُولَئِكَ أُولُوا الْعَزْمِ الَّذِينَ خَصَّهُمْ اللَّهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=7وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ تَطْلُبُ مِنْهُمْ الْأُمَمُ الشَّفَاعَةَ وَبِهِمْ أَمَرَ خَاتَمُ الرُّسُلِ أَنْ يُقْتَدَى فِي الصَّبْرِ فَقِيلَ لَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=35فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } فَقِصَصُهُمْ أَحْسَنُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ ; وَلِهَذَا ثَنَّاهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ لَا سِيَّمَا قِصَّةُ مُوسَى . قَالَ الْإِمَامُ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : أَحْسَنُ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ حَدِيثُ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى .
وَمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ مِنْ النُّحَاةِ - كَالزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ - قَالُوا : الْقَصَصُ مَصْدَرٌ يُقَالُ قَصَّ أَثَرَهُ يَقُصُّهُ قَصَصًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=64فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } . وَكَذَلِكَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَتَقَصَّصَ وَقَدْ اقْتَصَصْت الْحَدِيثَ : رَوَيْته عَلَى وَجْهِهِ وَقَدْ اقْتَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ قَصَصًا . وَلَيْسَ الْقَصَصُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ قِصَّةٍ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ . فَإِنَّ ذَلِكَ يُقَالُ فِي قِصَصٍ بِالْكَسْرِ وَاحِدُهُ قِصَّةٌ وَالْقِصَّةُ هِيَ الْأَمْرُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُقَصُّ فِعْلَةُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَجَمْعُهُ قِصَصٌ بِالْكَسْرِ . وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } بِالْفَتْحِ لَمْ يَقُلْ أَحْسَنَ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَلَكِنْ [ ص: 20 ] بَعْضُ النَّاسِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَأَنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ قِصَّةُ يُوسُفَ وَذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . ثُمَّ ذَكَرُوا : لِمَ سُمِّيَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ؟ فَقِيلَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ قِصَّةٌ تَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالنُّكَتِ مَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْقِصَّةُ . وَقِيلَ : لِامْتِدَادِ الْأَوْقَاتِ بَيْنَ مُبْتَدَاهَا وَمُنْتَهَاهَا . وَقِيلَ لِحُسْنِ مُحَاوَرَةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى أَذَاهُمْ وَإِغْضَائِهِ عَنْ ذِكْرِ مَا تَعَاطَوْهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَكَرَمِهِ فِي الْعَفْوِ . وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَسِيَرِ الْمُلُوكِ وَالْمَمَالِيكِ وَالتُّجَّارِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمَكْرِهِنَّ وَحِيَلِهِنَّ وَفِيهَا أَيْضًا ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْفِقْهِ وَالسِّيَرِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالسِّيَاسَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَتَدْبِيرِ الْمَعَاشِ فَصَارَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَقِيلَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَبِيبِ وَالْمَحْبُوبِ . وَقِيلَ " أَحْسَنُ " بِمَعْنَى أَعْجَبَ . وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ " الْقَصَصَ " بِالْفَتْحِ هُوَ النَّبَأُ وَالْخَبَرُ وَيَقُولُونَ هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ( أَحْسَنَ الْقَصَصِ قِصَّةَ يُوسُفَ وَحْدَهَا بَلْ هِيَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْسَنِ الْقَصَصِ [ ص: 21 ] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28901الْعِبْرَةَ فِي قَصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَأَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَاقِبَتُهُمْ بِالنَّصْرِ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ وَلِهَذَا هِيَ nindex.php?page=treesubj&link=28901أَعْظَمُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ ثَنَّاهَا اللَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا وَبَسَطَهَا وَطَوَّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا ; بَلْ قَصَصُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُرْسَلِينَ - أَعْظَمُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَلِهَذَا ثَنَّى اللَّهُ تِلْكَ الْقَصَصَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُثَنِّ قِصَّةَ يُوسُفَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ عَادُوا يُوسُفَ لَمْ يُعَادُوهُ عَلَى الدِّينِ بَلْ عَادَوْهُ عَدَاوَةً دُنْيَوِيَّةً وَحَسَدُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ أَبِيهِ لَهُ وَظَلَمُوهُ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ وَابْتُلِيَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَنْ ظَلَمَهُ وَبِمَنْ دَعَاهُ إلَى الْفَاحِشَةِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَفِي هَذَا وَابْتُلِيَ أَيْضًا بِالْمُلْكِ فَابْتُلِيَ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَهَذَا فَكَانَتْ قِصَّتُهُ مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ وَهِيَ [ ص: 22 ] أَحْسَنُ مِنْ الْقَصَصِ الَّتِي لَمْ تُقَصَّ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يَظْلِمُونَ وَيَحْسُدُونَ وَيَدْعُونَ إلَى الْفَاحِشَةِ وَيُبْتَلَوْنَ بِالْمُلْكِ لَكِنْ لَيْسَ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ مِثْلَ يُوسُفَ وَلَا فِيهِمْ مَنْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَحْسَنَ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِثْلَ يُوسُفَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ Multitarajem.php?tid=15872,15873ذِي الْقَرْنَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا هِيَ فِي جِنْسِهَا أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا . فَقِصَّةُ Multitarajem.php?tid=15872,15873ذِي الْقَرْنَيْنِ أَحْسَنُ قَصَصِ الْمُلُوكِ وَقِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ أَحْسَنُ قَصَصِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا قَصَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا لَمْ يَقُصُّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنُ مَا قُصَّ فِي الْقُرْآنِ . وَأَيْنَ مَا جَرَى لِيُوسُفَ مِمَّا جَرَى لِمُوسَى وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الرُّسُلِ وَأَيْنَ مَا عُودِيَ أُولَئِكَ مِمَّا عُودِيَ فِيهِ يُوسُفُ وَأَيْنَ فَضْلُ أُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَعُلُوُّ دَرَجَتِهِمْ مِنْ يُوسُفَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ؟ وَأَيْنَ نَصْرُ أُولَئِكَ مِنْ نَصْرِ يُوسُفَ ؟ فَإِنَّ يُوسُفَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَأَذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ ظَلَمُوهُ ثُمَّ تَابُوا فَكَانَ فِيهَا مِنْ الْعِبْرَةِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28901_19572الْمَظْلُومَ الْمَحْسُودَ إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ وَأَنَّ الظَّالِمَ الْحَاسِدَ قَدْ [ ص: 23 ] يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَعْفُو عَنْهُ وَأَنَّ الْمَظْلُومَ يَنْبَغِي لَهُ الْعَفْوُ عَنْ ظَالِمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ . وَبِهَذَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597929اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ لَهُ الَّذِينَ عَادُوهُ وَحَارَبُوهُ مِنْ الطُّلَقَاءِ - فَقَالَ : مَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ فَقَالُوا : نَقُولُ أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ عَمٍّ كَرِيمٌ . فَقَالَ : إنِّي قَائِلٌ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=92لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } } . وَكَذَلِكَ { عَائِشَةُ لَمَّا ظُلِمَتْ وَافْتُرِيَ عَلَيْهَا وَقِيلَ لَهَا : إنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ فَقَالَتْ فِي كَلَامِهَا : أَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=18فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } } .
فَفِي قِصَّةِ يُوسُفَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِبْرَةِ لِلْمَظْلُومِ وَالْمَحْسُودِ وَالْمُبْتَلَى بِدَوَاعِي الْفَوَاحِشِ وَالذُّنُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . لَكِنْ أَيْنَ قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَالْمَسِيحِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ قِصَّتُهُ أَنَّهُ دَعَا الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ وَآذَوْا مَنْ آمَنَ بِهِ ؟ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أُوذُوا اخْتِيَارًا مِنْهُمْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فَعُودُوا وَأُوذُوا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ بِاخْتِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْلَا إيمَانُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ لَمَا أُوذُوا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أُوذِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا أُخِذَ يُوسُفُ مِنْ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ مِحْنَةُ يُوسُفَ بِالنِّسْوَةِ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَاخْتِيَارِهِ السِّجْنَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ [ ص: 24 ] أَعْظَمَ مِنْ إيمَانِهِ وَدَرَجَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَجْرِهِ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ لَهُ ; وَلِهَذَا يَعْظُمُ يُوسُفُ بِهَذَا أَعْظَمَ مِمَّا يَعْظُمُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَهَذَا كَالصَّبْرِ عَنْ الْمَعَاصِي مَعَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ فَالْأَوَّلُ أَعْظَمُ وَهُوَ صَبْرُ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : أَفْعَالُ الْبِرِّ يَفْعَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَلَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْمَعَاصِي إلَّا صِدِّيقٌ وَيُوسُفُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . وَأَمَّا مَنْ يُظْلَمُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَيَصْبِرُ فَهَذَا كَثِيرٌ وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سَلْوَ الْبَهَائِمِ . وَكَذَلِكَ إذَا مُكِّنَ الْمَظْلُومُ وَقَهَرَ ظَالِمَهُ فَتَابَ الظَّالِمُ وَخَضَعَ لَهُ فَعَفْوُهُ عَنْهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ وَالْفَضَائِلِ لَكِنَّ هَذَا يَفْعَلُهُ خَلْقٌ كَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَعُقَلَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ حِلْمَ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ أَجْمَعُ لِأَمْرِهِمْ وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُمْ وَتَأْلِيفِهِمْ لِقُلُوبِ النَّاسِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ مِنْ أَحْلَمِ النَّاسِ وَكَانَ الْمَأْمُونُ حَلِيمًا حَتَّى كَانَ يَقُولُ : لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَحَبَّتِي فِي الْعَفْوِ تَقَرَّبُوا إلَيَّ بِالذُّنُوبِ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَرَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِي الْمُلْكِ - وَهُوَ عَمُّهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ - عَفَا عَنْهُ . وَأَمَّا nindex.php?page=treesubj&link=19590_28901الصَّبْرُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَالْهَوَى الْغَالِبِ لِلَّهِ لَا رَجَاءً لِمَخْلُوقِ وَلَا خَوْفًا مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الدَّوَاعِي إلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَاخْتِيَارِهِ الْحَبْسَ الطَّوِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ يُوسُفُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=33رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } فَهَذَا لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ إلَّا فِي خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَائِهِ [ ص: 25 ] الْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَهَذَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَلِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ ذَنَبٌ أَصْلًا بَلْ الْهَمُّ الَّذِي هَمَّ بِهِ لَمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ تَوْبَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَآدَمَ وداود وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فَاحِشَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَوْبَاتُهُمْ مِنْ أُمُورٍ أُخَرَ هِيَ حَسَنَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ لِيُوسُفَ نَظِيرٌ فِيمَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ وَتَقْوَاهُ وَصَبْرِهِ فِي ذَلِكَ .
وَإِنَّمَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597931سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ قَلْبُهُ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ } وَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ الْفَاحِشَةَ أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ فَكَيْفَ بِصَبْرِ الرُّسُلِ عَلَى أَذَى الْمُكَذِّبِينَ لِئَلَّا يَتْرُكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ [ ص: 26 ] الْمُنْكَرِ ؟ فَهَذَا الصَّبْرُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذْ كَانَ الْجِهَادُ مَقْصُودًا بِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَالْجِهَادُ وَالصَّبْرُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=19005رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد والترمذي وَصَحَّحَهُ وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ الطَّوِيلِ - وَهُوَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ - فَالصَّبْرُ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ صَبْرُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي هَجَرَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَصَبْرُ الْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ وَجَاهَدَ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَالْمُهَاجِرُ الصَّابِرُ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ إنَّمَا جَاهَدَ نَفْسَهُ وَشَيْطَانَهُ ثُمَّ يُجَاهِدُ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَصَبْرُ الْمَظْلُومِ صَبْرُ الْمُصَابِ . لَكِنَّ الْمُصَابَ بِمُصِيبَةٍ سَمَاوِيَّةٍ تَصْبِرُ نَفْسُهُ مَا لَا تَصْبِرُ نَفْسُ مَنْ ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ ذَاكَ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ هَذَا فَتَيْأَسُ نَفْسُهُ مِنْ الدَّفْعِ وَالْمُعَاقَبَةِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ بِخِلَافِ الْمَظْلُومِ الَّذِي ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَسْتَشْعِرُ أَنَّ ظَالِمَهُ يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَعُقُوبَتُهُ وَأَخْذُ ثَأْرِهِ مِنْهُ فَالصَّبْرُ عَلَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ كَصَبْرِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَهَذَا يَكُونُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ فَيَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ كَالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ وَيَكُونُ أَيْضًا لِيَنَالَ ثَوَابَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ [ ص: 27 ] النَّاسِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَلِيُسْلِمَ قَلْبَهُ مِنْ الْغِلِّ لِلنَّاسِ وَكِلَا النَّوْعَيْنِ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِذُنُوبِهِ وَهُوَ مِمَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ وَأَيْضًا فَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْجَزَعَ مِمَّا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ . وَإِنْ ارْتَقَى إلَى الرِّضَا رَأَى أَنَّ الرِّضَا جَنَّةُ الدُّنْيَا وَمُسْتَرَاحُ الْعَابِدِينَ وَبَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ . وَإِنْ رَأَى ذَلِكَ نِعْمَةً لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَقُرْبِهِ إلَى اللَّهِ وَتَكْفِيرَ سَيِّئَاتِهِ وَصَوْنَهُ عَنْ ذُنُوبٍ تَدْعُوهُ إلَيْهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ شَكَرَ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ . فَالْمَصَائِبُ السَّمَاوِيَّةُ وَالْآدَمِيَّةُ تَشْتَرِكُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَعِلْمُهُمْ بِهَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ; وَلِهَذَا كَانَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَصَائِبِ وَغَيْرِهَا مُتَبَايِنَةً تَبَايُنًا عَظِيمًا . ثُمَّ إذَا شَهِدَ الْعَبْدُ الْقَدَرَ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُ فَهُوَ مَعَ الصَّبْرِ يُسَلِّمُ لِلرَّبِّ الْقَادِرِ الْمَالِكِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهَذَا حَالُ الصَّابِرِ وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ الْمُدَبِّرِ لَهُ بِحُسْنِ اخْتِيَارِهِ الَّذِي { nindex.php?page=hadith&LINKID=69351لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا تَسْلِيمُ رَاضٍ لِعِلْمِهِ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ وَهَذَا يُورِثُ الشُّكْرَ . وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ إلَيْهِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيْهِ بِنِعَمِ عَظِيمَةٍ . وَإِنْ لَمْ [ ص: 28 ] يَرَ هَذَا نِعْمَةً فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ تَسْلِيمَ رَاضٍ غَيْرَ شَاكِرٍ . وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ فَإِنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إلَّا لِحِكْمَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحَمْدِهِ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَهُ . فَهَذَا تَسْلِيمُ عَبْدٍ عَابِدٍ حَامِدٍ وَهَذَا مِنْ الْحَامِدِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ وَمِنْ بَيْنِهِمْ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ . وَهَذَا يَكُونُ الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ وَنِعْمَةً مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ . لَكِنْ يَكُونُ حَمْدُهُ لِلَّهِ وَرِضَاهُ بِقَضَائِهِ مِنْ حَيْثُ عَرَفَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ وَعَبَدَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيَكُونُ صَبْرُهُ وَرِضَاهُ وَحَمْدُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَهَذَا يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْإِلَهُ عِنْدَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا مُجَرَّدَ رُبُوبِيَّتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ مُجَرَّدَ إحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ فَإِنَّهُمَا مَشْهَدَانِ نَاقِصَانِ قَاصِرَانِ وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِمَا مَنْ نَقَصَ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ وَبِدِينِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَشْهَدُ أُولَئِكَ وَالثَّانِي مَشْهَدُ هَؤُلَاءِ وَشُهُودُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مَعَ شُهُودِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ مَعَ شُهُودِ إلَهِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَمَجْدِهِ هُوَ مَشْهَدُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ [ ص: 29 ] لِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فِي عُمُومِ الْمَصَائِبِ وَمَا يَكُونُ بِأَفْعَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُ فِيهِ كَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ عَنْ النَّاسِ . وَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ هَذَا وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرُ عَنْ الْفَاحِشَةِ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَيْهَا فَهَذَا الصَّبْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرِ بَلْ وَأَعْظَمُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ .
وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعَدَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=133وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=134الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=136أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } فَوَصَفَهُمْ بِالْكَرَمِ وَالْحِلْمِ وَبِالْإِنْفَاقِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ عَنْ النَّاسِ . ثُمَّ لَمَّا جَاءَتْ الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَاتُ وَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَقَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } فَوَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا لَا بِتَرْكِ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=28584كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ : فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْمَنْطِقُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } . وَفِي الْحَدِيثِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597932كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } . فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْكَبِيرَةِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقَعُ فِي الْكَبِيرَةِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُؤْمَرُونَ أَنْ لَا يُصِرُّوا عَلَى صَغِيرَةٍ فَإِنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ . وَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَرَ عَلَى الذَّنْبِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا هَمٌّ تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُقَدِّمَاتِ مِثْلَ حَلِّ السَّرَاوِيلِ وَالْجُلُوسِ مَجْلِسَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا يُصَدَّقُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِثْلَ هَذِهِ الإسْرائيليَّاتِ إذَا لَمْ تُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْرَفْ صِدْقُهَا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهَا وَلَا تَكْذِيبُهَا إلَّا بِدَلِيلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ [ ص: 31 ] وَالْفَحْشَاءَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَ صَغِيرَةً لَتَابَ مِنْهَا . وَالْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَوْبَتِهِ . nindex.php?page=treesubj&link=28901_28965وَمَنْ وَقَعَ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْ صُرِفَ عَنْهُ بَلْ يَكُونُ قَدْ وَقَعَ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا .
وَقَدْ شَهِدَتْ النِّسْوَةُ لَهُ أَنَّهُنَّ مَا عَلِمْنَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَلَوْ كَانَ قَدْ بَدَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ رَأَتْ ذَلِكَ وَهِيَ مِنْ النِّسْوَةِ اللَّاتِي شَهِدْنَ وَقُلْنَ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَقَالَتْ مَعَ ذَلِكَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=32وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } وَقَالَتْ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=51أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } . وَقَوْلُهُ ( سُوءٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَرَ مِنْهُ سُوءًا فَإِنَّ الْهَمَّ فِي الْقَلْبِ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ وَلَوْ اطَّلَعَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذًا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ حَسَنَةً وَلَوْ تَرَكَهُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً فَإِنَّهُ لَا إثْمَ فِيهِ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ أَوْ الْعَمَلِ . وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ أَعْظَمُ وَالْوَاقِعُ فِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمَا فَعَلَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَمُجَاهَدَةِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلِهَذَا كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَمَا صَبَرُوا عَلَيْهِ وَعَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي صَبَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ وَعِبَادَتُهُمْ لِلَّهِ [ ص: 32 ] وَطَاعَتُهُمْ وَتَقْوَاهُمْ وَصَبْرُهُمْ بِمَا فَعَلُوهُ أَعْظَمُ مِنْ طَاعَةِ يُوسُفَ وَعِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ أُولَئِكَ أُولُوا الْعَزْمِ الَّذِينَ خَصَّهُمْ اللَّهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=7وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ تَطْلُبُ مِنْهُمْ الْأُمَمُ الشَّفَاعَةَ وَبِهِمْ أَمَرَ خَاتَمُ الرُّسُلِ أَنْ يُقْتَدَى فِي الصَّبْرِ فَقِيلَ لَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=35فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } فَقِصَصُهُمْ أَحْسَنُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ ; وَلِهَذَا ثَنَّاهَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ لَا سِيَّمَا قِصَّةُ مُوسَى . قَالَ الْإِمَامُ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : أَحْسَنُ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ حَدِيثُ تَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي nindex.php?page=treesubj&link=29453_29463التِّلَاوَةِ وَالْقُرْآنِ هَلْ هِيَ الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ تَفَطَّنَ nindex.php?page=showalam&ids=13436ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ لِمَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَبَبُ الِاشْتِبَاهِ أَنَّ الْمَتْلُوَّ هُوَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ وَالتِّلَاوَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا هَذَا وَقَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ حَرَكَةِ التَّالِي [ ص: 35 ] وَفِعْلِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فَمَنْ قَالَ : التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ أَرَادَ بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ الْقُرْآنِ الْمَسْمُوعِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَتْلُوُّ وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ أَرَادَ بِالتِّلَاوَةِ حَرَكَةَ الْعَبْدِ وَفِعْلَهُ وَتِلْكَ لَيْسَتْ هِيَ الْقُرْآنُ وَمَنْ نَهَى عَنْ أَنْ يُقَالَ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ أَوْ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ فَلِأَنَّ لَفْظَ التِّلَاوَةِ يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ كَمَا نَهَى nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ أَنْ يُقَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ نَفْسُهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَيُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَطْلَقَ نَاسٌ آخَرُونَ أَنَّ لَفْظِي بِهِ مَخْلُوقٌ قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=13436ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَمْ يَتَنَازَعْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَهَذَا كَانَ تَنَازُعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُ . ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ قَالُوا : التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ وَأَرَادُوا بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ وَأَرَادُوا بِالْمَتْلُوِّ مَعْنًى وَاحِدًا قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَأَرَادُوا بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرْآنِ جَعَلُوا مَا سَمِعَ مِنْ الْأَصْوَاتِ هُوَ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلَّغِ لَهُ عَنْهُ فَزَادَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْبِدَعِ مَا لَمْ يَكُنْ يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ [ ص: 36 ] السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَجْعَلُ الْمَتْلُوَّ مُجَرَّدَ مَعْنًى وَلَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ - وَغَيْرُهَا مِنْ خَصَائِصِهِمْ - غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ هُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29453الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي nindex.php?page=treesubj&link=29463تِلَاوَةِ الْعِبَادِ لَهُ : هَلْ هِيَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ أَمْ هِيَ الْفِعْلُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ ؟ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ " التِّلَاوَةِ " يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا وَلَفْظُ " الْقُرْآنِ " يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=17إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=18فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=19ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي قَلْبِك وَتَقْرَأَهُ بِلِسَانِك . وَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : يُقَالُ قَرَأْت الْكِتَابَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ :
وَالْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=45وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فَكَذَلِكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لَكِنَّ فِي كِلَاهُمَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فَفِيهِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَمَعْنَى الْمَصْدَرِ جَمِيعًا وَقَدْ يَغْلِبُ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=17إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } فَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَقَدْ يَغْلِبُ هَذَا تَارَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=204فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وَغَالِبُ مَا يَذْكُرُ لَفْظَ " الْقُرْآنِ " إنَّمَا يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ لَا يُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمُ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ . وَمِثْلَ هَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ إمَّا دَائِمًا وَإِمَّا غَالِبًا فَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَيْهِمَا وَيَغْلِبُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَقَدْ يَقَعُ عَلَى أَحَدِهِمَا مُفْرَدًا كَلَفْظِ " النَّهْرِ " وَ " الْقَرْيَةِ " وَ " الْمِيزَابِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ حَالٌ وَمَحَلُّ فَالِاسْمِ يَتَنَاوَلُ مَجْرَى الْمَاءِ وَالْمَاءُ الْجَارِي وَكَذَلِكَ لَفْظُ [ ص: 38 ] الْقَرْيَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ وَالسُّكَّانَ ثُمَّ تَقُولُ : حَفَرَ النَّهْرَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَجْرَى وَتَقُولُ جَرَى النَّهْرُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ وَتَقُولُ جَرَى الْمِيزَابُ تَعْنِي الْمَاءَ وَنَصَبَ الْمِيزَابَ تَعْنِي الْخَشَبَ .
وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ } وَالْمُرَادُ السُّكَّانُ فِي الْمَكَانِ وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=4وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=59وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=102وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=7لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=45فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } وَالْخَاوِي عَلَى عُرُوشِهِ الْمَكَانُ لَا السُّكَّانُ وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْقَرْيَةِ هُمْ السُّكَّانُ كَانَ إرَادَتُهُمْ أَكْثَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ النَّهْرِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَاءُ كَانَ إرَادَتُهُ أَكْثَرَ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=33وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا } فَهَذَا كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ حَفَرْنَا النَّهْرَ . وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=29463إطْلَاقُ لَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْسِ الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِنْ إطْلَاقِهِ عَلَى نَفْسِ التَّكَلُّمِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَالْقَصَصِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ [ ص: 39 ] الْكَلَامِ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِمَّا يُرَادُ بِهَا فِعْلُ الْمُتَكَلِّمِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَأَرَادُوا بِالتِّلَاوَةِ نَفْسَ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرْآنِ جَعَلُوا مَا سَمِعَ مِنْ الْأَصْوَاتِ هُوَ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلَّغِ لَهُ عَنْهُ فَزَادَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْبِدَعِ مَا لَمْ يَكُنْ يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ [ ص: 36 ] السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَجْعَلُ الْمَتْلُوَّ مُجَرَّدَ مَعْنًى وَلَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ - وَغَيْرُهَا مِنْ خَصَائِصِهِمْ - غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ هُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29453الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي nindex.php?page=treesubj&link=29463تِلَاوَةِ الْعِبَادِ لَهُ : هَلْ هِيَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ أَمْ هِيَ الْفِعْلُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ ؟ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ " التِّلَاوَةِ " يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا وَلَفْظُ " الْقُرْآنِ " يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=17إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=18فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=19ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي قَلْبِك وَتَقْرَأَهُ بِلِسَانِك . وَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : يُقَالُ قَرَأْت الْكِتَابَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ :
ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانَ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=98فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=45وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=204وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَهْم إنَّمَا يَسْتَمِعُونَ الْكَلَامَ نَفْسَهُ وَلَا يَسْتَمِعُونَ [ ص: 37 ] مُسَمَّى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْمَعُ فَقَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ بَابِ نَقْرَأُ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ وَنَتْلُو عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=3نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=18فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْ قِرَاءَةَ جِبْرِيلَ { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=18فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } فَاسْتَمِعْ لَهُ حَتَّى يَقْضِيَ قِرَاءَتَهُ .وَالْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=45وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فَكَذَلِكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لَكِنَّ فِي كِلَاهُمَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فَفِيهِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَمَعْنَى الْمَصْدَرِ جَمِيعًا وَقَدْ يَغْلِبُ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=17إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } فَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَقَدْ يَغْلِبُ هَذَا تَارَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=204فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وَغَالِبُ مَا يَذْكُرُ لَفْظَ " الْقُرْآنِ " إنَّمَا يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ لَا يُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمُ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ . وَمِثْلَ هَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ إمَّا دَائِمًا وَإِمَّا غَالِبًا فَيُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَيْهِمَا وَيَغْلِبُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَقَدْ يَقَعُ عَلَى أَحَدِهِمَا مُفْرَدًا كَلَفْظِ " النَّهْرِ " وَ " الْقَرْيَةِ " وَ " الْمِيزَابِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ حَالٌ وَمَحَلُّ فَالِاسْمِ يَتَنَاوَلُ مَجْرَى الْمَاءِ وَالْمَاءُ الْجَارِي وَكَذَلِكَ لَفْظُ [ ص: 38 ] الْقَرْيَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ وَالسُّكَّانَ ثُمَّ تَقُولُ : حَفَرَ النَّهْرَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَجْرَى وَتَقُولُ جَرَى النَّهْرُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ وَتَقُولُ جَرَى الْمِيزَابُ تَعْنِي الْمَاءَ وَنَصَبَ الْمِيزَابَ تَعْنِي الْخَشَبَ .
وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ } وَالْمُرَادُ السُّكَّانُ فِي الْمَكَانِ وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=4وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=59وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } وَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=102وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=7لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=45فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } وَالْخَاوِي عَلَى عُرُوشِهِ الْمَكَانُ لَا السُّكَّانُ وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْقَرْيَةِ هُمْ السُّكَّانُ كَانَ إرَادَتُهُمْ أَكْثَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ النَّهْرِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَاءُ كَانَ إرَادَتُهُ أَكْثَرَ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=33وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا } فَهَذَا كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ حَفَرْنَا النَّهْرَ . وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=29463إطْلَاقُ لَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْسِ الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِنْ إطْلَاقِهِ عَلَى نَفْسِ التَّكَلُّمِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَالْقَصَصِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ [ ص: 39 ] الْكَلَامِ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْكَلَامِ أَكْثَرَ مِمَّا يُرَادُ بِهَا فِعْلُ الْمُتَكَلِّمِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَمِمَّنْ ذَكَرَ nindex.php?page=treesubj&link=29566 " تَفْضِيلَ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ فِي نَفْسِهِ " أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا كَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَأَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَمِثْلِ nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْحَلْوَانِيِّ الْكَبِيرِ وَابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ Multitarajem.php?tid=13371,13372وَابْنِ عَقِيلٍ قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي [ ص: 47 ] " كِتَابِ الْوَاضِحِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ بِالسَّنَةِ قَالَ : فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَيْسَتْ السُّنَّةُ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَلَا خَيْرًا مِنْهُ فَبَطَلَ النَّسْخُ بِهَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ وَهُوَ كَوْنُ خَبَرِهِ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ فَمَا أَدَّى إلَيْهِ فَهُوَ مُحَالٌ .
قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَصْلُ اسْتِدْلَالِكُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْفَضْلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ فِي حَقِّنَا : إمَّا سُهُولَةٌ فِي التَّكْلِيفِ فَهُوَ خَيْرٌ عَاجِلٌ أَوْ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِكَوْنِهِ أَثْقَلَ وَأَشَقَّ وَيَكُونُ نَفْعًا فِي الْآجِلِ وَالْعَاقِبَةِ وَكِلَاهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ .
وَيَحْتَمِلُ : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَا نَاسِخًا لَهَا بَلْ يَكُونُ تَكْلِيفًا مُبْتَدَأً هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الْقُرْآنَ النَّاسِخَ وَلَا السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ . قَالُوا : يُوَضِّحُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ لَيْسَ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْرِفُوا اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ خَيْرٍ يَعُودُ إلَى التَّكْلِيفِ لَا إلَى الطَّرِيقِ .
وَقَالَ فِي الْجَوَابِ : قَوْلُهُمْ : الْخَيْرُ يَرْجِعُ إلَى مَا يَخُصُّنَا مِنْ سُهُولَةٍ أَوْ ثَوَابٍ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ : " لَكُمْ " . فَلَمَّا حَذَفَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ كَوْنُ النَّاسِخِ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ وَمِنْ جِهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي : [ ص: 48 ] بِآيَاتِ خَيْرٍ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَعُودُ إلَى الْجِنْسِ كَمَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ : مَا آخُذُ مِنْك دِينَارًا إلَّا أُعْطِيك خَيْرًا مِنْهُ لَا يُعْقَلُ بِالْإِطْلَاقِ إلَّا دِينَارًا خَيْرًا مِنْهُ فَيَتَخَيَّرُ مِنْ الْجِنْسِ أَوَّلًا ثُمَّ النَّفْعِ فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى ثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ غَيْرِ الدِّينَارِ فَلَا وَفِي آخِرِ الْآيَةِ مَا يَشْهَدُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَوَصْفُهُ لِنَفَسِهِ بِالْقُدْرَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ هُوَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ مِثْلِهَا } يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ يَقْتَضِي إطْلَاقَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَنَّثَهَا تَأْنِيثَ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : نَأْتِ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ بِآيَةِ مِثْلِهَا . " قُلْت " : وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَخَفَّ عَمَلًا أَوْ أَشَقَّ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا لِأَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ثَابِتَانِ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُبْتَدَأً وَنَاسِخًا فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَيْسَرَ مِنْ غَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشَقَّ فَيَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لَازِمَةً لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُقَالَ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ أَيْضًا يَكُونُ خَيْرًا وَمَثَلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُمْ إنْ فَسَّرُوا الْخَيْرَ بِكَوْنِهِ أَسْهَلَ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ أَسْهَلَ فَيَكُونُ خَيْرًا وَإِنْ فَسَّرُوهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ أَجْرًا لِمَشَقَّتِهِ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِمَّا يَنْسَخُهُ أَوْ مِثْلِهِ فَلَا يَأْتِي بِمَا هُوَ دُونَهُ .
[ ص: 49 ] وَأَيْضًا فَعَلَى مَا قَالُوهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ بَلْ إنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ السُّهُولَةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْأَجْرِ . قَالَ Multitarajem.php?tid=13371,13372ابْنُ عَقِيلٍ : وَأَمَّا nindex.php?page=treesubj&link=28901_29566قَوْلُهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَخَايَرُ وَلَا يَتَفَاضَلُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْخَيْرَ الَّذِي هُوَ الْأَفْضَلِيَّةُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ الَّذِي فِي " سُورَةِ الْإِخْلَاصِ " وَمَا ضَمِنَهَا مِنْ نَفْيِ التَّجَزُّؤِ وَالِانْقِسَامِ أَفْضَلُ مِنْ " تَبَّتْ " الْمُتَضَمِّنَةِ ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ وَذَمِّ زَوْجَتِهِ إنْ شِئْت فِي كَوْنِ الْمَدْحِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَدْحِ وَإِنْ شِئْت فِي الْإِعْجَازِ فَإِنَّ تِلَاوَةَ غَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْهَا الْفَصَاحَةُ وَالْبَيَانُ أَفْضَلُ وَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا لَا يَكُونُ التَّفَاضُلُ لِمَعْنَى يَعُودُ إلَى الْكَلَامِ ثَانِيًا كَمَا أَنَّ الْمُرْسَلَ وَاحِدٌ لِذِي النُّونِ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ مِنْ ذِي النُّونِ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } لَا يَكُونُ نَاسِخًا بَلْ مُبْتَدَأً فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَزَاءِ مَجْزُومًا وَهَذَا يُعْطِي الْبَدَلِيَّةَ وَالْمُقَابَلَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ : إنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك وَإِنْ أَطَعْتَنِي أَطَعْتُك يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُقَابَلَةً وَبَدَلًا لَا فِعْلًا مُبْتَدَأً . قُلْت : الْمَقْصِدُ هُنَا ذِكْرُ مَا نَصَرَهُ - مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِهِ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ - لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ صَرَّحُوا بِأَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ " جَوَاهِرُ الْقُرْآنِ " قَالَ : [ ص: 50 ] لَعَلَّك تَقُولُ قَدْ تَوَجَّهَ قَصْدُك فِي هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ إلَى nindex.php?page=treesubj&link=29566تَفْضِيلِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ وَالْكُلُّ كَلَامُ اللَّهِ فَكَيْفَ يُفَارِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ نُورَ الْبَصِيرَةِ إنْ كَانَ لَا يُرْشِدُك إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الْمُدَايَنَاتِ وَبَيْنَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ تَبَّتْ وَتَرْتَاعُ مِنْ اعْتِقَادِ الْفِرَقِ نَفْسُك الْخَوَّارَةُ الْمُسْتَغْرِقَةُ فِي التَّقْلِيدِ فَقَلِّدْ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597939قَلْبُ الْقُرْآنِ يس } وَقَدْ دَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَى شَرَفِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597940فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597941آيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=26735قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضَائِلِ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَتَخَصُّصِ بَعْضِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ بِالْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي تِلَاوَتِهَا لَا تُحْصَى فَاطْلُبْهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ إنْ أَرَدْت .
وَنُنَبِّهُك الْآنَ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَفْضِيلِ هَذِهِ السُّوَرِ . قُلْت : وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي nindex.php?page=treesubj&link=29566تَفْضِيلِ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَمِمَّنْ ذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ حَكَاهُ مِنْ السَّلَفِ nindex.php?page=showalam&ids=14961الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " قَالَ فِي { nindex.php?page=hadith&LINKID=597942قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي : أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ وَذَكَرَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ } فِيهِ حُجَّةٌ لِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ [ ص: 51 ] nindex.php?page=treesubj&link=29566وَتَفْضِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ اخْتَارَهُ : مِنْهُمْ إسْحَاقُ بْنُ راهويه وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ والمتكلمين . قَالَ : وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى عِظَمِ أَجْرِ قَارِئِي ذَلِكَ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ عَلَى بَعْضِهِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِهِ . قَالَ : وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَأَبَى ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ Multitarajem.php?tid=12604,12605وَابْنُ الباقلاني وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ نَقْصُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ . قَالُوا : وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " أَفْضَلُ " وَ " أَعْظَمُ " لِبَعْضِ الْآيِ وَالسُّوَرِ فَمَعْنَاهُ عَظِيمٌ وَفَاضِلٌ . قَالَ : وَقِيلَ : كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظُمَ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحَيَاةِ والوحدانية وَالْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهَذِهِ السَّبْعَةُ قَالُوا هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ . قُلْت : الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ . فَهَذِهِ السَّبْعَةُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالْعَقْلِ وَمَا سِوَاهَا قَالُوا إنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى طَرِيقِ عِلْمِنَا لَا إلَى أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ ثَابِتٍ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَا سِوَاهَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا كَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَذْهَبُ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَأَكْثَرُ قُدَمَاءِ الصفاتية أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28728الْعُلُوَّ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ [ ص: 52 ] nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزاغوني وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ ابْنِ كَرَّامٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ . وَكَذَلِكَ مَا فَسَّرَهُ nindex.php?page=showalam&ids=14961الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ قَوْلِ الْمُفَضَّلِينَ إنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فَهَذَا لَا يُنَازَعُ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ Multitarajem.php?tid=12604,12605وَابْنُ الباقلاني فَإِنَّ الثَّوَابَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنَازَعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ بَعْضَهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ فَحِكَايَتُهُ النِّزَاعُ يُنَاقِضُ مَا فَسَّرَ بِهِ قَوْلَ الْمُثَبِّتَةِ . وَقَدْ بَيَّنَ مَأْخَذَ الْمُمْتَنِعِينَ عَنْ التَّفْضِيلِ : مِنْهُمْ مِنْ نَفْيِ التَّفَاضُلِ فِي الصِّفَاتِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَتَفَاضَلُ وَالْقُرْآنُ مِنْ الصِّفَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ عَلَى أَصْلِهِ فَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنَيَانِ فَضْلًا أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ فَاضِلٌ وَمَفْضُولٌ وَهَذَا أَصْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا أَقْوَالَهُمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يَكُونُ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كالجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ - بَلْ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَوْ تُتُبِّعَ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَكَثَرُوا فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ أَمَا السَّلَفُ - كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ - فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَنَازُعٌ بَلْ الْآثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِهِ . [ ص: 53 ] وَاشْتَهَرَ الْقَوْلُ بِإِنْكَارِ تَفَاضُلِهِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا أَظْهَرَتْ الجهمية الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ . وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ . وَظَنَّتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ - مِثْلَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ - أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَّا إذَا قِيلَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا كَلَّمَ مُوسَى حِينَ أَتَاهُ وَلَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يُطِيعَهُ وَلَا يُحِبَّهُ بَعْدَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ فَتَكُونُ كَلِمَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ظَنُّوا انْتِفَاءَهُ عَنْ اللَّهِ . وَقَالُوا إنَّمَا يُمْكِنُ مُخَالَفَةُ هَؤُلَاءِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ كَلَامٍ لَهُ كَقَوْلِهِ : يَا آدَمَ يَا نُوحُ . وَصَارُوا طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَطَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً فِي ذَاتِهَا تَرَتُّبًا ذَاتِيًّا لَا تَرَتُّبًا وُجُودِيًّا كَمَا قَدْ بَيَّنَ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِي كَلَامِ اللَّهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْأَوَّلُونَ عِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا بَعْضٌ لَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ . وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ : هُوَ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَالْقَدِيمُ لَا يَتَفَاضَلُ . وَرُبَّمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } أَنَّهُ قَالَ : [ ص: 54 ] خَيْرًا لَكُمْ مِنْهَا أَوْ أَنْفَعَ لَكُمْ . فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ مُوَافِقٌ لِهَؤُلَاءِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَقْصُودُهُ بَيَانُ وَجْهِ كَوْنِهِ خَيْرًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَنْفَعَ لِلْعِبَادِ فَإِنَّ مَا كَانَ أَكْثَرُ مِنْ الْكَلَامِ نَفْعًا لِلْعِبَادِ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ كَمَا بَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ . وَصَارَ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الكلابية مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفَاضُلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ إنَّمَا يُمْكِنُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ يَرَوْنَ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَضْلَ مَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ . فَإِذَا ظَنَّ أُولَئِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا فَرُّوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِهِ لِأَجْلِ مَا ظَنُّوهُ مِنْ التَّلَازُمِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوهُ بَلْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَجُمْهُورُهَا يَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ . وَحَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ وَصَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُمَا نَظَرَا فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَأَظُنُّهُ كَانَ نَظَرَهُمْ فِي تَفْسِيرِ أَبِي عَبْدِ [ ص: 55 ] الله مُحَمَّدِ بْنِ تيمية فَلَمَّا رَأَيَا تِلْكَ الْأَقْوَالَ قَالَا : هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَزَارَ مَرَّةً أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ هَذَا لِشَيْخِنَا أَبِي زَكَرِيَّا بْنِ الصَّيْرَفِيِّ وَكَانَ مَرِيضًا فَدَعَا أَبُو زَكَرِيَّا بِدُعَاءِ مَأْثُورٍ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَد يَقُولُ فِيهِ " أَسْأَلُك - بِقُدْرَتِك الَّتِي قَدَرْت بِهَا أَنْ تَقُولَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - أَنْ تَفْعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا " فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ : مَا هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَوْت بِهِ ؟ هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَلَا يُقَالُ عِنْدَهُمْ قَدَرَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يَقُولَ فَإِنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ تَلَقَّى هَذَا عَنْ الْبُحُوثِ الَّتِي يَذْكُرُهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزاغوني وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُمَا nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَحْوُهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - كَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْمَعَالِي الجويني - وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يُوَافِقُونَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْقُرْآنَ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ - قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ السَّلَفِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَتَّى إنَّ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ السالمية مِنْ هَؤُلَاءِ - كَالْقَاضِي Multitarajem.php?tid=13371,13372وَابْنِ عَقِيلٍ nindex.php?page=showalam&ids=12737وَابْنِ [ ص: 56 ] الزاغوني - يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَقُولُوا هَذَا قَطُّ وَلَا نَاظَرُوا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَعْرِفُوا أَقْوَالَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ . وَلَكِنْ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ قَوْلَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَمِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُمْ الَّذِينَ صَارُوا يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبِدَعِالجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا صَارَ يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ هَذَا الْأَصْلَ وَأَمَرَ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ بِهَجْرِ الكلابية عَلَى هَذَا الْأَصْلِ حَتَّى هُجِرَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَكَانَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ أَحْمَد يُحَذِّرُ عَنْ الكلابية . وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْن أَبِي بَكْرِ بْنِ خزيمة الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ مُشَاجَرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِقَوْلِ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُمْ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي ( تَارِيخِ نَيْسَابُورَ وَبَسْطُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى الْمَآخِذِ الَّتِي تَعْرِفُ بِهَا حَقَائِقَ الْأَقْوَالِ .
قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَصْلُ اسْتِدْلَالِكُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ الْفَضْلُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ فِي حَقِّنَا : إمَّا سُهُولَةٌ فِي التَّكْلِيفِ فَهُوَ خَيْرٌ عَاجِلٌ أَوْ أَكْثَرُ ثَوَابًا لِكَوْنِهِ أَثْقَلَ وَأَشَقَّ وَيَكُونُ نَفْعًا فِي الْآجِلِ وَالْعَاقِبَةِ وَكِلَاهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ .
وَيَحْتَمِلُ : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَا نَاسِخًا لَهَا بَلْ يَكُونُ تَكْلِيفًا مُبْتَدَأً هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُهُ الْقُرْآنَ النَّاسِخَ وَلَا السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ . قَالُوا : يُوَضِّحُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ لَيْسَ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْرِفُوا اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ مِنْ خَيْرٍ يَعُودُ إلَى التَّكْلِيفِ لَا إلَى الطَّرِيقِ .
وَقَالَ فِي الْجَوَابِ : قَوْلُهُمْ : الْخَيْرُ يَرْجِعُ إلَى مَا يَخُصُّنَا مِنْ سُهُولَةٍ أَوْ ثَوَابٍ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ : " لَكُمْ " . فَلَمَّا حَذَفَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ كَوْنُ النَّاسِخِ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ وَمِنْ جِهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي : [ ص: 48 ] بِآيَاتِ خَيْرٍ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَعُودُ إلَى الْجِنْسِ كَمَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ : مَا آخُذُ مِنْك دِينَارًا إلَّا أُعْطِيك خَيْرًا مِنْهُ لَا يُعْقَلُ بِالْإِطْلَاقِ إلَّا دِينَارًا خَيْرًا مِنْهُ فَيَتَخَيَّرُ مِنْ الْجِنْسِ أَوَّلًا ثُمَّ النَّفْعِ فَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى ثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ غَيْرِ الدِّينَارِ فَلَا وَفِي آخِرِ الْآيَةِ مَا يَشْهَدُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَوَصْفُهُ لِنَفَسِهِ بِالْقُدْرَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ هُوَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ مِثْلِهَا } يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ يَقْتَضِي إطْلَاقَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَنَّثَهَا تَأْنِيثَ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : نَأْتِ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ بِآيَةِ مِثْلِهَا . " قُلْت " : وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَخَفَّ عَمَلًا أَوْ أَشَقَّ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا لِأَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ثَابِتَانِ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُبْتَدَأً وَنَاسِخًا فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَيْسَرَ مِنْ غَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشَقَّ فَيَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لَازِمَةً لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يُقَالَ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ أَيْضًا يَكُونُ خَيْرًا وَمَثَلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَإِنَّهُمْ إنْ فَسَّرُوا الْخَيْرَ بِكَوْنِهِ أَسْهَلَ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ أَسْهَلَ فَيَكُونُ خَيْرًا وَإِنْ فَسَّرُوهُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ أَجْرًا لِمَشَقَّتِهِ فَقَدْ يَكُونُ الْمَنْسُوخُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِمَّا يَنْسَخُهُ أَوْ مِثْلِهِ فَلَا يَأْتِي بِمَا هُوَ دُونَهُ .
[ ص: 49 ] وَأَيْضًا فَعَلَى مَا قَالُوهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ بَلْ إنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ جِهَةِ السُّهُولَةِ فَذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْأَجْرِ . قَالَ Multitarajem.php?tid=13371,13372ابْنُ عَقِيلٍ : وَأَمَّا nindex.php?page=treesubj&link=28901_29566قَوْلُهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَخَايَرُ وَلَا يَتَفَاضَلُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْخَيْرَ الَّذِي هُوَ الْأَفْضَلِيَّةُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ الَّذِي فِي " سُورَةِ الْإِخْلَاصِ " وَمَا ضَمِنَهَا مِنْ نَفْيِ التَّجَزُّؤِ وَالِانْقِسَامِ أَفْضَلُ مِنْ " تَبَّتْ " الْمُتَضَمِّنَةِ ذَمِّ أَبِي لَهَبٍ وَذَمِّ زَوْجَتِهِ إنْ شِئْت فِي كَوْنِ الْمَدْحِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَدْحِ وَإِنْ شِئْت فِي الْإِعْجَازِ فَإِنَّ تِلَاوَةَ غَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْهَا الْفَصَاحَةُ وَالْبَيَانُ أَفْضَلُ وَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا لَا يَكُونُ التَّفَاضُلُ لِمَعْنَى يَعُودُ إلَى الْكَلَامِ ثَانِيًا كَمَا أَنَّ الْمُرْسَلَ وَاحِدٌ لِذِي النُّونِ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ أَفْضَلُ مِنْ ذِي النُّونِ . قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } لَا يَكُونُ نَاسِخًا بَلْ مُبْتَدَأً فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَزَاءِ مَجْزُومًا وَهَذَا يُعْطِي الْبَدَلِيَّةَ وَالْمُقَابَلَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ : إنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك وَإِنْ أَطَعْتَنِي أَطَعْتُك يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُقَابَلَةً وَبَدَلًا لَا فِعْلًا مُبْتَدَأً . قُلْت : الْمَقْصِدُ هُنَا ذِكْرُ مَا نَصَرَهُ - مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ فِي نَفْسِهِ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ - لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ النَّسْخِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ صَرَّحُوا بِأَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ " جَوَاهِرُ الْقُرْآنِ " قَالَ : [ ص: 50 ] لَعَلَّك تَقُولُ قَدْ تَوَجَّهَ قَصْدُك فِي هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ إلَى nindex.php?page=treesubj&link=29566تَفْضِيلِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ وَالْكُلُّ كَلَامُ اللَّهِ فَكَيْفَ يُفَارِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ نُورَ الْبَصِيرَةِ إنْ كَانَ لَا يُرْشِدُك إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الْمُدَايَنَاتِ وَبَيْنَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ تَبَّتْ وَتَرْتَاعُ مِنْ اعْتِقَادِ الْفِرَقِ نَفْسُك الْخَوَّارَةُ الْمُسْتَغْرِقَةُ فِي التَّقْلِيدِ فَقَلِّدْ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597939قَلْبُ الْقُرْآنِ يس } وَقَدْ دَلَّتْ الْأَخْبَارُ عَلَى شَرَفِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597940فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597941آيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ } وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=26735قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي فَضَائِلِ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَتَخَصُّصِ بَعْضِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ بِالْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي تِلَاوَتِهَا لَا تُحْصَى فَاطْلُبْهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ إنْ أَرَدْت .
وَنُنَبِّهُك الْآنَ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَفْضِيلِ هَذِهِ السُّوَرِ . قُلْت : وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ فِي nindex.php?page=treesubj&link=29566تَفْضِيلِ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَمِمَّنْ ذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ حَكَاهُ مِنْ السَّلَفِ nindex.php?page=showalam&ids=14961الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " قَالَ فِي { nindex.php?page=hadith&LINKID=597942قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي : أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ وَذَكَرَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ } فِيهِ حُجَّةٌ لِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ [ ص: 51 ] nindex.php?page=treesubj&link=29566وَتَفْضِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ عِنْدَ مَنْ اخْتَارَهُ : مِنْهُمْ إسْحَاقُ بْنُ راهويه وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ والمتكلمين . قَالَ : وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى عِظَمِ أَجْرِ قَارِئِي ذَلِكَ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ عَلَى بَعْضِهِ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِهِ . قَالَ : وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَأَبَى ذَلِكَ الْأَشْعَرِيُّ Multitarajem.php?tid=12604,12605وَابْنُ الباقلاني وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ نَقْصُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ . قَالُوا : وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " أَفْضَلُ " وَ " أَعْظَمُ " لِبَعْضِ الْآيِ وَالسُّوَرِ فَمَعْنَاهُ عَظِيمٌ وَفَاضِلٌ . قَالَ : وَقِيلَ : كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظُمَ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ أُصُولَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحَيَاةِ والوحدانية وَالْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهَذِهِ السَّبْعَةُ قَالُوا هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ . قُلْت : الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ . فَهَذِهِ السَّبْعَةُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالْعَقْلِ وَمَا سِوَاهَا قَالُوا إنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى طَرِيقِ عِلْمِنَا لَا إلَى أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ ثَابِتٍ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَا سِوَاهَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا كَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَمَذْهَبُ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَأَكْثَرُ قُدَمَاءِ الصفاتية أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28728الْعُلُوَّ مِنْ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَمَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ [ ص: 52 ] nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزاغوني وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ ابْنِ كَرَّامٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ . وَكَذَلِكَ مَا فَسَّرَهُ nindex.php?page=showalam&ids=14961الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ قَوْلِ الْمُفَضَّلِينَ إنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فَهَذَا لَا يُنَازَعُ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ Multitarajem.php?tid=12604,12605وَابْنُ الباقلاني فَإِنَّ الثَّوَابَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنَازَعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ بَعْضَهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي نَفْسِ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ فَحِكَايَتُهُ النِّزَاعُ يُنَاقِضُ مَا فَسَّرَ بِهِ قَوْلَ الْمُثَبِّتَةِ . وَقَدْ بَيَّنَ مَأْخَذَ الْمُمْتَنِعِينَ عَنْ التَّفْضِيلِ : مِنْهُمْ مِنْ نَفْيِ التَّفَاضُلِ فِي الصِّفَاتِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَتَفَاضَلُ وَالْقُرْآنُ مِنْ الصِّفَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ عَلَى أَصْلِهِ فَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنَيَانِ فَضْلًا أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ فَاضِلٌ وَمَفْضُولٌ وَهَذَا أَصْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا أَقْوَالَهُمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ يَكُونُ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ لَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ كالجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ - بَلْ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَوْ تُتُبِّعَ ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَكَثَرُوا فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ أَمَا السَّلَفُ - كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ - فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ تَنَازُعٌ بَلْ الْآثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِهِ . [ ص: 53 ] وَاشْتَهَرَ الْقَوْلُ بِإِنْكَارِ تَفَاضُلِهِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا أَظْهَرَتْ الجهمية الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ . وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ . وَظَنَّتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ - مِثْلَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ - أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَّا إذَا قِيلَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا كَلَّمَ مُوسَى حِينَ أَتَاهُ وَلَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ وَلَا يَرْضَى عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يُطِيعَهُ وَلَا يُحِبَّهُ بَعْدَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ فَتَكُونُ كَلِمَاتُهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ظَنُّوا انْتِفَاءَهُ عَنْ اللَّهِ . وَقَالُوا إنَّمَا يُمْكِنُ مُخَالَفَةُ هَؤُلَاءِ إذَا قِيلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ كَلَامٍ لَهُ كَقَوْلِهِ : يَا آدَمَ يَا نُوحُ . وَصَارُوا طَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَطَائِفَةٌ تَقُولُ إنَّهُ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً فِي ذَاتِهَا تَرَتُّبًا ذَاتِيًّا لَا تَرَتُّبًا وُجُودِيًّا كَمَا قَدْ بَيَّنَ مَقَالَاتِ النَّاسِ فِي كَلَامِ اللَّهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْأَوَّلُونَ عِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا بَعْضٌ لَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ . وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ : هُوَ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ وَالْقَدِيمُ لَا يَتَفَاضَلُ . وَرُبَّمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } أَنَّهُ قَالَ : [ ص: 54 ] خَيْرًا لَكُمْ مِنْهَا أَوْ أَنْفَعَ لَكُمْ . فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ مُوَافِقٌ لِهَؤُلَاءِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَقْصُودُهُ بَيَانُ وَجْهِ كَوْنِهِ خَيْرًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَنْفَعَ لِلْعِبَادِ فَإِنَّ مَا كَانَ أَكْثَرُ مِنْ الْكَلَامِ نَفْعًا لِلْعِبَادِ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ كَمَا بَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ . وَصَارَ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الكلابية مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفَاضُلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ إنَّمَا يُمْكِنُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ يَرَوْنَ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَضْلَ مَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقِ وَتَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ . فَإِذَا ظَنَّ أُولَئِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا فَرُّوا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْكَرُوا الْقَوْلَ بِهِ لِأَجْلِ مَا ظَنُّوهُ مِنْ التَّلَازُمِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوهُ بَلْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَجُمْهُورُهَا يَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ . وَحَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ وَصَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُمَا نَظَرَا فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَأَظُنُّهُ كَانَ نَظَرَهُمْ فِي تَفْسِيرِ أَبِي عَبْدِ [ ص: 55 ] الله مُحَمَّدِ بْنِ تيمية فَلَمَّا رَأَيَا تِلْكَ الْأَقْوَالَ قَالَا : هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَزَارَ مَرَّةً أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ هَذَا لِشَيْخِنَا أَبِي زَكَرِيَّا بْنِ الصَّيْرَفِيِّ وَكَانَ مَرِيضًا فَدَعَا أَبُو زَكَرِيَّا بِدُعَاءِ مَأْثُورٍ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَد يَقُولُ فِيهِ " أَسْأَلُك - بِقُدْرَتِك الَّتِي قَدَرْت بِهَا أَنْ تَقُولَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - أَنْ تَفْعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا " فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ : مَا هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي دَعَوْت بِهِ ؟ هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَلَا يُقَالُ عِنْدَهُمْ قَدَرَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَوْ يَقُولَ فَإِنَّ كَلَامَهُ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ تَلَقَّى هَذَا عَنْ الْبُحُوثِ الَّتِي يَذْكُرُهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزاغوني وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ وَأَمْثَالُهُ وَقَبْلَهُمَا nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَنَحْوُهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - كَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْمَعَالِي الجويني - وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يُوَافِقُونَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْقُرْآنَ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ - قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ السَّلَفِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَتَّى إنَّ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ السالمية مِنْ هَؤُلَاءِ - كَالْقَاضِي Multitarajem.php?tid=13371,13372وَابْنِ عَقِيلٍ nindex.php?page=showalam&ids=12737وَابْنِ [ ص: 56 ] الزاغوني - يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَد أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَقُولُوا هَذَا قَطُّ وَلَا نَاظَرُوا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَعْرِفُوا أَقْوَالَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ . وَلَكِنْ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ قَوْلَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَمِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُمْ الَّذِينَ صَارُوا يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْبِدَعِالجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا صَارَ يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ هَذَا الْأَصْلَ وَأَمَرَ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ بِهَجْرِ الكلابية عَلَى هَذَا الْأَصْلِ حَتَّى هُجِرَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَكَانَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ أَحْمَد يُحَذِّرُ عَنْ الكلابية . وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْن أَبِي بَكْرِ بْنِ خزيمة الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ مُشَاجَرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِقَوْلِ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُمْ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي ( تَارِيخِ نَيْسَابُورَ وَبَسْطُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى الْمَآخِذِ الَّتِي تَعْرِفُ بِهَا حَقَائِقَ الْأَقْوَالِ .
[ ص: 57 ] فَصْلٌ وَفِي الْجُمْلَةِ : فَدَلَالَةُ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566كَلَامَ اللَّهِ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ هُوَ مِنْ الدَّلَالَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ كَلَامَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْأَحَادِيثُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي يَحْكِيهَا الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=43518يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } الْحَدِيثَ وَكَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=70607مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي كَوْنِهَا كَلَامَ اللَّهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ لَهُ نِسْبَتَانِ : نِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَنِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ . فَهُوَ يَتَفَاضَلُ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَتَيْنِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ أَيْضًا مِثْلَ الْكَلَامِ الْخَبَرِيِّ لَهُ نِسْبَتَانِ : نِسْبَةٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُخْبِرِ وَنِسْبَةٌ إلَى الْمَخْبَرِ عَنْهُ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ . ف { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } كِلَاهُمَا كَلَامُ اللَّهِ وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَكِنَّهُمَا مُتَفَاضِلَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ . فَهَذِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَبَرُهُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَتِهِ الَّتِي يَصِفُ بِهَا نَفْسَهُ [ ص: 58 ] وَكَلَامَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ . وَهَذِهِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ عَنْ بَعْضِ خَلْقِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ وَيَصِفُ بِهِ حَالَهُ وَهُمَا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مُتَفَاضِلَانِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامَيْنِ . أَلَّا تَرَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُهُ لَكِنَّ كَلَامَهُ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ رَبَّهُ أَعْظَمُ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْجَمِيعُ كَلَامُهُ فَاشْتِرَاكُ الْكَلَامَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ لَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَتْ النِّسْبَتَانِ أَوْ إحْدَاهُمَا تُوجِبُ التَّفْضِيلَ أَوْ لَا تُوجِبُهُ .
فَكَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَالشُّعَرَاءُ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْمَعَانِي فَقَطْ أَوْ الْأَلْفَاظُ فَقَطْ أَوْ كِلَاهُمَا أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا فَلَا رَيْبَ فِي تَفَاضُلِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي مِنْ الْمُتَكَلِّمِ الْوَاحِدِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ اتِّفَاقِ الْكَلَامَيْنِ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِمَا وَاحِدٌ لَا يُوجِبُ تَمَاثُلُهُمَا مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ . فَتَفَاضُلُ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ إنْشَاءً أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ فَلَيْسَ الْخَبَرُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَالْخَبَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ وَإِنْ كَانَ هَذَا كَلَامًا عَظِيمًا مُعَظَّمًا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَتْ [ ص: 59 ] بِهِ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالْمَأْمُورَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَمَا يَحْصُلُ مَعَهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ كَالْأَمْرِ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرَانِ وَاجِبَيْنِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالْأَمْرِ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَإِيتَائِهَا أَجْرَهَا إذَا أَرْضَعَتْ . وَلِهَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى nindex.php?page=treesubj&link=29566تَفَاضُلِ أَنْوَاعِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَقَالُوا : إنَّ إيجَابَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ إيجَابِ الْآخَرِ وَتَحْرِيمُهُ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْآخَرِ فَهَذَا أَعْظَمُ إيجَابًا وَهَذَا أَعْظَمُ تَحْرِيمًا وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ نَازَعُوا فِي ذَلِكَ Multitarajem.php?tid=13371,13372كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ فَقَالُوا : التَّفَاضُلُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ لَكِنْ فِي مُتَعَلَّقِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : بَلْ التَّفَاضُلُ فِي الْأَمْرَيْنِ وَالتَّفَاضُلُ فِي الْمُسَبِّبَاتِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْأَسْبَابِ وَكَوْنُ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ ثَوَابُهُ أَعْظَمُ وَعِقَابُهُ أَعْظَمُ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ أَوْكَدُ وَكَوْنُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَالنَّهْيَيْنِ مَخْصُوصًا بِالتَّوْكِيدِ دُونَ الثَّانِي مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ عَاقِلٌ وَلَوْ تَسَاوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَامْتَنَعَ الِاخْتِصَاصُ بِتَوْكِيدِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ وَالتَّفْضِيلَ مُتَضَادَّانِ .
وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَإِطْلَاقُ [ ص: 60 ] ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَهُوَ قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى nindex.php?page=showalam&ids=11851وَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي يَعْقُوبَ البرزيني وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَلْوَانِيِّ وأبي الْحَسَنِ بْنِ الزاغوني وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَسِّرُ التَّفَاضُلَ بِتَفَاضُلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ النفاة . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَفْسَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْبُغْضَ وَالْإِرَادَةَ وَالْكَرَامَةَ وَالطَّلَبَ وَالِاقْتِضَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ وَتَتَفَاضَلُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا . وَنَفْسُ حُبِّ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ يَتَفَاضَلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=165وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . وَنَفْسُ حُبِّ اللَّهِ لَهُمْ يَتَفَاضَلُ أَيْضًا فَإِنَّ الْخَلِيلَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّنْ سِوَاهُمَا وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ بَعْضٍ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ هَذَا مَشْهُورٌ وَمُسْتَفِيضٌ فِي الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَكَلَامِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كَقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ : لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَفَعَلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الصَّفِّ وَهُوَ مَشْهُورٌ ثَابِتٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . وَكَوْنُ هَذَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا هُوَ دَاخِلٌ فِي nindex.php?page=treesubj&link=25504تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَبَعْضِ الْأَشْخَاصِ عَلَى بَعْضٍ . وَبَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597943قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ : وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ . وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْك لَمَا خَرَجْت } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مِنْ [ ص: 61 ] حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ . وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ عَلَى حُبِّ غَيْرِهِ وَبُغْضِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597944عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسِهِ . وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } .
وَقَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=29791لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ } وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=10لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ nindex.php?page=treesubj&link=29566تَفَاضُلُ الْمَأْمُورَاتِ : فَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْمَنْهِيَّاتِ شَرٌّ مِنْ بَعْضٍ وَحِينَئِذٍ فَطَلَبُ الْأَفْضَلِ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ أَكْمَلُ مِنْ طَلَبِ الْمَفْضُول وَالطَّالِبُ إذَا كَانَ حَكِيمًا يَكُونُ طَلَبُهُ لِهَذَا أَوْكَدَ . فَفِي الْجُمْلَةِ مِنْ الْمُسْتَقَرِّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ يَلْحَقُهُمَا التَّفَاضُلُ مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ وَالْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَخْبَرُ بِهِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ كَانَ الْخَبَرُ بِهِ أَفْضَلَ وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَفْضَلَ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَفْضَلَ . وَلِهَذَا كَانَ الْخَبَرُ بِمَا فِيهِ نَجَاةُ النُّفُوسِ مِنْ الْعَذَابِ وَحُصُولُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ أَفْضَلَ مِنْ الْخَبَرِ بِمَا فِيهِ نَيْلُ مَنْزِلَةٍ أَوْ حُصُولُ دَرَاهِمَ وَالرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَفْضَلَ الْخِبْرَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ الرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَدْنَاهُمَا وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً . وَإِذَا قَدَرَ أَمِيرَانِ أَمَرَ أَحَدُهُمَا بِعَدْلِ عَامٍّ عَمَّرَ بِهِ الْبِلَادَ وَدَفَعَ بِهِ الْفَسَادَ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ أَعْظَمَ مِنْ أَمْرِ أَمِيرٍ [ ص: 62 ] يَعْدِلُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فِي مِيرَاثِ بَعْضِ الْأَمْوَاتِ . وَأَيْضًا فَالْخَبَرُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِالْمَخْبَرِ بِهِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ طَلَبًا وَإِرَادَةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إرَادَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَكِنْ أَعَانَ أَهْلَ الطَّاعَةِ فَصَارَ مُرِيدًا لَأَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ وَلَمْ يَعْنِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ . فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ وَأَمَّا الْإِرَادَةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّ فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَرْضَاهُ إذَا فُعِلَ وَيُرِيدُ مِنْ الْمَأْمُورِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَأْمُورٌ فَهَذِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْأَمْرِ . وَلِهَذَا أَثَبَتَ اللَّهُ هَذِهِ الْإِرَادَةَ فِي الْأَمْرِ دُونَ الْأُولَى . وَلَكِنْ فِي النَّاسِ مِنْ غَلَطٍ فَنَفَى الْإِرَادَةَ مُطْلَقًا وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْأَمْرِيَّةِ .
وَالْقُرْآنُ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ فَقَالَ فِي الْأُولَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } وَقَالَ نُوحٌ : { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=39وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ } وَلِهَذَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ : مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=33إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=6مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ } [ ص: 63 ] وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=27وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْأَمْرِ مِنْ طَلَبٍ وَاسْتِدْعَاءٍ وَاقْتِضَاءٍ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ هُنَاكَ إرَادَةً شَرْعِيَّةً وَأَنَّهُ لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ سِوَاهَا كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ قِيلَ : لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ إلَّا الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ إرَادَتَهُ عَيْنُ نَفْسِ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَنَّ إرَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ إيمَانٍ وَكُفْرٍ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُوجَدُ سَوَاءٌ كَانَ إيمَانًا أَوْ كُفْرًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ لَهَا أَثَرٌ فِي وُجُودِ مَقْدُورِهِ وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَأَسْبَابٌ يَخْلُقُ بِهَا وَلَا لِلَّهِ حِكْمَةٌ يَخْلُقُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا كَمَا يَقُولُ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ هُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَبَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَاقَضُوا الْقَدَرِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةَ مُنَاقِضَةً أَلْجَأَتْهُمْ إلَى إنْكَارِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ بِبَعْضِ ذَلِكَ يَتَنَاقَضُ وَقَدْ يَثْبُتُ أَحَدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْمَعْنَى .
[ ص: 64 ] وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَيُثْبِتُونَ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ حَادِثٍ وَالْإِرَادَةَ الْأَمْرِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُتَنَاوِلَةَ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ وَهُوَ مَا أَمَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ مَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ وَيُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ النَّافِعَةُ فِي الْمَعَادِ الدَّافِعَةُ لِلْفَسَادِ .
فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَظَرَ إلَى هَذِهِ فَقَطْ وَرَاعَى هَذِهِ الْخِلْقِيَّةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ دُونَ تِلْكَ يَكُونُ لَهُ بِدَايَةٌ بِلَا نِهَايَةٍ فَيَكُونُ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا يَحْصُلُ لَهُمْ بَعْضُ مُطَالِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِاسْتِعَانَتِهِمْ بِاَللَّهِ إذْ شَهِدُوا رُبُوبِيَّتَهُ وَلَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إذْ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ . وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ .
وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ دُونَ تِلْكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَقَدْ يُرَاعَى الْأَمْرُ ; لَكِنَّهُ يَكُونُ عَاجِزًا مَخْذُولًا حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ وَفَقْرَهُ إلَيْهِ لِيَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ بَرِيًّا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ .
فَهَذَا قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ وَلَا يَقْصِدَ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَهِيَ حَالُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ خَالِقًا أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَا مُرِيدًا لِلْكَائِنَاتِ وَلِهَذَا قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=12032أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّمَا يَعْجَبُ بِفِعْلِهِ الْقَدَرِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَرَى أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ .
فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ [ ص: 65 ] يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ لِلَّهِ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَعْجَبُونَ بِهَا ؟ أَوْ كَمَا قَالَ . وَالْأَوَّلُ قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَهُ وَيَسْأَلَهُ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَبْرَأَ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَلَا يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ وَأَنَّهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَلْ يَنْسَلِخُ مِنْ الدِّينِ أَوْ بَعْضِهِ لَا سِيَّمَا فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ .
وَهَذِهِ الْحَالُ إنْ طَرَدَهَا صَاحِبُهَا كَانَ شَرًّا مِنْ حَالِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ بَلْ إنْ طَرَدَهَا طَرْدًا حَقِيقِيًّا أَخْرَجَتْهُ مِنْ الدِّينِ خُرُوجَ الشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ وَهِيَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ . وَأَمَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَلَا يُوَافِقُ أَمْرَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَكُلُّ قَاصِدٍ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ فَهُوَ مَصْدُودٌ مِنْ مَآرِبِهِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مُؤْمِنًا بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ : بِقَدْرِهِ وَشَرْعِهِ فَيَسْتَعِينُ اللَّهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَأَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى خَلْقِهِ وَأَنَّ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ حِكْمَةً بَالِغَةً وَرَحْمَةً سَابِغَةً .
وَهَذِهِ الْأُمُورُ أُصُولٌ عَظِيمَةٌ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . [ ص: 66 ] وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْخَبَرَ الصَّادِقَ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الطَّلَبِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ .
ثُمَّ هَلْ مَدْلُولُ الْخَبَرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْعِلْمِ وَمَدْلُولُ الْأَمْرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ مِثْلَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ ؟ أَوْ الْمَدْلُولُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ ؟ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ نُظَّارِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرَ . فَيَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُخَالِفُونَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنَ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي ذَيْنك الْأَصْلَيْنِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْقَوْلِ فِي الْكَلَامِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ خَيْرًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ والجهمية الْمَحْضَةِ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَطَوَائِفِ النُّظَّارِ فَلَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا الكلابية كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الطَّوَائِفِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْكُتُبِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ لَهَا مَعَانٍ : سَوَاءٌ سُمِّيَ طَلَبًا أَوْ إرَادَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ حُكْمًا أَوْ كَلَامًا نَفْسَانِيًّا . وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا فَلَيْسَ عِلْمُنَا بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ [ ص: 67 ] كَعِلْمِنَا بِحَالِ أَبِي لَهَبٍ . وَلَيْسَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّلَبِ الْقَائِمِ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَإِخْرَاجِ الدِّرْهَمِ مِنْ الزَّكَاةِ .
فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566مَعَانِيَ الْكَلَامِ قَدْ تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا كَمَا قَدْ تَتَمَاثَلُ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا صِيغَةُ الْأَمْرِ - سَوَاءٌ سُمِّيَتْ طَلَبًا أَوْ اقْتِضَاءً أَوْ اسْتِدْعَاءً أَوْ إرَادَةً أَوْ مَحَبَّةً أَوْ رِضًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - فَإِنَّهَا مُتَفَاضِلَةٌ بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ النَّفْسَانِيَّةِ فَهِيَ مُتَفَاضِلَةٌ فِي نَفْسِهَا بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ . فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ تَفَاضُلِ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَاحِدًا . وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاضِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ وَاحِدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَكْلِيمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَفْضَلُ مِنْ تَكْلِيمِهِ بِالْإِيحَاءِ وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=144إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } وَاَلَّذِي يَجِدُ النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ تَتَفَاضَلُ أَحْوَالُهُ [ ص: 68 ] فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ بَلْ وَفِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ يَتَفَاضَلُ مَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعَانِي وَمَا يَقُومُ بِلِسَانِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ بِحَيْثُ قَدْ يَكُونُ إذَا كَانَ طَالِبًا هُوَ أَشَدُّ رَغْبَةً وَمَحَبَّةً وَطَلَبًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ لِلْآخَرِ وَيَكُونُ صَوْتُهُ بِهِ أَقْوَى وَلَفْظُهُ بِهِ أَفْصَحَ وَحَالُهُ فِي الطَّلَبِ أَقْوَى وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا ; وَلِهَذَا يَكُونُ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمَوْعِظَةِ بَلْ لِلْآيَةِ الْوَاحِدَةِ إذَا سُمِعَتْ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْ ظُهُورِ التَّفَاضُلِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تَمْثِيلٍ .
وَكَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ قَدْ يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْلُومِ وَشُهُودِ الْقَلْبِ إيَّاهُ بِاللِّسَانِ مِنْ حُسْنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ لَفْظًا وَصَوْتًا مَا لَا يُقَارِبُهُ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِهِ . فَهَذَا نَوْعُ إشَارَةٍ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُوَافِقًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةُ . وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ تَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لِهَؤُلَاءِ فِي تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي التَّفْضِيلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ فِي مُتَعَلَّقِهِ مِثْلَ كَوْنِ بَعْضِهِ أَنْفَعَ لِلنَّاسِ مِنْ بَعْضٍ لِكَوْنِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ أَوْ الْعَمَلِ بِهِ أَخَفَّ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الْأَجْرِ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } أَيْ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا خَيْرٌ مِنْ تِلْكَ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري قَالَ . نَأْتِ بِحُكْمِ خَيْرٍ لَكُمْ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ : إمَّا فِي الْعَاجِلِ لِخِفَّتِهِ [ ص: 69 ] عَلَيْكُمْ وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ لِعِظَمِ ثَوَابِهِ مِنْ أَجْلِ مَشَقَّةِ حَمْلِهِ . قَالَ : وَالْمُرَادُ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=93وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } أَيْ حُبَّهُ قَالَ : وَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ . لِأَنَّ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ : بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَوْ بَعْضُهَا خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ . وَطَرْدُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ فَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَسْمَائِهِ أَعْظَمَ أَوْ أَفْضَلَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ . وَقَالَ : مَعْنَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ : الْعَظِيمُ وَكُلُّهَا سَوَاءٌ فِي الْعَظَمَةِ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ حَالُ النَّاسِ حِينَ الدُّعَاءِ فَيَكُونُ الْأَعْظَمُ بِحَسَبِ حَالِ الدُّعَاءِ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَعَظُمَ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ نَظِيرَ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِمَنْ مَنَعَ تَفْضِيلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ أَوْ خَيْرًا كَوْنُهُ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ ; لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ يُحْكَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ قَالُوا : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَظِيمٌ فَاضِلٌ وَقَالُوا : مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ تَقْصِيرُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ وَهَذَا يَقُولُونَهُ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ عِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ فِيهِ تَمَاثُلُ أَوْ تَفَاضُلُ وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَلِامْتِنَاعِ التَّغَايُرِ وَلَا يَقُولُونَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ قَالُوا : لِأَنَّ الْكَلَامَ [ ص: 70 ] يَمْتَنِعُ قِيَامُهُ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ قِيَامُهُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ قَائِمًا بِغَيْرِهِ لَبَطَلَ أَصْلُهُمْ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهَؤُلَاءِ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِهِمْ .
وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ يَقُولُ : إنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29463_29453لَفْظَ " كَلَامِ اللَّهِ " يَقَعُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَعَلَى الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ الدَّالِّ عَلَيْهِ . وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي يَمْتَنِعُ تَفَاضُلُهُ عِنْدَهُمْ . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْمَعَانِي بَلْ هُوَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فَقَطْ وَأَنَّ مَعَانِيَ كِتَابِ اللَّهِ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ . فَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَالْفَاتِحَةِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَتَبَّتْ وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَكُلِّ حَدِيثٍ إلَهِيٍّ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ : إنَّمَا هِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ . وَلَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بَلْ كَلَامُ غَيْرِهِ : جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ الْوَاحِدِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ وَالْإِخْبَارُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لِلْكَلَامِ وَأَقْسَامًا لَهُ فَإِنَّ الْوَاحِدَ بِالْعَيْنِ لَا يَقْبَلُ [ ص: 71 ] التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ ; بِخِلَافِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ وَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَهِيَ صِفَاتٌ إضَافِيَّةٌ لَهُ فَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَانَ أَمْرًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُنْهَى عَنْهُ كَانَ نَهْيًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُخْبَرُ عَنْهُ كَانَ خَبَرًا . وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : فَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَعَانِيَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي { nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَلَا مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ مَعَانِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ هِيَ مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ تَعَلُّقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْأَفْعَالُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ فَإِنْ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ فَقَدْ تَعَدَّدَتْ مَعَانِي الْكَلَامِ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ وَإِنْ قَامَ بِذَاتِ غَيْرِهِ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لِلَّهِ وَإِنْ قَامَ لَا بِمَحَلِّ كَانَ مُمْتَنِعًا ; فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا ; وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ أَمْرًا عَدَمِيًّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْتَازَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ .
وَالْحَقَائِقُ الْمَخْبَرُ عَنْهَا وَالْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا لَا تَكُونُ بِأَنْفُسِهَا مُخْبَرًا بِهَا وَمَأْمُورًا بِهَا وَمَنْهِيًّا عَنْهَا بَلْ الْخَبَرُ عَنْهَا وَالْأَمْرُ بِهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا هُوَ غَيْرُ ذَوَاتِهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا امْتِيَازَ فِيهِ وَلَا تَعَدُّدَ وَغَيْرُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ : لَمْ [ ص: 72 ] يَكُنْ هُنَا مَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَلَا مَا يَجْعَلُ مَعَانِيَ آيَةِ الْوُضُوءِ غَيْرَ مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْحُرُوفَ الْمَخْلُوقَةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى إنْ لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَيْهِ فَلَا تَعَدُّدَ فِيهِ وَلَا تَنْوِيعَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى التَّعَلُّقَاتِ الَّتِي هِيَ عَدَمِيَّةٌ فَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يَكُونَ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى وَتَعَلُّقُهُ بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْمَأْمُورِ بِهَا وَنَفْسُ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ هُوَ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فَالْمَدْلُولُ إنْ كَانَ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ أَمْرٌ عَنْ خَبَرٍ وَلَا أَمْرٌ بِصَلَاةِ عَنْ أَمْرٍ بِزَكَاةِ وَلَا نَهْيٌ عَنْ الْكُفْرِ عَنْ إخْبَارٍ بِتَوْحِيدِ . وَإِنْ كَانَتْ التَّعَلُّقَاتُ عَدَمِيَّةً فَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَا يَكُونُ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ أُمُورًا عَدَمِيَّةً لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا تَكُونُ الْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ هِيَ الَّتِي بِهَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ وَحَرَّمَ الظُّلْمَ وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ إلَّا صِفَاتٍ إضَافِيَّةً وَهِيَ مِنْ مَعْنَى السَّلْبِيَّةِ فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ سَلْبَ أَمْرٍ مَوْجُودٍ فَهِيَ تَعَلُّقٌ لَيْسَ بِمَوْجُودِ . فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ - عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ لَا مَعَانٍ وَلَا حُرُوفٌ إلَّا بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَوْجُودَةً وَلَا مَعْلُومَةً .
وَمِنْ حُجَّةِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْمَفْضُولُ نَاقِصًا عَنْ الْفَاضِلِ وَصِفَاتُ اللَّهِ كَامِلَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا وَالْقُرْآنُ [ ص: 73 ] مِنْ صِفَاتِهِ . قَالَ هَؤُلَاءِ : صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ . ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29445_28712_29566_28716التَّفَاضُلَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ ظَنُّوا أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الجهمية مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ . قَالُوا : وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ التَّفَاضُلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ . وَلِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِقَادِ صَارَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ يَذْكُرُ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ التَّفْضِيلِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الدَّرَّاجِ فِي مُصَنَّفٍ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ : " أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِمَّا ظَاهِرُهُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ آيِ الْقُرْآنِ وَسُورِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَفْضِيلَ ذَوَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ; إذْ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ هُوَ كُلُّهُ لِلَّهِ فَاضِلٌ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْوَاجِبِ لَهَا نَعْتُ الْكَمَالِ " . وَهَذَا النَّقْلُ لِلْإِجْمَاعِ هُوَ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ لَازِمًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَظَنَّ هُوَ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ إنَّمَا تَقَعُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا فِي الصِّفَاتِ قَالَ مَا قَالَ . وَإِلَّا فَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ فَضْلَ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضَهُ عَلَى [ ص: 74 ] بَعْضٍ : لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي لَوَازِمِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا . وَلَيْسَ هُوَ لَازِمًا لِابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ وُقُوعَ الْمُفَاضَلَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَهَذَا الْمَخْلُوقُ يُسَمَّى " كِتَابَ اللَّهِ " وَالْمَعْنَى الْقَدِيمُ يُسَمَّى " كَلَامُ اللَّهِ " وَلَفْظُ " الْقُرْآنِ " يُرَادُ بِهِ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَدِيمُ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الْمَخْلُوقُ . وَحِينَئِذٍ فَهِمَ يَتَأَوَّلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى الْقُرْآنِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ .
وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَقَالَةَ الجهمية الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّهِ بَلْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَالْكُتُبُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَسَانِيدِهَا وَغَيْرِ أَسَانِيدِهَا كَثِيرَةٌ : مِثْلُ : ( كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الجهمية لِلْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَ ( الرَّدِّ عَلَى الجهمية لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الجعفي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَ ( الرَّدِّ عَلَى الجهمية لِلْحَكَمِ بْنِ مَعْبَدٍ الخزاعي وَ ( كِتَابِ السُّنَّةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَ ( السُّنَّةِ لِحَنْبَلِ ابْنِ عَمِّ nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَد وَ ( السُّنَّةِ nindex.php?page=showalam&ids=11998لِأَبِي داود السجستاني وَ ( السُّنَّةِ لِلْأَثْرَمِ وَ ( السُّنَّةِ لِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَ ( السُّنَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ nindex.php?page=showalam&ids=15821لِخُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ [ ص: 75 ] ( وَالرَّدِّ عَلَى الجهمية nindex.php?page=showalam&ids=14274لِعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي . وَ ( نَقْضِ nindex.php?page=showalam&ids=14274عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى الجهمي الْكَاذِبِ الْعَنِيدِ فِيمَا افْتَرَى عَلَى اللَّهِ فِي التَّوْحِيدِ وَ ( كِتَابِ التَّوْحِيدِ لِابْنِ خزيمة وَ ( السُّنَّةِ للطبراني وَلِأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَ ( شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ لِأَبِي الْقَاسِمِ اللالكائي وَ ( الْإِبَانَةِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَكُتُبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَ ( السُّنَّةِ nindex.php?page=showalam&ids=12002لِأَبِي ذَرٍّ الهروي وَ ( الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ للبيهقي وَ ( الْأُصُولِ لِأَبِي عُمَرَ الطلمنكي وَ ( الْفَارُوقِ لِأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَ ( الْحُجَّةِ لِأَبِي الْقَاسِمِ التيمي .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي يَطُولُ تَعْدَادُهَا : الَّتِي يَذْكُرُ مُصَنِّفُوهَا الْعُلَمَاءُ الثِّقَاتُ مَذَاهِبَ السَّلَفِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظِهِمْ الْكَثِيرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ مِنْهَا أَقْوَالُهُمْ مَعَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الجهمية لِأَهْلِ السُّنَّةِ - الَّتِي جَرَتْ فِي زَمَنِ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ لَمَّا صَبَرَ فِيهَا nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَد وَقَامَ بِإِظْهَارِ السُّنَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مِحْنَةِ الجهمية حَتَّى نَصَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَالسُّنَّةَ وَأَطْفَأَ نَارَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ - ظَهَرَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلسَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الَّذِينَ أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ هُمْ nindex.php?page=showalam&ids=14005الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمِنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الجهمية لَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ [ ص: 76 ] كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْمِحْنَةِ nindex.php?page=showalam&ids=12251كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ عَدَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هَذَا نَقْلٌ لِمَا يَظُنُّهُ النَّاقِلُ لَازِمًا لِمَذْهَبِهِمْ . فَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29453_29566الْقُرْآنَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَظَنَّ هَذَا النَّاقِلُ أَنَّ التَّفَاضُلَ يَمْتَنِعُ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ نَقَلَ امْتِنَاعَ التَّفَاضُلِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّلَازُمِ . وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ : أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَمَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِلَا رَيْبٍ .
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ فَهَلْ يُمْكِنُك أَنْ تَنْقُلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ قَوْلًا بِذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَنْقُلَ إجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا عَلِمْت أَحَدًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُثْبِتَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا . وَلَكِنْ إنْ كَانَ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا قَوْلُهُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ . لَكِنَّ الَّذِي أَقْطَعُ بِهِ وَيَقْطَعُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِكَلَامِ السَّلَفِ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بَيْنَ السَّلَفِ وَلَا قَالَهُ وَاحِدٌ وَاشْتَهَرَ قَوْلُهُ عِنْدَ الْبَاقِينَ فَسَكَتُوا عَنْهُ وَلَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي نُقِلَ [ ص: 77 ] فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَنْقُولُ الثَّابِتُ عَنْهُمْ - أَوْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ تَفَاضُلَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَكَذَا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ كَلَامَهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ . ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ التَّفَاضُلَ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْمَخْلُوقِ لَا فِي الصِّفَاتِ وَهَذَا الظَّنُّ لَمْ يَنْقُلُوهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَلَا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ وَلِهَذَا شَنَّعَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَنْ ظَنَّ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ لِظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِخِلَافِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي رَدِّهِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إذَا عَدَلَتْ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ أَنَّهَا تَفْضُلُ الرُّبُعَ مِنْهُ وَخُمُسَهُ وَمَا دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ التَّفَاضُلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَقَالَ : فَهَذَا لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ إذْ لَا يَصِحُّ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ ; إذْ صِفَاتُهُ كُلُّهَا فَاضِلَةٌ فِي غَايَةِ الْفَضِيلَةِ وَنِهَايَةِ الْعُلُوِّ وَالْكَرَامَةِ فَمَنْ تَنَقَّصَ شَيْئًا مِنْهَا عَنْ سَائِرِهَا فَقَدْ أَلْحَدَ فِيهَا أَلَا تَسْمَعُهُ مَنَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=91الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } .
[ ص: 78 ] قَالَ : وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ صِفَةِ خَلْقِهِ . قَالَ : وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَا يَخْلُو مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تَكُونَ النَّاسِخَةُ خَيْرًا مِنْ الْمَنْسُوخَةِ فِي ذَاتِهَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْهَا لِمَنْ تَعَبَّدَ بِهَا إذْ مُحَالٌ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْقُرْآنُ فِي ذَاتِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ ; إذْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ . فَلَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ خَيْرًا مِنْ آيَةٍ فِي ذَاتِهَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِخَيْرِ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ لِلْمُتَعَبِّدِينَ بِهَا لَمْ يَنْقُلْ عِبَادَهُ مِنْ تَخْفِيفٍ إلَى تَثْقِيلٍ وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُمْ بِالنَّسْخِ مِنْ تَحْرِيمٍ إلَى تَحْلِيلٍ وَمِنْ إيجَابٍ إلَى تَخْيِيرٍ وَمِنْ تَطْهِيرٍ إلَى تَطْهِيرٍ وَالشَّاهِدُ لَنَا قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . فَيُقَالُ : أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى مُثْبِتِ الْمُفَاضَلَةِ بِالْكُفْرِ " فَهُمْ يُقَابِلُونَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَحُجَّتُهُمْ أَقْوَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ بَلْ عُلِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَإِنَّمَا الْكَافِرُ مَنْ أَنْكَرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصٌّ يَمْنَعُ تَفْضِيلَ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ بَلْ وَلَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَ صِفَاتِهِ [ ص: 79 ] تَعَالَى بَلْ وَلَا نَقْلَ هَذَا النَّفْيِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ بِحَيْثُ جُعِلُوا أَعْلَامًا لِلسُّنَّةِ وَأَئِمَّةً لِلْأُمَّةِ .
فَكَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَالشُّعَرَاءُ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْمَعَانِي فَقَطْ أَوْ الْأَلْفَاظُ فَقَطْ أَوْ كِلَاهُمَا أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا فَلَا رَيْبَ فِي تَفَاضُلِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي مِنْ الْمُتَكَلِّمِ الْوَاحِدِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ اتِّفَاقِ الْكَلَامَيْنِ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِمَا وَاحِدٌ لَا يُوجِبُ تَمَاثُلُهُمَا مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ . فَتَفَاضُلُ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ إنْشَاءً أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ فَلَيْسَ الْخَبَرُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَالْخَبَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ وَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ وَإِنْ كَانَ هَذَا كَلَامًا عَظِيمًا مُعَظَّمًا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَتْ [ ص: 59 ] بِهِ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالْمَأْمُورَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَتْهُ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا وَمَا يَحْصُلُ مَعَهُ فَسَادٌ عَظِيمٌ كَالْأَمْرِ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرَانِ وَاجِبَيْنِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالْأَمْرِ بِأَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَإِيتَائِهَا أَجْرَهَا إذَا أَرْضَعَتْ . وَلِهَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى nindex.php?page=treesubj&link=29566تَفَاضُلِ أَنْوَاعِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَقَالُوا : إنَّ إيجَابَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ إيجَابِ الْآخَرِ وَتَحْرِيمُهُ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْآخَرِ فَهَذَا أَعْظَمُ إيجَابًا وَهَذَا أَعْظَمُ تَحْرِيمًا وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ نَازَعُوا فِي ذَلِكَ Multitarajem.php?tid=13371,13372كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ فَقَالُوا : التَّفَاضُلُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ لَكِنْ فِي مُتَعَلَّقِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : بَلْ التَّفَاضُلُ فِي الْأَمْرَيْنِ وَالتَّفَاضُلُ فِي الْمُسَبِّبَاتِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْأَسْبَابِ وَكَوْنُ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ ثَوَابُهُ أَعْظَمُ وَعِقَابُهُ أَعْظَمُ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ أَوْكَدُ وَكَوْنُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَالنَّهْيَيْنِ مَخْصُوصًا بِالتَّوْكِيدِ دُونَ الثَّانِي مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ عَاقِلٌ وَلَوْ تَسَاوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَامْتَنَعَ الِاخْتِصَاصُ بِتَوْكِيدِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ وَالتَّفْضِيلَ مُتَضَادَّانِ .
وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّفَاضُلِ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ وَإِطْلَاقُ [ ص: 60 ] ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَهُوَ قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى nindex.php?page=showalam&ids=11851وَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْقَاضِي يَعْقُوبَ البرزيني وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَلْوَانِيِّ وأبي الْحَسَنِ بْنِ الزاغوني وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَسِّرُ التَّفَاضُلَ بِتَفَاضُلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ النفاة . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَفْسَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْبُغْضَ وَالْإِرَادَةَ وَالْكَرَامَةَ وَالطَّلَبَ وَالِاقْتِضَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ وَتَتَفَاضَلُ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا . وَنَفْسُ حُبِّ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ يَتَفَاضَلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=165وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . وَنَفْسُ حُبِّ اللَّهِ لَهُمْ يَتَفَاضَلُ أَيْضًا فَإِنَّ الْخَلِيلَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّنْ سِوَاهُمَا وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ بَعْضٍ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ هَذَا مَشْهُورٌ وَمُسْتَفِيضٌ فِي الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَكَلَامِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كَقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ : لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَفَعَلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الصَّفِّ وَهُوَ مَشْهُورٌ ثَابِتٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ . وَكَوْنُ هَذَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا هُوَ دَاخِلٌ فِي nindex.php?page=treesubj&link=25504تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَبَعْضِ الْأَشْخَاصِ عَلَى بَعْضٍ . وَبَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597943قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَّةَ : وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ . وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْك لَمَا خَرَجْت } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مِنْ [ ص: 61 ] حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ . وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ حُبِّهِ وَبُغْضِهِ عَلَى حُبِّ غَيْرِهِ وَبُغْضِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597944عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسِهِ . وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } .
وَقَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=29791لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ } وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=10لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الْآيَةَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ nindex.php?page=treesubj&link=29566تَفَاضُلُ الْمَأْمُورَاتِ : فَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْمَنْهِيَّاتِ شَرٌّ مِنْ بَعْضٍ وَحِينَئِذٍ فَطَلَبُ الْأَفْضَلِ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ أَكْمَلُ مِنْ طَلَبِ الْمَفْضُول وَالطَّالِبُ إذَا كَانَ حَكِيمًا يَكُونُ طَلَبُهُ لِهَذَا أَوْكَدَ . فَفِي الْجُمْلَةِ مِنْ الْمُسْتَقَرِّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ يَلْحَقُهُمَا التَّفَاضُلُ مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ وَالْمَأْمُورِ بِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَخْبَرُ بِهِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ كَانَ الْخَبَرُ بِهِ أَفْضَلَ وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَفْضَلَ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَفْضَلَ . وَلِهَذَا كَانَ الْخَبَرُ بِمَا فِيهِ نَجَاةُ النُّفُوسِ مِنْ الْعَذَابِ وَحُصُولُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ أَفْضَلَ مِنْ الْخَبَرِ بِمَا فِيهِ نَيْلُ مَنْزِلَةٍ أَوْ حُصُولُ دَرَاهِمَ وَالرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَفْضَلَ الْخِبْرَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ الرُّؤْيَا الَّتِي تَتَضَمَّنُ أَدْنَاهُمَا وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً . وَإِذَا قَدَرَ أَمِيرَانِ أَمَرَ أَحَدُهُمَا بِعَدْلِ عَامٍّ عَمَّرَ بِهِ الْبِلَادَ وَدَفَعَ بِهِ الْفَسَادَ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ أَعْظَمَ مِنْ أَمْرِ أَمِيرٍ [ ص: 62 ] يَعْدِلُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ فِي مِيرَاثِ بَعْضِ الْأَمْوَاتِ . وَأَيْضًا فَالْخَبَرُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِالْمَخْبَرِ بِهِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ طَلَبًا وَإِرَادَةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إرَادَةَ فِعْلِ الْأَمْرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَكِنْ أَعَانَ أَهْلَ الطَّاعَةِ فَصَارَ مُرِيدًا لَأَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ وَلَمْ يَعْنِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْلُقَ أَفْعَالَهُمْ . فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ وَأَمَّا الْإِرَادَةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّ فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَرْضَاهُ إذَا فُعِلَ وَيُرِيدُ مِنْ الْمَأْمُورِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَأْمُورٌ فَهَذِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْأَمْرِ . وَلِهَذَا أَثَبَتَ اللَّهُ هَذِهِ الْإِرَادَةَ فِي الْأَمْرِ دُونَ الْأُولَى . وَلَكِنْ فِي النَّاسِ مِنْ غَلَطٍ فَنَفَى الْإِرَادَةَ مُطْلَقًا وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْأَمْرِيَّةِ .
وَالْقُرْآنُ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ فَقَالَ فِي الْأُولَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=125فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } وَقَالَ نُوحٌ : { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=34وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=39وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ } وَلِهَذَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ : مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=33إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=6مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ } [ ص: 63 ] وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=26يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=27وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْأَمْرِ مِنْ طَلَبٍ وَاسْتِدْعَاءٍ وَاقْتِضَاءٍ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ هُنَاكَ إرَادَةً شَرْعِيَّةً وَأَنَّهُ لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ سِوَاهَا كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ قِيلَ : لَا إرَادَةَ لِلرَّبِّ إلَّا الْإِرَادَةُ الْخِلْقِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ إرَادَتَهُ عَيْنُ نَفْسِ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَنَّ إرَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ إيمَانٍ وَكُفْرٍ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يُوجَدُ سَوَاءٌ كَانَ إيمَانًا أَوْ كُفْرًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ لَهَا أَثَرٌ فِي وُجُودِ مَقْدُورِهِ وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَأَسْبَابٌ يَخْلُقُ بِهَا وَلَا لِلَّهِ حِكْمَةٌ يَخْلُقُ وَيَأْمُرُ لِأَجْلِهَا كَمَا يَقُولُ هَذَا وَمَا يُشْبِهُهُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ هُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَبَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَاقَضُوا الْقَدَرِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةَ مُنَاقِضَةً أَلْجَأَتْهُمْ إلَى إنْكَارِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ بِبَعْضِ ذَلِكَ يَتَنَاقَضُ وَقَدْ يَثْبُتُ أَحَدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْمَعْنَى .
[ ص: 64 ] وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَيُثْبِتُونَ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ حَادِثٍ وَالْإِرَادَةَ الْأَمْرِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُتَنَاوِلَةَ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ وَهُوَ مَا أَمَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ مَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ وَيُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ النَّافِعَةُ فِي الْمَعَادِ الدَّافِعَةُ لِلْفَسَادِ .
فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا أَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَةَ الْخِلْقِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَظَرَ إلَى هَذِهِ فَقَطْ وَرَاعَى هَذِهِ الْخِلْقِيَّةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ دُونَ تِلْكَ يَكُونُ لَهُ بِدَايَةٌ بِلَا نِهَايَةٍ فَيَكُونُ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا يَحْصُلُ لَهُمْ بَعْضُ مُطَالِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِاسْتِعَانَتِهِمْ بِاَللَّهِ إذْ شَهِدُوا رُبُوبِيَّتَهُ وَلَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إذْ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ . وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ .
وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَمْرِيَّةِ دُونَ تِلْكَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَقَدْ يُرَاعَى الْأَمْرُ ; لَكِنَّهُ يَكُونُ عَاجِزًا مَخْذُولًا حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ وَفَقْرَهُ إلَيْهِ لِيَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ بَرِيًّا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ .
فَهَذَا قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ وَلَا يَقْصِدَ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَهِيَ حَالُ الْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ خَالِقًا أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَا مُرِيدًا لِلْكَائِنَاتِ وَلِهَذَا قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=12032أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّمَا يَعْجَبُ بِفِعْلِهِ الْقَدَرِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَرَى أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ .
فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ [ ص: 65 ] يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ لِلَّهِ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يَعْجَبُونَ بِهَا ؟ أَوْ كَمَا قَالَ . وَالْأَوَّلُ قَدْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَهُ وَيَسْأَلَهُ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَبْرَأَ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ أَنْ يَعْبُدَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ وَلَا يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ وَأَنَّهُ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَلْ يَنْسَلِخُ مِنْ الدِّينِ أَوْ بَعْضِهِ لَا سِيَّمَا فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ .
وَهَذِهِ الْحَالُ إنْ طَرَدَهَا صَاحِبُهَا كَانَ شَرًّا مِنْ حَالِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ بَلْ إنْ طَرَدَهَا طَرْدًا حَقِيقِيًّا أَخْرَجَتْهُ مِنْ الدِّينِ خُرُوجَ الشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ وَهِيَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ . وَأَمَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَيَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَلَا يُوَافِقُ أَمْرَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَكُلُّ قَاصِدٍ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ فَهُوَ مَصْدُودٌ مِنْ مَآرِبِهِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مُؤْمِنًا بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ : بِقَدْرِهِ وَشَرْعِهِ فَيَسْتَعِينُ اللَّهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَأَنَّ لِلَّهِ الْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى خَلْقِهِ وَأَنَّ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ حِكْمَةً بَالِغَةً وَرَحْمَةً سَابِغَةً .
وَهَذِهِ الْأُمُورُ أُصُولٌ عَظِيمَةٌ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . [ ص: 66 ] وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْخَبَرَ الصَّادِقَ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْأَمْرُ يَتَضَمَّنُ جِنْسَ الطَّلَبِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ .
ثُمَّ هَلْ مَدْلُولُ الْخَبَرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْعِلْمِ وَمَدْلُولُ الْأَمْرِ جِنْسٌ مِنْ الْمَعَانِي غَيْرَ جِنْسِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ مِثْلَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ ؟ أَوْ الْمَدْلُولُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ ؟ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ نُظَّارِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرَ . فَيَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُخَالِفُونَ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنَ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي ذَيْنك الْأَصْلَيْنِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْقَوْلِ فِي الْكَلَامِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ خَيْرًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ والجهمية الْمَحْضَةِ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَطَوَائِفِ النُّظَّارِ فَلَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا الكلابية كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الطَّوَائِفِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الْكُتُبِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ لَهَا مَعَانٍ : سَوَاءٌ سُمِّيَ طَلَبًا أَوْ إرَادَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ حُكْمًا أَوْ كَلَامًا نَفْسَانِيًّا . وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا فَلَيْسَ عِلْمُنَا بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ [ ص: 67 ] كَعِلْمِنَا بِحَالِ أَبِي لَهَبٍ . وَلَيْسَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّلَبِ الْقَائِمِ بِنَا إذَا أُمِرْنَا بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَإِخْرَاجِ الدِّرْهَمِ مِنْ الزَّكَاةِ .
فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566مَعَانِيَ الْكَلَامِ قَدْ تَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهَا كَمَا قَدْ تَتَمَاثَلُ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا صِيغَةُ الْأَمْرِ - سَوَاءٌ سُمِّيَتْ طَلَبًا أَوْ اقْتِضَاءً أَوْ اسْتِدْعَاءً أَوْ إرَادَةً أَوْ مَحَبَّةً أَوْ رِضًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - فَإِنَّهَا مُتَفَاضِلَةٌ بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ النَّفْسَانِيَّةِ فَهِيَ مُتَفَاضِلَةٌ فِي نَفْسِهَا بِحَسَبِ تَفَاضُلِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ . فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ تَفَاضُلِ الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَاحِدًا . وَهُوَ أَيْضًا مُتَفَاضِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ وَاحِدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَكْلِيمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَفْضَلُ مِنْ تَكْلِيمِهِ بِالْإِيحَاءِ وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=144إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=253تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } وَاَلَّذِي يَجِدُ النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ تَتَفَاضَلُ أَحْوَالُهُ [ ص: 68 ] فِي أَنْوَاعِ الْكَلَامِ بَلْ وَفِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ يَتَفَاضَلُ مَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعَانِي وَمَا يَقُومُ بِلِسَانِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ بِحَيْثُ قَدْ يَكُونُ إذَا كَانَ طَالِبًا هُوَ أَشَدُّ رَغْبَةً وَمَحَبَّةً وَطَلَبًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ لِلْآخَرِ وَيَكُونُ صَوْتُهُ بِهِ أَقْوَى وَلَفْظُهُ بِهِ أَفْصَحَ وَحَالُهُ فِي الطَّلَبِ أَقْوَى وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا ; وَلِهَذَا يَكُونُ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمَوْعِظَةِ بَلْ لِلْآيَةِ الْوَاحِدَةِ إذَا سُمِعَتْ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْ ظُهُورِ التَّفَاضُلِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تَمْثِيلٍ .
وَكَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ قَدْ يَقُومُ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْلُومِ وَشُهُودِ الْقَلْبِ إيَّاهُ بِاللِّسَانِ مِنْ حُسْنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ لَفْظًا وَصَوْتًا مَا لَا يُقَارِبُهُ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْرِهِ . فَهَذَا نَوْعُ إشَارَةٍ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ مُوَافِقًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةُ . وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ تَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُفَضَّلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لِهَؤُلَاءِ فِي تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي التَّفْضِيلِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ فِي مُتَعَلَّقِهِ مِثْلَ كَوْنِ بَعْضِهِ أَنْفَعَ لِلنَّاسِ مِنْ بَعْضٍ لِكَوْنِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ أَوْ الْعَمَلِ بِهِ أَخَفَّ مَعَ التَّمَاثُلِ فِي الْأَجْرِ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } أَيْ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا لَكُمْ لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا خَيْرٌ مِنْ تِلْكَ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ كَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري قَالَ . نَأْتِ بِحُكْمِ خَيْرٍ لَكُمْ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ : إمَّا فِي الْعَاجِلِ لِخِفَّتِهِ [ ص: 69 ] عَلَيْكُمْ وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ لِعِظَمِ ثَوَابِهِ مِنْ أَجْلِ مَشَقَّةِ حَمْلِهِ . قَالَ : وَالْمُرَادُ مَا نَنْسَخُ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=93وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } أَيْ حُبَّهُ قَالَ : وَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ . لِأَنَّ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ : بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَوْ بَعْضُهَا خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ . وَطَرْدُ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ فَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَسْمَائِهِ أَعْظَمَ أَوْ أَفْضَلَ أَوْ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ . وَقَالَ : مَعْنَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ : الْعَظِيمُ وَكُلُّهَا سَوَاءٌ فِي الْعَظَمَةِ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ حَالُ النَّاسِ حِينَ الدُّعَاءِ فَيَكُونُ الْأَعْظَمُ بِحَسَبِ حَالِ الدُّعَاءِ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَعَظُمَ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ نَظِيرَ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِمَنْ مَنَعَ تَفْضِيلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ أَوْ خَيْرًا كَوْنُهُ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ ; لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ يُحْكَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ قَالُوا : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَظِيمٌ فَاضِلٌ وَقَالُوا : مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ تَقْصِيرُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَبَعَّضُ وَهَذَا يَقُولُونَهُ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ عِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ فِيهِ تَمَاثُلُ أَوْ تَفَاضُلُ وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَلِامْتِنَاعِ التَّغَايُرِ وَلَا يَقُولُونَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ قَالُوا : لِأَنَّ الْكَلَامَ [ ص: 70 ] يَمْتَنِعُ قِيَامُهُ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ قِيَامُهُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ قَائِمًا بِغَيْرِهِ لَبَطَلَ أَصْلُهُمْ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَرَدُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهَؤُلَاءِ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِهِمْ .
وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ يَقُولُ : إنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29463_29453لَفْظَ " كَلَامِ اللَّهِ " يَقَعُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَعَلَى الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ الدَّالِّ عَلَيْهِ . وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي يَمْتَنِعُ تَفَاضُلُهُ عِنْدَهُمْ . وَأَصْلُ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الْمَعَانِي بَلْ هُوَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ فَقَطْ وَأَنَّ مَعَانِيَ كِتَابِ اللَّهِ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ . فَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَالْفَاتِحَةِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَتَبَّتْ وَمَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَكُلِّ حَدِيثٍ إلَهِيٍّ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلِّ مَا يُكَلِّمُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ : إنَّمَا هِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ . وَلَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بَلْ كَلَامُ غَيْرِهِ : جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ الْوَاحِدِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ وَالْإِخْبَارُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لِلْكَلَامِ وَأَقْسَامًا لَهُ فَإِنَّ الْوَاحِدَ بِالْعَيْنِ لَا يَقْبَلُ [ ص: 71 ] التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ ; بِخِلَافِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّنْوِيعَ وَالتَّقْسِيمَ وَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَهِيَ صِفَاتٌ إضَافِيَّةٌ لَهُ فَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَانَ أَمْرًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُنْهَى عَنْهُ كَانَ نَهْيًا وَإِذَا تَعَلَّقَ بِمَا يُخْبَرُ عَنْهُ كَانَ خَبَرًا . وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : فَسَادُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَعَانِيَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِي { nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَلَا مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ مَعَانِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ هِيَ مَعَانِي الْخَبَرِ عَنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ تَعَلُّقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْأَفْعَالُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ أَمْرًا وُجُودِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ فَإِنْ قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ فَقَدْ تَعَدَّدَتْ مَعَانِي الْكَلَامِ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ وَإِنْ قَامَ بِذَاتِ غَيْرِهِ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لِلَّهِ وَإِنْ قَامَ لَا بِمَحَلِّ كَانَ مُمْتَنِعًا ; فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا ; وَإِنْ كَانَ تَعَلُّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْحَقَائِقِ أَمْرًا عَدَمِيًّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْتَازَ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ .
وَالْحَقَائِقُ الْمَخْبَرُ عَنْهَا وَالْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا لَا تَكُونُ بِأَنْفُسِهَا مُخْبَرًا بِهَا وَمَأْمُورًا بِهَا وَمَنْهِيًّا عَنْهَا بَلْ الْخَبَرُ عَنْهَا وَالْأَمْرُ بِهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا هُوَ غَيْرُ ذَوَاتِهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي لَا امْتِيَازَ فِيهِ وَلَا تَعَدُّدَ وَغَيْرُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ : لَمْ [ ص: 72 ] يَكُنْ هُنَا مَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَلَا مَا يَجْعَلُ مَعَانِيَ آيَةِ الْوُضُوءِ غَيْرَ مَعَانِي آيَةِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْحُرُوفَ الْمَخْلُوقَةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى إنْ لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَيْهِ فَلَا تَعَدُّدَ فِيهِ وَلَا تَنْوِيعَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى التَّعَلُّقَاتِ الَّتِي هِيَ عَدَمِيَّةٌ فَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءِ حَتَّى يَكُونَ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى وَتَعَلُّقُهُ بِالْحَقَائِقِ الْمَخْبَرِ عَنْهَا وَالْمَأْمُورِ بِهَا وَنَفْسُ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ هُوَ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فَالْمَدْلُولُ إنْ كَانَ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ أَمْرٌ عَنْ خَبَرٍ وَلَا أَمْرٌ بِصَلَاةِ عَنْ أَمْرٍ بِزَكَاةِ وَلَا نَهْيٌ عَنْ الْكُفْرِ عَنْ إخْبَارٍ بِتَوْحِيدِ . وَإِنْ كَانَتْ التَّعَلُّقَاتُ عَدَمِيَّةً فَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَلَا يَكُونُ الْعَدَمُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَلَا يَكُونُ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ أُمُورًا عَدَمِيَّةً لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا تَكُونُ الْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ هِيَ الَّتِي بِهَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ وَحَرَّمَ الظُّلْمَ وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ إلَّا صِفَاتٍ إضَافِيَّةً وَهِيَ مِنْ مَعْنَى السَّلْبِيَّةِ فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ سَلْبَ أَمْرٍ مَوْجُودٍ فَهِيَ تَعَلُّقٌ لَيْسَ بِمَوْجُودِ . فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ - عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ لَا مَعَانٍ وَلَا حُرُوفٌ إلَّا بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ مَوْجُودَةً وَلَا مَعْلُومَةً .
وَمِنْ حُجَّةِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْمَفْضُولُ نَاقِصًا عَنْ الْفَاضِلِ وَصِفَاتُ اللَّهِ كَامِلَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا وَالْقُرْآنُ [ ص: 73 ] مِنْ صِفَاتِهِ . قَالَ هَؤُلَاءِ : صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ . ثُمَّ لَمَّا اعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29445_28712_29566_28716التَّفَاضُلَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ مُمْتَنِعٌ ظَنُّوا أَنَّ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ كَلَامِهِ عَلَى بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ إلَّا عَلَى قَوْلِ الجهمية مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ . قَالُوا : وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ التَّفَاضُلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ . وَلِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِقَادِ صَارَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ يَذْكُرُ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ التَّفْضِيلِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الدَّرَّاجِ فِي مُصَنَّفٍ صَنَّفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ : " أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِمَّا ظَاهِرُهُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ آيِ الْقُرْآنِ وَسُورِهِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَفْضِيلَ ذَوَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ; إذْ هُوَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ هُوَ كُلُّهُ لِلَّهِ فَاضِلٌ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْوَاجِبِ لَهَا نَعْتُ الْكَمَالِ " . وَهَذَا النَّقْلُ لِلْإِجْمَاعِ هُوَ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ لَازِمًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَظَنَّ هُوَ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ إنَّمَا تَقَعُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا فِي الصِّفَاتِ قَالَ مَا قَالَ . وَإِلَّا فَلَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ فَضْلَ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضَهُ عَلَى [ ص: 74 ] بَعْضٍ : لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي لَوَازِمِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا . وَلَيْسَ هُوَ لَازِمًا لِابْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ وُقُوعَ الْمُفَاضَلَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ وَهَذَا الْمَخْلُوقُ يُسَمَّى " كِتَابَ اللَّهِ " وَالْمَعْنَى الْقَدِيمُ يُسَمَّى " كَلَامُ اللَّهِ " وَلَفْظُ " الْقُرْآنِ " يُرَادُ بِهِ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَدِيمُ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الْمَخْلُوقُ . وَحِينَئِذٍ فَهِمَ يَتَأَوَّلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى الْقُرْآنِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَهُمْ .
وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا مَقَالَةَ الجهمية الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّهِ بَلْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَالْكُتُبُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَسَانِيدِهَا وَغَيْرِ أَسَانِيدِهَا كَثِيرَةٌ : مِثْلُ : ( كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الجهمية لِلْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَ ( الرَّدِّ عَلَى الجهمية لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الجعفي شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَ ( الرَّدِّ عَلَى الجهمية لِلْحَكَمِ بْنِ مَعْبَدٍ الخزاعي وَ ( كِتَابِ السُّنَّةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَ ( السُّنَّةِ لِحَنْبَلِ ابْنِ عَمِّ nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَد وَ ( السُّنَّةِ nindex.php?page=showalam&ids=11998لِأَبِي داود السجستاني وَ ( السُّنَّةِ لِلْأَثْرَمِ وَ ( السُّنَّةِ لِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَ ( السُّنَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ nindex.php?page=showalam&ids=15821لِخُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ [ ص: 75 ] ( وَالرَّدِّ عَلَى الجهمية nindex.php?page=showalam&ids=14274لِعُثْمَانِ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي . وَ ( نَقْضِ nindex.php?page=showalam&ids=14274عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى الجهمي الْكَاذِبِ الْعَنِيدِ فِيمَا افْتَرَى عَلَى اللَّهِ فِي التَّوْحِيدِ وَ ( كِتَابِ التَّوْحِيدِ لِابْنِ خزيمة وَ ( السُّنَّةِ للطبراني وَلِأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَ ( شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ لِأَبِي الْقَاسِمِ اللالكائي وَ ( الْإِبَانَةِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَكُتُبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَ ( السُّنَّةِ nindex.php?page=showalam&ids=12002لِأَبِي ذَرٍّ الهروي وَ ( الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ للبيهقي وَ ( الْأُصُولِ لِأَبِي عُمَرَ الطلمنكي وَ ( الْفَارُوقِ لِأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ وَ ( الْحُجَّةِ لِأَبِي الْقَاسِمِ التيمي .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي يَطُولُ تَعْدَادُهَا : الَّتِي يَذْكُرُ مُصَنِّفُوهَا الْعُلَمَاءُ الثِّقَاتُ مَذَاهِبَ السَّلَفِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظِهِمْ الْكَثِيرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ مِنْهَا أَقْوَالُهُمْ مَعَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الجهمية لِأَهْلِ السُّنَّةِ - الَّتِي جَرَتْ فِي زَمَنِ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ لَمَّا صَبَرَ فِيهَا nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَد وَقَامَ بِإِظْهَارِ السُّنَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مِحْنَةِ الجهمية حَتَّى نَصَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَالسُّنَّةَ وَأَطْفَأَ نَارَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ - ظَهَرَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلسَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الَّذِينَ أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ هُمْ nindex.php?page=showalam&ids=14005الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمِنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الجهمية لَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ [ ص: 76 ] كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . أَمَّا كَوْنُهُ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا أَئِمَّةَ الْمِحْنَةِ nindex.php?page=showalam&ids=12251كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ عَدَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هَذَا نَقْلٌ لِمَا يَظُنُّهُ النَّاقِلُ لَازِمًا لِمَذْهَبِهِمْ . فَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29453_29566الْقُرْآنَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَظَنَّ هَذَا النَّاقِلُ أَنَّ التَّفَاضُلَ يَمْتَنِعُ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ نَقَلَ امْتِنَاعَ التَّفَاضُلِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّلَازُمِ . وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ : أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَمَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِلَا رَيْبٍ .
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ فَهَلْ يُمْكِنُك أَنْ تَنْقُلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ قَوْلًا بِذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَنْقُلَ إجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا عَلِمْت أَحَدًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُثْبِتَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا إجْمَاعًا . وَلَكِنْ إنْ كَانَ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا قَوْلُهُ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ . لَكِنَّ الَّذِي أَقْطَعُ بِهِ وَيَقْطَعُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِكَلَامِ السَّلَفِ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بَيْنَ السَّلَفِ وَلَا قَالَهُ وَاحِدٌ وَاشْتَهَرَ قَوْلُهُ عِنْدَ الْبَاقِينَ فَسَكَتُوا عَنْهُ وَلَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْكُتُبِ الَّتِي نُقِلَ [ ص: 77 ] فِيهَا أَلْفَاظُهُمْ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَنْقُولُ الثَّابِتُ عَنْهُمْ - أَوْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ تَفَاضُلَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَكَذَا مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَد عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ كَلَامَهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ . ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ التَّفَاضُلَ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْمَخْلُوقِ لَا فِي الصِّفَاتِ وَهَذَا الظَّنُّ لَمْ يَنْقُلُوهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَلَا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ وَلِهَذَا شَنَّعَ هَؤُلَاءِ عَلَى مَنْ ظَنَّ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ لِظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِخِلَافِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي رَدِّهِ لِتَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إذَا عَدَلَتْ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ أَنَّهَا تَفْضُلُ الرُّبُعَ مِنْهُ وَخُمُسَهُ وَمَا دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ التَّفَاضُلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَقَالَ : فَهَذَا لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ إذْ لَا يَصِحُّ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ ; إذْ صِفَاتُهُ كُلُّهَا فَاضِلَةٌ فِي غَايَةِ الْفَضِيلَةِ وَنِهَايَةِ الْعُلُوِّ وَالْكَرَامَةِ فَمَنْ تَنَقَّصَ شَيْئًا مِنْهَا عَنْ سَائِرِهَا فَقَدْ أَلْحَدَ فِيهَا أَلَا تَسْمَعُهُ مَنَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=91الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } .
[ ص: 78 ] قَالَ : وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَا مِنْ صِفَةِ خَلْقِهِ . قَالَ : وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَا يَخْلُو مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تَكُونَ النَّاسِخَةُ خَيْرًا مِنْ الْمَنْسُوخَةِ فِي ذَاتِهَا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْهَا لِمَنْ تَعَبَّدَ بِهَا إذْ مُحَالٌ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْقُرْآنُ فِي ذَاتِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ ; إذْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا مُتَوَافِرَةٌ فِي الْكَمَالِ مُتَنَاهِيَةٌ إلَى غَايَةِ التَّمَامِ لَا يَلْحَقُ شَيْئًا مِنْهَا نَقْصٌ بِحَالِ . فَلَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ آيَةٌ خَيْرًا مِنْ آيَةٍ فِي ذَاتِهَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِخَيْرِ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ لِلْمُتَعَبِّدِينَ بِهَا لَمْ يَنْقُلْ عِبَادَهُ مِنْ تَخْفِيفٍ إلَى تَثْقِيلٍ وَلَكِنَّهُ نَقَلَهُمْ بِالنَّسْخِ مِنْ تَحْرِيمٍ إلَى تَحْلِيلٍ وَمِنْ إيجَابٍ إلَى تَخْيِيرٍ وَمِنْ تَطْهِيرٍ إلَى تَطْهِيرٍ وَالشَّاهِدُ لَنَا قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . فَيُقَالُ : أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَوْلَا عُذْرُ الْجَهَالَةِ لَحُكِمَ عَلَى مُثْبِتِ الْمُفَاضَلَةِ بِالْكُفْرِ " فَهُمْ يُقَابِلُونَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَحُجَّتُهُمْ أَقْوَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ بَلْ عُلِمَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا وَإِنَّمَا الْكَافِرُ مَنْ أَنْكَرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَصٌّ يَمْنَعُ تَفْضِيلَ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ بَلْ وَلَا يَمْنَعُ تَفَاضُلَ صِفَاتِهِ [ ص: 79 ] تَعَالَى بَلْ وَلَا نَقْلَ هَذَا النَّفْيِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ بِحَيْثُ جُعِلُوا أَعْلَامًا لِلسُّنَّةِ وَأَئِمَّةً لِلْأُمَّةِ .
وَأَمَّا nindex.php?page=treesubj&link=29566تَفْضِيلُ بَعْضِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ ; بَلْ تَفْضِيلُ بَعْضِ صِفَاتِهِ عَلَى بَعْضِ : فَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ كَثِيرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّهَا لَا تَتَفَاضَلُ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ تَفَاضُلِهَا مَعْلُومًا إلَّا بِالْعَقْلِ لَا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهَا تَتَفَاضَلُ فَالدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مَعَ الْعَقْلِيَّةِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ التَّفْضِيلُ لَكَانَ كُفْرُ جَاحِدِ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ كُفْرِ مَنْ يُثْبِتُ التَّفْضِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَحَدَ مُوجِبَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ; بَلْ لَمَّا رَآهُ بِعَقْلِهِ وَأَخْطَأَ فِيهِ ; إذْ نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ لَمْ يُخَالِفْ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا . وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ نفاة الصِّفَاتِ لَمَّا تَأَمَّلَ حَالَ أَصْحَابِهِ وَحَالَ مُثْبِتِيهَا قَالَ : لَا رَيْبَ أَنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَالِنَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إنْ كَانُوا مُصِيبِينَ فَقَدْ نَالُوا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالرِّضْوَانَ الْأَكْبَرَ وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ يَا رَبِّ صَدَّقْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُك [ ص: 80 ] وَسُنَّةُ رَسُولِك إذْ لَمْ تُبَيِّنْ لَنَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَفْيَ الصِّفَاتِ كَمَا دَلَّ كَلَامُك عَلَى إثْبَاتِهَا فَنَحْنُ أَثْبَتْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُك وَكَلَامُ رَسُولِك فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَيِّنْ الرَّسُولُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ خِلَافَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ بَلْ إنَّ قُدِّرَ أَنَّهُ حَقٌّ فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْأَفْرَادُ فَكَيْفَ وَعَامَّةُ الْمُنْتَهِينَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ إلَى الْغَايَةِ يُقِرُّونَ بِالْحَيْرَةِ وَالِارْتِيَابِ . قَالَ النَّافِي : وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ مُصِيبِينَ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَنَا : أَنْتُمْ قُلْتُمْ شَيْئًا لَمْ آمُرْكُمْ بِقَوْلِهِ وَطَلَبْتُمْ عِلْمًا لَمْ آمُرْكُمْ بِطَلَبِهِ . فَالثَّوَابُ إنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَنْتُمْ لَمْ تَمْتَثِلُوا أَمْرِي . قَالَ : وَإِنْ كُنَّا مُخْطِئِينَ فَقَدْ خَسِرْنَا خُسْرَانًا مُبِينًا .
وَهَذَا حَالُ مَنْ أَثَبَتَ nindex.php?page=treesubj&link=29566الْمُفَاضَلَةَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمَنْ نَفَاهَا فَإِنَّ الْمُثْبِتَ مُعْتَصِمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَمَعَهُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِهِ وَفَسَادَ قَوْلِ مُنَازِعِهِ مَا لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا طَعْنٌ صَحِيحٌ . وَأَمَّا النَّافِي فَلَيْسَ مَعَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ يَزْعُمُ أَنَّ عَقْلَهُ دَلَّ عَلَيْهِ وَمُنَازِعُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ وَأَنَّ خَطَأَهُ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ . وَاحْتِجَاجُ الْمُحْتَجِّ عَلَى نَفْيِ التَّفَاضُلِ بِقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=91جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } فِي غَايَةِ الْفَسَادِ ; فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ سَوَاءٌ [ ص: 81 ] أُرِيدَ بِهَا مَنْ آمَنَ بِبَعْضِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِ أَوْ أُرِيدَ بِهَا مَنْ عَضَهَهُ فَقَالَ : هُوَ سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; بَلْ مَنْ نَفَى فَضْلَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عَلَى { nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ جَعَلَهُ عِضِينَ ; إنْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كَلَامَهُ فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ وَأَقَرَّ بِهِ كُلِّهِ فَلَمْ يَكْفُرْ بِحَرْفِ مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28894_28891_28877_28878كَلَامَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ وَأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا وَلَا أَصْدَقَ مِنْهُ قِيلًا وَأَقَرَّ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِ بَعْضِ كَلَامِهِ كَفَضْلِ ( فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَ ( آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ وَتَفْضِيلُ ( يس وَ ( تَبَارَكَ وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَلْ وَتَفْضِيلُ ( الْبَقَرَةِ وَ ( آلِ عِمْرَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السُّورِ وَالْآيَاتِ الَّتِي نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِفَضْلِهَا وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا مَعَانِيهِ وَلَا حُرُوفُهُ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ جَعْلِهِ عِضِينَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ; بَلْ آمَنَ بِفَضْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِفَضْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ ; فَإِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ آمَنَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ ; بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَهَذَا [ ص: 82 ] أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيمَنْ عَضَهَ الْقُرْآنُ وَرَمَاهُ بِالْإِفْكِ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامَ مَخْلُوقٍ : إمَّا بَشَرٌ وَإِمَّا مَلِكٌ وَإِمَّا غَيْرُهُمَا فَمَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَا هُوَ مِنْ إحْدَاثِ مَخْلُوقٍ لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ وَلَا شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ جِبْرِيلُ رَسُولٌ مَلَكٌ وَمُحَمَّدٌ رَسُولٌ بَشَرٌ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ فَاصْطَفَى لِكَلَامِهِ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ فَنَزَلَ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ الَّذِي اصْطَفَاهُ وَقَدْ أَضَافَهُ إلَى كُلٍّ مِنْ الرَّسُولَيْنِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ ; لَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهُ وَابْتَدَاهُ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=40إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=20ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=21مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فَهَذَا نَعْتُ جِبْرِيلَ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=194عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=101وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=102قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=40إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=41وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=42وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=80تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=44وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=45لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=46ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=47فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } فَهَذِهِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَضَافَ الْقَوْلَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ الرَّسُولِ فَقَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=40لَقَوْلُ رَسُولٍ } [ ص: 83 ] لِأَنَّ الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى الْمُرْسَلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسَلٍ . لَمْ يَقُلْ : إنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا بَشَرٍ بَلْ كَفَرَ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ بَشَرٍ بِقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=11ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=12وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=13وَبَنِينَ شُهُودًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=14وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=15ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=16كَلَّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=17سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=18إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=20ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=21ثُمَّ نَظَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=22ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=23ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=24فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=25إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } فَمِنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ بِشَرِّ أَوْ قَوْلُ مَخْلُوقٍ غَيْرِ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ فَقَدْ صَدَقَ ; لِأَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=67يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597945أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدّ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } . وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ : " مِنْهُ بَدَأَ " أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَبْتَدِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ الجهمية الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ قَالُوا : خَلْقُهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمَخْلُوقِ وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمَخْلُوقِ لَا لِلَّهِ [ ص: 84 ] تَعَالَى ; لَا سِيَّمَا nindex.php?page=treesubj&link=28785_29455_28836والجهمية كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُمْ غُلَاةٌ فِي الْجَبْرِ وَلَكِنْ الْمُعْتَزِلَةِ تُوَافِقُهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ nindex.php?page=treesubj&link=29453وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَتُخَالِفُهُمْ فِي الْقَدَرِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ كَلَامَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ الطَّائِيُّ - وَكَانَ مِنْ غُلَاةِ هَؤُلَاءِ الجهمية يَقُولُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ - قَالَ :
[ ص: 85 ] والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ بِذَاتِ اللَّهِ لَا طَلَبٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًا وَلَا غَضَبٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُجْعَلُ مَدْلُولَ الْأَصْوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ . وَلَا قَامَ بِذَاتِهِ عِنْدَهُمْ إيجَابٌ وَإِلْزَامٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ فَلَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ الْمَخْلُوقِ فِي غَيْرِهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا خَلَقَهُ فِي الْجَمَادِ وَمَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانِ .
وَكَانَ مَقْصُودُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَسَائِرِ كَلَامِهِ . وَأَنَّهُ مِنْهُ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=102قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَإِنَّمَا قَالُوا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ اللَّهَ فِي الْأَزَلِ نَادَى مُوسَى وَلَا قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ يَا آدَمَ يَا نُوحُ يَا مُوسَى يَا إبْلِيسُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ قَالَ .
وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ اتَّبَعَ السَّلَفَ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا هَذَا وَهَذَا وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ يَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ إذَا عَصَوْهُ أَوْ يَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا أَطَاعُوهُ أَوْ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ إذَا تَابُوا أَوْ يَكُونُ نَادَى مُوسَى حِينَ أَتَى الشَّجَرَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ [ ص: 86 ] الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=28ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=55فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=11فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=59إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا نَفَادَ لَهَا بِقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=27وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وَأَتْبَاعُ السَّلَفِ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَيْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ لَا يَقُولُونَ : إنَّ نَفْسَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ قَدِيمَةٌ كَنِدَائِهِ لِمُوسَى وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ كَلَامِ اللَّهِ قَدِيمُ الْعَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَدِيمُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ جَمِيعُ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ صَارَتْ قُرْآنًا وَالْقُرْآنُ إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ صَارَ تَوْرَاةً : قَالُوا : وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الرَّسُولِ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ [ ص: 87 ] جَمِيعُ مَعَانِي الْكَلَامِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْقُرْآنُ الْقَدِيمُ هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَهِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهِيَ مُتَعَاقِبَةٌ فِي ذَاتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا ; فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى بَعْضٍ فَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَاتِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَجَعَلُوا التَّعَاقُبَ فِي ذَاتِهِ لَا فِي وُجُودِهِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ بِأَعْيَانِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والمتفلسفة وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ : إنَّهُ إذَا كَلَّمَ مُوسَى أَوْ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُ بِكَلَامِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ حِينَ يُكَلِّمُهُ وَلَكِنْ يَخْلُقُ لَهُ إدْرَاكًا يُدْرِكُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ اللَّازِمَ لِذَاتِ اللَّهِ أَزَلًا وَأَبَدًا . وَعِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=35يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } وَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=48يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ } و { nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=75يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ : أَعْنِي الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ فِي زَمَنِ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا زَمَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا قَبْلَهُمْ .
وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ هَذَا الْأَصْلَ هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَعَرَفَ أَنَّ الْحُرُوفَ مُتَعَاقِبَةٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ [ ص: 88 ] قَدْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ وَالْقَدِيمُ لَا يَسْبِقُهُ غَيْرُهُ وَالصَّوْتُ الْمُعَيَّنُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدِيمًا فَقَالَ بِأَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ الْمَعْنَى ثُمَّ جَعَلَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ لِامْتِنَاعِ اخْتِصَاصِهِ بِعَدَدِ مُعَيَّنٍ وَامْتِنَاعِ مَعَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ . فَلَمَّا شَاعَ قَوْلُهُ وَعَرَفَ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَسَادَهُ شَرْعًا وَعَقْلًا قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - مِمَّنْ وَافَقَتْهُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ - إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَعَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَحْدَثَهُ مِنْ الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ - : إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ الْحُرُوفِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُؤَلَّفَةِ . فَصَارَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مُرَكَّبًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلِ الكلابية فَإِذَا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ نَاظَرُوهُمْ بِطَرِيقَةِ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَإِذَا نَاظَرَهُمْ الكلابية عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ نَاظَرُوهُمْ بِحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا قَالَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا أَصْحَابُهُمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ وَإِنَّمَا قَالَهُ - مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ - بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَمَّنْ قَالَهَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ لَا بِأَقْوَالِ السَّلَفِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ [ ص: 89 ] وَلَا بِحَقَائِقِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَلِمَ قَالُوا هَذَا وَمَا الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذَا ؟ وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَصَارَ مَنْ يُطَالِعُ كُتُبَ الْكَلَامِ الَّتِي لَا يَجِدُ فِيهَا إلَّا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ وَانْتَسَبَ إلَى السُّنَّةِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا وَذَاكَ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ قَوْلٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ السَّلَفِ فَيُظَنُّ الْقَوْلَ الْآخَرَ قَوْلَ السَّلَفِ كَمَا يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذِهِ : لَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَيَظُنُّ الصَّوَابَ وَاحِدًا مِنْهَا وَيَكُونُ فِيهَا قَوْلٌ لَمْ يَبْلُغْهُ وَهُوَ الصَّوَابُ دُونَ تِلْكَ .
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ إلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَمَنْ اجْتَهَدَ بِقَصْدِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَلْ يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ طَاعَتِهِ وَيَغْفِرُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ فَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ .
وَهَذَا حَالُ مَنْ أَثَبَتَ nindex.php?page=treesubj&link=29566الْمُفَاضَلَةَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمَنْ نَفَاهَا فَإِنَّ الْمُثْبِتَ مُعْتَصِمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَمَعَهُ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ الصَّرِيحَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِهِ وَفَسَادَ قَوْلِ مُنَازِعِهِ مَا لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا طَعْنٌ صَحِيحٌ . وَأَمَّا النَّافِي فَلَيْسَ مَعَهُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مُجَرَّدُ رَأْيٍ يَزْعُمُ أَنَّ عَقْلَهُ دَلَّ عَلَيْهِ وَمُنَازِعُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ وَأَنَّ خَطَأَهُ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ . وَاحْتِجَاجُ الْمُحْتَجِّ عَلَى نَفْيِ التَّفَاضُلِ بِقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=91جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } فِي غَايَةِ الْفَسَادِ ; فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ سَوَاءٌ [ ص: 81 ] أُرِيدَ بِهَا مَنْ آمَنَ بِبَعْضِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِهِ أَوْ أُرِيدَ بِهَا مَنْ عَضَهَهُ فَقَالَ : هُوَ سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; بَلْ مَنْ نَفَى فَضْلَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عَلَى { nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ جَعَلَهُ عِضِينَ ; إنْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كَلَامَهُ فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ وَأَقَرَّ بِهِ كُلِّهِ فَلَمْ يَكْفُرْ بِحَرْفِ مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28894_28891_28877_28878كَلَامَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ وَأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا وَلَا أَصْدَقَ مِنْهُ قِيلًا وَأَقَرَّ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِ بَعْضِ كَلَامِهِ كَفَضْلِ ( فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَ ( آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ وَتَفْضِيلُ ( يس وَ ( تَبَارَكَ وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَلْ وَتَفْضِيلُ ( الْبَقَرَةِ وَ ( آلِ عِمْرَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ السُّورِ وَالْآيَاتِ الَّتِي نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِفَضْلِهَا وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا مَعَانِيهِ وَلَا حُرُوفُهُ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ جَعْلِهِ عِضِينَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ; بَلْ آمَنَ بِفَضْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِفَضْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ ; فَإِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ آمَنَ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ ; بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَهَذَا [ ص: 82 ] أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيمَنْ عَضَهَ الْقُرْآنُ وَرَمَاهُ بِالْإِفْكِ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامَ مَخْلُوقٍ : إمَّا بَشَرٌ وَإِمَّا مَلِكٌ وَإِمَّا غَيْرُهُمَا فَمَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَلَا هُوَ مِنْ إحْدَاثِ مَخْلُوقٍ لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ وَلَا شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ جِبْرِيلُ رَسُولٌ مَلَكٌ وَمُحَمَّدٌ رَسُولٌ بَشَرٌ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ فَاصْطَفَى لِكَلَامِهِ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ فَنَزَلَ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ الَّذِي اصْطَفَاهُ وَقَدْ أَضَافَهُ إلَى كُلٍّ مِنْ الرَّسُولَيْنِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ ; لَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَهُ وَابْتَدَاهُ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=40إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=20ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=21مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فَهَذَا نَعْتُ جِبْرِيلَ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=97مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=194عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=101وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=102قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=40إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=41وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=42وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=80تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=44وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=45لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=46ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=47فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } فَهَذِهِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَضَافَ الْقَوْلَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ الرَّسُولِ فَقَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=40لَقَوْلُ رَسُولٍ } [ ص: 83 ] لِأَنَّ الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى الْمُرْسَلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسَلٍ . لَمْ يَقُلْ : إنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا بَشَرٍ بَلْ كَفَرَ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ بَشَرٍ بِقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=11ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=12وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=13وَبَنِينَ شُهُودًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=14وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=15ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=16كَلَّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=17سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=18إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=20ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=21ثُمَّ نَظَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=22ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=23ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=24فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=25إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } فَمِنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ بِشَرِّ أَوْ قَوْلُ مَخْلُوقٍ غَيْرِ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ فَقَدْ صَدَقَ ; لِأَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=67يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597945أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدّ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } . وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ : " مِنْهُ بَدَأَ " أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَبْتَدِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ الجهمية الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ قَالُوا : خَلْقُهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمَخْلُوقِ وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ الْمَخْلُوقِ لَا لِلَّهِ [ ص: 84 ] تَعَالَى ; لَا سِيَّمَا nindex.php?page=treesubj&link=28785_29455_28836والجهمية كُلُّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُمْ غُلَاةٌ فِي الْجَبْرِ وَلَكِنْ الْمُعْتَزِلَةِ تُوَافِقُهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ nindex.php?page=treesubj&link=29453وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَتُخَالِفُهُمْ فِي الْقَدَرِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ مَا سِوَاهُ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ كَلَامَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ الطَّائِيُّ - وَكَانَ مِنْ غُلَاةِ هَؤُلَاءِ الجهمية يَقُولُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ - قَالَ :
وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
وَلِهَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ داود الْهَاشِمِيُّ - نَظِيرُ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ الَّذِي قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا رَأَيْت أَعْقَلَ مِنْ رَجُلَيْنِ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ داود الْهَاشِمِيِّ - قَالَ : مَنْ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=14إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ . وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ إذْ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=24أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ ؟ . وَمَعْنَى ذَلِكَ كَوْنُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=24أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِ فِرْعَوْنَ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=14إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } كَلَامًا خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ كَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ لِذَلِكَ كَمَا كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ جَعْلُ الشَّجَرَةِ إلَهًا أَعْظَمَ كُفْرًا مِنْ جَعْلِ فِرْعَوْنَ إلَهًا .[ ص: 85 ] والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ بِذَاتِ اللَّهِ لَا طَلَبٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًا وَلَا غَضَبٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُجْعَلُ مَدْلُولَ الْأَصْوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ . وَلَا قَامَ بِذَاتِهِ عِنْدَهُمْ إيجَابٌ وَإِلْزَامٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ فَلَمْ يَكُنْ لِلْكَلَامِ الْمَخْلُوقِ فِي غَيْرِهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا خَلَقَهُ فِي الْجَمَادِ وَمَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانِ .
وَكَانَ مَقْصُودُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ وَسَائِرِ كَلَامِهِ . وَأَنَّهُ مِنْهُ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=102قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَإِنَّمَا قَالُوا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ اللَّهَ فِي الْأَزَلِ نَادَى مُوسَى وَلَا قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ يَا آدَمَ يَا نُوحُ يَا مُوسَى يَا إبْلِيسُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ قَالَ .
وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ اتَّبَعَ السَّلَفَ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ إلَّا هَذَا وَهَذَا وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ يَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ إذَا عَصَوْهُ أَوْ يَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا أَطَاعُوهُ أَوْ يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ إذَا تَابُوا أَوْ يَكُونُ نَادَى مُوسَى حِينَ أَتَى الشَّجَرَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ [ ص: 86 ] الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=28ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=55فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=11فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=59إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا نَفَادَ لَهَا بِقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=27وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وَأَتْبَاعُ السَّلَفِ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَيْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ لَا يَقُولُونَ : إنَّ نَفْسَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ قَدِيمَةٌ كَنِدَائِهِ لِمُوسَى وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ كَلَامِ اللَّهِ قَدِيمُ الْعَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَدِيمُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ جَمِيعُ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ صَارَتْ قُرْآنًا وَالْقُرْآنُ إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ صَارَ تَوْرَاةً : قَالُوا : وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الرَّسُولِ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ [ ص: 87 ] جَمِيعُ مَعَانِي الْكَلَامِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْقُرْآنُ الْقَدِيمُ هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَهِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهِيَ مُتَعَاقِبَةٌ فِي ذَاتِهَا وَمَاهِيَّتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا ; فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى بَعْضٍ فَفَرَّقُوا بَيْنَ ذَاتِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ وُجُودِهِ وَجَعَلُوا التَّعَاقُبَ فِي ذَاتِهِ لَا فِي وُجُودِهِ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ بِأَعْيَانِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والمتفلسفة وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ : إنَّهُ إذَا كَلَّمَ مُوسَى أَوْ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُ بِكَلَامِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ حِينَ يُكَلِّمُهُ وَلَكِنْ يَخْلُقُ لَهُ إدْرَاكًا يُدْرِكُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ اللَّازِمَ لِذَاتِ اللَّهِ أَزَلًا وَأَبَدًا . وَعِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=35يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } وَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=48يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ } و { nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=75يَا إبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ : أَعْنِي الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ فِي زَمَنِ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلَا زَمَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا قَبْلَهُمْ .
وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ هَذَا الْأَصْلَ هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَعَرَفَ أَنَّ الْحُرُوفَ مُتَعَاقِبَةٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ الْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ [ ص: 88 ] قَدْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ وَالْقَدِيمُ لَا يَسْبِقُهُ غَيْرُهُ وَالصَّوْتُ الْمُعَيَّنُ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ قَدِيمًا فَقَالَ بِأَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ الْمَعْنَى ثُمَّ جَعَلَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ لِامْتِنَاعِ اخْتِصَاصِهِ بِعَدَدِ مُعَيَّنٍ وَامْتِنَاعِ مَعَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ . فَلَمَّا شَاعَ قَوْلُهُ وَعَرَفَ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ فَسَادَهُ شَرْعًا وَعَقْلًا قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - مِمَّنْ وَافَقَتْهُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ - إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَعَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَحْدَثَهُ مِنْ الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ - : إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ الْحُرُوفِ الْمُتَعَاقِبَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُؤَلَّفَةِ . فَصَارَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مُرَكَّبًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلِ الكلابية فَإِذَا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ نَاظَرُوهُمْ بِطَرِيقَةِ nindex.php?page=showalam&ids=13464ابْنِ كُلَّابٍ وَإِذَا نَاظَرَهُمْ الكلابية عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ نَاظَرُوهُمْ بِحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ . وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا قَالَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا أَصْحَابُهُمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ وَإِنَّمَا قَالَهُ - مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ - بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوْهَا عَمَّنْ قَالَهَا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ لَا بِأَقْوَالِ السَّلَفِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ [ ص: 89 ] وَلَا بِحَقَائِقِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَلِمَ قَالُوا هَذَا وَمَا الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذَا ؟ وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَصَارَ مَنْ يُطَالِعُ كُتُبَ الْكَلَامِ الَّتِي لَا يَجِدُ فِيهَا إلَّا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ وَانْتَسَبَ إلَى السُّنَّةِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا وَذَاكَ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ قَوْلٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ السَّلَفِ فَيُظَنُّ الْقَوْلَ الْآخَرَ قَوْلَ السَّلَفِ كَمَا يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذِهِ : لَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَيَظُنُّ الصَّوَابَ وَاحِدًا مِنْهَا وَيَكُونُ فِيهَا قَوْلٌ لَمْ يَبْلُغْهُ وَهُوَ الصَّوَابُ دُونَ تِلْكَ .
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ إلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَمَنْ اجْتَهَدَ بِقَصْدِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَلْ يُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ طَاعَتِهِ وَيَغْفِرُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ فَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ .
فَصْلٌ وَالنُّصُوصُ وَالْآثَارُ فِي تَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ - بَلْ وَتَفْضِيلُ بَعْضِ صِفَاتِهِ - عَلَى بَعْضٍ مُتَعَدِّدَةٌ . وَقَوْلُ nindex.php?page=treesubj&link=29566الْقَائِلِ " صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا فَاضِلَةٌ [ ص: 90 ] فِي غَايَةِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ لَيْسَ فِيهَا نَقْصُ " كَلَامٍ صَحِيحٍ لَكِنَّ تَوَهُّمَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ كَانَ الْمَفْضُولُ مَعِيبًا مَنْقُوصًا خَطَأٌ مِنْهُ فَإِنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَسْمَائِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَلِهَذَا يُقَالُ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ . وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ صِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ وَبَعْضُ أَفْعَالِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَفِي الْآثَارِ ذَكَرَ اسْمَهُ الْعَظِيمَ وَاسْمَهُ الْأَعْظَمَ وَاسْمَهُ الْكَبِيرَ وَالْأَكْبَرَ كَمَا فِي السُّنَنِ وَرَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597946عَنْ ابْنِ بريدة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : دَخَلْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي يَدْعُو : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ } . { nindex.php?page=hadith&LINKID=597947وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنْت جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلْقَةِ وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ تَشَهَّدَ وَدَعَا فَقَالَ فِي فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597948إنَّ اللَّهَ كَتَبَ [ ص: 91 ] فِي كِتَابٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي } وَفِي رِوَايَةٍ { nindex.php?page=hadith&LINKID=20173سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي } فَوَصَفَ رَحْمَتَهُ بِأَنَّهَا تَغْلِبُ وَتَسْبِقُ غَضَبَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ رَحْمَتِهِ عَلَى غَضَبِهِ مِنْ جِهَةِ سَبْقِهَا وَغَلَبَتِهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597949عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِك مِنْك } . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي وِتْرِهِ لَكِنَّ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِ nindex.php?page=treesubj&link=29566الِاسْتِعَاذَةِ بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ كَقَوْلِهِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=117184أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ خَوْلَةَ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=20427مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانِ بْنِ أَبِي العاص : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597950قُلْ : أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ فَقَدْ اسْتَعَاذَ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ . وَأَمَّا اسْتِعَاذَتُهُ بِهِ مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ : يَسْتَعِيذُ بِهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِهَةِ وَمِنْهُ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِهَةِ لِيَتَغَايَرَ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ وَالْمُسْتَعَاذُ [ ص: 92 ] مِنْهُ إذْ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ مُخَوِّفٌ مَرْهُوبٌ مِنْهُ وَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ مَدْعُوٌّ مُسْتَجَارٌ بِهِ مُلْتَجَأٌ إلَيْهِ وَالْجِهَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَكُونُ مَطْلُوبَةً مَهْرُوبًا مِنْهَا لَكِنْ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ تَصِحُّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597951أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ النَّوْمِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ مِنْك إلَّا إلَيْك . آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت وَبِنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت }
فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُنْجِي مِنْهُ إلَّا هُوَ وَلَا يُلْتَجَأُ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ . وَأَعْمَلَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ لَمَّا تَنَازَعَ الْفِعْلَانِ فِي الْعَمَلِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَةَ كَوْنِهِ مُنْجِيًا غَيْرَ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْجِيًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ جِهَةُ كَوْنِهِ مُلْتَجَأً إلَيْهِ غَيْرَ كَوْنِهِ مُلْتَجَأً مِنْهُ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِمَفْعُولَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ بِذَاتِهِ بِاعْتِبَارَيْنِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=12عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597952الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ : الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَمَا وَلُوا } . وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْيَدَيْنِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَيَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ كِلْتَاهُمَا يَمِينٌ مَعَ تَفْضِيلِ الْيَمِينِ . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمَّا كَانَتْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ مُتَضَمِّنَةً لِلنَّقْصِ فَكَانَتْ يَسَارُ أَحَدِهِمْ نَاقِصَةً فِي الْقُوَّةِ نَاقِصَةً فِي الْفِعْلِ [ ص: 93 ] بِحَيْثُ تَفْعَلُ بِمَيَاسِرِهَا كُلَّ مَا يُذَمُّ - كَمَا يُبَاشِرُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارَ - بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كِلْتَا يَمِينِ الرَّبِّ مُبَارَكَةٌ لَيْسَ فِيهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ أَفَضْلُهُمَا كَمَا فِي حَدِيثِ آدَمَ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597953اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ } فَإِنَّهُ لَا نَقْصٌ فِي صِفَاتِهِ وَلَا ذَمٌّ فِي أَفْعَالِهِ بَلْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا إمَّا فَضْلٌ وَإِمَّا عَدْلٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=106210يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ . وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالْعَدْلُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ أَنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ فَالْفَضْلُ أَعْلَى مِنْ الْعَدْلِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ نِقْمَتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَكُونُوا عَنْ يَدِهِ الْأُخْرَى . وَجَعَلَهُمْ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ تَفْضِيلٌ لَهُمْ كَمَا nindex.php?page=treesubj&link=29566فَضَّلَ فِي الْقُرْآنِ أَهْلَ الْيَمِينِ وَأَهْلَ الْمَيْمَنَةِ عَلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَأَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا عَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ جَاءَتْ بِأَنَّ أَهْلَ قَبْضَةِ الْيَمِينِ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَأَهْلَ الْقَبْضَةِ الْأُخْرَى هُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ . [ ص: 94 ] وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الشَّرَّ لَمْ يَرِدْ فِي أَسْمَائِهِ وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَلَمْ يُضِفْ إلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَأَضَافَهُ إلَى السَّبَبِ الْمَخْلُوقِ أَوْ بِحَذْفِ فَاعِلِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } و { nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=2مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } وَكَأَسْمَائِهِ الْمُقْتَرِنَةِ مِثْلَ الْمُعْطِي الْمَانِعِ الضَّارِّ النَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ الْخَافِضِ الرَّافِعِ وَكَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وَكَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=7صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَكَقَوْلِ الْجِنِّ : { nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=10وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597954النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ : أَنَّهُ لَا يُضَافُ إلَيْك وَلَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك أَوْ قِيلَ إنَّ الشَّرَّ إمَّا عَدَمٌ وَإِمَّا مِنْ لَوَازِمِ الْعَدَمِ وَكِلَاهُمَا لَيْسَ إلَى اللَّهِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ nindex.php?page=treesubj&link=28708_28786سُبْحَانَهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْخَيْرُ وَأَسْمَاؤُهُ تَدُلُّ عَلَى صِفَاتِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ خَيْرٌ حَسَنٌ جَمِيلٌ لَيْسَ فِيهِ شَرٌّ وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=49نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=50وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=98اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فَجَعَلَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي يُسَمِّي بِهَا نَفْسَهُ فَتَكُونُ الْمَغْفِرَةُ [ ص: 95 ] وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَمَّا الْعِقَابُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْعِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْأَلِيمُ فَلَمْ يَقُلْ : وَإِنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ وَلَا فِي أَسْمَائِهِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمُ الْمُنْتَقِمِ وَإِنَّمَا جَاءَ الْمُنْتَقِمُ فِي الْقُرْآنِ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=22إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } وَجَاءَ مَعْنَاهُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=47إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وَهَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مُطْلَقَةٌ لَيْسَ فِيهَا عُمُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ رَحِيمٌ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِحِكْمَتِهِ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=190إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=16وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=17لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } وَقَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=39مَا خَلَقْنَاهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ : ( بِالْحَقِّ هُوَ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ كَمَا قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=73وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } . وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86هُوَ الْخَلَّاقُ } إشَارَةً إلَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بَلْ يَصْفَحُ عَنْهُمْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ لِأَجْلِ الْقَدَرِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَاقَبَ الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلِرُسُلِهِ . وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِمُعَاقَبَتِهِمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ مَا يُنَافِي قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ . وَقَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } تَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } فَإِنَّ لَهُمْ مَوْعِدًا يُجْزَوْنَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=40فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=21فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=22لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=23إلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=24فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=25إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=26ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=174فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } وَقَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=89فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَعْذُرْ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ بِالْقَدَرِ وَلَوْ عَذَرَ بِهِ لَكَانَ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِذَلِكَ وَآدَمُ إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّهُ لَامَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْ الذُّرِّيَّةَ فَقَالَ لَهُ : لِمَاذَا أَخَرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا أَصَابَ الْعَبْدُ مِنْ الْمَصَائِبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ فِيهَا لِلَّهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=11مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالَ [ ص: 97 ] عَلْقَمَةُ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ : nindex.php?page=treesubj&link=19571_19584_19863فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ بِهِ وَمِنْ الصَّبْرِ الصَّبْرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ وَهَذَا هُوَ صَاحِبُ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=90إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=186وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=120وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=125بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } . وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَيُبْتَلَى بِمَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الصَّبْرِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ الْخَلْقِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=55فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى مُنَاظَرَةِ آدَمَ وَمُوسَى ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ حَمَلُوهَا عَلَى مُحَامِلَ مُخَالَفَةٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَذَّبَ بِالْحَدِيثِ لِعَدَمِ فَهْمِهِ لَهُ وَالْحَدِيثُ حَقٌّ يُوجِبُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا جَرَتْ عَلَيْهِ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ مِثْلَ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِ أَبِيهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ أَبُوهُ قَدْ تَابَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَبِعَةٌ كَمَا جَرَى لِآدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=121وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=122ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } [ ص: 98 ] وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=37فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } وَكَانَ آدَمَ وَمُوسَى أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ أَحَدُهُمَا لِذَنْبِهِ بِالْقَدَرِ وَيُوَافِقُهُ الْآخَرُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ آدَمَ إلَى تَوْبَةٍ وَلَا أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمُوسَى هُوَ الْقَائِلُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=16رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَهُوَ الْقَائِلُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=151رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وَهُوَ الْقَائِلُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=155أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } وَهُوَ الْقَائِلُ لِقَوْمِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } فَلَوْ كَانَ الْمُذْنِبُ يُعْذَرُ بِالْقَدَرِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى هَذَا بَلْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ لَمَّا حَصَلَ مِنْ مُوسَى مَلَامٌ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُصِيبَةِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ وَقَدَّرَهَا . وَمِنْ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ nindex.php?page=treesubj&link=19709_20023_19584فَالْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب وَالْجَاهِلُ الظَّالِمُ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى ذُنُوبِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَلَا يَعْذُرُ بِالْقَدَرِ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ وَلَا يَذْكُرُ الْقَدَرَ عِنْدَ مَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ فَعَكْسُ الْقَضِيَّةِ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا عَمِلَ حَسَنَةً أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ هُوَ يَسَّرَهَا وَتَفَضَّلَ بِهَا فَلَا يَجِبُ بِهَا وَلَا يُضِيفُهَا إلَى نَفْسِهِ كَأَنَّهُ الْخَالِقُ لَهَا وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً اسْتَغْفَرَ وَتَابَ مِنْهَا وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ سَمَاوِيَّةٌ أَوْ بِفِعْلِ الْعِبَادِ يَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً مَقْضِيَّةً عَلَيْهِ [ ص: 99 ] وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ لِحِكْمَتِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=71بِالْحَقِّ } وَقَدْ ذَمَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَعَبَثًا فَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=190إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فَلَا بُدَّ مِنْ جَزَاءِ الْعِبَادِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَلِهَذَا قِيلَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } .
وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَا يَخْلُقُهُ حِكْمَةٌ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَتْقَنَ كُلَّ مَا صَنَعَ فَمَا وَقَعَ مِنْ الشَّرِّ الْمَوْجُودِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَقَدْ وُجِدَ لِأَجْلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمَحْبُوبَةِ الْمَرْضِيَّةِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ حَسَنٌ جَمِيلٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ .
وَهَذَا مَوْضُوعٌ عَظِيمٌ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ النَّاسَ - فِي بَابِ خَلْقِ الرَّبِّ وَأَمْرِهِ وَلِمَ فَعَلَ ذَلِكَ - عَلَى طَرَفَيْنِ وَوَسَطٍ : فَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قَصَدُوا تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا ظَنُّوهُ قَبِيحًا مِنْ الْأَفْعَالِ وَظُلْمًا ; فَأَنْكَرُوا عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ خَالِقًا [ ص: 100 ] لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ بَلْ قَالُوا : يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ ثُمَّ إنَّهُمْ وَضَعُوا لِرَبِّهِمْ شَرِيعَةً فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَحْرُمُ - بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ - وَتَكَلَّمُوا فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ بِهَذَا الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي شَبَّهُوا فِيهِ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . وَقَابَلَهُمْ الجهمية الْغُلَاةُ فِي الْجَبْرِ فَأَنْكَرُوا حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَقَالُوا : لَمْ يَخْلُقْ لِحِكْمَةِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِحِكْمَةِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ " لَامُ كَيْ " لَا فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي أَمْرِهِ .
وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=13وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } و { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَقَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=31وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } وَقَوْلَهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وَقَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } - وَأَمْثَالَ ذَلِكَ - إنَّمَا اللَّامُ فِيهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=8فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } وَقَوْلُ الْقَائِلِ : " لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ " . وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِعَاقِبَةِ فِعْلِهِ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ أَمْرُ مُوسَى أَوْ مِمَّنْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ رَدِّ عَاقِبَةِ فِعْلِهِ كَعَجْزِ بَنِي آدَمَ عَنْ دَفْعِ الْمَوْتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَالْخَرَابِ عَنْ دِيَارِهِمْ فَأَمَّا مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ مُرِيدٌ لِكُلِّ [ ص: 101 ] مَا خَلَقَ : فَيَمْتَنِعُ فِي حَقِّهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ نَفْيَ الْقُدْرَةِ . وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ لِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ دُونَ بَعْضٍ . وَقَالُوا الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا هُوَ مِنْ مَعْنَى الْإِرَادَةِ وَاَللَّهُ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ مُحِبٌّ لَهُ . وَزَعَمُوا أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَفْيِ حُبِّهِ وَرِضَاهُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=7وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } مَحْمُولٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ دِينًا يُثِيبُهُمْ عَلَيْهِ . وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ إلَّا إذَا وَقَعَ فَيُرِيدُهُ كَمَا يُرِيدُ حِينَئِذٍ مَا وَقَعَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الْمَبْسُوطَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ جَمِيعُ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ وَلَكِنْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ اتَّبَعَ جَهْمًا فِي ذَلِكَ . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الجويني : وَمِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي إطْلَاقِهِ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا فَصَارَ الْمُتَقَدِّمُونَ إلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَلَا يَرْضَاهُ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَعْصِيَةٍ . وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ : الْمَحَبَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ نَفْسُهَا وَكَذَلِكَ الرِّضَا وَالِاصْطِفَاءُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْكُفْرَ [ ص: 102 ] وَيَرْضَاهُ كُفْرًا قَبِيحًا مُعَاقِبًا عَلَيْهِ . وَهُوَ كَمَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى مَا نَهَى عَنْهُ وَلَا يُحِبُّهُ وَعَلَى ذَلِكَ قُدَمَاءُ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْ قُدَمَائِهِمْ وَلَكِنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ قَوْلٌ لِجَهْمِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْجَبْرِ وَبِمَا يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَنْكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَقُولُ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ هَذَا ؟ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَقَدْ قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597955لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا } . وَهَذِهِ مَسَائِلُ عَظِيمَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْجُمَلِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقْرَأُ كُتُبًا مُصَنَّفَةً فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَا يَجِدُ فِيهَا الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ بَلْ يَجِدُ أَقْوَالًا كُلٌّ مِنْهَا فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ فَيَحَارُ مَا الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ إذْ لَمْ يَجِدْ فِي تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=53صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِ nindex.php?page=treesubj&link=29566الِاسْتِعَاذَةِ بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ كَقَوْلِهِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=117184أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ خَوْلَةَ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=20427مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانِ بْنِ أَبِي العاص : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597950قُلْ : أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ فَقَدْ اسْتَعَاذَ بِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ . وَأَمَّا اسْتِعَاذَتُهُ بِهِ مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ : يَسْتَعِيذُ بِهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِهَةِ وَمِنْهُ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْجِهَةِ لِيَتَغَايَرَ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ وَالْمُسْتَعَاذُ [ ص: 92 ] مِنْهُ إذْ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ مُخَوِّفٌ مَرْهُوبٌ مِنْهُ وَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ مَدْعُوٌّ مُسْتَجَارٌ بِهِ مُلْتَجَأٌ إلَيْهِ وَالْجِهَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَكُونُ مَطْلُوبَةً مَهْرُوبًا مِنْهَا لَكِنْ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ تَصِحُّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597951أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ النَّوْمِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ مِنْك إلَّا إلَيْك . آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت وَبِنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت }
فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُنْجِي مِنْهُ إلَّا هُوَ وَلَا يُلْتَجَأُ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ . وَأَعْمَلَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ لَمَّا تَنَازَعَ الْفِعْلَانِ فِي الْعَمَلِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَةَ كَوْنِهِ مُنْجِيًا غَيْرَ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْجِيًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ جِهَةُ كَوْنِهِ مُلْتَجَأً إلَيْهِ غَيْرَ كَوْنِهِ مُلْتَجَأً مِنْهُ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِمَفْعُولَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ بِذَاتِهِ بِاعْتِبَارَيْنِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=12عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597952الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ : الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَمَا وَلُوا } . وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْيَدَيْنِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَيَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ كِلْتَاهُمَا يَمِينٌ مَعَ تَفْضِيلِ الْيَمِينِ . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمَّا كَانَتْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ مُتَضَمِّنَةً لِلنَّقْصِ فَكَانَتْ يَسَارُ أَحَدِهِمْ نَاقِصَةً فِي الْقُوَّةِ نَاقِصَةً فِي الْفِعْلِ [ ص: 93 ] بِحَيْثُ تَفْعَلُ بِمَيَاسِرِهَا كُلَّ مَا يُذَمُّ - كَمَا يُبَاشِرُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارَ - بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كِلْتَا يَمِينِ الرَّبِّ مُبَارَكَةٌ لَيْسَ فِيهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ أَفَضْلُهُمَا كَمَا فِي حَدِيثِ آدَمَ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597953اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ } فَإِنَّهُ لَا نَقْصٌ فِي صِفَاتِهِ وَلَا ذَمٌّ فِي أَفْعَالِهِ بَلْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا إمَّا فَضْلٌ وَإِمَّا عَدْلٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=106210يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ . وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ } فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالْعَدْلُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ أَنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ فَالْفَضْلُ أَعْلَى مِنْ الْعَدْلِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ نِقْمَتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَكُونُوا عَنْ يَدِهِ الْأُخْرَى . وَجَعَلَهُمْ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ تَفْضِيلٌ لَهُمْ كَمَا nindex.php?page=treesubj&link=29566فَضَّلَ فِي الْقُرْآنِ أَهْلَ الْيَمِينِ وَأَهْلَ الْمَيْمَنَةِ عَلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَأَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا عَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ جَاءَتْ بِأَنَّ أَهْلَ قَبْضَةِ الْيَمِينِ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَأَهْلَ الْقَبْضَةِ الْأُخْرَى هُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ . [ ص: 94 ] وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الشَّرَّ لَمْ يَرِدْ فِي أَسْمَائِهِ وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَلَمْ يُضِفْ إلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَأَضَافَهُ إلَى السَّبَبِ الْمَخْلُوقِ أَوْ بِحَذْفِ فَاعِلِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } و { nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=2مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } وَكَأَسْمَائِهِ الْمُقْتَرِنَةِ مِثْلَ الْمُعْطِي الْمَانِعِ الضَّارِّ النَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ الْخَافِضِ الرَّافِعِ وَكَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=80وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وَكَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=7صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَكَقَوْلِ الْجِنِّ : { nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=10وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597954النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ : أَنَّهُ لَا يُضَافُ إلَيْك وَلَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك أَوْ قِيلَ إنَّ الشَّرَّ إمَّا عَدَمٌ وَإِمَّا مِنْ لَوَازِمِ الْعَدَمِ وَكِلَاهُمَا لَيْسَ إلَى اللَّهِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ nindex.php?page=treesubj&link=28708_28786سُبْحَانَهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْخَيْرُ وَأَسْمَاؤُهُ تَدُلُّ عَلَى صِفَاتِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ خَيْرٌ حَسَنٌ جَمِيلٌ لَيْسَ فِيهِ شَرٌّ وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=49نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=50وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=98اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فَجَعَلَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي يُسَمِّي بِهَا نَفْسَهُ فَتَكُونُ الْمَغْفِرَةُ [ ص: 95 ] وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَمَّا الْعِقَابُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْعِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْأَلِيمُ فَلَمْ يَقُلْ : وَإِنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ وَلَا فِي أَسْمَائِهِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمُ الْمُنْتَقِمِ وَإِنَّمَا جَاءَ الْمُنْتَقِمُ فِي الْقُرْآنِ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=22إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } وَجَاءَ مَعْنَاهُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=47إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وَهَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مُطْلَقَةٌ لَيْسَ فِيهَا عُمُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ رَحِيمٌ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِحِكْمَتِهِ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=190إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=16وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=17لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } وَقَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=39مَا خَلَقْنَاهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ : ( بِالْحَقِّ هُوَ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ كَمَا قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=73وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } . وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86هُوَ الْخَلَّاقُ } إشَارَةً إلَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بَلْ يَصْفَحُ عَنْهُمْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ لِأَجْلِ الْقَدَرِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَاقَبَ الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلِرُسُلِهِ . وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِمُعَاقَبَتِهِمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ مَا يُنَافِي قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ . وَقَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } تَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } فَإِنَّ لَهُمْ مَوْعِدًا يُجْزَوْنَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=40فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=21فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=22لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=23إلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=24فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=25إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ } { nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=26ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=174فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } وَقَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=89فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَعْذُرْ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ بِالْقَدَرِ وَلَوْ عَذَرَ بِهِ لَكَانَ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِذَلِكَ وَآدَمُ إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّهُ لَامَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْ الذُّرِّيَّةَ فَقَالَ لَهُ : لِمَاذَا أَخَرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا أَصَابَ الْعَبْدُ مِنْ الْمَصَائِبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ فِيهَا لِلَّهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=11مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } قَالَ [ ص: 97 ] عَلْقَمَةُ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ : nindex.php?page=treesubj&link=19571_19584_19863فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ بِهِ وَمِنْ الصَّبْرِ الصَّبْرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ وَهَذَا هُوَ صَاحِبُ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=90إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=186وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=120وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=125بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } . وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَيُبْتَلَى بِمَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الصَّبْرِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ الْخَلْقِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=55فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى مُنَاظَرَةِ آدَمَ وَمُوسَى ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ حَمَلُوهَا عَلَى مُحَامِلَ مُخَالَفَةٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَذَّبَ بِالْحَدِيثِ لِعَدَمِ فَهْمِهِ لَهُ وَالْحَدِيثُ حَقٌّ يُوجِبُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا جَرَتْ عَلَيْهِ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ مِثْلَ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِ أَبِيهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ أَبُوهُ قَدْ تَابَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَبِعَةٌ كَمَا جَرَى لِآدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=121وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=122ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } [ ص: 98 ] وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=37فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } وَكَانَ آدَمَ وَمُوسَى أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ أَحَدُهُمَا لِذَنْبِهِ بِالْقَدَرِ وَيُوَافِقُهُ الْآخَرُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ آدَمَ إلَى تَوْبَةٍ وَلَا أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمُوسَى هُوَ الْقَائِلُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=16رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَهُوَ الْقَائِلُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=151رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } وَهُوَ الْقَائِلُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=155أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } وَهُوَ الْقَائِلُ لِقَوْمِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } فَلَوْ كَانَ الْمُذْنِبُ يُعْذَرُ بِالْقَدَرِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى هَذَا بَلْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ لَمَّا حَصَلَ مِنْ مُوسَى مَلَامٌ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُصِيبَةِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ وَقَدَّرَهَا . وَمِنْ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ nindex.php?page=treesubj&link=19709_20023_19584فَالْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب وَالْجَاهِلُ الظَّالِمُ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى ذُنُوبِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَلَا يَعْذُرُ بِالْقَدَرِ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ وَلَا يَذْكُرُ الْقَدَرَ عِنْدَ مَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ فَعَكْسُ الْقَضِيَّةِ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا عَمِلَ حَسَنَةً أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ هُوَ يَسَّرَهَا وَتَفَضَّلَ بِهَا فَلَا يَجِبُ بِهَا وَلَا يُضِيفُهَا إلَى نَفْسِهِ كَأَنَّهُ الْخَالِقُ لَهَا وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً اسْتَغْفَرَ وَتَابَ مِنْهَا وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ سَمَاوِيَّةٌ أَوْ بِفِعْلِ الْعِبَادِ يَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً مَقْضِيَّةً عَلَيْهِ [ ص: 99 ] وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ لِحِكْمَتِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=71بِالْحَقِّ } وَقَدْ ذَمَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَعَبَثًا فَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=190إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فَلَا بُدَّ مِنْ جَزَاءِ الْعِبَادِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَلِهَذَا قِيلَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } .
وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَا يَخْلُقُهُ حِكْمَةٌ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَتْقَنَ كُلَّ مَا صَنَعَ فَمَا وَقَعَ مِنْ الشَّرِّ الْمَوْجُودِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَقَدْ وُجِدَ لِأَجْلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمَحْبُوبَةِ الْمَرْضِيَّةِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ حَسَنٌ جَمِيلٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ .
وَهَذَا مَوْضُوعٌ عَظِيمٌ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ النَّاسَ - فِي بَابِ خَلْقِ الرَّبِّ وَأَمْرِهِ وَلِمَ فَعَلَ ذَلِكَ - عَلَى طَرَفَيْنِ وَوَسَطٍ : فَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قَصَدُوا تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا ظَنُّوهُ قَبِيحًا مِنْ الْأَفْعَالِ وَظُلْمًا ; فَأَنْكَرُوا عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ خَالِقًا [ ص: 100 ] لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ بَلْ قَالُوا : يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ ثُمَّ إنَّهُمْ وَضَعُوا لِرَبِّهِمْ شَرِيعَةً فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَحْرُمُ - بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ - وَتَكَلَّمُوا فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ بِهَذَا الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي شَبَّهُوا فِيهِ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . وَقَابَلَهُمْ الجهمية الْغُلَاةُ فِي الْجَبْرِ فَأَنْكَرُوا حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَقَالُوا : لَمْ يَخْلُقْ لِحِكْمَةِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِحِكْمَةِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ " لَامُ كَيْ " لَا فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي أَمْرِهِ .
وَزَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=13وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } و { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَقَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=31وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } وَقَوْلَهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وَقَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } - وَأَمْثَالَ ذَلِكَ - إنَّمَا اللَّامُ فِيهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=8فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } وَقَوْلُ الْقَائِلِ : " لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ " . وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِعَاقِبَةِ فِعْلِهِ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ أَمْرُ مُوسَى أَوْ مِمَّنْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ رَدِّ عَاقِبَةِ فِعْلِهِ كَعَجْزِ بَنِي آدَمَ عَنْ دَفْعِ الْمَوْتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَالْخَرَابِ عَنْ دِيَارِهِمْ فَأَمَّا مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ مُرِيدٌ لِكُلِّ [ ص: 101 ] مَا خَلَقَ : فَيَمْتَنِعُ فِي حَقِّهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ نَفْيَ الْقُدْرَةِ . وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ لِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ دُونَ بَعْضٍ . وَقَالُوا الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا هُوَ مِنْ مَعْنَى الْإِرَادَةِ وَاَللَّهُ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ مُحِبٌّ لَهُ . وَزَعَمُوا أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَفْيِ حُبِّهِ وَرِضَاهُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=7وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } مَحْمُولٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ دِينًا يُثِيبُهُمْ عَلَيْهِ . وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ إلَّا إذَا وَقَعَ فَيُرِيدُهُ كَمَا يُرِيدُ حِينَئِذٍ مَا وَقَعَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الْمَبْسُوطَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ جَمِيعُ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ وَلَكِنْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ اتَّبَعَ جَهْمًا فِي ذَلِكَ . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الجويني : وَمِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي إطْلَاقِهِ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا فَصَارَ الْمُتَقَدِّمُونَ إلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَلَا يَرْضَاهُ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَعْصِيَةٍ . وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ : الْمَحَبَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ نَفْسُهَا وَكَذَلِكَ الرِّضَا وَالِاصْطِفَاءُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْكُفْرَ [ ص: 102 ] وَيَرْضَاهُ كُفْرًا قَبِيحًا مُعَاقِبًا عَلَيْهِ . وَهُوَ كَمَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى مَا نَهَى عَنْهُ وَلَا يُحِبُّهُ وَعَلَى ذَلِكَ قُدَمَاءُ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْ قُدَمَائِهِمْ وَلَكِنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ قَوْلٌ لِجَهْمِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْجَبْرِ وَبِمَا يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَنْكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَقُولُ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ هَذَا ؟ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَقَدْ قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597955لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا } . وَهَذِهِ مَسَائِلُ عَظِيمَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْجُمَلِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقْرَأُ كُتُبًا مُصَنَّفَةً فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَلَا يَجِدُ فِيهَا الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ بَلْ يَجِدُ أَقْوَالًا كُلٌّ مِنْهَا فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ فَيَحَارُ مَا الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ إذْ لَمْ يَجِدْ فِي تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=53صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } .
[ ص: 103 ] فَصْلٌ وَإِذَا عُلِمَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ مَعَ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ بَعْضُ صِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي nindex.php?page=treesubj&link=29566_29083_28890كَوْنِ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مَا وَجْهُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ ثَوَابُهَا بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَمَا وَجْهُ قِرَاءَةِ سَائِرِ الْقُرْآنِ ؟ فَيُقَالُ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحْسَنُهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْجَوَابُ الْمَنْقُولُ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ فَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=26735 { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } فَقَالَ : مَعْنَاهُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ثُلُثٌ مِنْهَا الْأَحْكَامُ وَثُلُثٌ مِنْهَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ مِنْهَا الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ . وَهَذِهِ السُّورَةُ جَمَعَتْ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : بَدَأَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَرَوَى قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ هَذَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَاهِدٍ عَنْ الصَّابُونِيِّ والبيهقي عَنْ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظِ قَالَ : سَمِعْت أَبَا الْوَلِيدِ [ ص: 104 ] حَسَّانَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهَ يَقُولُ : سَأَلْت أَبَا الْعَبَّاسِ ابْنَ سُرَيْجٍ قُلْت : مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=26735 { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } ؟ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَثُلُثٌ أَحْكَامٌ وَثُلُثٌ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ أَسْمَاءٌ وَصَفَاتٌ . وَقَدْ جُمِعَ فِي ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَحَدُ الْأَثْلَاثِ وَهُوَ الصِّفَاتُ فَقِيلَ إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي - مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ هِيَ مَعْرِفَةُ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ فَهَذِهِ السُّورَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ إذْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا وُجِدَ مِنْ شَيْءٍ [ مَا خَلَا اللَّهَ . فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كُفْءٌ ] وَلَا لَهُ مَثَلٌ . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ .
قَالَ : وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الْمَعْنَى : مَنْ عَمِلَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِذْعَانِ لِلْخَالِقِ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ ذَكَرَهُ Multitarajem.php?tid=13371,13372ابْنُ عَقِيلٍ .
قَالَ Multitarajem.php?tid=13371,13372ابْنُ عَقِيلٍ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : مَنْ قَرَأَهَا فَلَهُ أَجْرُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=37063مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشَرُ حَسَنَاتٍ } . قُلْت : كِلَا الْوَجْهَيْنِ ضَعِيفٌ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ وُجُوهٌ : الْأَوَّلُ أَنْ نَقُولَ الْقُرْآنَ لَيْسَ [ ص: 105 ] كُلُّهُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْمَذْكُورَةُ بَلْ فِيهِ أَمْرٌ بِالْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْعِبَادِ الْمَعْرِفَةُ الْوَاجِبَةُ وَالْعَمَلُ الْوَاجِبُ وَالْأُمَّةُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ نَازَعُوا فِي كَوْنِ الْأَعْمَالِ مِنْ الْإِيمَانِ فَلَمْ يُنَازِعُوا فِي أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَغَيْرَهَا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحَرَّمَ الْفَوَاحِشَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقُدِّرَ أَنَّ سُورَةً مِنْ السُّورِ تَضَمَّنَتْ ثُلُثَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا ثُلُثَ الْقُرْآنِ . الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ مَعْرِفَةُ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ ذَاتَه تُعْرَفُ بِدُونِ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَلَوْ قَدَّرَ إمْكَانَ ذَلِكَ أَوْ فَرَضَ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ السَّلْبِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّةِ فَلَيْسَ ذَاكَ مَعْرِفَتُهُ بِاَللَّهِ أَلْبَتَّةَ وَلَا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلْبِيٍّ أَوْ ثُبُوتِيٍّ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ هَذَا إلَّا الْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ يَقُولُونَ : يُسْلَبُ عَنْهُ كُلُّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وَعَدَمِيٍّ فَلَا يُقَالُ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا لَيْسَ بِعَالِمِ وَلَا قَادِرٌ وَلَا لَيْسَ بِقَادِرِ وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُمْ [ ص: 106 ] مُتَنَاقِضُونَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ سَلْبَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ كَمَا أَنَّ جَمْعَهُمَا مُمْتَنِعٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا . وَأَمَّا تَنَاقُضُهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرُوا مَا ذَكَرُوا أَنَّهُ يُسْلَبُ عَنْهُ النَّقِيضَانِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا لِيُخْبِرَ عَنْهُ بِهَذَا السَّلْبِ وَأَيُّ شَيْءٍ قَالُوهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ إثْبَاتًا وَقَدْ بَسَطْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ لَا يَصِلُونَ إلَى هَذَا الْحَدِّ ; بَلْ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ السجستاني وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ : نَحْنُ لَا نَنْفِي النَّقِيضَيْنِ بَلْ نَسْكُتُ عَنْ إضَافَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ ; فَلَا نَقُولُ هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ .
فَيُقَالُ لَهُمْ : إعْرَاضُ قُلُوبِكُمْ عَنْ الْعِلْمِ بِهِ وَكَفُّ أَلْسِنَتِكُمْ عَنْ ذِكْرِهِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُجَرَّدًا عَنْ النَّقِيضَيْنِ ; بَلْ يُفِيدُ هَذَا كُفْرَكُمْ بِاَللَّهِ وَكَرَاهَتَكُمْ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَهَذَا حَقِيقَةُ مَذْهَبِكُمْ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالتَّحْقِيقِ كَابْنِ سَبْعِينَ وَالصَّدْرِ القونوي وَغَيْرِهِمَا : إنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ ثُبُوتِيٍّ وَسَلْبِيٍّ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ .
لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ فَيَخُصُّونَهُ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ . ثُمَّ يَقُولُونَ هُوَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ سَلْبِيٍّ وَثُبُوتِيٍّ إنَّمَا يَكُونُ فِي [ ص: 107 ] الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْوُجُودُ الْكُلِّيُّ الْمَقْسُومُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْفَلَاسِفَةُ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَيُسَمُّونَهُ " الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا " وَ " الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى " إنَّمَا يَكُونُ كُلِّيًّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ قَطُّ وُجُودٌ هُوَ بِعَيْنِهِ وَاجِبٌ وَهُوَ بِعَيْنِهِ مُمْكِنٌ وَلَا وُجُودَ هُوَ نَفْسُهُ يَتَّصِفُ بِهِ الْوَاجِبُ وَهُوَ نَفْسُهُ يَتَّصِفُ بِهِ الْمُمْكِنُ ; بَلْ صِفَةُ الْوَاجِبِ تَخْتَصُّ بِهِ وَصِفَةُ الْمُمْكِنِ تَخْتَصُّ بِهِ وَوُجُودُ الْوَاجِبِ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ .
وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِهِ فَهِيَ صِفَاتٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مُشَارِكٌ أَوْ مُمَاثِلٌ فَإِنَّ ذَاتَه الْمُقَدَّسَةَ لَا تُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ الذَّوَاتِ وَصِفَاتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَلَا تُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ ; بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=3لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=4وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَاسْمُهُ ( الْأَحَدُ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَاسْمُهُ ( الصَّمَدُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ الْمُصَنَّفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ . وَصِفَاتِ التَّنْزِيهِ كُلِّهَا ; بَلْ وَصِفَاتُ الْإِثْبَاتِ : يَجْمَعُهَا هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ : عِلْمِيٌّ قَوْلِيٌّ وَعَمَلِيٌّ قَصْدِيٌّ . فَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ نَصًّا وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْعِلْمِيِّ [ ص: 108 ] لُزُومًا . و { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الْقَوْلِيِّ نَصًّا وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ لُزُومًا . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ أَيْضًا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِآيَةِ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=136قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَآيَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=64قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ يَجْمَعُهَا هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : أَحَدُهُمَا نَفْيُ النَّقَائِصِ عَنْهُ وَذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَمَنْ ثَبَتَ لَهُ الْكَمَالُ التَّامُّ انْتَفَى النُّقْصَانُ الْمُضَادُّ لَهُ وَالْكَمَالُ مِنْ مَدْلُولِ اسْمِهِ الصَّمَدِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ وَهَذَا مِنْ مَدْلُولِ اسْمِهِ الْأَحَدِ . فَهَذَانِ nindex.php?page=treesubj&link=29083_29442_29443الِاسْمَانِ الْعَظِيمَانِ - الْأَحَدُ الصَّمَدُ - يَتَضَمَّنَانِ تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ وَتَنْزِيهِهِ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُمَاثِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا . وَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ جَمِيعِ [ ص: 109 ] صِفَاتِ الْكَمَالِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ إثْبَاتَ جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيَ جَمِيعِ صِفَاتِ النَّقْصِ فَالسُّورَةُ تَضَمَّنَتْ كُلَّ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ وَتَضَمَّنَتْ أَيْضًا كُلَّ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ اسْمِهِ الصَّمَدِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا نُفِيَ عَنْهُ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالنُّظَرَاءِ مُسْتَلْزِمٌ ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَيْضًا .
فَإِنَّ كُلَّ مَا يُمْدَحُ بِهِ الرَّبُّ مِنْ النَّفْيِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ ثُبُوتًا بَلْ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يُمْدَحُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ النَّفْيِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ ثُبُوتًا وَإِلَّا فَالنَّفْيُ الْمَحْضُ مَعْنَاهُ عَدَمٌ مَحْضٌ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ كَمَالٍ . وَهَذَا كَمَا يَذْكُرُهُ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِثْلُ قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } فَنَفْيُ أَخْذِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ حَيَاتِهِ وقيوميته فَإِنَّ النَّوْمَ يُنَافِي القيومية وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ . ثُمَّ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَنَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ مُلْكِهِ ; إذْ كُلُّ مَنْ شَفَعَ إلَيْهِ شَافِعٌ بِلَا إذْنِهِ فَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ كَانَ مُنْفَعِلًا عَنْ ذَلِكَ الشَّافِعِ فَقَدْ أَثَّرَتْ شَفَاعَتُهُ فِيهِ فَصَيَّرَتْهُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ ذَلِكَ الشَّافِعُ شَرِيكًا لِلْمَشْفُوعِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالشَّفَاعَةِ ; إذْ كَانَتْ بِدُونِ إذْنِهِ لَا سِيَّمَا وَالْمَخْلُوقُ إذَا شُفِعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَبِلَ الشَّفَاعَةَ فَإِنَّمَا يَقْبَلُهَا لِرَغْبَةِ أَوْ لِرَهْبَةِ : إمَّا مِنْ [ ص: 110 ] الشَّافِعِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ دَاعِيَتُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ تَامَّةً مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى شَفَاعَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=68469يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي } . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالشَّفَاعَةِ إلَيْهِ فَكَانَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ يَقُولُ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597956اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ; وَكَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُمْ يُؤْجَرُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَهُوَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ كَمَا قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=32لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } فَكَانَ فِي هَذَا النَّفْيِ إثْبَاتُ أَنَّ عِبَادَهُ لَا يَعْلَمُونَ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ فَأَثْبَتَ أَنَّهُ الَّذِي عَلَّمَهُمْ لَا يَنَالُونَ الْعِلْمَ إلَّا مِنْهُ . فَإِنَّهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29الَّذِي خَلَقَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=2خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } وَ { nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=4عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=5عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . ثُمَّ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أَيْ لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ . وَهَذَا النَّفْيُ تَضَمَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ فَإِنَّهُ مَعَ حِفْظِهِ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا يَثْقُلُ عَلَى مَنْ فِي قُوَّتِهِ ضَعْفٌ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=38وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ مَسِّ اللُّغُوبِ . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ [ ص: 111 ] اللُّغُوبُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } الْإِدْرَاكُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَكْثَرِينَ هُوَ الْإِحَاطَةُ .
وَقَالَ طَائِفَةٌ هُوَ الرُّؤْيَةُ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ عَنْهُ لَا مَدْحَ فِيهِ فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا يَرَى . وَكُلُّ وَصْفٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا فَلَا يَكُونُ فِيهِ مَدْحٌ إذْ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ لَا يُحَاطُ بِهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ . وَإِنَّ الْعِبَادَ مَعَ رُؤْيَتِهِمْ لَهُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ رُؤْيَةً كَمَا أَنَّهُمْ مَعَ مَعْرِفَتِهِ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَكَمَا أَنَّهُمْ مَعَ مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لَا يُحِيطُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ ; بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ .
وَلِهَذَا قَالَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=29793لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى كَوْنِ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَبَيَانِ أَنَّ الصَّوَابَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ " مَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ " إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَعْرِفَةَ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَهَذِهِ مِنْ تَمَامِ مَعْرِفَتِهِ وَيَبْقَى مَعْرِفَةُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَقِصَصُ الْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكَافِرَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ مَعَانِي الْقُرْآنِ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ . وَإِنْ جَعَلَ هَذِهِ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ الْمَطْلُوبِ فِيهَا الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ [ ص: 112 ] كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ طَاعَتُهُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِكُلِّ أُمَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَفْيِ الْمَثَلِ عَنْهُ وَمِنْ نَفْيِ الْوِلَادَةِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهَذَا الْمَعْنَى .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ التَّنْزِيهَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فَمَعْرِفَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتِ السَّلْبِ بَلْ الْأَصْلُ فِيهَا صِفَاتُ الْإِثْبَاتِ وَالسَّلْبُ تَابِعٌ وَمَقْصُودُهُ تَكْمِيلُ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ تَنْزِيهٍ مُدِحَ بِهِ الرَّبُّ فَفِيهِ إثْبَاتٌ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ " سُبْحَانَ اللَّهِ " مُتَضَمِّنًا تَنْزِيهَ الرَّبِّ وَتَعْظِيمَهُ فَفِيهَا تَنْزِيهٌ مِنْ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَفِيهَا تَعْظِيمُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ فَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ وَمَا نَفَاهُ مِنْ الْمُعَادَلَةِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ فِي مِقْدَارِ الْأَجْرِ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ كَمَا قَدْ بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا إنْ أَرَادَ [ ص: 113 ] بِهِ الْعَمَلَ الْوَاجِبَ مِنْ التَّصْدِيقِ بِمَضْمُونِهَا وَتَوْحِيدِ اللَّهِ فَهَذَا أَجْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَجْرِ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَلَمْ يَعْمَلْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ إنْ خَلَا عَنْ الْإِيمَانِ بِمَضْمُونِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ خَلَا عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَهُوَ فَاسِقٌ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْر مَرَّاتٍ لَمْ يَكُنْ أَجْرُهُ مِثْلَ أَجْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْأَجْرَ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَضْمُونِهَا سَوَاءٌ قَرَأَهَا أَوْ لَمْ يَقْرَأْهَا وَالْأَجْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ لِمَنْ قَرَأَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرَأَهَا مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ .
وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ قِرَاءَتَهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَقَرَأَهَا عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ : فَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ لَهَا تَعْدِلُ قِرَاءَتَهُ هُوَ لِلثُّلُثِ . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي جَعَلَ يُرَدِّدُهَا . وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ لَهُمْ بِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ ثُلُثَهُ إذَا قَرَءُوهُ هُمْ لَمْ يَرِدْ بِهِ الثُّلُثُ إذَا قَرَأَهَا مُنَافِقٌ لَا يُؤْمِنُ بِمَعْنَى { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .
ثُمَّ إنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ بِذَلِكَ مَنْ قَرَأَ الثُّلُثَ بِلَا إيمَانٍ بِهَا مَعْنًى لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى نَقِيضِهِ .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ وَأَمْثَالُهُ هُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَجْهًا آخَرَ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ : " جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَدُرَرِهِ " أَمَّا قَوْلُهُ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=26735 { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ ص: 114 ] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } مَا أَرَاك تَفْهَمُ وَجْهَ ذَلِكَ فَتَارَةً تَقُولُ : ذَكَرَ هَذَا التَّرْغِيبَ فِي التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِهِ التَّقْدِيرَ وَحَاشَا مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ عَنْ ذَلِكَ . وَتَارَةً تَقُولُ : هَذَا بَعِيدٌ عَنْ الْفَهْمِ وَالتَّأْوِيلِ فَإِنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ آيَةٍ فَهَذَا الْقَدْرُ كَيْفَ يَكُونُ ثُلُثَهَا ؟ وَهَذَا لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِك بِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ وَنَظَرِك إلَى ظَاهِرِ أَلْفَاظِهِ فَتَظُنُّ أَنَّهَا تَعْظُمُ وَتَكْثُرُ بِطُولِ الْأَلْفَاظِ وَتَقْصُرُ بِقِصَرِهَا . وَذَلِكَ كَظَنِّ مَنْ يُؤْثِرُ الدَّرَاهِمَ الْكَثِيرَةَ عَلَى الْجَوْهَرَةِ الْوَاحِدَةِ نَظَرًا إلَى كَثْرَتِهَا . فَاعْلَمْ أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَطْعًا وَتَرْجِعُ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مُهِمَّاتِ الْقُرْآنِ وَهِيَ : مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ الْآخِرَةِ وَمَعْرِفَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . فَهَذِهِ الْمَعَارِفُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمُهِمَّةُ وَالْبَاقِي تَوَابِعُ . وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ تَشْتَمِلُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيسُهُ وَتَوْحِيدُهُ عَنْ مُشَارِكٍ فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْكُفْءِ . وَالْوَصْفِ بِالصَّمَدِ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ فِي الْوُجُودِ لِلْحَوَائِجِ سِوَاهُ . نَعَمْ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثُ الْآخِرَةِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . فَلِذَلِكَ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ . أَيْ ثُلُثَ الْأُصُولِ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=74377الْحَجُّ عَرَفَةَ } أَيْ هُوَ الْأَصْلُ وَالْبَاقِي تَبَعٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي - مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ هِيَ مَعْرِفَةُ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ فَهَذِهِ السُّورَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ إذْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا وُجِدَ مِنْ شَيْءٍ [ مَا خَلَا اللَّهَ . فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كُفْءٌ ] وَلَا لَهُ مَثَلٌ . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ .
قَالَ : وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الْمَعْنَى : مَنْ عَمِلَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِذْعَانِ لِلْخَالِقِ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ ذَكَرَهُ Multitarajem.php?tid=13371,13372ابْنُ عَقِيلٍ .
قَالَ Multitarajem.php?tid=13371,13372ابْنُ عَقِيلٍ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : مَنْ قَرَأَهَا فَلَهُ أَجْرُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=37063مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشَرُ حَسَنَاتٍ } . قُلْت : كِلَا الْوَجْهَيْنِ ضَعِيفٌ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ وُجُوهٌ : الْأَوَّلُ أَنْ نَقُولَ الْقُرْآنَ لَيْسَ [ ص: 105 ] كُلُّهُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْمَذْكُورَةُ بَلْ فِيهِ أَمْرٌ بِالْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْعِبَادِ الْمَعْرِفَةُ الْوَاجِبَةُ وَالْعَمَلُ الْوَاجِبُ وَالْأُمَّةُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ نَازَعُوا فِي كَوْنِ الْأَعْمَالِ مِنْ الْإِيمَانِ فَلَمْ يُنَازِعُوا فِي أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَغَيْرَهَا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحَرَّمَ الْفَوَاحِشَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=33مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقُدِّرَ أَنَّ سُورَةً مِنْ السُّورِ تَضَمَّنَتْ ثُلُثَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا ثُلُثَ الْقُرْآنِ . الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ مَعْرِفَةُ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ ذَاتَه تُعْرَفُ بِدُونِ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَلَوْ قَدَّرَ إمْكَانَ ذَلِكَ أَوْ فَرَضَ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ ذَاتًا مُجَرَّدَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ السَّلْبِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّةِ فَلَيْسَ ذَاكَ مَعْرِفَتُهُ بِاَللَّهِ أَلْبَتَّةَ وَلَا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلْبِيٍّ أَوْ ثُبُوتِيٍّ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ هَذَا إلَّا الْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ يَقُولُونَ : يُسْلَبُ عَنْهُ كُلُّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وَعَدَمِيٍّ فَلَا يُقَالُ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا لَيْسَ بِعَالِمِ وَلَا قَادِرٌ وَلَا لَيْسَ بِقَادِرِ وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُمْ [ ص: 106 ] مُتَنَاقِضُونَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ سَلْبَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ كَمَا أَنَّ جَمْعَهُمَا مُمْتَنِعٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا . وَأَمَّا تَنَاقُضُهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرُوا مَا ذَكَرُوا أَنَّهُ يُسْلَبُ عَنْهُ النَّقِيضَانِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا لِيُخْبِرَ عَنْهُ بِهَذَا السَّلْبِ وَأَيُّ شَيْءٍ قَالُوهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ إثْبَاتًا وَقَدْ بَسَطْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ لَا يَصِلُونَ إلَى هَذَا الْحَدِّ ; بَلْ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ السجستاني وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ : نَحْنُ لَا نَنْفِي النَّقِيضَيْنِ بَلْ نَسْكُتُ عَنْ إضَافَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ ; فَلَا نَقُولُ هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ .
فَيُقَالُ لَهُمْ : إعْرَاضُ قُلُوبِكُمْ عَنْ الْعِلْمِ بِهِ وَكَفُّ أَلْسِنَتِكُمْ عَنْ ذِكْرِهِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُجَرَّدًا عَنْ النَّقِيضَيْنِ ; بَلْ يُفِيدُ هَذَا كُفْرَكُمْ بِاَللَّهِ وَكَرَاهَتَكُمْ لِمَعْرِفَتِهِ وَذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَهَذَا حَقِيقَةُ مَذْهَبِكُمْ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالتَّحْقِيقِ كَابْنِ سَبْعِينَ وَالصَّدْرِ القونوي وَغَيْرِهِمَا : إنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ ثُبُوتِيٍّ وَسَلْبِيٍّ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ .
لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ فَيَخُصُّونَهُ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ . ثُمَّ يَقُولُونَ هُوَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ سَلْبِيٍّ وَثُبُوتِيٍّ إنَّمَا يَكُونُ فِي [ ص: 107 ] الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْوُجُودُ الْكُلِّيُّ الْمَقْسُومُ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْفَلَاسِفَةُ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَيُسَمُّونَهُ " الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا " وَ " الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى " إنَّمَا يَكُونُ كُلِّيًّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ قَطُّ وُجُودٌ هُوَ بِعَيْنِهِ وَاجِبٌ وَهُوَ بِعَيْنِهِ مُمْكِنٌ وَلَا وُجُودَ هُوَ نَفْسُهُ يَتَّصِفُ بِهِ الْوَاجِبُ وَهُوَ نَفْسُهُ يَتَّصِفُ بِهِ الْمُمْكِنُ ; بَلْ صِفَةُ الْوَاجِبِ تَخْتَصُّ بِهِ وَصِفَةُ الْمُمْكِنِ تَخْتَصُّ بِهِ وَوُجُودُ الْوَاجِبِ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ يَخُصُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ .
وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ مِنْ صِفَاتِهِ فَهِيَ صِفَاتٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا مُشَارِكٌ أَوْ مُمَاثِلٌ فَإِنَّ ذَاتَه الْمُقَدَّسَةَ لَا تُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ الذَّوَاتِ وَصِفَاتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَلَا تُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ الصِّفَاتِ ; بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=3لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=4وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَاسْمُهُ ( الْأَحَدُ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَاسْمُهُ ( الصَّمَدُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ الْمُصَنَّفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ . وَصِفَاتِ التَّنْزِيهِ كُلِّهَا ; بَلْ وَصِفَاتُ الْإِثْبَاتِ : يَجْمَعُهَا هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ : عِلْمِيٌّ قَوْلِيٌّ وَعَمَلِيٌّ قَصْدِيٌّ . فَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ نَصًّا وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْعِلْمِيِّ [ ص: 108 ] لُزُومًا . و { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الْقَوْلِيِّ نَصًّا وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ الْعَمَلِيِّ لُزُومًا . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ أَيْضًا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِآيَةِ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=136قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَآيَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=64قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ يَجْمَعُهَا هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : أَحَدُهُمَا نَفْيُ النَّقَائِصِ عَنْهُ وَذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَمَنْ ثَبَتَ لَهُ الْكَمَالُ التَّامُّ انْتَفَى النُّقْصَانُ الْمُضَادُّ لَهُ وَالْكَمَالُ مِنْ مَدْلُولِ اسْمِهِ الصَّمَدِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ وَهَذَا مِنْ مَدْلُولِ اسْمِهِ الْأَحَدِ . فَهَذَانِ nindex.php?page=treesubj&link=29083_29442_29443الِاسْمَانِ الْعَظِيمَانِ - الْأَحَدُ الصَّمَدُ - يَتَضَمَّنَانِ تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ وَتَنْزِيهِهِ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُمَاثِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا . وَاسْمُهُ الصَّمَدُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ جَمِيعِ [ ص: 109 ] صِفَاتِ الْكَمَالِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ إثْبَاتَ جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفْيَ جَمِيعِ صِفَاتِ النَّقْصِ فَالسُّورَةُ تَضَمَّنَتْ كُلَّ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ وَتَضَمَّنَتْ أَيْضًا كُلَّ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ اسْمِهِ الصَّمَدِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا نُفِيَ عَنْهُ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالنُّظَرَاءِ مُسْتَلْزِمٌ ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَيْضًا .
فَإِنَّ كُلَّ مَا يُمْدَحُ بِهِ الرَّبُّ مِنْ النَّفْيِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ ثُبُوتًا بَلْ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يُمْدَحُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ النَّفْيِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ ثُبُوتًا وَإِلَّا فَالنَّفْيُ الْمَحْضُ مَعْنَاهُ عَدَمٌ مَحْضٌ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ كَمَالٍ . وَهَذَا كَمَا يَذْكُرُهُ سُبْحَانَهُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِثْلُ قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } فَنَفْيُ أَخْذِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ حَيَاتِهِ وقيوميته فَإِنَّ النَّوْمَ يُنَافِي القيومية وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ . ثُمَّ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَنَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ مُلْكِهِ ; إذْ كُلُّ مَنْ شَفَعَ إلَيْهِ شَافِعٌ بِلَا إذْنِهِ فَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ كَانَ مُنْفَعِلًا عَنْ ذَلِكَ الشَّافِعِ فَقَدْ أَثَّرَتْ شَفَاعَتُهُ فِيهِ فَصَيَّرَتْهُ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ ذَلِكَ الشَّافِعُ شَرِيكًا لِلْمَشْفُوعِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بِالشَّفَاعَةِ ; إذْ كَانَتْ بِدُونِ إذْنِهِ لَا سِيَّمَا وَالْمَخْلُوقُ إذَا شُفِعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَبِلَ الشَّفَاعَةَ فَإِنَّمَا يَقْبَلُهَا لِرَغْبَةِ أَوْ لِرَهْبَةِ : إمَّا مِنْ [ ص: 110 ] الشَّافِعِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ دَاعِيَتُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ تَامَّةً مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى شَفَاعَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=68469يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي } . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالشَّفَاعَةِ إلَيْهِ فَكَانَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ يَقُولُ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597956اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ; وَكَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُمْ يُؤْجَرُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَهُوَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ كَمَا قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=32لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } فَكَانَ فِي هَذَا النَّفْيِ إثْبَاتُ أَنَّ عِبَادَهُ لَا يَعْلَمُونَ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ فَأَثْبَتَ أَنَّهُ الَّذِي عَلَّمَهُمْ لَا يَنَالُونَ الْعِلْمَ إلَّا مِنْهُ . فَإِنَّهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29الَّذِي خَلَقَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=2خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } وَ { nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=4عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=5عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . ثُمَّ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أَيْ لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ . وَهَذَا النَّفْيُ تَضَمَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ فَإِنَّهُ مَعَ حِفْظِهِ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا يَثْقُلُ عَلَى مَنْ فِي قُوَّتِهِ ضَعْفٌ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=38وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ مَسِّ اللُّغُوبِ . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ [ ص: 111 ] اللُّغُوبُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } الْإِدْرَاكُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَكْثَرِينَ هُوَ الْإِحَاطَةُ .
وَقَالَ طَائِفَةٌ هُوَ الرُّؤْيَةُ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ عَنْهُ لَا مَدْحَ فِيهِ فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا يَرَى . وَكُلُّ وَصْفٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا فَلَا يَكُونُ فِيهِ مَدْحٌ إذْ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ لَا يُحَاطُ بِهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ . وَإِنَّ الْعِبَادَ مَعَ رُؤْيَتِهِمْ لَهُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ رُؤْيَةً كَمَا أَنَّهُمْ مَعَ مَعْرِفَتِهِ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَكَمَا أَنَّهُمْ مَعَ مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لَا يُحِيطُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ ; بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ .
وَلِهَذَا قَالَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=29793لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى كَوْنِ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَبَيَانِ أَنَّ الصَّوَابَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ " مَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ " إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَعْرِفَةَ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَهَذِهِ مِنْ تَمَامِ مَعْرِفَتِهِ وَيَبْقَى مَعْرِفَةُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَقِصَصُ الْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكَافِرَةِ لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ مَعَانِي الْقُرْآنِ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ . وَإِنْ جَعَلَ هَذِهِ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ الْمَطْلُوبِ فِيهَا الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ [ ص: 112 ] كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ طَاعَتُهُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِكُلِّ أُمَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَفْيِ الْمَثَلِ عَنْهُ وَمِنْ نَفْيِ الْوِلَادَةِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِهَذَا الْمَعْنَى .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ التَّنْزِيهَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فَمَعْرِفَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتِ السَّلْبِ بَلْ الْأَصْلُ فِيهَا صِفَاتُ الْإِثْبَاتِ وَالسَّلْبُ تَابِعٌ وَمَقْصُودُهُ تَكْمِيلُ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ تَنْزِيهٍ مُدِحَ بِهِ الرَّبُّ فَفِيهِ إثْبَاتٌ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ " سُبْحَانَ اللَّهِ " مُتَضَمِّنًا تَنْزِيهَ الرَّبِّ وَتَعْظِيمَهُ فَفِيهَا تَنْزِيهٌ مِنْ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَفِيهَا تَعْظِيمُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ فَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ وَمَا نَفَاهُ مِنْ الْمُعَادَلَةِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ فِي مِقْدَارِ الْأَجْرِ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ كَمَا قَدْ بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا إنْ أَرَادَ [ ص: 113 ] بِهِ الْعَمَلَ الْوَاجِبَ مِنْ التَّصْدِيقِ بِمَضْمُونِهَا وَتَوْحِيدِ اللَّهِ فَهَذَا أَجْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَجْرِ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَلَمْ يَعْمَلْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ إنْ خَلَا عَنْ الْإِيمَانِ بِمَضْمُونِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإِنْ خَلَا عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَهُوَ فَاسِقٌ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْر مَرَّاتٍ لَمْ يَكُنْ أَجْرُهُ مِثْلَ أَجْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْأَجْرَ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَضْمُونِهَا سَوَاءٌ قَرَأَهَا أَوْ لَمْ يَقْرَأْهَا وَالْأَجْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ لِمَنْ قَرَأَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرَأَهَا مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ .
وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ قِرَاءَتَهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَقَرَأَهَا عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ : فَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ لَهَا تَعْدِلُ قِرَاءَتَهُ هُوَ لِلثُّلُثِ . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي جَعَلَ يُرَدِّدُهَا . وَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ لَهُمْ بِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ ثُلُثَهُ إذَا قَرَءُوهُ هُمْ لَمْ يَرِدْ بِهِ الثُّلُثُ إذَا قَرَأَهَا مُنَافِقٌ لَا يُؤْمِنُ بِمَعْنَى { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .
ثُمَّ إنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ بِذَلِكَ مَنْ قَرَأَ الثُّلُثَ بِلَا إيمَانٍ بِهَا مَعْنًى لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى نَقِيضِهِ .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ وَأَمْثَالُهُ هُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَجْهًا آخَرَ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ : " جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَدُرَرِهِ " أَمَّا قَوْلُهُ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=26735 { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ ص: 114 ] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } مَا أَرَاك تَفْهَمُ وَجْهَ ذَلِكَ فَتَارَةً تَقُولُ : ذَكَرَ هَذَا التَّرْغِيبَ فِي التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِهِ التَّقْدِيرَ وَحَاشَا مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ عَنْ ذَلِكَ . وَتَارَةً تَقُولُ : هَذَا بَعِيدٌ عَنْ الْفَهْمِ وَالتَّأْوِيلِ فَإِنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ آيَةٍ فَهَذَا الْقَدْرُ كَيْفَ يَكُونُ ثُلُثَهَا ؟ وَهَذَا لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِك بِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ وَنَظَرِك إلَى ظَاهِرِ أَلْفَاظِهِ فَتَظُنُّ أَنَّهَا تَعْظُمُ وَتَكْثُرُ بِطُولِ الْأَلْفَاظِ وَتَقْصُرُ بِقِصَرِهَا . وَذَلِكَ كَظَنِّ مَنْ يُؤْثِرُ الدَّرَاهِمَ الْكَثِيرَةَ عَلَى الْجَوْهَرَةِ الْوَاحِدَةِ نَظَرًا إلَى كَثْرَتِهَا . فَاعْلَمْ أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَطْعًا وَتَرْجِعُ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مُهِمَّاتِ الْقُرْآنِ وَهِيَ : مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ الْآخِرَةِ وَمَعْرِفَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . فَهَذِهِ الْمَعَارِفُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمُهِمَّةُ وَالْبَاقِي تَوَابِعُ . وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ تَشْتَمِلُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيسُهُ وَتَوْحِيدُهُ عَنْ مُشَارِكٍ فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْكُفْءِ . وَالْوَصْفِ بِالصَّمَدِ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي لَا يُقْصَدُ فِي الْوُجُودِ لِلْحَوَائِجِ سِوَاهُ . نَعَمْ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثُ الْآخِرَةِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . فَلِذَلِكَ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ . أَيْ ثُلُثَ الْأُصُولِ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=74377الْحَجُّ عَرَفَةَ } أَيْ هُوَ الْأَصْلُ وَالْبَاقِي تَبَعٌ .
قُلْت nindex.php?page=treesubj&link=28890_28741آيَاتُ الْقُرْآنِ نَوْعَانِ : عِلْمِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ وَفِي الْآيَاتِ مَا يَجْمَعُ الْأَمْرَيْنِ . وَأَبُو حَامِدٍ جَمَعَ الْعِلْمِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ [ ص: 115 ] بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقِصَصِ وَسَمَّاهَا " جَوَاهِرَ الْقُرْآنِ " وَجَمَعَ الْعَمَلِيَّاتِ وَسَمَّاهَا " دُرَرَ الْقُرْآنِ " . وَجَعَلَ الشَّطْرَ الْأَوَّلَ مِنْ " الْفَاتِحَةِ " مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالثَّانِي مِنْ الدُّرَرِ وَالْآيَاتُ الَّتِي تَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ يَذْكُرُهَا فِي أَغْلَبِ النَّوْعَيْنِ عَلَيْهَا . وَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِسْمَيْنِ رُبُعُ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ آيَةٍ . وَجَعَلَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ سِتَّةَ أَصْنَافٍ : ثَلَاثَةُ أُصُولٍ وَثَلَاثَةُ تَوَابِعَ . فَذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ عِلْمُ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَقَالَ : سِرُّ الْقُرْآنِ وَلُبَابُهُ الْأَصْفَى وَمَقْصِدُهُ الْأَقْصَى دَعْوَةُ الْعِبَادِ إلَى الْجَبَّارِ الْأَعْلَى رَبِّ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَخَالِقِ السَّمَوَاتِ الْعُلَى وَالْأَرْضِينَ السُّفْلَى . فَالثَّلَاثَةُ الْمُهِمَّةُ : تَعْرِيفُ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ وَتَعْرِيفُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي تَجِبُ مُلَازَمَتُهُ فِي السُّلُوكِ إلَيْهِ وَتَعْرِيفُ الْحَالِ عِنْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ . وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمَعْنِيَّةُ فَأَحَدُهَا : أَحْوَالُ الْمُجِيبِينَ لِلدَّعْوَةِ وَلَطَائِفِ صُنْعِ اللَّهِ فِيهِمْ وَسِرِّهِ وَمَقْصُودُهُ التَّشْوِيقُ وَالتَّرْغِيبُ . وَتَعْرِيفُ أَحْوَالِ النَّاكِبِينَ وَالنَّاكِلِينَ عَنْ الْإِجَابَةِ وَكَيْفِيَّةِ قَمْعِ اللَّهِ لَهُمْ وَتَنْكِيلِهِ بِهِمْ وَسِرِّهِ وَمَقْصُودُهُ الِاعْتِبَارُ وَالتَّرْهِيبُ . وَثَانِيهَا : حِكَايَةُ أَقْوَالِ الْجَاحِدِينَ . وَكَشْفِ فَضَائِحِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِالْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ عَلَى الْحَقِّ . وَمَقْصُودُهُ وَسِرُّهُ فِي جَنَبَةِ الْبَاطِلِ الْإِفْصَاحُ وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّنْفِيرُ وَفِي جَنَبَةِ الْحَقِّ الْإِيضَاحُ وَالتَّثْبِيتُ وَالتَّقْرِيرُ . وَثَالِثُهَا : تَعْرِيفُ عِمَارَةِ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَكَيْفِيَّةِ أَخْذِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالْأُهْبَةِ لِلِاسْتِعْدَادِ . قُلْت : مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28653_28759_28804أُصُولَ الْإِيمَانِ ثَلَاثَةٌ فَهُوَ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَهُ [ ص: 116 ] وَلَا بُدَّ مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَدِينٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ . فَذَكَرَ هَذِهِ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ . وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ التَّابِعَةُ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ . فَإِنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مِنْ تَفْضِيلِ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَمَا فِيهِ مِنْ عِمَارَةِ الطَّرِيقِ فَهُوَ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَمَا فِيهِ مِنْ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ فَذَاكَ مِنْ تَمَامِ الْإِخْبَارِ بِالثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ إذَا أَخْبَرَ بِالثَّلَاثَةِ ذَكَرَ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةَ الْمُثْبِتَةَ لِذَلِكَ وَذَكَرَ شِبْهَ الْجَاحِدِينَ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ ذَلِكَ فَقَالَ : الْقِسْمُ الْجَائِي لِمُحَاجَّةِ الْكُفَّارِ وَمُجَادَلَتِهِمْ وَإِيضَاحِ مَخَازِيهِمْ بِالْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ وَكَشْفِ أَبَاطِيلِهِمْ وتخاييلهم .
وَأَبَاطِيلُهُمْ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : [ الْأَوَّلُ ] ذِكْرُ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُهُ وَأَنَّ لَهُ وَلَدًا شَرِيكًا وَأَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ . الثَّانِي ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَشَاعِرٌ وَإِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ . وَثَالِثُهَا إنْكَارُ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَحْدُ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِنْكَارُ عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ . وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا - وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ أَبُو حَامِدٍ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُسْتَجِيبِينَ وَالنَّاكِبِينَ - فَهَذَا مِنْ [ ص: 117 ] تَمَامِ الْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ . فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ شُوهِدَ فِي الدُّنْيَا وَرُئِيَتْ آثَارُهُ وَتَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ غَيْبٌ عَنْ الْعِبَادِ . وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ هَذَا فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَوْعِظَةِ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=13قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } . وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=45فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=46أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=9أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } الْآيَاتِ . [ ص: 118 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِمَا ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=74فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=75إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=76وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } وَالْمُتَوَسِّمُ : الْمُسْتَدِلُّ بِالسِّمَةِ وَالسِّيمَا وَهِيَ الْعَلَامَةُ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=30وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } . فَمَعْرِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ثَابِتَةٌ مَقْسَمٌ عَلَيْهَا لَكِنَّ هَذَا يَكُونُ إذَا تَكَلَّمُوا وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُمْ بِالسِّيمَا فَمَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ أَخْفَى .
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=13123اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=75إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ لِلْمُتَفَرَّسِينَ قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=13436ابْنُ قُتَيْبَةَ : يُقَالُ تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ الْخَيْرَ أَيْ تَبَيَّنْته وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْمُتَوَسِّمُونَ فِي اللُّغَةِ النُّظَّارُ الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ سِمَةِ الشَّيْءِ يُقَالُ تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ كَذَا أَيْ عَرَفْت وَقَوْلُهُ " الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ " أَيْ فِي نَظَرِ أَعْيُنِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا السِّيمَا بِخِلَافِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=105وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : النَّاظِرُونَ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْمُنْتَقِدُونَ وَقَالَ قتادة : الْمُعْتَبِرُونَ . وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْمُتَوَسِّمَ يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=76وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ . ثُمَّ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=79وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } أَيْ بِطَرِيقِ مُتَبَيِّنٍ لِلنَّاسِ وَاضِحٍ . [ ص: 119 ] وَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمَّا قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=35فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=36فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=37وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } وَقَالَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ : { nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=15وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَبْقَى آيَاتٍ وَهِيَ الْعَلَامَاتُ وَالدَّلَالَاتُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَخُصُّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَارِ الْكُفَّارِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مِنْ بَابِ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا وَيُعْتَبَرُ بِهَا عِلْمًا وَوَعْظًا فَيُفِيدُ مَعْرِفَةَ صِحَّةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُفِيدُ التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ وَيُكْرِمُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَيُعَاقِبُهُمْ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِمَخْلُوقَاتِهِ الْعَامَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَةَ الْفَاعِلِ [ وَيُسْتَدَلُّ ] بِإِحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَلَى عِلْمِهِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْفَاعِلِ وَبِالتَّخْصِيصِ عَلَى مَشِيئَتِهِ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِرَادَتِهِ فَكَذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِالتَّخْصِيصِ بِمَا هُوَ أَحْمَد عَاقِبَةً عَلَى حِكْمَتِهِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْفِعْلِ بِمَا هُوَ مَحْمُودٌ فِي الْعَاقِبَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحِكْمَةِ وَيُسْتَدَلُّ بِتَخْصِيصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَتَخْصِيصِ مُكَذِّبِيهِمْ بِالْخِزْيِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ عَلَى أَنَّهُ يَأْمُرُ وَيُحِبُّ وَيَرْضَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَيَكْرَهُ وَيَسْخَطُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُكَذِّبُوهُمْ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالْإِكْرَامِ وَالنَّجَاةِ وَالذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالدُّعَاءِ وَتَخْصِيصَ الْآخَرِ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ وَقُبْحِ الذِّكْرِ وَاللَّعْنَةِ : يَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ مَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلُ وَبُغْضَ مَا فَعَلَهُ الصِّنْفُ الثَّانِي .
[ ص: 120 ] وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا تَخُصُّ أَحَدَ الْمِثْلَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ فَتِلْكَ هَلْ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهَا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يُوصَفُ بِهَا فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ بِهَذَا وَتَخْصِيصَ أَعْدَائِهِمْ بِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْ تَخْصِيصٍ بِلَا مُخَصَّصٍ ; بَلْ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَصَدَ تَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ بِالْإِكْرَامِ وَهَؤُلَاءِ بِالْعِقَابِ وَأَنَّ إيمَانَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا وَكَفْرَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا . وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ دَاخِلَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ . وَلَكِنْ أَبُو حَامِدٍ يَجْعَلُ الْحِجَاجَ صَنْعَةَ الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ عِمَارَةَ الطَّرِيقِ عِلْمَ الْفِقْهِ وَيَجْعَلُ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ عِلْمَ الْقَصَصِ وَيَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ وَالْجَدَلَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ حَقٍّ بِدَلِيلِ ; بَلْ إنَّمَا فِيهِ دَفْعُ الْبِدَعِ بِبَيَانِ تَنَاقُضِهَا ; وَيَجْعَلُ أَهْلَهُ مِنْ جِنْسِ خُفَرَاءِ الْحَجِيجِ وَيَجْعَلُ عِلْمَ الْفِقْهِ لَيْسَ غَايَتُهُ إلَّا مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا وَهَذَا مِمَّا نَازَعَهُ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِكَلَامِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ( جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ مِنْ مَعَانِي الْفَلْسَفَةِ وَجَعَلَ ذَلِكَ هُوَ بَاطِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرَّسُولِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي النُّبُوَّةِ بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ فِيهَا . [ ص: 121 ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَنَصَرْنَاهُ ; لَكِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29083_28892النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ . فَجَعَلَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ لَيْسَ هُوَ سِتَّةٌ : ثَلَاثَةُ أُصُولٍ وَثَلَاثَةُ فُرُوعٍ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَمْ يَقُلْ ثُلُثَ الْمُهِمِّ مِنْهُ وَلَا ثُلُثَ أَكْثَرِهِ وَلَا أُصُولَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ هُوَ سِتَّةٌ : ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ وَثَلَاثَةٌ تَوَابِعُ وَالسُّورَةُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الْمُهِمَّةِ وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ تَقْسِيمَ الْقُرْآنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ تَقْسِيمُ بِالدَّلِيلِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ وَالْإِخْبَارُ إمَّا عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا عَنْ الْمَخْلُوقِ فَهَذَا تَقْسِيمٌ بَيِّنٌ . وَأَمَّا جَعْلُ عِلْمِ الْفِقْهِ خَارِجًا عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَجَعْلُ عِلْمِ الْأَدِلَّةِ وَالْحِجَجِ خَارِجًا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهَذَا مَرْدُودٌ عِنْدَ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَأَبُو حَامِدٍ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّمَا يُعْرَفُ مَعَانِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّصْفِيَةِ فَقَطْ لَا بِطْرِيقِ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ وَلَا بِطْرِيقِ النَّظَرِ الِاسْتِدْلَالِيِّ [ ص: 122 ] فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَلَا بِالْعَقْلِ .
وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَصَنَّفُوا كُتُبًا فِي رَدِّ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَلَكِنَّ عُذْرَ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ طَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ طُرُقًا عَقْلِيَّةً غَيْرَ ذَلِكَ فَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ فِيهِ . وَأَمَّا الطُّرُقُ الْخَبَرِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا صَحَّ مِنْ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَبِطَرِيقِ دَلَالَةِ أَلْفَاظِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَظَنَّ - بِمَا شَارَكَ بِهِ بَعْضَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ بِأَلْفَاظِهِ فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذَا وَهَذَا سَدُّ بَابِ الطَّرِيقِ الْعَقْلِيِّ وَالسَّمْعِيِّ وَظَنَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْصُلُ لَا بِطْرِيقَ التَّصْفِيَةِ وَالْعَمَلِ فَسَلَكَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمَقْصُودُ أَيْضًا فَرَجَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إلَى قِرَاءَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ .
وَأَبَاطِيلُهُمْ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : [ الْأَوَّلُ ] ذِكْرُ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُهُ وَأَنَّ لَهُ وَلَدًا شَرِيكًا وَأَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ . الثَّانِي ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَشَاعِرٌ وَإِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ . وَثَالِثُهَا إنْكَارُ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَحْدُ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِنْكَارُ عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ . وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا - وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ أَبُو حَامِدٍ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُسْتَجِيبِينَ وَالنَّاكِبِينَ - فَهَذَا مِنْ [ ص: 117 ] تَمَامِ الْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ . فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ شُوهِدَ فِي الدُّنْيَا وَرُئِيَتْ آثَارُهُ وَتَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ غَيْبٌ عَنْ الْعِبَادِ . وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ هَذَا فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَوْعِظَةِ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=13قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } . وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=45فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=46أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=9أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } الْآيَاتِ . [ ص: 118 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِمَا ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=74فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=75إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=76وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } وَالْمُتَوَسِّمُ : الْمُسْتَدِلُّ بِالسِّمَةِ وَالسِّيمَا وَهِيَ الْعَلَامَةُ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=30وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } . فَمَعْرِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ثَابِتَةٌ مَقْسَمٌ عَلَيْهَا لَكِنَّ هَذَا يَكُونُ إذَا تَكَلَّمُوا وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُمْ بِالسِّيمَا فَمَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ أَخْفَى .
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=13123اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=75إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } } قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ لِلْمُتَفَرَّسِينَ قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=13436ابْنُ قُتَيْبَةَ : يُقَالُ تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ الْخَيْرَ أَيْ تَبَيَّنْته وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْمُتَوَسِّمُونَ فِي اللُّغَةِ النُّظَّارُ الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ سِمَةِ الشَّيْءِ يُقَالُ تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ كَذَا أَيْ عَرَفْت وَقَوْلُهُ " الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ " أَيْ فِي نَظَرِ أَعْيُنِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا السِّيمَا بِخِلَافِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=105وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : النَّاظِرُونَ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْمُنْتَقِدُونَ وَقَالَ قتادة : الْمُعْتَبِرُونَ . وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْمُتَوَسِّمَ يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=76وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ . ثُمَّ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=79وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } أَيْ بِطَرِيقِ مُتَبَيِّنٍ لِلنَّاسِ وَاضِحٍ . [ ص: 119 ] وَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمَّا قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=35فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=36فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=37وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } وَقَالَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ : { nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=15وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَبْقَى آيَاتٍ وَهِيَ الْعَلَامَاتُ وَالدَّلَالَاتُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَخُصُّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَارِ الْكُفَّارِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مِنْ بَابِ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا وَيُعْتَبَرُ بِهَا عِلْمًا وَوَعْظًا فَيُفِيدُ مَعْرِفَةَ صِحَّةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُفِيدُ التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ وَيُكْرِمُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَيُعَاقِبُهُمْ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِمَخْلُوقَاتِهِ الْعَامَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَةَ الْفَاعِلِ [ وَيُسْتَدَلُّ ] بِإِحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَلَى عِلْمِهِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْفَاعِلِ وَبِالتَّخْصِيصِ عَلَى مَشِيئَتِهِ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِرَادَتِهِ فَكَذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِالتَّخْصِيصِ بِمَا هُوَ أَحْمَد عَاقِبَةً عَلَى حِكْمَتِهِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْفِعْلِ بِمَا هُوَ مَحْمُودٌ فِي الْعَاقِبَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحِكْمَةِ وَيُسْتَدَلُّ بِتَخْصِيصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَتَخْصِيصِ مُكَذِّبِيهِمْ بِالْخِزْيِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ عَلَى أَنَّهُ يَأْمُرُ وَيُحِبُّ وَيَرْضَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَيَكْرَهُ وَيَسْخَطُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُكَذِّبُوهُمْ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالْإِكْرَامِ وَالنَّجَاةِ وَالذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالدُّعَاءِ وَتَخْصِيصَ الْآخَرِ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ وَقُبْحِ الذِّكْرِ وَاللَّعْنَةِ : يَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ مَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلُ وَبُغْضَ مَا فَعَلَهُ الصِّنْفُ الثَّانِي .
[ ص: 120 ] وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا تَخُصُّ أَحَدَ الْمِثْلَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ فَتِلْكَ هَلْ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهَا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يُوصَفُ بِهَا فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ بِهَذَا وَتَخْصِيصَ أَعْدَائِهِمْ بِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْ تَخْصِيصٍ بِلَا مُخَصَّصٍ ; بَلْ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَصَدَ تَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ بِالْإِكْرَامِ وَهَؤُلَاءِ بِالْعِقَابِ وَأَنَّ إيمَانَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا وَكَفْرَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا . وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ دَاخِلَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ . وَلَكِنْ أَبُو حَامِدٍ يَجْعَلُ الْحِجَاجَ صَنْعَةَ الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ عِمَارَةَ الطَّرِيقِ عِلْمَ الْفِقْهِ وَيَجْعَلُ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ عِلْمَ الْقَصَصِ وَيَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ وَالْجَدَلَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ حَقٍّ بِدَلِيلِ ; بَلْ إنَّمَا فِيهِ دَفْعُ الْبِدَعِ بِبَيَانِ تَنَاقُضِهَا ; وَيَجْعَلُ أَهْلَهُ مِنْ جِنْسِ خُفَرَاءِ الْحَجِيجِ وَيَجْعَلُ عِلْمَ الْفِقْهِ لَيْسَ غَايَتُهُ إلَّا مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا وَهَذَا مِمَّا نَازَعَهُ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِكَلَامِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ( جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ مِنْ مَعَانِي الْفَلْسَفَةِ وَجَعَلَ ذَلِكَ هُوَ بَاطِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرَّسُولِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي النُّبُوَّةِ بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ فِيهَا . [ ص: 121 ] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَنَصَرْنَاهُ ; لَكِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29083_28892النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ . فَجَعَلَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ لَيْسَ هُوَ سِتَّةٌ : ثَلَاثَةُ أُصُولٍ وَثَلَاثَةُ فُرُوعٍ . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَمْ يَقُلْ ثُلُثَ الْمُهِمِّ مِنْهُ وَلَا ثُلُثَ أَكْثَرِهِ وَلَا أُصُولَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ هُوَ سِتَّةٌ : ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ وَثَلَاثَةٌ تَوَابِعُ وَالسُّورَةُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الْمُهِمَّةِ وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ تَقْسِيمَ الْقُرْآنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ تَقْسِيمُ بِالدَّلِيلِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ وَالْإِخْبَارُ إمَّا عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا عَنْ الْمَخْلُوقِ فَهَذَا تَقْسِيمٌ بَيِّنٌ . وَأَمَّا جَعْلُ عِلْمِ الْفِقْهِ خَارِجًا عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَجَعْلُ عِلْمِ الْأَدِلَّةِ وَالْحِجَجِ خَارِجًا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهَذَا مَرْدُودٌ عِنْدَ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَأَبُو حَامِدٍ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّمَا يُعْرَفُ مَعَانِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّصْفِيَةِ فَقَطْ لَا بِطْرِيقِ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ وَلَا بِطْرِيقِ النَّظَرِ الِاسْتِدْلَالِيِّ [ ص: 122 ] فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَلَا بِالْعَقْلِ .
وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَصَنَّفُوا كُتُبًا فِي رَدِّ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَلَكِنَّ عُذْرَ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ طَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ طُرُقًا عَقْلِيَّةً غَيْرَ ذَلِكَ فَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ فِيهِ . وَأَمَّا الطُّرُقُ الْخَبَرِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا صَحَّ مِنْ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَبِطَرِيقِ دَلَالَةِ أَلْفَاظِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَظَنَّ - بِمَا شَارَكَ بِهِ بَعْضَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ - أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ بِأَلْفَاظِهِ فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذَا وَهَذَا سَدُّ بَابِ الطَّرِيقِ الْعَقْلِيِّ وَالسَّمْعِيِّ وَظَنَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْصُلُ لَا بِطْرِيقَ التَّصْفِيَةِ وَالْعَمَلِ فَسَلَكَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمَقْصُودُ أَيْضًا فَرَجَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إلَى قِرَاءَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ .
وَقَدْ ذَكَرَ nindex.php?page=showalam&ids=14961الْقَاضِي عِيَاضٌ أَقْوَالًا فِي nindex.php?page=treesubj&link=29083_28892كَوْنِ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ المازري قَبْلَهُ قَالَ : قَالَ الْإِمَامُ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيَّ - قِيلَ مَعْنَى ذَلِكَ : أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ : قَصَصٌ وَأَحْكَامٌ ; وَأَوْصَافُ اللَّهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ . و { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ الصِّفَاتِ فَكَانَتْ ثُلُثًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ قَالَ : وَرُبَّمَا أَسْعَدَ هَذَا التَّأْوِيلُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ . قُلْت : هَذَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ - وَهُوَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ - ذَكَرَهُ المازري فِي كَلَامِ nindex.php?page=showalam&ids=12997ابْنِ بَطَّالٍ كَمَا سَيَأْتِي . قَالَ : وَقِيلَ مَعْنَى ثُلُثِ الْقُرْآنِ لِشَخْصِ [ ص: 123 ] بِعَيْنِهِ قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَكَرَهُ nindex.php?page=showalam&ids=12997ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا قَالَ : وَقِيلَ مَعْنَاهُ إنَّ اللَّهَ يَتَفَضَّلُ بِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ لِقَارِئِهَا وَيَكُونُ مُنْتَهَى التَّضْعِيفِ إلَى مِقْدَارِ ثُلُثِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ دُونِ تَضْعِيفِ أَجْرٍ قَالَ : وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597957أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَشَدَ النَّاسَ وَقَالَ : سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } } . قَالَ المازري : وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْدَحُ فِي تَأْوِيلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ لِشَخْصِ بِعَيْنِهِ . قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=14961الْقَاضِي عِيَاضٌ : قَالَ بَعْضُهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=1الر } { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ثُمَّ بَيَّنَ التَّفْصِيلَ فَقَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ } فَهَذَا فَصْلُ الْأُلُوهِيَّةِ ثُمَّ قَالَ { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=2إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } وَهَذَا فَصْلُ النُّبُوَّةِ ثُمَّ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=3وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ } فَهَذَا فَصْلُ التَّكْلِيفِ وَمَا وَرَاءَهُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَعَامَّةِ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ مِمَّا فِيهِ مِنْ الْقَصَصِ فَمَنْ فَصَلَ النُّبُوَّةَ لِأَنَّهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا وَفَهْمِهَا أَيْضًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } جَمَعَتْ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ . قُلْت : مَضْمُونُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29568مَعَانِيَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : الْإِلَهِيَّاتُ وَالنُّبُوَّاتُ وَالشَّرَائِعُ . وَأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْهَا الْإِلَهِيَّاتُ وَجَعَلَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالْقَصَصَ مِنْ قِسْمِ [ ص: 124 ] النُّبُوَّةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُقَالُ : وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَيْضًا مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ كَمَا جَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ . وَيُقَالُ أَيْضًا : الْقَصَصُ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إكْرَامِهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَعُقُوبَتِهِ لِمَنْ عَصَاهُ وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ مَقْصُودَ النُّبُوَّةِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا دَلَّ عَلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ الْقَصَصِ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ وَمَا دَلَّ عَلَى إثْبَاتِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ .
ثُمَّ الْإِلَهِيَّاتُ أَيْضًا هِيَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنَ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ بِالْعَقْلِ وَأَخْبَرَ عَنْ الْغَيْبِ الْمُطْلَقِ الَّذِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ . فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْقَصَصِ دَاخِلَةً فِي النُّبُوَّةِ دُونَ الْإِلَهِيَّاتِ فَإِنَّهُ إنْ عَنِيَ أَنَّ الْقَصَصَ تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَهِيَ تَدُلُّ مِنْ جِهَةِ إخْبَارِهِ بِهَا كَإِخْبَارِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْغَيْبِ وَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبِلَاتِ مَا هُوَ كَالْقَصَصِ فِي ذَلِكَ وَأَبْلَغَ . وَإِنْ عَنِيَ أَنَّ تَعْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى جِنْسِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى [ ص: 125 ] نُبُوَّةِ مَنْ عَذَّبَ قَوْمَهُ ; لَا تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ الْمُتَأَخِّرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جِنْسِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْأَوَّلُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَزِيَادَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِيهَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=45وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَصَّ أَخْبَارَهُمْ كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَقُولُ لِقَوْمِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=59يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } بَلْ يَفْتَتِحُ دَعْوَتَهُ بِذَلِكَ وَذَكَرَ تَعَالَى عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ مِنْ نُوحٍ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَأَيْضًا فَالْإِلَهِيَّاتُ الَّتِي تُعْلَمُ مِنْهَا قُدْرَةُ الرَّبِّ وَإِرَادَتُهُ وَحِكْمَتُهُ وَأَفْعَالُهُ : مِنْهَا يُعْلَمُ النَّبِيُّ مِنْ الْمُتَنَبِّئِ وَمِنْهَا يُعْلَمُ صِدْقُ النَّبِيِّ فَهِيَ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ مِنْ مُجَرَّدِ الْقَصَصِ وَمَا فِي الْقَصَصِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ إنَّمَا يَدُلُّ مَعَ الْإِلَهِيَّاتِ وَإِلَّا فَلَوْ تَجَرَّدَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ فَالنُّبُوَّةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْإِلَهِيَّاتِ أَعْظَمُ مِنْ ارْتِبَاطِهَا بِغَيْرِهَا وَالْأَنْبِيَاءُ إنَّمَا بُعِثُوا بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ [ ص: 126 ] وَحْدَهُ وَقَدْ يَذْكُرُونَ الْمَعَادَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا وَالْقَصَصُ قَدْ يَذْكُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضَهَا مُجْمَلًا . وَأَمَّا الْإِلَهِيَّاتُ فَهِيَ الْأَصْلِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ .
وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ يَذْكُرُهَا اللَّهُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِثْلَ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَذَوَاتِ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=1الر } وَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=1طسم } وَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=1حم } وَأَكْثَرِ الْمُفَصَّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْمَدَنِيَّاتُ تَتَضَمَّنُ خِطَابَ مَنْ آمَنَ بِجِنْسِ الرُّسُلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا خَاتَمُ الرُّسُلِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ لَفْظًا وَمَعْنًى . ثُمَّ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَخُصُّ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ بِحُكْمِ يَخُصُّهُ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597958قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=177لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ - وَكَانَ قَدْ ذَبَحَ فِي الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ - قَبْلَ أَنْ يُشَرِّعَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذَّبْحَ يَكُونُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَذْبَحُ فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ ذَكَرَ لَهُ nindex.php?page=showalam&ids=177أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَهُ عَنَاقًا خَيْرًا مِنْ جَذَعَةٍ فَقَالَ : تُجْزِئُ عَنْك وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } فَخَصَّهُ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي ذَبْحِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ; إذْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ شَرْعِ الْحُكْمِ [ ص: 127 ] فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الذَّبْحُ مَنْهِيًّا عَنْهُ بَعْدُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا هَذَا السِّنُّ وَأَمَّا أَمْرُهُ لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَاهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لِيَصِيرَ لَهَا مُحَرَّمًا فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ : هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ أَوْ مُشْتَرَكٌ ؟ وَإِذَا قِيلَ هَذَا لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ - كَمَا احْتَاجَتْ هِيَ إلَيْهِ - كَانَ فِي ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ إلَّا لِاخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِمَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ غَيْرِ مُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ وَقَبَّحَ مَنْ يَحْكُمُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=28أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=21أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=35أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=154مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=43أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } . وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا سَوَّى بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَأَمَّا إذَا قِيلَ : لَيْسَ الْوَاقِعُ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَخُصُّ بِالْأَمْرِ [ ص: 128 ] وَالنَّهْيِ مَا يَخُصُّهُ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ قَطُّ بَلْ مُجَرَّدُ تَخْصِيصِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ؟ فَقَالَ بِذَلِكَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ وَوَافَقَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ .
وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَأَكْثَرِ طَوَائِفِ الْكَلَامِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ كالكرامية وَغَيْرِهِمْ وَنَفُتْهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْأَصْلِ بَلْ يَقُولُونَ : هُوَ سُبْحَانَهُ يَخُصُّ مَا يَخُصُّ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ لِأَسْبَابِ وَلِحِكْمَةِ لَهُ فِي التَّخْصِيصِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُضَعِّفُ لِقَارِئِهَا مِقْدَارَ مَا يُعْطَاهُ قَارِئُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بِلَا تَضْعِيفٍ : قَوْلٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ وَلَا حِكْمَةٌ فَإِنَّ النَّصَّ أَخْبَرَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَأَنَّ مَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَإِنْ كَانَ فِي هَذَا تَضْعِيفٌ فَفِي هَذَا تَضْعِيفٌ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا تَضْعِيفٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْآخَرِ فَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِالتَّضْعِيفِ تَحَكُّمٌ . ثُمَّ جَعَلَ التَّضْعِيفَ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ لِمَا اُخْتُصَّتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ الْفَضْلِ وَحِينَئِذٍ فَفَضْلُهَا هُوَ سَبَبُ هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى نَقْصِ ثَوَابِ سَائِرِ الْقُرْآنِ وَأَيْضًا فَهَذَا تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَلَا سَبَبٌ يَقْتَضِيهِ وَلَا حِكْمَةٌ فِيهِ . وَالنَّاسُ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ مِنْ جِهَةِ نَقْصِ عِلْمِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْرِ ذَلِكَ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ [ ص: 129 ] ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يَفُوقُ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ وَأَفْصَحُ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ كَمَالُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ عَلَى بَيَانِهِ وَكَمَالُ الْإِرَادَةِ لَهُ وَمَعَ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فَيُعْلَمُ أَنَّ كَلَامَهُ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ بَيَانًا لِمَا بَيَّنَهُ فِي الدِّينِ مِنْ أُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ وَقَّرَ هَذَا فِي قَلْبِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْرِيفِ النُّصُوصِ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي إذَا تُدُبِّرَتْ وَجَدَ مَنْ أَرَادَهَا بِذَلِكَ الْقَوْلَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَمَّا يَجِبُ اتِّصَافُ الرَّسُولِ بِهِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَقْصِ مَا أُوتِيَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=11يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } . فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِخْوَانَنَا مِمَّنْ رَفَعَ دَرَجَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ .
وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - غَيْرَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ كَالْمُهَلَّبِ وَالْأَصِيلِيَّ وَغَيْرِهِمَا - فَنَقُولُ : قَدْ عُلِمَ أَنَّ تَفَاضُلَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا وَبِاعْتِبَارِ أَلْفَاظِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَعَانِيهِ . وَاَلَّذِي قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَضَّلَ مِنْ السُّوَرِ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597959إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي [ ص: 130 ] التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفَضَّلَ مِنْ الْآيَاتِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597960 nindex.php?page=showalam&ids=34لأبي بْنِ كَعْبٍ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ ؟ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ تَضَمَّنَتْ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَآخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ عِدَّةَ آيَاتٍ لَا آيَةً وَاحِدَةً .
ثُمَّ الْإِلَهِيَّاتُ أَيْضًا هِيَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنَ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ بِالْعَقْلِ وَأَخْبَرَ عَنْ الْغَيْبِ الْمُطْلَقِ الَّذِي تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ . فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْقَصَصِ دَاخِلَةً فِي النُّبُوَّةِ دُونَ الْإِلَهِيَّاتِ فَإِنَّهُ إنْ عَنِيَ أَنَّ الْقَصَصَ تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَهِيَ تَدُلُّ مِنْ جِهَةِ إخْبَارِهِ بِهَا كَإِخْبَارِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْغَيْبِ وَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبِلَاتِ مَا هُوَ كَالْقَصَصِ فِي ذَلِكَ وَأَبْلَغَ . وَإِنْ عَنِيَ أَنَّ تَعْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى جِنْسِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى [ ص: 125 ] نُبُوَّةِ مَنْ عَذَّبَ قَوْمَهُ ; لَا تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ الْمُتَأَخِّرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جِنْسِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْأَوَّلُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَزِيَادَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِيهَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=45وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=36وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَصَّ أَخْبَارَهُمْ كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَقُولُ لِقَوْمِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=59يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } بَلْ يَفْتَتِحُ دَعْوَتَهُ بِذَلِكَ وَذَكَرَ تَعَالَى عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ مِنْ نُوحٍ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَأَيْضًا فَالْإِلَهِيَّاتُ الَّتِي تُعْلَمُ مِنْهَا قُدْرَةُ الرَّبِّ وَإِرَادَتُهُ وَحِكْمَتُهُ وَأَفْعَالُهُ : مِنْهَا يُعْلَمُ النَّبِيُّ مِنْ الْمُتَنَبِّئِ وَمِنْهَا يُعْلَمُ صِدْقُ النَّبِيِّ فَهِيَ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ مِنْ مُجَرَّدِ الْقَصَصِ وَمَا فِي الْقَصَصِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ إنَّمَا يَدُلُّ مَعَ الْإِلَهِيَّاتِ وَإِلَّا فَلَوْ تَجَرَّدَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ فَالنُّبُوَّةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْإِلَهِيَّاتِ أَعْظَمُ مِنْ ارْتِبَاطِهَا بِغَيْرِهَا وَالْأَنْبِيَاءُ إنَّمَا بُعِثُوا بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ [ ص: 126 ] وَحْدَهُ وَقَدْ يَذْكُرُونَ الْمَعَادَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا وَالْقَصَصُ قَدْ يَذْكُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضَهَا مُجْمَلًا . وَأَمَّا الْإِلَهِيَّاتُ فَهِيَ الْأَصْلِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فَلَا بُدَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ .
وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ يَذْكُرُهَا اللَّهُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِثْلَ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَذَوَاتِ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=1الر } وَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=1طسم } وَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=1حم } وَأَكْثَرِ الْمُفَصَّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْمَدَنِيَّاتُ تَتَضَمَّنُ خِطَابَ مَنْ آمَنَ بِجِنْسِ الرُّسُلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا خَاتَمُ الرُّسُلِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ لَفْظًا وَمَعْنًى . ثُمَّ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَخُصُّ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ بِحُكْمِ يَخُصُّهُ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597958قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=177لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ - وَكَانَ قَدْ ذَبَحَ فِي الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ - قَبْلَ أَنْ يُشَرِّعَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذَّبْحَ يَكُونُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَذْبَحُ فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ ذَكَرَ لَهُ nindex.php?page=showalam&ids=177أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَهُ عَنَاقًا خَيْرًا مِنْ جَذَعَةٍ فَقَالَ : تُجْزِئُ عَنْك وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } فَخَصَّهُ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي ذَبْحِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ; إذْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ شَرْعِ الْحُكْمِ [ ص: 127 ] فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الذَّبْحُ مَنْهِيًّا عَنْهُ بَعْدُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا هَذَا السِّنُّ وَأَمَّا أَمْرُهُ لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَاهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لِيَصِيرَ لَهَا مُحَرَّمًا فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ : هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ أَوْ مُشْتَرَكٌ ؟ وَإِذَا قِيلَ هَذَا لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ - كَمَا احْتَاجَتْ هِيَ إلَيْهِ - كَانَ فِي ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ إلَّا لِاخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِمَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ غَيْرِ مُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ وَقَبَّحَ مَنْ يَحْكُمُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=28أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=21أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=35أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=154مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=43أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } . وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا سَوَّى بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَأَمَّا إذَا قِيلَ : لَيْسَ الْوَاقِعُ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَخُصُّ بِالْأَمْرِ [ ص: 128 ] وَالنَّهْيِ مَا يَخُصُّهُ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ قَطُّ بَلْ مُجَرَّدُ تَخْصِيصِ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ؟ فَقَالَ بِذَلِكَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ وَوَافَقَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ .
وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَأَكْثَرِ طَوَائِفِ الْكَلَامِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ كالكرامية وَغَيْرِهِمْ وَنَفُتْهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَقُولُونَ بِهَذَا الْأَصْلِ بَلْ يَقُولُونَ : هُوَ سُبْحَانَهُ يَخُصُّ مَا يَخُصُّ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ لِأَسْبَابِ وَلِحِكْمَةِ لَهُ فِي التَّخْصِيصِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُضَعِّفُ لِقَارِئِهَا مِقْدَارَ مَا يُعْطَاهُ قَارِئُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بِلَا تَضْعِيفٍ : قَوْلٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ وَلَا حِكْمَةٌ فَإِنَّ النَّصَّ أَخْبَرَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَأَنَّ مَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَإِنْ كَانَ فِي هَذَا تَضْعِيفٌ فَفِي هَذَا تَضْعِيفٌ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا تَضْعِيفٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْآخَرِ فَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِالتَّضْعِيفِ تَحَكُّمٌ . ثُمَّ جَعَلَ التَّضْعِيفَ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ لِمَا اُخْتُصَّتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ الْفَضْلِ وَحِينَئِذٍ فَفَضْلُهَا هُوَ سَبَبُ هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى نَقْصِ ثَوَابِ سَائِرِ الْقُرْآنِ وَأَيْضًا فَهَذَا تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَلَا سَبَبٌ يَقْتَضِيهِ وَلَا حِكْمَةٌ فِيهِ . وَالنَّاسُ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ مِنْ جِهَةِ نَقْصِ عِلْمِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْرِ ذَلِكَ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ [ ص: 129 ] ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يَفُوقُ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ وَأَفْصَحُ الْخَلْقِ فِي الْبَيَانِ وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ لِلْخَلْقِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ كَمَالُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ عَلَى بَيَانِهِ وَكَمَالُ الْإِرَادَةِ لَهُ وَمَعَ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فَيُعْلَمُ أَنَّ كَلَامَهُ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ بَيَانًا لِمَا بَيَّنَهُ فِي الدِّينِ مِنْ أُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ وَقَّرَ هَذَا فِي قَلْبِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْرِيفِ النُّصُوصِ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي إذَا تُدُبِّرَتْ وَجَدَ مَنْ أَرَادَهَا بِذَلِكَ الْقَوْلَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَمَّا يَجِبُ اتِّصَافُ الرَّسُولِ بِهِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَقْصِ مَا أُوتِيَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=11يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } . فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِخْوَانَنَا مِمَّنْ رَفَعَ دَرَجَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ .
وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - غَيْرَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ كَالْمُهَلَّبِ وَالْأَصِيلِيَّ وَغَيْرِهِمَا - فَنَقُولُ : قَدْ عُلِمَ أَنَّ تَفَاضُلَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا وَبِاعْتِبَارِ أَلْفَاظِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَعَانِيهِ . وَاَلَّذِي قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَضَّلَ مِنْ السُّوَرِ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597959إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي [ ص: 130 ] التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفَضَّلَ مِنْ الْآيَاتِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597960 nindex.php?page=showalam&ids=34لأبي بْنِ كَعْبٍ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَك أَعْظَمُ ؟ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ تَضَمَّنَتْ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ وَآخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ عِدَّةَ آيَاتٍ لَا آيَةً وَاحِدَةً .
وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا أَنَّهَا يَكْتَفِي بِتِلَاوَتِهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ بَلْ قَدْ كَرِهَ السَّلَفُ أَنْ تُقْرَأَ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ فَإِنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29586_29579الْقُرْآنَ يُقْرَأُ كَمَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَالتَّكْبِيرُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ لَيْسَ هُوَ مُسْنَدًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسْنِدْهُ أَحَدٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا البزي وَخَالَفَ بِذَلِكَ سَائِرَ مَنْ نَقَلَهُ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا نَقَلُوهُ اخْتِيَارًا مِمَّنْ هُوَ دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْفَرَدَ هُوَ بِرَفْعِهِ وَضَعْفِهِ نَقَلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِنْ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَةِ وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ [ ص: 131 ] وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُقْرَأَ كَمَا فِي الْمَصَاحِفِ وَلَكِنْ إذَا قُرِئَتْ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مُفْرَدَةً تُقْرَأُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ قَرَأَهَا فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَعْدِلُ ثُلُثَ أَجْرِ الْقُرْآنِ لَكِنَّ عَدْلَ الشَّيْءِ - بِالْفَتْحِ - يَكُونُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالثَّوَابُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا أَنَّ الْأَمْوَالَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ : مِنْ مَطْعُومٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ وَمَسْكُونٍ وَنَقْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ مِنْ أَحَدِ أَجْنَاسِ الْمَالِ مَا يَعْدِلُ أَلْفَ دِينَارٍ مَثَلًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْمَالِ بَلْ إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ وَهُوَ طَعَامٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى لِبَاسٍ وَمَسْكَنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ النَّقْدِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا النَّقْدُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى أَنْوَاعِهَا وَمَنَافِعِهَا . وَالْفَاتِحَةُ فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ مَا لَا تَقُومُ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَجْرُهَا عَظِيمًا فَذَلِكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ مَعَ أَجْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلِهَذَا لَوْ صَلَّى بِهَا وَحْدَهَا بِدُونِ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إلَّا الْفَاتِحَةَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ مَعَانِيَ الْفَاتِحَةِ فِيهَا الْحَوَائِجُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْعِبَادِ مِنْهَا وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28972_27699_27450مَا فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ الثَّنَاءِ [ ص: 132 ] وَالدُّعَاءِ وَهُوَ قَوْلُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=7صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } هُوَ أَفْضَلُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَهُوَ أَوْجَبُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَأَنْفَعُ دُعَاءٍ دَعَا بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْعَبْدُ دَائِمًا مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فَلَوْ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ تِسْعَةِ أَعْشَارِ الْقُرْآنِ - دَعْ ثُلُثَهُ - وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ هَذَا الدُّعَاءِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ وَلَمْ يَسُدَّ مَسَدَّهُ .
وَهَذَا كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ تَصَدَّقَ بِصَدَقَاتِ عَظِيمَةٍ وَجَاهَدَ جِهَادًا عَظِيمًا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَرَّاتٍ وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ ذَلِكَ الْيَوْمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَمْ يَقُمْ ثَوَابُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مَقَامَ هَذِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَتَغَدَّى بِهِ وَيَتَعَشَّى مِنْ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَائِعًا مُتَأَلِّمًا فَاسِدَ الْحَالِ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَشْرَفُ الْعُلُومِ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَأَنْفَعُ الْعِلْمِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ . فَلَيْسَ الْأَفْضَلُ الْأَشْرَفُ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ فِي وَقْتٍ بَلْ الْأَنْفَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْمَفْضُولُ فِي مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ إذْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ [ ص: 133 ] الدُّعَاءِ فَهَذَا أَمْرٌ مُطْلَقٌ . وَقَدْ تَحْرُمُ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتٍ فَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ . وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْقِرَاءَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . فَهَكَذَا يُعْلَمُ الْأَمْرُ فِي nindex.php?page=treesubj&link=1530_28892فَضْلِ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَغَيْرِهَا فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهَا بَلْ هُوَ الْوَاجِبُ والاحتزاء بِهَا وَحْدَهَا لَا يُمْكِنُ بَلْ تَبْطُلُ مَعَهُ الصَّلَاةُ . وَلِهَذَا وَجَبَ التَّقَرُّبُ بِالْفَرَائِضِ قَبْلَ النَّوَافِلِ وَالتَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ إنَّمَا يَكُونُ تَقَرُّبًا إذَا فُعِلَتْ الْفَرَائِضُ لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الِاتِّحَادِيَّةِ كَصَاحِبِ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " وَنَحْوِهِ مِنْ أَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ يَكُونُ بَعْدَ قُرْبِ النَّوَافِلِ وَالنَّوَافِلُ تَجْعَلُ الْحَقَّ غِطَاءَهُ وَتِلْكَ تَجْعَلُ الْحَقَّ عَيْنَهُ . فَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ مِنْ الِاتِّحَادِ كَمَا بَيَّنَ . وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ يُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=11251يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ . وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا . فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي . وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ [ ص: 134 ] وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ لَيْسَ هُوَ الْمُتَقَرَّبَ إلَيْهِ ; بَلْ هُوَ غَيْرُهُ . وَأَنَّهُ مَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ عَبْدُهُ بِمِثْلِ أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يَصِيرَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ فَيَسْمَعُ بِهِ وَيُبْصِرُ بِهِ وَيَبْطِشُ بِهِ وَيَمْشِي بِهِ . ثُمَّ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=34296وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ وَالْمُسْتَعِيذِ وَالْمُسْتَعَاذِ بِهِ وَجَعَلَ الْعَبْدَ سَائِلًا لِرَبِّهِ مُسْتَعِيذًا بِهِ . وَهَذَا حَدِيثٌ شَرِيفٌ جَامِعٌ لِمَقَاصِدَ عَظِيمَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا بَلْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28900_28910مَعَانِيَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : تَوْحِيدٌ وَقَصَصٌ وَأَحْكَامٌ . وَهَذِهِ السُّورَةُ صِفَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا التَّوْحِيدُ وَحْدَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ . وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ : إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ وَالْإِخْبَارُ إمَّا خَبَرٌ عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ . فَالْإِنْشَاءُ هُوَ الْأَحْكَامُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَالْخَبَرُ عَنْ الْمَخْلُوقِ هُوَ الْقَصَصُ . وَالْخَبَرُ عَنْ الْخَالِقِ هُوَ ذِكْرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سُورَةٌ هِيَ وَصْفُ الرَّحْمَنِ مَحْضًا إلَّا هَذِهِ السُّورَةَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=5535أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ [ ص: 135 ] فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ : لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } . وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي ( بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ : وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=27573كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قباء فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ لَهُمْ بِهَا فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بـ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ بِسُورَةِ أُخْرَى مَعَهَا فَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا : إنَّك تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِيك حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى فَقَالَ : مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْت وَإِنْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ تَرَكَتْكُمْ . وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ . فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ : يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُك أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُك بِهِ أَصْحَابُك وَمَا يَحْمِلُك عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . قَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا . قَالَ حُبُّك إيَّاهَا أَدْخَلَك الْجَنَّةَ } . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597961إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } حُقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ إلَّا حَقٌّ .
[ ص: 136 ] وَاَلَّذِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْعُ تَفَاضُلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُهُ . الثَّانِي اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْأَجْرَ يَتْبَعُ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ فَمَا كَثُرَتْ حُرُوفُهُ مِنْ الْكَلَامِ يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ . قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=37063مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ . أَمَّا إنِّي لَا أَقُولُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم } حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . قَالُوا وَمَعْلُومٌ أَنَّ ثُلُثَ الْقُرْآنِ حُرُوفُهُ أَكْثَرُ بِكَثِيرِ فَتَكُونُ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْحَسَنَاتِ فِيهَا كِبَارٌ وَصِغَارٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُودُهُ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=160مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } فَإِذَا قَرَأَ حَرْفًا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَةً فَيُعْطِيهِ بِقَدْرِ تِلْكَ الْحَسَنَةِ عَشْرَ مَرَّاتٍ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْحَسَنَاتِ فِي الْحُرُوفِ مُتَمَاثِلَةٌ . كَمَا أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِدِينَارِ يُعْطَى بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . وَالْوَاحِدُ مِنْ بَعْدِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ إذَا أَنْفَقَ مُدًّا كَانَ لَهُ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . وَلَكِنْ [ ص: 137 ] لَا تَكُونُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ بِقَدْرِ حَسَنَةِ مَنْ أَنْفَقَ مُدًّا مِنْ الصَّحَابَةِ السَّابِقِينَ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . فَكَذَلِكَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ تَتَفَاضَلُ لِتَفَاضُلِ الْمَعَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ فَحُرُوفُ الْفَاتِحَةِ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا حَسَنَةٌ أَعْظَمُ مِنْ حَسَنَاتِ حُرُوفٍ مِنْ { nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ يَعْدِلُ غَيْرَهُ فَعَدْلُ الشَّيْءِ - بِالْفَتْحِ - هُوَ مُسَاوِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } وَالصِّيَامُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الطَّعَامِ وَالْجَزَاءِ وَلَكِنَّهُ يُعَادِلُهُ فِي الْقَدْرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=31864لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=123وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } أَيْ فِدْيَةٌ وَالْفِدْيَةُ مَا يَعْدِلُ بِالْمُفْدَى وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أَيْ يَجْعَلُونَ لَهُ عَدْلًا أَيْ نِدًّا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ . وَلَوْ كَانَ لِرَجُلِ أَمْوَالٌ مِنْ أَصْنَافٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَلِآخَرَ ذَهَبٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مَالُ هَذَا يَعْدِلُ مَالَ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ ; وَلِهَذَا قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا يَعْدِلُ شَيْئًا عَظِيمًا وَإِذَا احْتَاجَ إلَى دَوَاءٍ أَوْ مُرَكَّبٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى اشْتِرَائِهِ لَمْ تَنْفَعْهُ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ . فَالْقُرْآنُ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ . وَإِنْ كَانَ التَّوْحِيدُ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ .
وَإِذَا احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْأَفْعَالِ أَوْ [ ص: 138 ] احْتَاجَ إلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيَعْتَبِرُ بِهِ مِنْ الْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَمْ يَسُدَّ غَيْرُهُ مَسَدَّهُ فَلَا يَسُدُّ التَّوْحِيدُ مَسَدَّ هَذَا وَلَا تَسُدُّ الْقَصَصُ مَسَدَّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَسَدَّ الْقَصَصِ . بَلْ كُلُّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ وَيَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . فَإِذَا قَرَأَ الْإِنْسَانُ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حَصَلَ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ ; لَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ مِنْ جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِبَقِيَّةِ الْقُرْآنِ بَلْ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ فَلَا تَسُدُّ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَسَدَّ ذَلِكَ وَلَا تَقُومُ مَقَامَهُ فَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَقْرَأْ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَإِنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَكِنَّ جِنْسَ الْأَجْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهَا لَا يَحْصُلُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا بَلْ يَبْقَى فَقِيرًا مُحْتَاجًا إلَى مَا يَتِمُّ بِهِ إيمَانُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلَوْ قَامَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ . فَالْمَعَارِفُ الَّتِي تَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ سَائِرِ الْقُرْآنِ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فَيَكُونُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِتَنَوُّعِ الثَّوَابِ وَإِنْ كَانَ قَارِئُ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثَلَاثًا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ الثَّوَابِ لَكِنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَيْسَ فِيهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْعَبْدُ كَمَنْ مَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ وَآخَرُ مَعَهُ طَعَامٌ وَلِبَاسٌ وَمَسَاكِنُ وَنَقْدٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ ; فَإِنَّ هَذَا مَعَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَذَاكَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا مَعَ هَذَا وَإِنْ كَانَ مَا مَعَهُ يَعْدِلُ مَا مَعَ هَذَا . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ [ ص: 139 ] طَعَامٌ مِنْ أَشْرَفِ الطَّعَامِ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى لِبَاسٍ وَمَسَاكِنَ وَمَا يَدْفَعُ بِهِ الضَّرَرَ مِنْ السِّلَاحِ وَالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الطَّعَامِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَضْلَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ فَالْقِرَاءَةُ بِتَدَبُّرِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ بِلَا تَدَبُّرٍ وَالصَّلَاةُ بِخُشُوعِ وَحُضُورِ قَلْبٍ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ بِدُونِ ذَلِكَ . وَفِي الْأَثَرِ : { إنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } .
وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَرْقَى بـ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَكَانَ لَهَا بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ فَيَرْقَى بِهَا غَيْرُهُ فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ : لَيْسَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مِنْ كُلِّ أَحَدٍ تَنْفَعُ كُلَّ أَحَدٍ . وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ تَسْبِيحُ بَعْضِ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِ وَيَكُونُ قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّوَرِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِ ل { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَغَيْرِهَا . وَالْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ أَيْضًا حَالُهُ . فَقَدْ يَفْعَلُ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ عَلَى وَجْهٍ كَامِلٍ فَيَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ الْفَاضِلَةِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِبَغِيِّ لِسَقْيِهَا الْكَلْبَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا لَمَّا حَصَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ يُنْفِقُ الرَّجُلُ أَضْعَافَ ذَلِكَ فَلَا يُغْفَرُ لَهُ لِعَدَمِ الْأَسْبَابِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْعَمَلِ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ [ ص: 140 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30276لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } يَقُولُهُ عَنْ أَصْحَابِهِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِذَا قِيلَ : إنَّ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يَعْدِلُ ثَوَابُهَا ثَوَابَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ التَّمَاثُلِ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَإِلَّا فَإِذَا اعْتَبَرَ قِرَاءَةَ غَيْرِهَا مَعَ التَّدَبُّرِ وَالْخُشُوعِ بِقِرَاءَتِهَا مَعَ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; بَلْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ الْعَبْدِ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَاتِّصَافِهِ بِمَعَانِيهَا أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ وَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ سَائِرِ الْقُرْآنِ .
وَهَذَا كَمَا لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ تَصَدَّقَ بِصَدَقَاتِ عَظِيمَةٍ وَجَاهَدَ جِهَادًا عَظِيمًا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَرَّاتٍ وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ ذَلِكَ الْيَوْمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَمْ يَقُمْ ثَوَابُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مَقَامَ هَذِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَتَغَدَّى بِهِ وَيَتَعَشَّى مِنْ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَائِعًا مُتَأَلِّمًا فَاسِدَ الْحَالِ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَشْرَفُ الْعُلُومِ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَأَنْفَعُ الْعِلْمِ أَحْكَامُ الْعَبِيدِ . فَلَيْسَ الْأَفْضَلُ الْأَشْرَفُ هُوَ الَّذِي يَنْفَعُ فِي وَقْتٍ بَلْ الْأَنْفَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْمَفْضُولُ فِي مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ إذْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ [ ص: 133 ] الدُّعَاءِ فَهَذَا أَمْرٌ مُطْلَقٌ . وَقَدْ تَحْرُمُ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتٍ فَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ . وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْقِرَاءَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . فَهَكَذَا يُعْلَمُ الْأَمْرُ فِي nindex.php?page=treesubj&link=1530_28892فَضْلِ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَغَيْرِهَا فَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهَا بَلْ هُوَ الْوَاجِبُ والاحتزاء بِهَا وَحْدَهَا لَا يُمْكِنُ بَلْ تَبْطُلُ مَعَهُ الصَّلَاةُ . وَلِهَذَا وَجَبَ التَّقَرُّبُ بِالْفَرَائِضِ قَبْلَ النَّوَافِلِ وَالتَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ إنَّمَا يَكُونُ تَقَرُّبًا إذَا فُعِلَتْ الْفَرَائِضُ لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الِاتِّحَادِيَّةِ كَصَاحِبِ " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " وَنَحْوِهِ مِنْ أَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ يَكُونُ بَعْدَ قُرْبِ النَّوَافِلِ وَالنَّوَافِلُ تَجْعَلُ الْحَقَّ غِطَاءَهُ وَتِلْكَ تَجْعَلُ الْحَقَّ عَيْنَهُ . فَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ مِنْ الِاتِّحَادِ كَمَا بَيَّنَ . وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ يُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=11251يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ . وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا . فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي . وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ [ ص: 134 ] وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ لَيْسَ هُوَ الْمُتَقَرَّبَ إلَيْهِ ; بَلْ هُوَ غَيْرُهُ . وَأَنَّهُ مَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ عَبْدُهُ بِمِثْلِ أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يَصِيرَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ فَيَسْمَعُ بِهِ وَيُبْصِرُ بِهِ وَيَبْطِشُ بِهِ وَيَمْشِي بِهِ . ثُمَّ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=34296وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ وَالْمُسْتَعِيذِ وَالْمُسْتَعَاذِ بِهِ وَجَعَلَ الْعَبْدَ سَائِلًا لِرَبِّهِ مُسْتَعِيذًا بِهِ . وَهَذَا حَدِيثٌ شَرِيفٌ جَامِعٌ لِمَقَاصِدَ عَظِيمَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا بَلْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28900_28910مَعَانِيَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : تَوْحِيدٌ وَقَصَصٌ وَأَحْكَامٌ . وَهَذِهِ السُّورَةُ صِفَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا التَّوْحِيدُ وَحْدَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ . وَالْكَلَامُ نَوْعَانِ : إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ وَالْإِخْبَارُ إمَّا خَبَرٌ عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ . فَالْإِنْشَاءُ هُوَ الْأَحْكَامُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَالْخَبَرُ عَنْ الْمَخْلُوقِ هُوَ الْقَصَصُ . وَالْخَبَرُ عَنْ الْخَالِقِ هُوَ ذِكْرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ سُورَةٌ هِيَ وَصْفُ الرَّحْمَنِ مَحْضًا إلَّا هَذِهِ السُّورَةَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { nindex.php?page=hadith&LINKID=5535أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ [ ص: 135 ] فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ : لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } . وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي ( بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ : وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=27573كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قباء فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ لَهُمْ بِهَا فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بـ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ بِسُورَةِ أُخْرَى مَعَهَا فَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا : إنَّك تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِيك حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى فَقَالَ : مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْت وَإِنْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ تَرَكَتْكُمْ . وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ . فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَقَالَ : يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُك أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُك بِهِ أَصْحَابُك وَمَا يَحْمِلُك عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . قَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا . قَالَ حُبُّك إيَّاهَا أَدْخَلَك الْجَنَّةَ } . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597961إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } حُقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ إلَّا حَقٌّ .
[ ص: 136 ] وَاَلَّذِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْعُ تَفَاضُلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُهُ . الثَّانِي اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْأَجْرَ يَتْبَعُ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ فَمَا كَثُرَتْ حُرُوفُهُ مِنْ الْكَلَامِ يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ . قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=37063مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ . أَمَّا إنِّي لَا أَقُولُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=1الم } حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . قَالُوا وَمَعْلُومٌ أَنَّ ثُلُثَ الْقُرْآنِ حُرُوفُهُ أَكْثَرُ بِكَثِيرِ فَتَكُونُ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْحَسَنَاتِ فِيهَا كِبَارٌ وَصِغَارٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُودُهُ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=160مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } فَإِذَا قَرَأَ حَرْفًا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَةً فَيُعْطِيهِ بِقَدْرِ تِلْكَ الْحَسَنَةِ عَشْرَ مَرَّاتٍ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الْحَسَنَاتِ فِي الْحُرُوفِ مُتَمَاثِلَةٌ . كَمَا أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِدِينَارِ يُعْطَى بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . وَالْوَاحِدُ مِنْ بَعْدِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ إذَا أَنْفَقَ مُدًّا كَانَ لَهُ بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . وَلَكِنْ [ ص: 137 ] لَا تَكُونُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ بِقَدْرِ حَسَنَةِ مَنْ أَنْفَقَ مُدًّا مِنْ الصَّحَابَةِ السَّابِقِينَ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . فَكَذَلِكَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ تَتَفَاضَلُ لِتَفَاضُلِ الْمَعَانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ فَحُرُوفُ الْفَاتِحَةِ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا حَسَنَةٌ أَعْظَمُ مِنْ حَسَنَاتِ حُرُوفٍ مِنْ { nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ يَعْدِلُ غَيْرَهُ فَعَدْلُ الشَّيْءِ - بِالْفَتْحِ - هُوَ مُسَاوِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } وَالصِّيَامُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الطَّعَامِ وَالْجَزَاءِ وَلَكِنَّهُ يُعَادِلُهُ فِي الْقَدْرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=31864لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=123وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } أَيْ فِدْيَةٌ وَالْفِدْيَةُ مَا يَعْدِلُ بِالْمُفْدَى وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أَيْ يَجْعَلُونَ لَهُ عَدْلًا أَيْ نِدًّا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ . وَلَوْ كَانَ لِرَجُلِ أَمْوَالٌ مِنْ أَصْنَافٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَلِآخَرَ ذَهَبٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مَالُ هَذَا يَعْدِلُ مَالَ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ ; وَلِهَذَا قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ مِنْ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا يَعْدِلُ شَيْئًا عَظِيمًا وَإِذَا احْتَاجَ إلَى دَوَاءٍ أَوْ مُرَكَّبٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى اشْتِرَائِهِ لَمْ تَنْفَعْهُ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الْعَظِيمَةُ . فَالْقُرْآنُ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى مَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ . وَإِنْ كَانَ التَّوْحِيدُ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ .
وَإِذَا احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْأَفْعَالِ أَوْ [ ص: 138 ] احْتَاجَ إلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيَعْتَبِرُ بِهِ مِنْ الْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَمْ يَسُدَّ غَيْرُهُ مَسَدَّهُ فَلَا يَسُدُّ التَّوْحِيدُ مَسَدَّ هَذَا وَلَا تَسُدُّ الْقَصَصُ مَسَدَّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَسَدَّ الْقَصَصِ . بَلْ كُلُّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ وَيَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . فَإِذَا قَرَأَ الْإِنْسَانُ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حَصَلَ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ ; لَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ مِنْ جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِبَقِيَّةِ الْقُرْآنِ بَلْ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى جِنْسِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ فَلَا تَسُدُّ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَسَدَّ ذَلِكَ وَلَا تَقُومُ مَقَامَهُ فَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَقْرَأْ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَإِنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَكِنَّ جِنْسَ الْأَجْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهَا لَا يَحْصُلُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا بَلْ يَبْقَى فَقِيرًا مُحْتَاجًا إلَى مَا يَتِمُّ بِهِ إيمَانُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلَوْ قَامَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ . فَالْمَعَارِفُ الَّتِي تَحْصُلُ بِقِرَاءَةِ سَائِرِ الْقُرْآنِ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فَيَكُونُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِتَنَوُّعِ الثَّوَابِ وَإِنْ كَانَ قَارِئُ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثَلَاثًا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ ذَلِكَ الثَّوَابِ لَكِنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَيْسَ فِيهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْعَبْدُ كَمَنْ مَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ وَآخَرُ مَعَهُ طَعَامٌ وَلِبَاسٌ وَمَسَاكِنُ وَنَقْدٌ يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ ; فَإِنَّ هَذَا مَعَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَذَاكَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا مَعَ هَذَا وَإِنْ كَانَ مَا مَعَهُ يَعْدِلُ مَا مَعَ هَذَا . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ [ ص: 139 ] طَعَامٌ مِنْ أَشْرَفِ الطَّعَامِ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى لِبَاسٍ وَمَسَاكِنَ وَمَا يَدْفَعُ بِهِ الضَّرَرَ مِنْ السِّلَاحِ وَالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الطَّعَامِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَضْلَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ فَالْقِرَاءَةُ بِتَدَبُّرِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ بِلَا تَدَبُّرٍ وَالصَّلَاةُ بِخُشُوعِ وَحُضُورِ قَلْبٍ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ بِدُونِ ذَلِكَ . وَفِي الْأَثَرِ : { إنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } .
وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَرْقَى بـ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَكَانَ لَهَا بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ فَيَرْقَى بِهَا غَيْرُهُ فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ : لَيْسَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مِنْ كُلِّ أَحَدٍ تَنْفَعُ كُلَّ أَحَدٍ . وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ تَسْبِيحُ بَعْضِ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِ وَيَكُونُ قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّوَرِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِ ل { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَغَيْرِهَا . وَالْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ أَيْضًا حَالُهُ . فَقَدْ يَفْعَلُ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ عَلَى وَجْهٍ كَامِلٍ فَيَكُونُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ الْفَاضِلَةِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِبَغِيِّ لِسَقْيِهَا الْكَلْبَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا لَمَّا حَصَلَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ يُنْفِقُ الرَّجُلُ أَضْعَافَ ذَلِكَ فَلَا يُغْفَرُ لَهُ لِعَدَمِ الْأَسْبَابِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْعَمَلِ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ [ ص: 140 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30276لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } يَقُولُهُ عَنْ أَصْحَابِهِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِذَا قِيلَ : إنَّ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يَعْدِلُ ثَوَابُهَا ثَوَابَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ التَّمَاثُلِ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَإِلَّا فَإِذَا اعْتَبَرَ قِرَاءَةَ غَيْرِهَا مَعَ التَّدَبُّرِ وَالْخُشُوعِ بِقِرَاءَتِهَا مَعَ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; بَلْ قَدْ يَكُونُ قَوْلُ الْعَبْدِ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَاتِّصَافِهِ بِمَعَانِيهَا أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ وَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي فَهْمِ سَائِرِ الْقُرْآنِ .
فَصْلٌ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ التَّفَاضُلَ وَالتَّمَاثُلَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا إذْ الْوَاحِدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُعْقَلُ فِيهِ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْ شَيْءٍ nindex.php?page=treesubj&link=28707_29442_29624_29446_28716فَالتَّفَاضُلُ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى إنَّمَا يُعْقَلُ إذَا أُثْبِتَ لَهُ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ . وَكَإِثْبَاتِ أَسْمَاءٍ لَهُ مُتَعَدِّدَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأُثْبِتَ لَهُ كَلِمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ [ ص: 141 ] تَقُومُ بِذَاتِهِ حَتَّى يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ وَكُلُّ قَوْلٍ سِوَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ خَطَأٌ مُتَنَاقِضٌ وَأَيُّ شَيْءٍ قَالَهُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ خَطَأً لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ فِيهِ بِجَوَابِ صَحِيحٍ . فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ بَلْ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ إلَّا سَلْبِيَّةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ - كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الجهمية الْمَحْضَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ أَتْبَاعِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ - فَهَذَا إذَا قِيلَ لَهُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ : نِسْبَتُهُ الَّتِي هِيَ الْخَلْقُ إلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَمْ إلَى بَعُوضَةٍ ؟ أَمْ أَيُّمَا أَفْضَلُ : نَفْيُ الْجَهْلِ بِكُلِّ شَيْءٍ عَنْهُ وَالْعَجْزُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ أَمْ نَفْيُ الْجَهْلِ بِالْكُلِّيَّاتِ ؟ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُجِيبَ بِجَوَابِ صَحِيحٍ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ . فَإِنَّهُ إنْ قَالَ : خَلْقُ السَّمَوَاتِ مُمَاثِلُ خَلْقِ الْبَعُوضَةِ كَانَ هَذَا مُكَابَرَةً لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وَإِنْ قَالَ : بَلْ ذَلِكَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ كَمَا فِي الْقُرْآنِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ عِنْدَك أَمْرَانِ وُجُودِيَّانِ يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ إذْ الْخَلْقُ عَلَى قَوْلِك لَا يَزِيدُ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَكَيْفَ يُعْقَلُ فِي الْمَعْدُومِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنْ صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وُجُودٌ يَحْصُلُ فِيهِ التَّفَاضُلُ ؟ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : نَفْيُ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِثْلُ نَفْيِ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَانَ هَذَا مُكَابَرَةً وَإِنْ قَالَ : بَلْ نَفْيُ الْجَهْلِ الْعَامِّ أَكْمَلُ مِنْ نَفْيِ الْجَهْلِ الْخَاصِّ قِيلَ لَهُ : إذَا [ ص: 142 ] لَمْ يَلْزَمْ مِنْ نَفْيِ الْجَهْلِ ثُبُوتٌ عُلِمَ بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ بَلْ كَانَ النفيان عدمين مَحْضَيْنِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ التَّفَاضُلُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؟ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي الْعَدَمِ الْمَحْضِ وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءِ أَصْلًا وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْوُجُودِ وَلَا فِيهِ كَمَالٌ وَلَا مَدْحٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّفَاضُلُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْكَمَالُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ صِفَةٍ مَوْجُودَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهَا .
فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَلَا كَمَالَ فِيهِ أَصْلًا . وَلِهَذَا إنَّمَا يَصِفُ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ التَّنْزِيهِ لَا السَّلْبِيَّةِ الْعَدَمِيَّةِ لِتَضَمُّنِهَا أُمُورًا وُجُودِيَّةً تَكُونُ كَمَا لَا يَتَمَدَّحُ سُبْحَانَهُ بِهَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } فَنَفْيُ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمُلْكِ وَالرُّبُوبِيَّةَ وَانْفِرَادَهُ بِذَلِكَ وَنَفْسُ انْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ وَالْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلِهَذَا كَانَتْ السُّورَةُ فِيهَا الِاسْمَانِ الْأَحَدُ الصَّمَدُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ .
فَقَوْلُهُ ( أَحَدٌ ) يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ النَّظِيرِ
وَقَوْلُهُ ( الصَّمَدُ ) بِالتَّعْرِيفِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالصَّمَدِيَّةِ .
وَلِهَذَا جَاءَ التَّعْرِيفُ فِي اسْمِهِ الصَّمَدُ دُونَ الْأَحَدِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُوصَفُ بِهِ فِي الْإِثْبَاتِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الصَّمَدِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي السَّيِّدَ صَمَدًا .
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ : الْمَلَائِكَةُ تُسَمَّى صَمَدًا وَالْآدَمِيُّ أَجْوَفُ فَقَوْلُهُ [ ص: 143 ] " الصَّمَدُ " بَيَانُ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الصَّمَدِيَّةِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا nindex.php?page=treesubj&link=29448_29443_29475_29083تَفْسِيرَ الصَّمَدِ وَاشْتِمَالَهُ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ والبيهقي وَغَيْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ يَقُولُ : السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظْمَتِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تَنْبَغِي إلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سُبْحَانَهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ .
وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كُتُبِهِمْ قَالَ : الصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا : الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . أَمَّا كَوْنُ الصَّمَدِ هُوَ السَّيِّدُ فَهَذَا مَشْهُورٌ وَأَمَّا الْآخَرُ فَهُوَ أَيْضًا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الصَّمَدَ لُغَةٌ فِي الصمت وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إبْدَالِ الدَّالِّ بِالتَّاءِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ بَلْ لَفْظُ صَمَدٍ يَصْمُدُ صَمَدًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ إنَّمَا هِيَ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ [ ص: 144 ] وَالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ إنَّمَا تَكُونُ كَمَالًا إذَا تَضَمَّنَتْ أُمُورًا وُجُودِيَّةً ; وَلِهَذَا كَانَ تَسْبِيحُ الرَّبِّ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ وَتَعْظِيمَهُ جَمِيعًا فَقَوْلُ الْعَبْدِ : " سُبْحَانَ اللَّهِ " يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَ اللَّهِ وَبَرَاءَتَهُ مِنْ السُّوءِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ عَظَمَتَهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ عَدَمًا مَحْضًا لَا يَتَضَمَّنُ وُجُودًا فَإِنَّ هَذَا لَا مَدْحٌ فِيهِ وَلَا تَعْظِيمٌ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا تَنَزَّهَ الرَّبُّ عَنْهُ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=40أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا } - إلَى قَوْلِهِ - { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=42إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=43سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=180سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=181وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } وَغَيْرُ ذَلِكَ . فَنَفْيُ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْكَمَالِ وَنَفْيُ الشُّرَكَاءِ يَقْتَضِي الْوَحْدَانِيَّةَ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْكَمَالِ فَإِنَّ مَا لَهُ نَظِيرٌ قَدْ انْقَسَمَتْ صِفَاتُ الْكَمَالِ وَأَفْعَالُ الْكَمَالِ فِيهِ وَفِي نَظِيرِهِ فَحَصَلَ لَهُ بَعْضُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا كُلُّهَا . فَالْمُنْفَرِدُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَهُ شَرِيكٌ يُقَاسِمُهُ إيَّاهَا . وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ أَكْمَلَ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ غَيْرَهُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ . قَالَ [ ص: 145 ] تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=165وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=61410عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } . وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ ذَلِكَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=68وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } الْآيَةَ . فَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا يُحِبُّهُ كَحُبِّ اللَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَهَذَا مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الشَّيْءَ إذَا انْقَسَمَ وَوَقَعَتْ فِيهِ الشَّرِكَةُ نَقَصَ مَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَ جَمِيعُهُ لِوَاحِدِ كَانَ أَكْمَلَ فَلِهَذَا كَانَ حُبُّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ أَكْمَلَ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ يُوجِبُ كَمَالَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ فِي عِبَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَذَلِكَ مَنْ زَكَّاهُمْ كَمَا أَنَّ الزَّرْعَ كُلَّمَا نُقِّيَ عَنْهُ الدَّغَلُ كَانَ أَزْكَى لَهُ وَأَكْمَلَ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيَّةِ فِيهِ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=6وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=7الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَأَصْلُ الزَّكَاةِ التَّوْحِيدُ [ ص: 146 ] وَالْإِخْلَاصُ كَمَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ أَكَابِرُ السَّلَفِ . وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=30قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=103خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَنْ nindex.php?page=treesubj&link=29442_29622_29477نَفَى عَنْ اللَّهِ النَّقَائِصَ ; كَالْمَوْتِ وَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبُكْمِ وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ صِفَاتٍ وُجُودِيَّةً ; كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ ; بَلْ زَعَمَ أَنَّ صِفَاتِهِ لَيْسَتْ إلَّا عَدَمِيَّةً مَحْضَةً وَأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِأَمْرِ وُجُودِيٍّ فَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ صِفَةُ كَمَالٍ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ أَيُّ الصِّفَتَيْنِ أَفْضَلُ ؟ فَإِنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَرْعُ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَهُ كَمَالٌ مَا ثُمَّ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَكْمَلُ فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَدَمٌ مَحْضٌ فَلَا كَمَالَ وَلَا فَضِيلَةَ هُنَاكَ أَصْلًا .
وَكَذَلِكَ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ الْأَسْمَاءَ دُونَ الصِّفَاتِ فَقَالَ إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَا تَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِحَيَاةِ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ وَلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ وَلَا عِزَّةٍ وَلَا حِكْمَةٍ - فَإِذَا قِيلَ لَهُ : أَيُّ الِاسْمَيْنِ أَفْضَلُ ؟ لَمْ يُجِبْ بِجَوَابِ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ إنْ قَالَ : الْعَلِيمُ أَعْظَمُ مِنْ السَّمِيعِ لِعُمُومِ تَعَلُّقِهِ مَثَلًا أَوْ قَالَ : الْعَزِيزُ أَكْمَلُ مِنْ الْقَدِيرِ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَسْمَاءِ عِنْدَك [ ص: 147 ] مَعَانٍ مَوْجُودَةٌ تَقُومُ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَا عِلْمٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا عِزَّةٌ وَلَا قُدْرَةٌ لَيْسَ إلَّا ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ صِفَاتٍ وَمَخْلُوقَاتٍ وَالذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَفَاضُلٌ وَلَا تَمَاثُلٌ . وَالْمَخْلُوقَاتُ لَمْ يَكُنْ السُّؤَالُ عَنْ تَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَى عَاقِلٍ . وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ صِفَاتِهِ بَعْضًا أَوْ جَعَلَ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ مِثْلُ مَنْ قَالَ : الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ هُمَا الْعَالِمُ الْقَادِرُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ جهمية الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ . أَوْ قَالَ : كَلَامُهُ كُلُّهُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مَخْبَرٍ بِهِ إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَإِنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَاحِدٌ وَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ صِفَاتٌ نِسْبِيَّةٌ لِلْكَلَامِ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا ; بَلْ ذَاتُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ هُوَ ذَاتُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ نَهْيٌ وَإِنَّمَا تَنَوَّعَتْ الْإِضَافَةُ . فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي تَقُولُهُ الكلابية وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ مُجَرَّدَ تَصَوُّرِهِ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ فَلَا يُمْكِنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجَوَابُ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَلَا مُمَاثَلَةِ بَعْضَهُ لِبَعْضِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ لَا [ ص: 148 ] يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ بَعْضُهُ مِثْلُ بَعْضٍ وَلَا بَعْضٌ لَهُ عِنْدَهُمْ ؟ . وَإِنْ قَالُوا : التَّمَاثُلُ وَالتَّفَاضُلُ يَقَعُ فِي الْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ قِيلَ : تِلْكَ لَيْسَتْ كَلَامًا لِلَّهِ عَلَى أَصْلِهِ وَلَا عِنْدَ أَئِمَّتِهِمْ ; بَلْ هِيَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَالتَّفَاضُلُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا إشْكَالَ فِيهِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ : إنَّهَا تُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً .
وَإِنَّ اسْمَ الْكَلَامِ يَقَعُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَعْنَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْقَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ بَلْ قَوْلُهُ هَذَا يُفْسِدُ أَصْلَهُمْ . لِأَنَّ أَصْلَ قَوْلِهِمْ : أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْمُتَكَلِّمِ لَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ إذْ لَوْ جَازَ قِيَامُ الْكَلَامِ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ . وَهَذَا أَصْلُ الجهمية الْمَحْضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِي خَالَفَهُمْ فِيهِ الكلابية وَسَائِرُ الْمُثَبِّتَةِ وَقَالُوا : إنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا حَتَّى يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ قَالُوا : لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِمًا حَتَّى يَقُومَ بِهِ الْعِلْمُ وَلَا يَكُونُ الْمُرِيدُ مُرِيدًا حَتَّى تَقُومَ بِهِ الْإِرَادَةُ فَلَوْ جَوَّزُوا أَنَّ يَكُونَ لِلَّهِ مَا هُوَ كَلَامٌ لَهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بَطَلَ هَذَا الْأَصْلُ .
فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَلَا كَمَالَ فِيهِ أَصْلًا . وَلِهَذَا إنَّمَا يَصِفُ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَاتِ التَّنْزِيهِ لَا السَّلْبِيَّةِ الْعَدَمِيَّةِ لِتَضَمُّنِهَا أُمُورًا وُجُودِيَّةً تَكُونُ كَمَا لَا يَتَمَدَّحُ سُبْحَانَهُ بِهَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } فَنَفْيُ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمُلْكِ وَالرُّبُوبِيَّةَ وَانْفِرَادَهُ بِذَلِكَ وَنَفْسُ انْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ وَالْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلِهَذَا كَانَتْ السُّورَةُ فِيهَا الِاسْمَانِ الْأَحَدُ الصَّمَدُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ .
فَقَوْلُهُ ( أَحَدٌ ) يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ النَّظِيرِ
وَقَوْلُهُ ( الصَّمَدُ ) بِالتَّعْرِيفِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالصَّمَدِيَّةِ .
وَلِهَذَا جَاءَ التَّعْرِيفُ فِي اسْمِهِ الصَّمَدُ دُونَ الْأَحَدِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُوصَفُ بِهِ فِي الْإِثْبَاتِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الصَّمَدِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي السَّيِّدَ صَمَدًا .
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ : الْمَلَائِكَةُ تُسَمَّى صَمَدًا وَالْآدَمِيُّ أَجْوَفُ فَقَوْلُهُ [ ص: 143 ] " الصَّمَدُ " بَيَانُ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الصَّمَدِيَّةِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا nindex.php?page=treesubj&link=29448_29443_29475_29083تَفْسِيرَ الصَّمَدِ وَاشْتِمَالَهُ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ كَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ والبيهقي وَغَيْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ يَقُولُ : السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظْمَتِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تَنْبَغِي إلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سُبْحَانَهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ .
وَكَذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كُتُبِهِمْ قَالَ : الصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا : الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . أَمَّا كَوْنُ الصَّمَدِ هُوَ السَّيِّدُ فَهَذَا مَشْهُورٌ وَأَمَّا الْآخَرُ فَهُوَ أَيْضًا مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الصَّمَدَ لُغَةٌ فِي الصمت وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إبْدَالِ الدَّالِّ بِالتَّاءِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ بَلْ لَفْظُ صَمَدٍ يَصْمُدُ صَمَدًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ إنَّمَا هِيَ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ [ ص: 144 ] وَالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ إنَّمَا تَكُونُ كَمَالًا إذَا تَضَمَّنَتْ أُمُورًا وُجُودِيَّةً ; وَلِهَذَا كَانَ تَسْبِيحُ الرَّبِّ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَهُ وَتَعْظِيمَهُ جَمِيعًا فَقَوْلُ الْعَبْدِ : " سُبْحَانَ اللَّهِ " يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَ اللَّهِ وَبَرَاءَتَهُ مِنْ السُّوءِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ عَظَمَتَهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ عَدَمًا مَحْضًا لَا يَتَضَمَّنُ وُجُودًا فَإِنَّ هَذَا لَا مَدْحٌ فِيهِ وَلَا تَعْظِيمٌ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا تَنَزَّهَ الرَّبُّ عَنْهُ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=40أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا } - إلَى قَوْلِهِ - { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=42إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=43سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=180سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=181وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } وَغَيْرُ ذَلِكَ . فَنَفْيُ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْكَمَالِ وَنَفْيُ الشُّرَكَاءِ يَقْتَضِي الْوَحْدَانِيَّةَ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْكَمَالِ فَإِنَّ مَا لَهُ نَظِيرٌ قَدْ انْقَسَمَتْ صِفَاتُ الْكَمَالِ وَأَفْعَالُ الْكَمَالِ فِيهِ وَفِي نَظِيرِهِ فَحَصَلَ لَهُ بَعْضُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا كُلُّهَا . فَالْمُنْفَرِدُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَهُ شَرِيكٌ يُقَاسِمُهُ إيَّاهَا . وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ أَكْمَلَ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ غَيْرَهُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ . قَالَ [ ص: 145 ] تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=165وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذَا مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=61410عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } . وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ ذَلِكَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=68وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } الْآيَةَ . فَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا يُحِبُّهُ كَحُبِّ اللَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَهَذَا مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الشَّيْءَ إذَا انْقَسَمَ وَوَقَعَتْ فِيهِ الشَّرِكَةُ نَقَصَ مَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَ جَمِيعُهُ لِوَاحِدِ كَانَ أَكْمَلَ فَلِهَذَا كَانَ حُبُّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ أَكْمَلَ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ يُوجِبُ كَمَالَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ فِي عِبَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَذَلِكَ مَنْ زَكَّاهُمْ كَمَا أَنَّ الزَّرْعَ كُلَّمَا نُقِّيَ عَنْهُ الدَّغَلُ كَانَ أَزْكَى لَهُ وَأَكْمَلَ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيَّةِ فِيهِ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=6وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=7الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَأَصْلُ الزَّكَاةِ التَّوْحِيدُ [ ص: 146 ] وَالْإِخْلَاصُ كَمَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ أَكَابِرُ السَّلَفِ . وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=30قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=103خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَنْ nindex.php?page=treesubj&link=29442_29622_29477نَفَى عَنْ اللَّهِ النَّقَائِصَ ; كَالْمَوْتِ وَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبُكْمِ وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ صِفَاتٍ وُجُودِيَّةً ; كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ ; بَلْ زَعَمَ أَنَّ صِفَاتِهِ لَيْسَتْ إلَّا عَدَمِيَّةً مَحْضَةً وَأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِأَمْرِ وُجُودِيٍّ فَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ صِفَةُ كَمَالٍ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ أَيُّ الصِّفَتَيْنِ أَفْضَلُ ؟ فَإِنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَرْعُ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَهُ كَمَالٌ مَا ثُمَّ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَكْمَلُ فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَدَمٌ مَحْضٌ فَلَا كَمَالَ وَلَا فَضِيلَةَ هُنَاكَ أَصْلًا .
وَكَذَلِكَ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ الْأَسْمَاءَ دُونَ الصِّفَاتِ فَقَالَ إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَا تَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِحَيَاةِ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ وَلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ وَلَا عِزَّةٍ وَلَا حِكْمَةٍ - فَإِذَا قِيلَ لَهُ : أَيُّ الِاسْمَيْنِ أَفْضَلُ ؟ لَمْ يُجِبْ بِجَوَابِ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ إنْ قَالَ : الْعَلِيمُ أَعْظَمُ مِنْ السَّمِيعِ لِعُمُومِ تَعَلُّقِهِ مَثَلًا أَوْ قَالَ : الْعَزِيزُ أَكْمَلُ مِنْ الْقَدِيرِ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَسْمَاءِ عِنْدَك [ ص: 147 ] مَعَانٍ مَوْجُودَةٌ تَقُومُ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَا عِلْمٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا عِزَّةٌ وَلَا قُدْرَةٌ لَيْسَ إلَّا ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ صِفَاتٍ وَمَخْلُوقَاتٍ وَالذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَفَاضُلٌ وَلَا تَمَاثُلٌ . وَالْمَخْلُوقَاتُ لَمْ يَكُنْ السُّؤَالُ عَنْ تَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَى عَاقِلٍ . وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ صِفَاتِهِ بَعْضًا أَوْ جَعَلَ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ مِثْلُ مَنْ قَالَ : الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ هُمَا الْعَالِمُ الْقَادِرُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ جهمية الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ . أَوْ قَالَ : كَلَامُهُ كُلُّهُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مَخْبَرٍ بِهِ إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَإِنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ وَاحِدٌ وَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ صِفَاتٌ نِسْبِيَّةٌ لِلْكَلَامِ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا ; بَلْ ذَاتُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ هُوَ ذَاتُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ نَهْيٌ وَإِنَّمَا تَنَوَّعَتْ الْإِضَافَةُ . فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي تَقُولُهُ الكلابية وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ مُجَرَّدَ تَصَوُّرِهِ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِهِ فَلَا يُمْكِنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجَوَابُ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَلَا مُمَاثَلَةِ بَعْضَهُ لِبَعْضِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ لَا [ ص: 148 ] يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ بَعْضُهُ مِثْلُ بَعْضٍ وَلَا بَعْضٌ لَهُ عِنْدَهُمْ ؟ . وَإِنْ قَالُوا : التَّمَاثُلُ وَالتَّفَاضُلُ يَقَعُ فِي الْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ قِيلَ : تِلْكَ لَيْسَتْ كَلَامًا لِلَّهِ عَلَى أَصْلِهِ وَلَا عِنْدَ أَئِمَّتِهِمْ ; بَلْ هِيَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَالتَّفَاضُلُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لَا إشْكَالَ فِيهِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ : إنَّهَا تُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً .
وَإِنَّ اسْمَ الْكَلَامِ يَقَعُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَعْنَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْقَلْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ بَلْ قَوْلُهُ هَذَا يُفْسِدُ أَصْلَهُمْ . لِأَنَّ أَصْلَ قَوْلِهِمْ : أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْمُتَكَلِّمِ لَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ إذْ لَوْ جَازَ قِيَامُ الْكَلَامِ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ . وَهَذَا أَصْلُ الجهمية الْمَحْضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِي خَالَفَهُمْ فِيهِ الكلابية وَسَائِرُ الْمُثَبِّتَةِ وَقَالُوا : إنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا حَتَّى يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ قَالُوا : لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِمًا حَتَّى يَقُومَ بِهِ الْعِلْمُ وَلَا يَكُونُ الْمُرِيدُ مُرِيدًا حَتَّى تَقُومَ بِهِ الْإِرَادَةُ فَلَوْ جَوَّزُوا أَنَّ يَكُونَ لِلَّهِ مَا هُوَ كَلَامٌ لَهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بَطَلَ هَذَا الْأَصْلُ .
وَأَصْلُ النفاة الْمُعَطِّلَةِ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ : أَنَّهُمْ nindex.php?page=treesubj&link=29445_28719_29455_28712يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ بَلْ بِمَا قَامَ بِغَيْرِهِ أَوْ بِمَا لَمْ يُوجَدْ وَيَقُولُونَ : هَذِهِ إضَافَاتٌ لَا صِفَاتٌ فَيَقُولُونَ : هُوَ رَحِيمٌ وَيَرْحَمُ وَالرَّحْمَةُ لَا تَقُومُ بِهِ بَلْ هِيَ [ ص: 149 ] مَخْلُوقَةٌ وَهِيَ نِعْمَتُهُ . وَيَقُولُونَ : هُوَ يَرْضَى وَيَغْضَبُ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ لَا يَقُومُ بِهِ ; بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ وَهُوَ ثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ وَيَقُولُونَ : هُوَ مُتَكَلِّمٌ وَيَتَكَلَّمُ وَالْكَلَامُ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ . وَقَدْ يَقُولُونَ : هُوَ مُرِيدٌ وَيُرِيدُ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ لَيْسَتْ الْإِرَادَةُ شَيْئًا مَوْجُودًا وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّهَا هِيَ الْمَخْلُوقَاتُ وَالْأَمْرُ الْمَخْلُوقُ . وَقَدْ يَقُولُونَ أَحْدَثَ إرَادَةً لَا فِي مَحَلٍّ . وَهَذَا الْأَصْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي أَصَّلَهُ نفاة الصِّفَاتِ الجهمية الْمَحْضَةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ هُوَ الَّذِي فَارَقَهُمْ بِهِ جَمِيعُ الْمُثَبِّتَةِ لِلصِّفَاتِ : مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالتَّفْسِيرِ وَأَصْنَافِ نُظَّارِ الْمُثَبِّتَةِ : كالكلابية وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وكالهشامية والكرامية وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَوَائِفِ النُّظَّارِ الْمُثَبِّتَةِ لِلصِّفَاتِ وَعَلَى هَذَا أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورُونَ بِالْإِمَامَةِ وَأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ يَقَعُ حَقِيقَةً عَلَى الْعِبَارَةِ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَخْلُوقَةٌ يُنَاقِضُ الْأَصْلَ الْفَارِقَ بَيْنَ الْمُثَبِّتَةِ وَالْمُعَطِّلَةِ إلَّا أَنْ يُسَمَّى مُتَعَلَّقُ الصِّفَةِ بِاسْمِ الصِّفَةِ كَمَا يُسَمَّى الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَالْمَرْحُومُ بِهِ رَحْمَةً وَالْمَخْلُوقُ خَلْقًا وَالْقَدَرُ قُدْرَةً وَالْمَعْلُومُ عِلْمًا ; لَكِنْ يُقَالُ لَهُ : هَذَا كُلُّهُ لَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . [ ص: 150 ] وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأُمُورُ أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى اللَّهِ عُلِمَ أَنَّهَا إضَافَةُ مُلْكٍ لَا إضَافَةُ وَصْفٍ ; بِخِلَافِ الْعِبَارَةِ فَإِنَّهَا لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا كَمَا لَا يَقُومُ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْفَارِقُ بَيْنَ إضَافَةِ الصِّفَاتِ وَإِضَافَةِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ الْمُعَطِّلَةَ النفاة مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الجهمية وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ : Multitarajem.php?tid=13371,13372كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِمَا - وَإِنْ كَانَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَقُولَانِ بِخِلَافِ ذَلِكَ - يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي النُّصُوصِ إلَّا إضَافَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ وَهَذِهِ الْأُمُورِ تُسَمَّى نُصُوصَ الْإِضَافَاتِ لَا نُصُوصَ الصِّفَاتِ . وَيَقُولُونَ : نُصُوصُ الْإِضَافَاتِ وَأَحَادِيثُ الْإِضَافَاتِ لَا آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ . وَالْإِضَافَةُ تَكُونُ إضَافَةَ مَخْلُوقٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ كَإِضَافَةِ الْبَيْتِ وَالنَّاقَةِ وَالرُّوحِ فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=26وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=73نَاقَةُ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=17فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } . وَقَالَتْ nindex.php?page=treesubj&link=29459الْحُلُولِيَّةُ مِنْ النَّصَارَى وَغُلَاةُ الشِّيعَةِ وَالصُّوفِيَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِمَّنْ يَقُولُ بِقِدَمِ الرُّوحِ - أَرْوَاحُ الْعِبَادِ - وَيَنْتَسِبُ إلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِثْلَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ جِيلَانَ وَغَيْرِهِمْ - بَلْ إضَافَةُ الرُّوحِ إلَى اللَّهِ كَإِضَافَةِ الْكَلَامِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامُ وَالْقُدْرَةُ صِفَاتُهُ فَكَذَلِكَ الرُّوحُ .
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=29فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْعَبْدِ صِفَةٌ لِلَّهِ قَدِيمَةٌ . وَقَالَتْ النَّصَارَى : [ ص: 151 ] عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَعِيسَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ . nindex.php?page=treesubj&link=29455_28744_29706وَقَالَتْ الصَّابِئَةُ والجهمية : عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ أَيْضًا مَخْلُوقٌ . وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا الْأَئِمَّةُ nindex.php?page=showalam&ids=12251كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمُوا فِي إضَافَةِ الْكَلَامِ وَالرُّوحِ وَمُنَاظَرَةِ الجهمية وَالنَّصَارَى . وَقَدْ سُئِلْت عَنْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحُلُولِيَّةِ تَارَةً وَمِنْ جِهَةِ الْمُعَطِّلَةِ تَارَةً وَالسَّائِلُونَ تَارَةً مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَقَدْ بُسِطَ جَوَابُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الْمُضَافَيْنِ : أَنَّ الْمُضَافَ إنْ كَانَ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ حَالًّا فِي ذَلِكَ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ قَائِمَةٌ بِالْمَوْصُوفِ . فَالْأَعْيَانُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا تَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ لِلَّهِ فَإِضَافَتُهَا إلَيْهِ تَتَضَمَّنُ كَوْنَهَا مَخْلُوقَةً مَمْلُوكَةً لَكِنْ أُضِيفَتْ لِنَوْعِ مِنْ الِاخْتِصَاصِ الْمُقْتَضَى لِلْإِضَافَةِ لَا لِكَوْنِهَا صِفَةَ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ وَالنَّاقَةَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمَالُ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَرُوحُ بَنِي آدَمَ مِنْ هَذَا وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=17فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=29فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=26وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=13نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } { nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } . [ ص: 152 ] وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ ; بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا صِفَةً كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إضَافَةَ صِفَةٍ إلَيْهِ فَتَكُونُ قَائِمَةً بِهِ سُبْحَانَهُ فَإِذَا قِيلَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=9357أَسَتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرك بِقُدْرَتِك } فَعِلْمُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَقُدْرَتُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=15698أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك } فَرِضَاهُ وَسَخَطُهُ قَائِمٌ بِهِ وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ وَعُقُوبَتُهُ . وَأَمَّا أَثَرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنْ النِّعْمَةِ وَانْدِفَاعِ النِّقْمَةِ فَذَاكَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَيْسَ صِفَةً لَهُ وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا بَاسِمُ ذَاكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=44495يَقُولُ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ : أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي } فَالرَّحْمَةُ هنا عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِغَيْرِهَا .
فَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ مَا يُضَافُ إضَافَةَ وَصْفٍ وَإِضَافَةَ مِلْكٍ . وَإِذَا قِيلَ " الْمَسِيحُ كَلِمَةُ اللَّهِ " فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِالْكَلِمَةِ إذْ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ لَيْسَ كَلَامًا . وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ نَفْسُهُ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ إلَّا بِالْمُتَكَلِّمِ فَإِضَافَتُهُ إلَى الْمُتَكَلِّمِ إضَافَةُ صِفَةٍ إلَى مَوْصُوفِهَا وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ سَمَّى فِعْلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَهُوَ صِفَةٌ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ بِالْمُتَكَلِّمِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِجَوَابِ صَحِيحٍ .
فَإِذَا قِيلَ [ ص: 153 ] لَهُ : nindex.php?page=treesubj&link=29566كَلَامُ اللَّهِ هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ ؟ امْتَنَعَ الْجَوَابُ عَلَى أَصْلِهِ بِنَعَمْ أَوْ لَا لِامْتِنَاعِ تَبَعُّضِهِ عِنْدَهُ وَلِكَوْنِ الْعِبَارَةِ لَيْسَتْ كَلَامًا ; لِلَّهِ لَكِنْ إذَا أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْعِبَارَةُ أَوْ قِيلَ لَهُ : هَلْ بَعْضُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ - وَأُرِيدَ بِالْقُرْآنِ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ فَهُوَ عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُ إنْشَاءٌ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ ; أَوْ قِيلَ : nindex.php?page=treesubj&link=28739_29566هَلْ بَعْضُ كُتُبِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ - وَكِتَابُ اللَّهِ عِنْدَهُ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الْمَخْلُوقُ عِنْدَهُ - فَهَذَا السُّؤَالُ يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الظَّاهِرِ وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْقَائِمَةَ فِي النَّفْسِ تَدُلُّ عَلَيْهَا الْعِبَارَاتُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْعِبَارَاتِ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَعَلَى أَصْلِهِ لَيْسَ الْمَعْنَى إلَّا وَاحِدًا فَيَمْتَنِعُ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كُلُّهُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ مِنْ الْعِبَارَاتِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَحِينَئِذٍ فَتَبَعُّضُ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي بِدُونِ تَبَعُّضِ تِلْكَ الْمَعَانِي مُمْتَنِعٌ .
وَلِهَذَا قِيلَ لَهُمْ : nindex.php?page=treesubj&link=28743_28744مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ أَسْمَعَهُ كُلَّهُ أَمْ سَمِعَ بَعْضَهُ ؟ إنْ قُلْتُمْ : " كُلَّهُ " فَقَدْ عَلِمَ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597963مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ } وَقَدْ [ ص: 154 ] قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَإِنْ قُلْتُمْ " سَمِعَ بَعْضَهُ " فَقَدْ تَبَعَّضَ وَعِنْدَكُمْ لَا يَتَبَعَّضُ .
وَأَيْضًا فَقَدْ nindex.php?page=treesubj&link=29453_28743فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَيْنَ إيحَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ النَّبِيِّينَ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَكَانَ الْجَمِيعُ إيحَاءً وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَكْلِيمٌ يَتَمَيَّزُ عَلَى ذَلِكَ . وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى مُنَادِيًا لِأَحَدِ إذْ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ لَا يَكُونُ نِدَاءً وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِنِدَائِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ .
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُمْتَنِعَةٌ فَلَيْسَ هُنَاكَ أَمْرَانِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ مِثْلَ الْآخَرِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ .
وَالتَّمَاثُلُ وَالتَّفَاضُلُ إنَّمَا يُعْقَلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا . وَهَكَذَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي إرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الصِّفَةَ وَاحِدَةً بِالْعَيْنِ امْتَنَعَ - عَلَى قَوْلِهِ - أَنْ يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ إذْ لَا بَعْضَ لَهَا عِنْدَهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى وَحْدَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْعَيْنِ وَقَالَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا أَعْيَانُ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ قَالَ إنَّهَا بَعْضُ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ .
وَإِنْ كَانَ فَسَادُ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ [ ص: 155 ] وَقَالَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ غَيْرُ تِلْكَ . فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْكَلَامَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ كَمَا أَنَّ مَنْ جَعَلَهَا قَوْلًا وَاحِدًا فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَمْتَنِعُ مَعَ الْقَوْلِ بِوَحْدَةِ شَيْءٍ أَنْ يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ مَا يَتَعَدَّدُ مِنْ الْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَهَذَا يُعْقَلُ عَلَى قَوْلِهِ : السُّؤَالُ عَنْ التَّمَاثُلِ وَالتَّفَاضُلِ .
ثُمَّ حِينَئِذٍ يَقَعُ السُّؤَالُ : nindex.php?page=treesubj&link=29566_29453_29457هَلْ يَتَفَاضَلُ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ أَمْ لَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقِ ؟ . وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرَهُ nindex.php?page=showalam&ids=12997ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ : قَالَ الْمُهَلَّبُ - وَحَكَاهُ عَنْ الْأَصِيلِيَّ - وَمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ nindex.php?page=showalam&ids=12502وَابْنِ أَبِي زَيْدٍ والداودي وَأَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ وَجَمَاعَةِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا إذْ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتُهُ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ نَقْلٌ لِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ لَازِمًا لَهُمْ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّفَاضُلَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقِ وَالْقُرْآنُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ . لَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّ السَّلَفَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ [ ص: 156 ] خِلَافُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَمُوَافَقِيهِ فَغَلَطٌ عَلَيْهِمْ ; إذْ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُ كُلٌّ وَلَا بَعْضٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هَلْ يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْ لَا يَفْضُلُ فَامْتِنَاعِ التَّفَاضُلِ فِيهِ عِنْدَهُ كَامْتِنَاعِ التَّمَاثُلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مُتَمَاثِلٌ وَلَا مُتَفَاضِلٌ إذْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ . وَلَكِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ فِي الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَيُقَالُ : أَيُّهَا أَفْضَلُ ؟ فَإِنْ كَانَ قَالَ : إنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ نَقْصُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ لَا فِي نَفْسِ الْكَلَامِ مَعَ أَنَّ هَذَا النَّقْلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ فِي نَفْيِ تَفَاضُلِ الصِّفَاتِ غَيْرُ مُحَرَّرٍ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَتَفَاضَلُ بَلْ هَذَا خَطَأٌ عَلَيْهِ وَلَكِنْ هُوَ يَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ لَا يَدْخُلُهُ التَّفَاضُلُ كَمَا لَا يَدْخُلُهُ التَّمَاثُلُ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ عِنْدَهُ لَا لِمَا ذُكِرَ . وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الذَّاتَ لَيْسَتْ مِثْلَ الصِّفَاتِ وَلَا كُلُّ صِفَةٍ مِثْلُ الْأُخْرَى فَهُوَ لَا يَثْبُتُ تَمَاثُلُ الْمَعَانِي الْقَدِيمَةِ عِنْدَهُ فَكَيْفَ يُقَالُ - عَلَى أَصْلِهِ - مَا يُوجِبُ تَمَاثُلَهَا وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ التَّفَاضُلِ فَهُوَ كَامْتِنَاعِهِ مِنْ إطْلَاقِ لِفَظِّ التَّمَاثُلِ وَكَامْتِنَاعِهِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ التَّغَايُرِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ نَفَى التَّفَاضُلَ وَأَثْبَتَ التَّمَاثُلَ فَقَدْ أَخْطَأَ [ ص: 157 ] لَكِنْ قَدْ لَا يُطْلِقُ لَفْظَ التَّفَاضُلِ كَمَا لَا يُطْلِقُ لَفْظَ التَّمَاثُلِ لَا لِأَنَّ الصِّفَاتِ مُتَمَاثِلَةٌ عِنْدَهُ ; بَلْ هُوَ يَنْفِي التَّمَاثُلُ لِعَدَمِ التَّعَدُّدِ وَلِعَدَمِ إطْلَاقِ التَّغَايُرِ كَمَا يُقَالُ : هَلْ يُقَالُ الصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هِيَ مُتَغَايِرَةٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُقَالُ فِي كُلِّ صِفَةٍ إنَّهَا الذَّاتُ أَوْ غَيْرُهَا أَوْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ نَفْيِهِمَا وَإِنَّمَا يُفْرَدُ كُلُّ نَفْيٍ مِنْهُمَا أَوْ لَا يُطْلَقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةِ التَّفْضِيلِ .
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=29فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْعَبْدِ صِفَةٌ لِلَّهِ قَدِيمَةٌ . وَقَالَتْ النَّصَارَى : [ ص: 151 ] عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَعِيسَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ . nindex.php?page=treesubj&link=29455_28744_29706وَقَالَتْ الصَّابِئَةُ والجهمية : عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ أَيْضًا مَخْلُوقٌ . وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ اشْتَبَهَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا الْأَئِمَّةُ nindex.php?page=showalam&ids=12251كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمُوا فِي إضَافَةِ الْكَلَامِ وَالرُّوحِ وَمُنَاظَرَةِ الجهمية وَالنَّصَارَى . وَقَدْ سُئِلْت عَنْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحُلُولِيَّةِ تَارَةً وَمِنْ جِهَةِ الْمُعَطِّلَةِ تَارَةً وَالسَّائِلُونَ تَارَةً مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَقَدْ بُسِطَ جَوَابُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الْمُضَافَيْنِ : أَنَّ الْمُضَافَ إنْ كَانَ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ حَالًّا فِي ذَلِكَ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ ; لِأَنَّ الصِّفَةَ قَائِمَةٌ بِالْمَوْصُوفِ . فَالْأَعْيَانُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا تَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ لِلَّهِ فَإِضَافَتُهَا إلَيْهِ تَتَضَمَّنُ كَوْنَهَا مَخْلُوقَةً مَمْلُوكَةً لَكِنْ أُضِيفَتْ لِنَوْعِ مِنْ الِاخْتِصَاصِ الْمُقْتَضَى لِلْإِضَافَةِ لَا لِكَوْنِهَا صِفَةَ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ وَالنَّاقَةَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمَالُ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَرُوحُ بَنِي آدَمَ مِنْ هَذَا وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=17فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=29فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=26وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=91&ayano=13نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } { nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } . [ ص: 152 ] وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ ; بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا صِفَةً كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إضَافَةَ صِفَةٍ إلَيْهِ فَتَكُونُ قَائِمَةً بِهِ سُبْحَانَهُ فَإِذَا قِيلَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=9357أَسَتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرك بِقُدْرَتِك } فَعِلْمُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَقُدْرَتُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=15698أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك } فَرِضَاهُ وَسَخَطُهُ قَائِمٌ بِهِ وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ وَعُقُوبَتُهُ . وَأَمَّا أَثَرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنْ النِّعْمَةِ وَانْدِفَاعِ النِّقْمَةِ فَذَاكَ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَيْسَ صِفَةً لَهُ وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا بَاسِمُ ذَاكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=44495يَقُولُ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ : أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي } فَالرَّحْمَةُ هنا عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِغَيْرِهَا .
فَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ مَا يُضَافُ إضَافَةَ وَصْفٍ وَإِضَافَةَ مِلْكٍ . وَإِذَا قِيلَ " الْمَسِيحُ كَلِمَةُ اللَّهِ " فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِالْكَلِمَةِ إذْ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ لَيْسَ كَلَامًا . وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ نَفْسُهُ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ إلَّا بِالْمُتَكَلِّمِ فَإِضَافَتُهُ إلَى الْمُتَكَلِّمِ إضَافَةُ صِفَةٍ إلَى مَوْصُوفِهَا وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ سَمَّى فِعْلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَهُوَ صِفَةٌ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ بِالْمُتَكَلِّمِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِجَوَابِ صَحِيحٍ .
فَإِذَا قِيلَ [ ص: 153 ] لَهُ : nindex.php?page=treesubj&link=29566كَلَامُ اللَّهِ هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ ؟ امْتَنَعَ الْجَوَابُ عَلَى أَصْلِهِ بِنَعَمْ أَوْ لَا لِامْتِنَاعِ تَبَعُّضِهِ عِنْدَهُ وَلِكَوْنِ الْعِبَارَةِ لَيْسَتْ كَلَامًا ; لِلَّهِ لَكِنْ إذَا أُرِيدَ بِالْكَلَامِ الْعِبَارَةُ أَوْ قِيلَ لَهُ : هَلْ بَعْضُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ - وَأُرِيدَ بِالْقُرْآنِ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ فَهُوَ عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُ إنْشَاءٌ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ ; أَوْ قِيلَ : nindex.php?page=treesubj&link=28739_29566هَلْ بَعْضُ كُتُبِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ - وَكِتَابُ اللَّهِ عِنْدَهُ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الْمَخْلُوقُ عِنْدَهُ - فَهَذَا السُّؤَالُ يَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الظَّاهِرِ وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْقَائِمَةَ فِي النَّفْسِ تَدُلُّ عَلَيْهَا الْعِبَارَاتُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْعِبَارَاتِ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَعَلَى أَصْلِهِ لَيْسَ الْمَعْنَى إلَّا وَاحِدًا فَيَمْتَنِعُ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كُلُّهُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ مِنْ الْعِبَارَاتِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَحِينَئِذٍ فَتَبَعُّضُ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي بِدُونِ تَبَعُّضِ تِلْكَ الْمَعَانِي مُمْتَنِعٌ .
وَلِهَذَا قِيلَ لَهُمْ : nindex.php?page=treesubj&link=28743_28744مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ أَسْمَعَهُ كُلَّهُ أَمْ سَمِعَ بَعْضَهُ ؟ إنْ قُلْتُمْ : " كُلَّهُ " فَقَدْ عَلِمَ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597963مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُك مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ } وَقَدْ [ ص: 154 ] قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=109قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَإِنْ قُلْتُمْ " سَمِعَ بَعْضَهُ " فَقَدْ تَبَعَّضَ وَعِنْدَكُمْ لَا يَتَبَعَّضُ .
وَأَيْضًا فَقَدْ nindex.php?page=treesubj&link=29453_28743فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَيْنَ إيحَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ النَّبِيِّينَ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا لَكَانَ الْجَمِيعُ إيحَاءً وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَكْلِيمٌ يَتَمَيَّزُ عَلَى ذَلِكَ . وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى مُنَادِيًا لِأَحَدِ إذْ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ لَا يَكُونُ نِدَاءً وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِنِدَائِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ .
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُمْتَنِعَةٌ فَلَيْسَ هُنَاكَ أَمْرَانِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ مِثْلَ الْآخَرِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ .
وَالتَّمَاثُلُ وَالتَّفَاضُلُ إنَّمَا يُعْقَلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا . وَهَكَذَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي إرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الصِّفَةَ وَاحِدَةً بِالْعَيْنِ امْتَنَعَ - عَلَى قَوْلِهِ - أَنْ يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ إذْ لَا بَعْضَ لَهَا عِنْدَهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى وَحْدَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِالْعَيْنِ وَقَالَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا أَعْيَانُ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ قَالَ إنَّهَا بَعْضُ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ .
وَإِنْ كَانَ فَسَادُ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ [ ص: 155 ] وَقَالَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ غَيْرُ تِلْكَ . فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْكَلَامَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ كَمَا أَنَّ مَنْ جَعَلَهَا قَوْلًا وَاحِدًا فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَمْتَنِعُ مَعَ الْقَوْلِ بِوَحْدَةِ شَيْءٍ أَنْ يُقَالَ : هَلْ بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لَا ؟ وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ مَا يَتَعَدَّدُ مِنْ الْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَهَذَا يُعْقَلُ عَلَى قَوْلِهِ : السُّؤَالُ عَنْ التَّمَاثُلِ وَالتَّفَاضُلِ .
ثُمَّ حِينَئِذٍ يَقَعُ السُّؤَالُ : nindex.php?page=treesubj&link=29566_29453_29457هَلْ يَتَفَاضَلُ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ أَمْ لَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقِ ؟ . وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرَهُ nindex.php?page=showalam&ids=12997ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ : قَالَ الْمُهَلَّبُ - وَحَكَاهُ عَنْ الْأَصِيلِيَّ - وَمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ nindex.php?page=showalam&ids=12502وَابْنِ أَبِي زَيْدٍ والداودي وَأَبِي الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ وَجَمَاعَةِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا إذْ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتُهُ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ نَقْلٌ لِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ بِحَسَبِ مَا ظَنَّهُ لَازِمًا لَهُمْ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّفَاضُلَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَخْلُوقِ وَالْقُرْآنُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ . لَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّ السَّلَفَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ [ ص: 156 ] خِلَافُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَمُوَافَقِيهِ فَغَلَطٌ عَلَيْهِمْ ; إذْ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُ كُلٌّ وَلَا بَعْضٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هَلْ يَفْضُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْ لَا يَفْضُلُ فَامْتِنَاعِ التَّفَاضُلِ فِيهِ عِنْدَهُ كَامْتِنَاعِ التَّمَاثُلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مُتَمَاثِلٌ وَلَا مُتَفَاضِلٌ إذْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ . وَلَكِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ فِي الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَيُقَالُ : أَيُّهَا أَفْضَلُ ؟ فَإِنْ كَانَ قَالَ : إنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَفْضَلِ نَقْصُ الْمَفْضُولِ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ لَا فِي نَفْسِ الْكَلَامِ مَعَ أَنَّ هَذَا النَّقْلَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ فِي نَفْيِ تَفَاضُلِ الصِّفَاتِ غَيْرُ مُحَرَّرٍ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمْ يَقُلْ : إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَتَفَاضَلُ بَلْ هَذَا خَطَأٌ عَلَيْهِ وَلَكِنْ هُوَ يَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ لَا يَدْخُلُهُ التَّفَاضُلُ كَمَا لَا يَدْخُلُهُ التَّمَاثُلُ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ عِنْدَهُ لَا لِمَا ذُكِرَ . وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الذَّاتَ لَيْسَتْ مِثْلَ الصِّفَاتِ وَلَا كُلُّ صِفَةٍ مِثْلُ الْأُخْرَى فَهُوَ لَا يَثْبُتُ تَمَاثُلُ الْمَعَانِي الْقَدِيمَةِ عِنْدَهُ فَكَيْفَ يُقَالُ - عَلَى أَصْلِهِ - مَا يُوجِبُ تَمَاثُلَهَا وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ التَّفَاضُلِ فَهُوَ كَامْتِنَاعِهِ مِنْ إطْلَاقِ لِفَظِّ التَّمَاثُلِ وَكَامْتِنَاعِهِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ التَّغَايُرِ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ نَفَى التَّفَاضُلَ وَأَثْبَتَ التَّمَاثُلَ فَقَدْ أَخْطَأَ [ ص: 157 ] لَكِنْ قَدْ لَا يُطْلِقُ لَفْظَ التَّفَاضُلِ كَمَا لَا يُطْلِقُ لَفْظَ التَّمَاثُلِ لَا لِأَنَّ الصِّفَاتِ مُتَمَاثِلَةٌ عِنْدَهُ ; بَلْ هُوَ يَنْفِي التَّمَاثُلُ لِعَدَمِ التَّعَدُّدِ وَلِعَدَمِ إطْلَاقِ التَّغَايُرِ كَمَا يُقَالُ : هَلْ يُقَالُ الصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ هِيَ مُتَغَايِرَةٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُقَالُ فِي كُلِّ صِفَةٍ إنَّهَا الذَّاتُ أَوْ غَيْرُهَا أَوْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ نَفْيِهِمَا وَإِنَّمَا يُفْرَدُ كُلُّ نَفْيٍ مِنْهُمَا أَوْ لَا يُطْلَقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةِ التَّفْضِيلِ .
وَلَمَّا كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ صَارَ كُلُّ مَنْ رَأَى طَائِفَةً تُنْكِرُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَتْهُ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ - وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَوَافَقُوا [ ص: 165 ] السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ فِي هَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ مِحْنَةُ الجهمية - وَثَبَتَ فِيهَا nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَد الَّذِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ السُّنَّةَ وَنَصَرَ السُّنَّةَ - صَارَ شِعَارُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29453_28725الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ فِي اللِّسَانِ الْعَامِّ - فَكَثُرَ حِينَئِذٍ مَنْ يُوَافِقُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ بَلْ مَعَهُ أُصُولٌ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْبِدَعِ الجهمية يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا يُرِيدُ الْمُتَفَلْسِفُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ . فَلِهَذَا صَارَ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَهُ أَقْوَالٌ : ( أَحَدُهَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ ثُمَّ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ الْقَدِيمَ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَازِمٌ لِذَاتِ اللَّهِ أَبَدًا أَوْ خَمْسَةُ مَعَانٍ . ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَازِمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ أَبَدًا . ( الثَّالِثُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الرَّبُّ فِي أَزَلِهِ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ كَمَا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ عِنْدَهُمْ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَوُجُودِ مَا يَكُونُ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ مُحَالٌ عِنْدَهُمْ دَوَامُهُ . ثُمَّ ( الْمَشْهُورُ عَنْ هَؤُلَاءِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : [ ص: 166 ] تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَزَالُ بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ تَقُومُ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهُمْ الْكَرَامِيَّة . وَبَعْضُ النَّاسِ يَذْكُرُ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَامَ بِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إنَّمَا هُوَ عُلُومٌ وَإِرَادَاتٌ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ يَمِيلُ إلَى هَذَا فِي بَعْضِ كُتُبِهِ . وَ ( الْخَامِسُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِثْلَ nindex.php?page=showalam&ids=16418عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا لَا يَسْكُتُ بَلْ لَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ ابْنُ حَامِدٍ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَصْحَابِهِ مَعَ أَنَّهُ حُكِيَ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَد أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ . وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ مَعَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُهُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ سَاكِتًا ثُمَّ صَارَ مُتَكَلِّمًا كَمَا يَقُولُهُ الكرامية . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَتَوَابِعُهَا مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : " كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " تَنَازَعُوا [ ص: 167 ] بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ قَالُوا بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يَعْلَمُونَ مَا قَالَ غَيْرُهُمْ ; بَلْ غَايَةُ مَا عِنْدَ أَئِمَّتِهِمْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَرَّفَةُ قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ والكلابية والسالمية والكرامية - وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ قَالَ سِوَى ذَلِكَ وَيُصَنِّفُ أَحَدُهُمْ كِتَابًا كَبِيرًا فِي " مَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ " وَفِي " الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ " وَيَذْكُرُ عَامَّةَ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَنْقُلُهُ مَعَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مَعَ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَيْهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ أَقْوَالٌ مُتَنَاقِضَةٌ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْقَصْدُ هُنَا : أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا أَوْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ والكرامية أَوْ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ الكلابية أَوْ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ السالمية - هُوَ بَاطِلٌ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ فَيُفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ مَا يُضِيفُهُ إلَى السُّنَّةِ ثُمَّ إذَا تَدَبَّرَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ وَجَدَهَا تُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَصْلًا وَفَرْعًا كَمَا وَقَعَ لِمَنْ أَنْكَرَ فَضْلَ " فَاتِحَةِ الْكِتَابِ " وَ " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " وَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ مَا قَدَّمْته مِنْ الْأَصْلِ الْفَاسِدِ . أَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ وَاحِدًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ [ ص: 168 ] تَفَاضُلٌ وَلَا تَمَاثُلٌ وَلَا تَعَدُّدٌ . وَأَمَّا كَوْنُ nindex.php?page=treesubj&link=29475_29442صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ - وَرُبَّمَا قَالُوا : الْقَدِيمُ لَا يَتَفَاضَلُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ : الْقَدِيمُ لَا يَتَعَدَّدُ - فَهَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ : فَإِنَّ الْقَدِيمَ إذَا أُرِيدَ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ : فَرَبُّ الْعَالَمِينَ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ صِفَاتُهُ . فَمَنْ nindex.php?page=treesubj&link=28724_29624_28719_29626قَالَ إنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَعَدَّدُ فَهُوَ يَقُولُ : الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ ; وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُوَ الْعِلْمُ . وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ أَيْضًا : الْعِلْمُ هُوَ الْكَلَامُ وَيَقُولُ آخَرُونَ : الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ هُوَ الْإِرَادَةُ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ إنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ : فَالْعِلْمُ هُوَ الْعَالِمُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْقَادِرُ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَرَّحَ بِهَا نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والجهمية وَنَحْوِهِمْ كَمَا حَكَيْت أَلْفَاظَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَعْقُول الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ - بَلْ مُخَالَفَةُ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ لِلْعُقَلَاءِ . وَالْمَعْلُومُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِ الرُّسُلِ - مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ شَرْعًا وَعَقْلًا . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ تَأَوَّلُوا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِتَأْوِيلَاتِ بَاطِلَةٍ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ وَأَفْضَلَ وَخَيْرًا كَوْنِهِ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ وَامْتَنَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ إجْرَاءِ التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ Multitarajem.php?tid=12604,12605وَابْنِ الباقلاني وَجَمَاعَةٍ غَيْرِهِمَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْقَرْمَطَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ [ ص: 169 ] تَعَالَى يَقُولُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } { nindex.php?page=hadith&LINKID=597964وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ } وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597965لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " خَيْرٌ مِنْهَا " أَيْ خَيْرٌ مِنْهَا لَكُمْ أَيْ أَكْثَرَ ثَوَابًا أَوْ أَقَلَّ تَعَبًا وَقَالَ : مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَلَيْسَ هُوَ تَفْضِيلًا لِنَفْسِ الْكَلَامِ بَلْ لِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ أَنَّ تِلَاوَةَ هَذَا وَالْعَمَلَ بِهِ يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الْأَجْرِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْآخَرِ . فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ . وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الثَّوَابِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْفِعْلَيْنِ أَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى الثَّانِي إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ وَلِهَذَا إنَّمَا تَنْطِقُ النُّصُوصُ بِفَضْلِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي نَفْسِهِ كَمَا قَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَيُجِيبُ بِتَفْضِيلِ عَمَلٍ عَلَى عَمَلٍ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِرُجْحَانِ ثَوَابِهِ . وَأَمَّا رُجْحَانُ الثَّوَابِ مَعَ تَمَاثُلِ الْعَمَلَيْنِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597966أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } [ ص: 170 ] فَأَخْبَرَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَفَضَّلَ نَفْسَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ الْقُرْآنِ عَلَى سِوَاهَا وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597967أَنَّهُ سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=10907أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَفْضَلُ مَا قَالَهُ هُوَ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ .
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=70263أَفْضَلُ الذَّكَرِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ } وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=13852الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - أَوْ وَسَبْعُونَ - شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي النُّصُوصِ يُفَضِّلُ الْعَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ وَالْقَوْلَ عَلَى الْقَوْلِ . وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ فَضْلُ ثَوَابِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . أَمَّا تَفْضِيلُ الثَّوَابِ بِدُونِ تَفْضِيلِ نَفْسِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَلَمْ يَرِدْ بِهِ نَقْلٌ وَلَا يَقْتَضِيهِ عَقْلٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْقَوْلَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ الْعَمَلَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ جَعَلَ ثَوَابَ أَحَدِهِمَا أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ الْآخَرِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجَّحٍ . وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ والجهمية الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ بِهَذَا الْأَصْلِ يَنْصُرُونَ الْإِسْلَامَ فَلَا لِلْإِسْلَامِ [ ص: 171 ] نَصَرُوا وَلَا لِعَدُوِّهِ كَسَرُوا بَلْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا بِالتَّبْدِيعِ وَالتَّضْلِيلِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّجْهِيلِ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ خُصُومُهُمْ الدَّهْرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ بِإِلْزَامِهِمْ مُخَالَفَةَ الْمَعْقُولِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الزِّيَادَةِ فِي مُخَالَفَةِ الْمَشْرُوعِ وَالْمَعْقُولِ كَمَا جَرَى لِلْمُلْحِدِينَ مَعَ الْمُبْتَدِعِينَ . وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ بَلْ بَعْضُهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا ; رَدٌّ لِخَبَرِ اللَّهِ الصَّرِيحِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَكَيْفَ يُقَالُ لَيْسَ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ ؟ وَإِذَا كَانَ الْجَمِيعُ مُتَمَاثِلًا فِي نَفْسِهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ . وَكَوْنُ مَعْنَى الْخَيْرِ أَكْثَرَ ثَوَابًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَمَاثِلًا فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ; فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَطُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ مِنْ هَذَا مَعَ تَسَاوِي الذَّاتَيْنِ بِصِفَاتِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ لَا بُدَّ - مَعَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ - مِنْ التَّفَاضُلِ وَلَوْ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ مُخْتَارًا جَعَلَ لِأَحَدِهِمَا مَعَ التَّمَاثُلِ مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا بِصِفَاتِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهَذَا لَا يَعْقِلُ وُجُودَهُ وَلَوْ عَقَلَ لَمْ يَقُلْ إنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ لِأَمْرِ لَا يَتَّصِفُ بِهِ أَحَدُهُمَا أَلْبَتَّةَ .
وَأَيْضًا فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَاتِحَةِ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597968لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } فَقَدْ صَرَّحَ الرَّسُولُ [ ص: 172 ] بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ لَهَا مَثَلًا فَمَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ مَثَلٌ لَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَدْ نَاقَضَ الرَّسُولَ فِي خَبَرِهِ .
وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَمَعَ تَمَاثُلِ كُلِّ حَدِيثٍ لِلَّهِ فَلَيْسَ الْقُرْآنُ أَحْسَنَ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ الْأَحْكَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : نَحْنُ نُسَلِّمُ لَكُمْ أَنَّ اللَّهَ خَصَّ بَعْضَ كَلَامِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْأَحْكَامِ بِمَا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ لَكِنَّ هَذَا عِنْدَنَا بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ ; لَا لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِوَصْفِ امْتَازَ بِهِ عَنْ الْآخَرِ . قِيلَ : أَوَّلًا هَذَا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ . ثُمَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ .
وَهَؤُلَاءِ لَمَّا جَوَّزُوا هَذَا قَالُوا : إنَّ الرَّبَّ يَزَلْ مُعَطِّلًا وَمَا كَانَ يُمْكِنُ فِي الْأَزَلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلَا أَنْ يَفْعَلَ . ثُمَّ صَارَ الْكَلَامُ وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ اقْتَضَى انْتِقَالَهُمَا مِنْ الِامْتِنَاعِ إلَى الْإِمْكَانِ وَقَالُوا : إنَّ الْقَادِرَ الْمُرَجِّحَ يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ . ثُمَّ قَالَتْ الجهمية : وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِقَادِرِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُرَجِّحُ شَيْئًا بَلْ اللَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الرَّبِّ .
وَقَالَتْ [ ص: 173 ] الْقَدَرِيَّةُ : الْعَبْدُ قَادِرٌ تَامُّ الْقُدْرَةِ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَلَا حَاجَةٍ إلَى أَنْ يُحَدِّثَ اللَّهَ مَا بِهِ يَخْتَصُّ بِهِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا ; بَلْ هُوَ - مَعَ أَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى الضِّدَّيْنِ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ سَوَاءٌ - يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِلَا مُرَجِّحٍ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ الْعَبْدِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إعَانَةِ اللَّهِ وَلَا إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ شَائِيًا وَلَا يَجْعَلَهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَلَا يَجْعَلَهُ مُسْلِمًا .
وَمَعْلُومٌ بِالْعُقُولِ خِلَافُ هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يُشَاء لَمْ يَكُنْ لَكِنَّ الْمَدْحَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُطْلَقُ الْمَشِيئَةِ لَا مُعَوِّقٌ لَا إذَا أَرَادَ شَيْئًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597969لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت وَلَكِنْ لِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ } . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ لَيْسَ لَهُ مُكْرِهٌ حَتَّى يُقَالَ لَهُ افْعَلْ إنْ شِئْت وَلَا يَفْعَلُ إنْ لَمْ يَشَأْ .
فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ . لَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ يَفْعَلُ لِمُجَرَّدِ مَشِيئَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حِكْمَةٌ بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهُمْ مَا وُجُودُ فِعْلِهِ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَدْحِ بَلْ الْمَعْقُولُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ صِفَةُ ذَمٍّ فَمَنْ فَعَلَ لِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ حِكْمَةٍ لِفِعْلِهِ وَلَا تَضَمَّنَ غَايَةً مُجَرَّدَةً كَانَ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا لَهُ .
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مَنْ نَسَبَهُ إلَى هَذَا فَقَالَ تَعَالَى [ ص: 174 ] { nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=116فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : الْعَبَثُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَا لِحِكْمَةِ وَهُوَ جِنْسٌ مِنْ اللَّعِبِ . وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=16وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=17لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ : السُّدَى الْمُهْمَلُ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى ; كَاَلَّذِي يَتْرُكُ الْإِبِلَ سُدًى مُهْمَلَةً وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=73وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ . وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ مَعَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُهُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ سَاكِتًا ثُمَّ صَارَ مُتَكَلِّمًا كَمَا يَقُولُهُ الكرامية . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَتَوَابِعُهَا مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : " كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " تَنَازَعُوا [ ص: 167 ] بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ قَالُوا بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يَعْلَمُونَ مَا قَالَ غَيْرُهُمْ ; بَلْ غَايَةُ مَا عِنْدَ أَئِمَّتِهِمْ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَرَّفَةُ قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ - كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ والكلابية والسالمية والكرامية - وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ قَالَ سِوَى ذَلِكَ وَيُصَنِّفُ أَحَدُهُمْ كِتَابًا كَبِيرًا فِي " مَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ " وَفِي " الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ " وَيَذْكُرُ عَامَّةَ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَنْقُلُهُ مَعَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مَعَ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَيْهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ أَقْوَالٌ مُتَنَاقِضَةٌ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْقَصْدُ هُنَا : أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا أَوْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ والكرامية أَوْ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ الكلابية أَوْ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَقَوْلَ السالمية - هُوَ بَاطِلٌ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ فَيُفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ مَا يُضِيفُهُ إلَى السُّنَّةِ ثُمَّ إذَا تَدَبَّرَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ وَجَدَهَا تُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَصْلًا وَفَرْعًا كَمَا وَقَعَ لِمَنْ أَنْكَرَ فَضْلَ " فَاتِحَةِ الْكِتَابِ " وَ " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " وَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ مَا قَدَّمْته مِنْ الْأَصْلِ الْفَاسِدِ . أَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ وَاحِدًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ [ ص: 168 ] تَفَاضُلٌ وَلَا تَمَاثُلٌ وَلَا تَعَدُّدٌ . وَأَمَّا كَوْنُ nindex.php?page=treesubj&link=29475_29442صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَفَاضَلُ - وَرُبَّمَا قَالُوا : الْقَدِيمُ لَا يَتَفَاضَلُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ : الْقَدِيمُ لَا يَتَعَدَّدُ - فَهَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ : فَإِنَّ الْقَدِيمَ إذَا أُرِيدَ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ : فَرَبُّ الْعَالَمِينَ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ صِفَاتُهُ . فَمَنْ nindex.php?page=treesubj&link=28724_29624_28719_29626قَالَ إنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ لَا تَتَعَدَّدُ فَهُوَ يَقُولُ : الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ ; وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُوَ الْعِلْمُ . وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ أَيْضًا : الْعِلْمُ هُوَ الْكَلَامُ وَيَقُولُ آخَرُونَ : الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ هُوَ الْإِرَادَةُ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ إنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ : فَالْعِلْمُ هُوَ الْعَالِمُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْقَادِرُ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَرَّحَ بِهَا نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والجهمية وَنَحْوِهِمْ كَمَا حَكَيْت أَلْفَاظَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَعْقُول الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ - بَلْ مُخَالَفَةُ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ لِلْعُقَلَاءِ . وَالْمَعْلُومُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِ الرُّسُلِ - مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ شَرْعًا وَعَقْلًا . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ تَأَوَّلُوا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِتَأْوِيلَاتِ بَاطِلَةٍ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ وَأَفْضَلَ وَخَيْرًا كَوْنِهِ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ وَامْتَنَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ إجْرَاءِ التَّفْضِيلِ عَلَيْهِ وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ Multitarajem.php?tid=12604,12605وَابْنِ الباقلاني وَجَمَاعَةٍ غَيْرِهِمَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْقَرْمَطَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ [ ص: 169 ] تَعَالَى يَقُولُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } { nindex.php?page=hadith&LINKID=597964وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ } وَقَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597965لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " خَيْرٌ مِنْهَا " أَيْ خَيْرٌ مِنْهَا لَكُمْ أَيْ أَكْثَرَ ثَوَابًا أَوْ أَقَلَّ تَعَبًا وَقَالَ : مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَلَيْسَ هُوَ تَفْضِيلًا لِنَفْسِ الْكَلَامِ بَلْ لِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ أَنَّ تِلَاوَةَ هَذَا وَالْعَمَلَ بِهِ يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الْأَجْرِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْآخَرِ . فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ . وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الثَّوَابِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْفِعْلَيْنِ أَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى الثَّانِي إنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ وَلِهَذَا إنَّمَا تَنْطِقُ النُّصُوصُ بِفَضْلِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فِي نَفْسِهِ كَمَا قَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَيُجِيبُ بِتَفْضِيلِ عَمَلٍ عَلَى عَمَلٍ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِرُجْحَانِ ثَوَابِهِ . وَأَمَّا رُجْحَانُ الثَّوَابِ مَعَ تَمَاثُلِ الْعَمَلَيْنِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597966أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } [ ص: 170 ] فَأَخْبَرَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَفَضَّلَ نَفْسَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ الْقُرْآنِ عَلَى سِوَاهَا وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597967أَنَّهُ سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=10907أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَّا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَفْضَلُ مَا قَالَهُ هُوَ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ .
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=70263أَفْضَلُ الذَّكَرِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ } وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=13852الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - أَوْ وَسَبْعُونَ - شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي النُّصُوصِ يُفَضِّلُ الْعَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ وَالْقَوْلَ عَلَى الْقَوْلِ . وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ فَضْلُ ثَوَابِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . أَمَّا تَفْضِيلُ الثَّوَابِ بِدُونِ تَفْضِيلِ نَفْسِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَلَمْ يَرِدْ بِهِ نَقْلٌ وَلَا يَقْتَضِيهِ عَقْلٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْقَوْلَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ الْعَمَلَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ جَعَلَ ثَوَابَ أَحَدِهِمَا أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ الْآخَرِ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجَّحٍ . وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ والجهمية الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ بِهَذَا الْأَصْلِ يَنْصُرُونَ الْإِسْلَامَ فَلَا لِلْإِسْلَامِ [ ص: 171 ] نَصَرُوا وَلَا لِعَدُوِّهِ كَسَرُوا بَلْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا بِالتَّبْدِيعِ وَالتَّضْلِيلِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّجْهِيلِ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ خُصُومُهُمْ الدَّهْرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ بِإِلْزَامِهِمْ مُخَالَفَةَ الْمَعْقُولِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الزِّيَادَةِ فِي مُخَالَفَةِ الْمَشْرُوعِ وَالْمَعْقُولِ كَمَا جَرَى لِلْمُلْحِدِينَ مَعَ الْمُبْتَدِعِينَ . وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ بَلْ بَعْضُهُ أَكْثَرُ ثَوَابًا ; رَدٌّ لِخَبَرِ اللَّهِ الصَّرِيحِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَكَيْفَ يُقَالُ لَيْسَ بَعْضُهُ خَيْرًا مِنْ بَعْضٍ ؟ وَإِذَا كَانَ الْجَمِيعُ مُتَمَاثِلًا فِي نَفْسِهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ . وَكَوْنُ مَعْنَى الْخَيْرِ أَكْثَرَ ثَوَابًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَمَاثِلًا فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ; فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَطُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ مِنْ هَذَا مَعَ تَسَاوِي الذَّاتَيْنِ بِصِفَاتِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ لَا بُدَّ - مَعَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ - مِنْ التَّفَاضُلِ وَلَوْ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ مُخْتَارًا جَعَلَ لِأَحَدِهِمَا مَعَ التَّمَاثُلِ مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا بِصِفَاتِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهَذَا لَا يَعْقِلُ وُجُودَهُ وَلَوْ عَقَلَ لَمْ يَقُلْ إنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ لِأَمْرِ لَا يَتَّصِفُ بِهِ أَحَدُهُمَا أَلْبَتَّةَ .
وَأَيْضًا فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَاتِحَةِ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597968لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } فَقَدْ صَرَّحَ الرَّسُولُ [ ص: 172 ] بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ لَهَا مَثَلًا فَمَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ مَثَلٌ لَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَدْ نَاقَضَ الرَّسُولَ فِي خَبَرِهِ .
وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وَمَعَ تَمَاثُلِ كُلِّ حَدِيثٍ لِلَّهِ فَلَيْسَ الْقُرْآنُ أَحْسَنَ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ الْأَحْكَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : نَحْنُ نُسَلِّمُ لَكُمْ أَنَّ اللَّهَ خَصَّ بَعْضَ كَلَامِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْأَحْكَامِ بِمَا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ لَكِنَّ هَذَا عِنْدَنَا بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ ; لَا لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِوَصْفِ امْتَازَ بِهِ عَنْ الْآخَرِ . قِيلَ : أَوَّلًا هَذَا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ . ثُمَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ .
وَهَؤُلَاءِ لَمَّا جَوَّزُوا هَذَا قَالُوا : إنَّ الرَّبَّ يَزَلْ مُعَطِّلًا وَمَا كَانَ يُمْكِنُ فِي الْأَزَلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلَا أَنْ يَفْعَلَ . ثُمَّ صَارَ الْكَلَامُ وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ اقْتَضَى انْتِقَالَهُمَا مِنْ الِامْتِنَاعِ إلَى الْإِمْكَانِ وَقَالُوا : إنَّ الْقَادِرَ الْمُرَجِّحَ يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ . ثُمَّ قَالَتْ الجهمية : وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِقَادِرِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُرَجِّحُ شَيْئًا بَلْ اللَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الرَّبِّ .
وَقَالَتْ [ ص: 173 ] الْقَدَرِيَّةُ : الْعَبْدُ قَادِرٌ تَامُّ الْقُدْرَةِ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَلَا حَاجَةٍ إلَى أَنْ يُحَدِّثَ اللَّهَ مَا بِهِ يَخْتَصُّ بِهِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا ; بَلْ هُوَ - مَعَ أَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى الضِّدَّيْنِ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ سَوَاءٌ - يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِلَا مُرَجِّحٍ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ الْعَبْدِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إعَانَةِ اللَّهِ وَلَا إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ شَائِيًا وَلَا يَجْعَلَهُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَلَا يَجْعَلَهُ مُسْلِمًا .
وَمَعْلُومٌ بِالْعُقُولِ خِلَافُ هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يُشَاء لَمْ يَكُنْ لَكِنَّ الْمَدْحَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُطْلَقُ الْمَشِيئَةِ لَا مُعَوِّقٌ لَا إذَا أَرَادَ شَيْئًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597969لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت وَلَكِنْ لِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ } . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ لَيْسَ لَهُ مُكْرِهٌ حَتَّى يُقَالَ لَهُ افْعَلْ إنْ شِئْت وَلَا يَفْعَلُ إنْ لَمْ يَشَأْ .
فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ . لَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ يَفْعَلُ لِمُجَرَّدِ مَشِيئَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حِكْمَةٌ بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهُمْ مَا وُجُودُ فِعْلِهِ وَعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَدْحِ بَلْ الْمَعْقُولُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ صِفَةُ ذَمٍّ فَمَنْ فَعَلَ لِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ حِكْمَةٍ لِفِعْلِهِ وَلَا تَضَمَّنَ غَايَةً مُجَرَّدَةً كَانَ أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا لَهُ .
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مَنْ نَسَبَهُ إلَى هَذَا فَقَالَ تَعَالَى [ ص: 174 ] { nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=116فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : الْعَبَثُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَا لِحِكْمَةِ وَهُوَ جِنْسٌ مِنْ اللَّعِبِ . وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=16وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=17لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ : السُّدَى الْمُهْمَلُ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى ; كَاَلَّذِي يَتْرُكُ الْإِبِلَ سُدًى مُهْمَلَةً وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=73وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } .
وَقَدْ nindex.php?page=treesubj&link=28787_29688بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَبَيْنَ مَنْ يَحْمَدُهُ وَيُكْرِمُهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَمَنْ يَذُمُّهُ وَيُعَاقِبُهُ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ لَا يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا . وَجَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَا مَسَاغَ لَهُ . فَقَالَ تَعَالَى { nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=35أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=154مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } وَقَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=28أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=21أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ سَيِّئٌ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ الْحُكْمُ بِهِ مُسَاوِيًا لِلْحُكْمِ بِالتَّفَاضُلِ .
ثُمَّ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=22وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَيَنْقُصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا بَلْ كَمَا قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } .
وَقَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ فَلَا يُؤْتِيهِ أَجْرَهُ أَوْ يَحْمِلُ عَلَيْهِ ذَنْبَ غَيْرِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=112وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=28لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=29مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=100ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=101وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ { nindex.php?page=hadith&LINKID=43518يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } . nindex.php?page=treesubj&link=29442_28778_28787وَمَا تَزْعُمُهُ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضٍ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ جَهْلٌ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي جَرَى [ ص: 176 ] بِهَا الْقَدَرُ لَيْسَ بِظُلْمِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ النَّاسِ إذَا عَاقَبَهُ غَيْرُهُ بِسَيِّئَاتِهِ وَانْتَصَفَ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مَحْمُودٌ مِنْهُ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ الظَّالِمَ مَعْذُورٌ لِأَجْلِ الْقَدَرِ .
فَرَبُّ الْعَالَمِينَ إذَا أَنْصَفَ بَعْضَ عِبَادِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَخَذَ لِلْمَظْلُومِينَ حَقَّهُمْ مِنْ الظَّالِمِينَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِبَادِ إذَا وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ فَجَعَلَ الطَّيِّبَ مَعَ الطَّيِّبِ فِي الْمَكَانِ الْمُنَاسِبِ لَهُ وَجَعَلَ الْخَبِيثَ مَعَ الْخَبِيثِ فِي الْمَكَانِ الْمُنَاسِبِ لَهُ كَانَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْهُ وَحِكْمَةً فَرَبُّ الْعَالَمِينَ إذَا وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَلَا الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَهَا إلَّا طَيِّبٌ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الْقِصَاصِ الَّذِي يُنَظِّفُهُمْ مِنْ الْخُبْثِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597970إنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا عَبَرُوا الْجِسْرَ - وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمَنْصُوبُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ - فَإِنَّهُمْ يُوقِفُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ } وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالْمَقْصُودُ : هُنَا أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28787_28778مَا يَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعَدْلِ الَّذِي يَقِيسُونَ بِهِ الرَّبَّ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ بِدَعِهِمْ الَّتِي ضَلُّوا بِهَا وَخَالَفُوا بِهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ [ ص: 177 ] وَإِجْمَاعَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَابَلَهُمْ فَنَفَى حِكْمَةَ الرَّبِّ الثَّابِتَةَ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَمَا كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَمَا جَعَلَهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَشْرُوعَاتِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا النَّصَّ مَعَ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلَ أَصْلُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ إمَامِ غُلَاةِ الْمُجَبِّرَةِ وَكَانَ يُنْكِرُ رَحْمَةَ الرَّبِّ وَيَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَقُولُ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَا ثَمَّ إلَّا إرَادَةٌ رَجَّحَ بِهَا أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا رَحْمَةٍ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ وَافَقُوهُ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَنَاقَضُونَ لِأَنَّهُمْ إذَا خَاضُوا فِي الشَّرْعِ احْتَاجُوا أَنْ يَسْلُكُوا مَسَالِكَ أَئِمَّةِ الدِّينِ فِي إثْبَاتِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَمْرِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ النَّهْيِ عَنْ مَفَاسِدِهِمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي بُعِثَ بِهَا بُعِثَ رَحْمَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=156وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَيَنْهَى عَمَّا هُوَ مُنْكَرٌ وَيُحِلُّ مَا هُوَ طَيِّبٌ وَيُحَرِّمُ مَا هُوَ خَبِيثٌ . وَلَوْ كَانَ الْمَعْرُوفُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمُنْكَرُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا مَا حُرِّمَ لَكَانَ هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ : يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْهَاهُمْ وَيُحِلُّ لَهُمْ مَا أَحَلَّ لَهُمْ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمَرَ بِأَمْرِ يُوصَفُ بِذَلِكَ وَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ فَهَذِهِ حَالُهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } فَعُلِمَ أَنَّ الطَّيِّبَ وَصْفٌ لِلْعَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ يُحَرِّمُهَا مَعَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لِلْعِبَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=146ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=4يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الطَّيِّبِ هُوَ مَا أُحِلَّ كَانَ الْكَلَامُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ . فَعُلِمَ أَنَّ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالْأَعْيَانِ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ الْتِذَاذِ الْأَكْلِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْتَذُّ بِمَا يَضُرُّهُ مِنْ السُّمُومِ وَمَا يَحْمِيهِ الطَّبِيبُ مِنْهُ وَلَا الْمُرَادُ بِهِ الْتِذَاذَ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُمَمِ كَالْعَرَبِ وَلَا كَوْنُ الْعَرَبِ تَعَوَّدَتْهُ ; فَإِنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ تَعَوَّدَتْ أَكْلَهُ وَطَابَ لَهَا أَوْ كَرِهَتْهُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِي بِلَادِهَا لَا [ ص: 179 ] يُوجِبُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَمْ تَعْتَدْهُ طِبَاعُ هَؤُلَاءِ وَلَا أَنْ يُحِلُّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَعَوَّدُوهُ . كَيْفَ وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ اعْتَادَتْ أَكْلَ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْعَرَبِ : مَا تَأْكُلُونَ ؟ قَالَ : مَا دَبَّ وَدَرَجَ إلَّا أُمَّ حبين . فَقَالَ : ليهن أُمُّ حبين الْعَافِيَةَ . وَنَفْسُ قُرَيْشٍ كَانُوا يَأْكُلُونَ خَبَائِثَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَكَانُوا يُعَافُونَ مَطَاعِمَ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597971عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قُدِّمَ لَهُ لَحْمُ ضَبٍّ فَرَفَعَ يَدَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ فَقِيلَ : أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ } . فَعُلِمَ أَنَّ كَرَاهَةَ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا لِطَعَامِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِتَحْرِيمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يُحَرِّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا كَرِهَتْهُ الْعَرَبُ وَلَمْ يُبِحْ كُلَّ مَا أَكَلَتْهُ الْعَرَبُ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } إخْبَارٌ عَنْهُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَحَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِثْلَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَإِنَّهَا عَادِيَةٌ بَاغِيَةٌ فَإِذَا أَكَلَهَا النَّاسُ - وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي - صَارَ فِي أَخْلَاقِهِمْ شَوْبٌ مِنْ أَخْلَاقِ هَذِهِ الْبَهَائِمِ وَهُوَ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ كَمَا حَرَّمَ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ قُوَى النَّفْسِ الشهوية الْغَضَبِيَّةِ وَزِيَادَتُهُ تُوجِبُ طُغْيَانَ هَذِهِ الْقُوَى وَهُوَ [ ص: 180 ] مَجْرَى الشَّيْطَانِ مِنْ الْبَدَنِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=12677إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ } . وَلِهَذَا كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ إذَا دَخَلَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ لِأَنَّ الصَّوْمَ جُنَّةٌ . فَالطَّيِّبَاتُ الَّتِي أَبَاحَهَا هِيَ الْمَطَاعِمُ النَّافِعَةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْخَبَائِثُ هِيَ الضَّارَّةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ الَّتِي تَضُرُّهُمْ فِي الْمَقْصُودِ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ وَأَمَرَهُمْ مَعَ أَكْلِهَا بِالشُّكْرِ وَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِهَا فَمَنْ أَكَلَهَا وَلَمْ يَشْكُرْ تَرَكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ . وَمَنْ حَرَّمَهَا - كَالرُّهْبَانِ - فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597972إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=14550الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=8لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أَيْ عَنْ شُكْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُبِيحُ شَيْئًا وَيُعَاقِبُ مَنْ فَعَلَهُ وَلَكِنْ يَسْأَلُهُ عَنْ الْوَاجِبِ الَّذِي أَوَجَبَهُ مَعَهُ وَعَمَّا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ : هَلْ فَرَّطَ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=87يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } فَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ .
كَمَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّرَهُّبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597973أَنَّ رِجَالًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ آخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَقْرَبُ النِّسَاءَ وَقَالَ آخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا . . لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ; وَآكُلُ اللَّحْمَ . فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمَرَهُ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=32وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } فَعَلَّلَ التَّحْرِيمَ بِأَنَّهَا فَاحِشَةٌ بِدُونِ النَّهْيِ وَأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنْهَا وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } فَذَكَرَ بَرَاءَتَهُ مِنْ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُ بِذَلِكَ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى اللَّهِ الْأَمْرُ بِهِ لَيْسَتْ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُسْتَوِيَةً فِي أَنْفُسِهَا وَلَا عِنْدَهُ وَأَنَّهُ لَا يُخَصِّصُ الْمَأْمُورَ عَلَى الْمَحْظُورِ لِمُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ بَلْ يُخَصِّصُ الْمَأْمُورَ بِالْأَمْرِ وَالْمَحْظُورَ بِالْحَظْرِ لِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ .
ثُمَّ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=22وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَيَنْقُصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا بَلْ كَمَا قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } .
وَقَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ فَلَا يُؤْتِيهِ أَجْرَهُ أَوْ يَحْمِلُ عَلَيْهِ ذَنْبَ غَيْرِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=112وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=28لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=29مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=100ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=101وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ { nindex.php?page=hadith&LINKID=43518يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } . nindex.php?page=treesubj&link=29442_28778_28787وَمَا تَزْعُمُهُ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضٍ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ جَهْلٌ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ الَّتِي جَرَى [ ص: 176 ] بِهَا الْقَدَرُ لَيْسَ بِظُلْمِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ النَّاسِ إذَا عَاقَبَهُ غَيْرُهُ بِسَيِّئَاتِهِ وَانْتَصَفَ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مَحْمُودٌ مِنْهُ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ الظَّالِمَ مَعْذُورٌ لِأَجْلِ الْقَدَرِ .
فَرَبُّ الْعَالَمِينَ إذَا أَنْصَفَ بَعْضَ عِبَادِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَخَذَ لِلْمَظْلُومِينَ حَقَّهُمْ مِنْ الظَّالِمِينَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ لِأَجْلِ الْقَدَرِ وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِبَادِ إذَا وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ فَجَعَلَ الطَّيِّبَ مَعَ الطَّيِّبِ فِي الْمَكَانِ الْمُنَاسِبِ لَهُ وَجَعَلَ الْخَبِيثَ مَعَ الْخَبِيثِ فِي الْمَكَانِ الْمُنَاسِبِ لَهُ كَانَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْهُ وَحِكْمَةً فَرَبُّ الْعَالَمِينَ إذَا وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَلَا الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَهَا إلَّا طَيِّبٌ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الْقِصَاصِ الَّذِي يُنَظِّفُهُمْ مِنْ الْخُبْثِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597970إنَّ الْمُؤْمِنِينَ إذَا عَبَرُوا الْجِسْرَ - وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمَنْصُوبُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ - فَإِنَّهُمْ يُوقِفُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ } وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالْمَقْصُودُ : هُنَا أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=28787_28778مَا يَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعَدْلِ الَّذِي يَقِيسُونَ بِهِ الرَّبَّ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ بِدَعِهِمْ الَّتِي ضَلُّوا بِهَا وَخَالَفُوا بِهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ [ ص: 177 ] وَإِجْمَاعَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَابَلَهُمْ فَنَفَى حِكْمَةَ الرَّبِّ الثَّابِتَةَ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَمَا كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَمَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَمَا جَعَلَهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَشْرُوعَاتِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا النَّصَّ مَعَ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلَ أَصْلُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ إمَامِ غُلَاةِ الْمُجَبِّرَةِ وَكَانَ يُنْكِرُ رَحْمَةَ الرَّبِّ وَيَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَقُولُ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَا ثَمَّ إلَّا إرَادَةٌ رَجَّحَ بِهَا أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا رَحْمَةٍ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ وَافَقُوهُ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَنَاقَضُونَ لِأَنَّهُمْ إذَا خَاضُوا فِي الشَّرْعِ احْتَاجُوا أَنْ يَسْلُكُوا مَسَالِكَ أَئِمَّةِ الدِّينِ فِي إثْبَاتِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَمْرِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ النَّهْيِ عَنْ مَفَاسِدِهِمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي بُعِثَ بِهَا بُعِثَ رَحْمَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=107وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=156وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَيَنْهَى عَمَّا هُوَ مُنْكَرٌ وَيُحِلُّ مَا هُوَ طَيِّبٌ وَيُحَرِّمُ مَا هُوَ خَبِيثٌ . وَلَوْ كَانَ الْمَعْرُوفُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمُنْكَرُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا مَا حُرِّمَ لَكَانَ هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ : يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْهَاهُمْ وَيُحِلُّ لَهُمْ مَا أَحَلَّ لَهُمْ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ . وَهَذَا كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمَرَ بِأَمْرِ يُوصَفُ بِذَلِكَ وَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ فَهَذِهِ حَالُهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } فَعُلِمَ أَنَّ الطَّيِّبَ وَصْفٌ لِلْعَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ يُحَرِّمُهَا مَعَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لِلْعِبَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=146ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=4يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الطَّيِّبِ هُوَ مَا أُحِلَّ كَانَ الْكَلَامُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ . فَعُلِمَ أَنَّ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالْأَعْيَانِ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ الْتِذَاذِ الْأَكْلِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْتَذُّ بِمَا يَضُرُّهُ مِنْ السُّمُومِ وَمَا يَحْمِيهِ الطَّبِيبُ مِنْهُ وَلَا الْمُرَادُ بِهِ الْتِذَاذَ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُمَمِ كَالْعَرَبِ وَلَا كَوْنُ الْعَرَبِ تَعَوَّدَتْهُ ; فَإِنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ تَعَوَّدَتْ أَكْلَهُ وَطَابَ لَهَا أَوْ كَرِهَتْهُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ فِي بِلَادِهَا لَا [ ص: 179 ] يُوجِبُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَمْ تَعْتَدْهُ طِبَاعُ هَؤُلَاءِ وَلَا أَنْ يُحِلُّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَعَوَّدُوهُ . كَيْفَ وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ اعْتَادَتْ أَكْلَ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْعَرَبِ : مَا تَأْكُلُونَ ؟ قَالَ : مَا دَبَّ وَدَرَجَ إلَّا أُمَّ حبين . فَقَالَ : ليهن أُمُّ حبين الْعَافِيَةَ . وَنَفْسُ قُرَيْشٍ كَانُوا يَأْكُلُونَ خَبَائِثَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَكَانُوا يُعَافُونَ مَطَاعِمَ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597971عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قُدِّمَ لَهُ لَحْمُ ضَبٍّ فَرَفَعَ يَدَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ فَقِيلَ : أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ } . فَعُلِمَ أَنَّ كَرَاهَةَ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا لِطَعَامِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِتَحْرِيمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يُحَرِّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا كَرِهَتْهُ الْعَرَبُ وَلَمْ يُبِحْ كُلَّ مَا أَكَلَتْهُ الْعَرَبُ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } إخْبَارٌ عَنْهُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَحَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِثْلَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَإِنَّهَا عَادِيَةٌ بَاغِيَةٌ فَإِذَا أَكَلَهَا النَّاسُ - وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي - صَارَ فِي أَخْلَاقِهِمْ شَوْبٌ مِنْ أَخْلَاقِ هَذِهِ الْبَهَائِمِ وَهُوَ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ كَمَا حَرَّمَ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ قُوَى النَّفْسِ الشهوية الْغَضَبِيَّةِ وَزِيَادَتُهُ تُوجِبُ طُغْيَانَ هَذِهِ الْقُوَى وَهُوَ [ ص: 180 ] مَجْرَى الشَّيْطَانِ مِنْ الْبَدَنِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=12677إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ } . وَلِهَذَا كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ إذَا دَخَلَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ لِأَنَّ الصَّوْمَ جُنَّةٌ . فَالطَّيِّبَاتُ الَّتِي أَبَاحَهَا هِيَ الْمَطَاعِمُ النَّافِعَةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْخَبَائِثُ هِيَ الضَّارَّةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ الَّتِي تَضُرُّهُمْ فِي الْمَقْصُودِ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ وَأَمَرَهُمْ مَعَ أَكْلِهَا بِالشُّكْرِ وَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِهَا فَمَنْ أَكَلَهَا وَلَمْ يَشْكُرْ تَرَكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ . وَمَنْ حَرَّمَهَا - كَالرُّهْبَانِ - فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=172يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597972إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=14550الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=8لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أَيْ عَنْ شُكْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُبِيحُ شَيْئًا وَيُعَاقِبُ مَنْ فَعَلَهُ وَلَكِنْ يَسْأَلُهُ عَنْ الْوَاجِبِ الَّذِي أَوَجَبَهُ مَعَهُ وَعَمَّا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ : هَلْ فَرَّطَ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=87يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } فَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ .
كَمَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّرَهُّبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597973أَنَّ رِجَالًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقْوَمُ لَا أَنَامُ وَقَالَ آخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَقْرَبُ النِّسَاءَ وَقَالَ آخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا . . لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ; وَآكُلُ اللَّحْمَ . فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمَرَهُ كَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=32وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } فَعَلَّلَ التَّحْرِيمَ بِأَنَّهَا فَاحِشَةٌ بِدُونِ النَّهْيِ وَأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنْهَا وَقَوْلِهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } فَذَكَرَ بَرَاءَتَهُ مِنْ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُ بِذَلِكَ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى اللَّهِ الْأَمْرُ بِهِ لَيْسَتْ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُسْتَوِيَةً فِي أَنْفُسِهَا وَلَا عِنْدَهُ وَأَنَّهُ لَا يُخَصِّصُ الْمَأْمُورَ عَلَى الْمَحْظُورِ لِمُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ بَلْ يُخَصِّصُ الْمَأْمُورَ بِالْأَمْرِ وَالْمَحْظُورَ بِالْحَظْرِ لِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ .
[ ص: 182 ] وَقَدْ تَدَبَّرْت عَامَّةَ مَا رَأَيْته مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ - مَعَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ عَنْهُ وَكَثْرَةِ مَا رَأَيْته مِنْ ذَلِكَ - هَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَوْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْته مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي وَجَدْتهَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَامِ : مِنْ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ تَلَقَّى ذَلِكَ عَنْهُمْ : مِثْلَ nindex.php?page=treesubj&link=29442_28836دَعْوَى الجهمية أَنَّ الْأُمُورَ الْمُتَمَاثِلَةَ يَأْمُرُ اللَّهُ بِأَحَدِهَا وَيَنْهَى عَنْ الْآخَرِ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ أَوْ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَمَاثِلَةَ وَالْأَعْمَالَ الْمُتَمَاثِلَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَجْعَلُ اللَّهُ ثَوَابَ بَعْضِهَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَهُ : كَقَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ كُلُّهُ مُتَمَاثِلٌ وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ فِي بَعْضِهِ أَعْظَمَ فَمَا وَجَدْت فِي كَلَامِ السَّلَفِ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ بَلْ يُصَرِّحُونَ بِالْحُكْمِ وَالْأَسْبَابِ وَبَيَانِ مَا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْأَمْرِ بِهِ وَمَا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّيِّئَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَمِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فِي نَفْسِهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَمْ أَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ أَنَّهُ خَالَفَ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ وَلَا تَأَوَّلَهُ عَلَى مَفْهُومِهِ مَعَ أَنَّهُ يُوجَدُ عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ اسْتِشْكَالٌ وَاشْتِبَاهٌ وَتَفْسِيرُهَا عَلَى أَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا خَطَأً . وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ وَمَا وَجَدْتهمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي { nindex.php?page=hadith&LINKID=597974أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ } وَقَوْلِهِ فِي الْفَاتِحَةِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597975لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } [ ص: 183 ] وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا مُقِرِّينَ لِذَلِكَ قَائِلِينَ بِمُوجِبِهِ .
{ nindex.php?page=hadith&LINKID=597976وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ أبيا أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ } فَأَجَابَهُ أبي بِأَنَّهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597977ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } . وَلَمْ يَسْتَشْكِلْ أبي وَلَا غَيْرُهُ السُّؤَالَ عَنْ كَوْنِ بَعْضِ الْقُرْآنِ أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ بَلْ شَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِلْمِ لِمَنْ عَرَفَ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَعَرَفَ أَفْضَلَ الْآيَاتِ وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=29566_29571_28973_28913قَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } . وَمَا رَأَيْتهمْ تَنَازَعُوا فِي تَفْسِيرِ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106بِخَيْرٍ مِنْهَا } . فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ : قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِينَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } مَنْ أَنْسَاهُ يُنْسِيهِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو ( أَوْ نَنْسَأهَا بِالْهَمْزِ مِنْ نَسَأَهُ يَنْسَأهُ . فَالْأَوَّلُ مِنْ النِّسْيَانِ وَالثَّانِي مِنْ نَسَأَ إذَا أَخَّرَ . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : نَسَأْته نَسْئًا إذَا أَخَّرْته . وَكَذَلِكَ أَنْسَأْته يُقَالُ نَسَأْته الْبَيْعَ وَأَنْسَأْته . قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ وَنَسَأَ فِي أَجَلِهِ بِمَعْنَى . وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ . وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ : مَنْ أَرَادَ النَّسَاءَ وَلَا نَسَاءً فَلْيُبَكِّرْ الْغَدَاءَ وَلْيُخَفِّفْ الرِّدَاءَ وَلْيُقَلِّلْ مِنْ غَشَيَانِ النَّسَاءِ . فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : الْمُرَادُ بِهِ مَا أَنْسَاهُ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ فَإِنَّ مَا يَرْفَعُ [ ص: 184 ] مِنْ الْقُرْآنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعًا شَرْعِيًّا بِإِزَالَتِهِ مِنْ الْقُلُوبِ وَهُوَ الْإِنْسَاءُ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا يَنْسَخُهُ أَوْ يُنْسِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ بَيَّنَ ذَلِكَ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=105مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } فَنَهَاهُمْ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُوءِ أَدَبِهِمْ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لِحَسَدِهِمْ مَا يَوَدُّونَ أَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ بِنِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُرْآنِ يُنْسَخُ وَبَعْضُهُ يُنْسَى - كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ - وَمَا أَنْسَاهُ سُبْحَانَهُ هُوَ مِمَّا نَسَخَ حُكْمَهُ وَتِلَاوَتُهُ بِخِلَافِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي يُتْلَى وَقَدْ نَسَخَ مَا نَسَخَ مِنْ حُكْمِهِ أَوْ نَسَخَ تِلَاوَتَهُ وَلَمْ يَنْسَ وَفِي النَّسْخِ وَالْإِنْسَاءِ نَقُصُّ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا نَقْصَ فِي ذَلِكَ بَلْ كُلُّ مَا نَسَخَ أَوْ يَنْسَى فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُونَ فِي نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لَا تَنْقُصُ بَلْ تَزِيدُ فَإِنَّهُ إذَا أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا زَادَتْ النِّعْمَةُ وَإِنْ أَتَى بِمِثْلِهَا كَانَتْ النِّعْمَةُ بَاقِيَةً وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } فَأَضَافَ الْإِنْسَاءَ إلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا الْإِنْسَاءَ لَيْسَ مَذْمُومًا بِخِلَافِ نِسْيَانِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ [ ص: 185 ] فَإِنَّ هَذَا إنْسَاءٌ لِمَا رَفَعَهُ اللَّهُ وَأَمَّا نِسْيَانُ مَا أَمَرَ بِحِفْظِهِ فَمَذْمُومٌ nindex.php?page=treesubj&link=28897_28913_28991قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=126كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَهَذَا النِّسْيَانُ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا مَعَ حِفْظِهَا فَإِذَا نُسِيَتْ الْآيَاتُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يُعْرَفُ مَا فِيهَا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا فَكَانَ هَذَا مَذْمُومًا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597978مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ } وَلِهَذَا كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضِيفَ الْإِنْسَانُ النِّسْيَانَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=103324بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ : نَسِيت آيَةَ كَيْت وَكَيْت بَلْ هُوَ أَنْسَى . اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا } ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } هُوَ مَا تَرَكَ تِلَاوَتَهُ وَرَسْمَهُ وَنَسْخَ حُكْمِهِ وَمَا أَنْسَى هُوَ مَا رَفَعَ فَلَا يُتْلَى . وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ فِي الْأَوَّلِ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا .
فَالْأَوَّلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَصْحَابِ nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَرَوَى النَّاسُ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قَالَ : نُثْبِتُ خَطَّهَا وَنُبَدِّلُ حُكْمَهَا قَالَ : وَهُوَ قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نَمْحُوهَا فَإِنَّ مَا نُسِيَ لَمْ يُتْرَكْ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ [ ص: 186 ] وَيَنْسَاهُ بِالنَّهَارِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } } . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وقتادة وَعِكْرِمَةَ . وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْرَؤُهَا أَوْ تُنْسِهَا بِالْخِطَابِ أَيْ تُنْسِهَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَتَلَا قَوْلَهُ : nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=6سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى وَقَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=24وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ { كَانَ يَحْفَظُ قُرْآنًا ثُمَّ يَنْسَاهُ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ : إنَّهُ رُفِعَ } مِثْلَ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيّ : حَدَّثَنِي أَبُو أمامة بْنُ سَهْلِ بْنِ حنيف فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَهُ سُورَةٌ فَقَامَ يَقْرَؤُهَا مِنْ اللَّيْلِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَأَصْبَحُوا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : ذَهَبْت الْبَارِحَةَ لِأَقْرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَالَ الْآخَرُ : مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ وَقَالَ الْآخَرُ : مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ وَقَالَ الْآخَرُ : وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا نُسِخَتْ الْبَارِحَةَ } وَقَوْلُهُ : أَوْ نَنْسَؤُهَا النَّسْءُ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ
وَفِيهِ قَوْلَانِ السَّلَفُ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ يُرْوَى عَنْ طَائِفَةٍ قَالَ السدي : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قَالَ : نَسْخُهَا قَبْضُهَا أَوْ نَنْسَؤُهَا فَنَتْرُكُهَا لَا نَنْسَخُهَا { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ } مِنْ [ ص: 187 ] الَّذِي نَسَخْنَاهُ أَوْ مِثْلِ الَّذِي تَرَكْنَاهُ . وَكَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } يَقُولُ مَا نُبَدِّلْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَتْرُكْهَا فَلَا نَرْفَعُهَا مِنْ عِنْدِكُمْ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَسَّرَ بِهَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَةَ الْأُولَى فَقَالُوا : مَعْنَى نُنْسِهَا نَتْرُكُهَا عِنْدَكُمْ فَإِنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ .
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ نُنْسِهَا نَأْمُرُ بِتَرْكِهَا . يُقَالُ أَنْسَيْت الشَّيْءَ وَأَنْشَدَ :
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : خَطَبَنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَقُولُ اللَّهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُؤَخِّرُهَا . وَبِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=11873أَبِي الْعَالِيَةِ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فَلَا يُعْمَلُ بِهَا { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُرْجِئُهَا عِنْدَنَا وَفِي لَفْظٍ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=11873أَبِي الْعَالِيَةِ : نُؤَخِّرُهَا عِنْدَنَا . وَعَنْ عَطَاءٍ : نُؤَخِّرُهَا .
وَقَدْ ذُكِرَ قَوْلٌ ثَالِثٌ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلٌ رَابِعُ أَنَّ الْمَعْنَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } وَهُوَ مَا أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكُمْ وَلَا نَرْفَعُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُؤَخِّرُ تَنْزِيلَهُ فَلَا نُنَزِّلُهُ . وَنَقَلَ هَذَا بَعْضُهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ أَمَّا [ ص: 188 ] { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فَهُوَ مَا قَدْ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ جَعَلَاهُ مِنْ النسخة { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُؤَخِّرُهَا فَلَا يَكُونُ وَهُوَ مَا لَمْ يُنَزِّلْ . وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ رَوَى بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ عَطَاءٍ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } أَمَّا مَا نُسِخَ فَهُوَ مَا تُرِكَ مِنْ الْقُرْآنِ ( بِالْكَافِ وَكَأَنَّهُ تَصَحُّفٌ عَلَى مَنْ ظَنَّهُ نَزَلَ مِنْ النُّزُولِ فَإِنَّ لَفْظَ تُرِكَ فِيهِ إبْهَامٌ . وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : يَعْنِي تَرَكَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ مُرَادُ عَطَاءٍ هَذَا وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ تَرَكَ مَكْتُوبًا مَتْلُوًّا وَنُسِخَ حُكْمُهُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِهِ وَمَا أَنْسَأَهُ هُوَ مَا أَخَّرَهُ لَمْ يُنْزِلْهُ . وَسَعِيدٌ وَعَطَاءٌ مِنْ أَعْلَمِ التَّابِعِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا هَذَا . وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } وَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ غَلِطَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ فَسَرَّهَا بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ مَا نَنْسَخْ نَجْعَلُكُمْ تَنْسَخُونَهَا كَمَا يُقَالُ أَكْتَبْته هَذَا . وَقِيلَ : أَنْسَخُ جَعَلَهُ مَنْسُوخًا كَمَا يُقَالُ : قَبَرَهُ إذَا أَرَادَ دَفْنَهُ وَأَقْبَرَهُ أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا . وَطَرَدَهُ إذَا نَفَاهُ وَأَطْرَدَهُ إذَا جَعَلَهُ طَرِيدًا . وَهَذَا أَشْبَهُ بِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ . وَالصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ أَوْ نَنْسَؤُهَا أَيْ نُؤَخِّرُهَا عِنْدَنَا فَلَا نُنْزِلُهَا . وَالْمَعْنَى : أَنَّ مَا نَنْسَخُهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا أَوْ نُؤَخِّرُ نُزُولَهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَمْ نُنَزِّلْهَا بَعْدَ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَكَمَا أَنَّهُ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ الْمَرْفُوعِ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ بَعْدُ إلَى أَنْ يُنَزِّلَهُ [ ص: 189 ] فَإِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَ نُزُولِهِ فَيُعَوِّضُهُمْ بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ نُزُولِهِ فَيُنْزِلُهُ أَيْضًا مَعَ مَا تَقَدَّمَ وَيَكُونُ مَا عَوَّضَهُ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ نُزُولِهِ . وَأَمَّا مَا أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَنْسَخْهُ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَدَلٍ وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا لَمْ يَنْسَخْهُ اللَّهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ لَزِمَ إنْزَالُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ . وَكَذَلِكَ إنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُرَادَ يُؤَخِّرُ نَسْخَهُ إلَى وَقْتٍ ثُمَّ يَنْسَخُهُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى بَدَلٍ يَكُونُ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ وَإِنَّمَا الْبَدَلُ لِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِمَّا أَنْسَوْهُ أَوْ أَخَّرَ نُزُولَهُ فَلَمْ يُنْزِلْهُ بَعْدُ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ الْبَدَلَ لِكُلِّ مَا لَمْ يُنْزِلْهُ بَلْ لِمَا نَسَأَهُ فَأَخَّرَ نُزُولَهُ إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا لَمْ يَنْزِلْ يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ لَزِمَ إنْزَالُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ بَلْ مَا كَانَ يُعْلَمُ أَنَّهُ سَيُنْزِلُهُ وَقَدْ أَخَّرَ نُزُولَهُ يَكُونُونَ فَاقِدِيهِ إلَى حِينِ يَنْزِلُ كَمَا يَفْقِدُونَ مَا نَزَلَ ثُمَّ نُسِخَ فَيَجْعَلُ سُبْحَانَهُ لِهَذَا بَدَلًا وَلِهَذَا بَدَلًا . وَأَمَّا مَا أَنْزَلَهُ وَأَقَرَّهُ عِنْدَهُمْ وَأَخَّرَ نُسَخَهُ إلَى وَقْتٍ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَدَلٍ فَإِنَّهُ نَفْسُهُ بَاقٍ . وَلَوْ كَانَ هَذَا مُرَادًا لَكَانَ كُلُّ قُرْآنٍ قَدْ نَسَخَهُ يَجِبُ أَنْ يَنْزِلَ قَبْلَ نَسْخِهِ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ ثُمَّ إذَا نَسَخَهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَيَكُونُ لِكُلِّ مَنْسُوخٍ بَدَلَانِ : بَدَلٌ قَبْلَ نَسْخِهِ وَبَدَلٌ بَعْدَ نَسْخِهِ . وَالْبَدَلُ الَّذِي قَبْلَ نَسْخِهِ لَا ابْتِدَاءَ لِنُزُولِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ نُزُولُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي أَوَّلِ الْوَحْيِ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا .
[ ص: 190 ] فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَلْزَمُ فِيمَا أَخَّرَهُ فَلَمْ يُنْزِلْهُ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا وَلَا وَقْتَ لِنُزُولِ ذَلِكَ الْبَدَلِ قِيلَ : مَا أَخَّرَ نُزُولِهِ وَهُوَ يُرِيدُ إنْزَالَهُ مَعْلُومٌ وَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ يُؤْتَى بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَا زَالَ يَنْزِلُ وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا أَخَّرَ نُزُولَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْزِلَ قَبْلَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ الْقُرْآنِ نُزُولُهُ لَمْ يُنْسَخْ كَثِيرٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ كَالْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَأُصُولِ الشَّرَائِعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ كَمَسَائِلِ الرِّبَا وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذَا الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ مِثْلَ آيَةِ الرِّبَا فَإِنَّهَا مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ وَكَذَلِكَ آيَةُ الدَّيْنِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ قَبْلَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مِنْ الشَّرَائِعِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا وَفِيهَا مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا . وَلِهَذَا كَانَتْ سُورَةُ " الْأَنْعَامِ " أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا وَكَذَلِكَ سُورَةُ " يس " وَنَحْوُهَا مِنْ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا أُصُولُ الدِّينِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَلِهَذَا كَانَتْ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ فِيهَا التَّوْحِيدَ فَعُلِمَ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566_28860_28889آيَاتِ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِلَا رَيْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ [ ص: 191 ] تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597982هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيته } وَسُورَةُ الْحِجْرِ مَكِّيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَفِيهَا كَلَامُ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَحَالُهُ مَعَهُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ اللَّهُ يَنْسَؤُهُ فَيُؤَخِّرُ نُزُولَهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَهُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ و { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } مَكِّيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : الْفَاتِحَةُ لَمْ تَنْزِلْ إلَّا بِالْمَدِينَةِ غَلَطٌ بِلَا رَيْبٍ . وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّنَا عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ مَنْ قَالَ إنَّهَا مَكِّيَّةٌ مَعَهُ زِيَادَةُ عَلَمٍ .
{ nindex.php?page=hadith&LINKID=597976وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ أبيا أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ } فَأَجَابَهُ أبي بِأَنَّهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597977ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } . وَلَمْ يَسْتَشْكِلْ أبي وَلَا غَيْرُهُ السُّؤَالَ عَنْ كَوْنِ بَعْضِ الْقُرْآنِ أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ بَلْ شَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِلْمِ لِمَنْ عَرَفَ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَعَرَفَ أَفْضَلَ الْآيَاتِ وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=29566_29571_28973_28913قَوْلُهُ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } . وَمَا رَأَيْتهمْ تَنَازَعُوا فِي تَفْسِيرِ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106بِخَيْرٍ مِنْهَا } . فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ : قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِينَ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } مَنْ أَنْسَاهُ يُنْسِيهِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو ( أَوْ نَنْسَأهَا بِالْهَمْزِ مِنْ نَسَأَهُ يَنْسَأهُ . فَالْأَوَّلُ مِنْ النِّسْيَانِ وَالثَّانِي مِنْ نَسَأَ إذَا أَخَّرَ . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : نَسَأْته نَسْئًا إذَا أَخَّرْته . وَكَذَلِكَ أَنْسَأْته يُقَالُ نَسَأْته الْبَيْعَ وَأَنْسَأْته . قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ وَنَسَأَ فِي أَجَلِهِ بِمَعْنَى . وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ . وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ : مَنْ أَرَادَ النَّسَاءَ وَلَا نَسَاءً فَلْيُبَكِّرْ الْغَدَاءَ وَلْيُخَفِّفْ الرِّدَاءَ وَلْيُقَلِّلْ مِنْ غَشَيَانِ النَّسَاءِ . فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : الْمُرَادُ بِهِ مَا أَنْسَاهُ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ فَإِنَّ مَا يَرْفَعُ [ ص: 184 ] مِنْ الْقُرْآنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعًا شَرْعِيًّا بِإِزَالَتِهِ مِنْ الْقُلُوبِ وَهُوَ الْإِنْسَاءُ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا يَنْسَخُهُ أَوْ يُنْسِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ بَيَّنَ ذَلِكَ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=105مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } فَنَهَاهُمْ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُوءِ أَدَبِهِمْ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لِحَسَدِهِمْ مَا يَوَدُّونَ أَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ بِنِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُرْآنِ يُنْسَخُ وَبَعْضُهُ يُنْسَى - كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ - وَمَا أَنْسَاهُ سُبْحَانَهُ هُوَ مِمَّا نَسَخَ حُكْمَهُ وَتِلَاوَتُهُ بِخِلَافِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي يُتْلَى وَقَدْ نَسَخَ مَا نَسَخَ مِنْ حُكْمِهِ أَوْ نَسَخَ تِلَاوَتَهُ وَلَمْ يَنْسَ وَفِي النَّسْخِ وَالْإِنْسَاءِ نَقُصُّ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا نَقْصَ فِي ذَلِكَ بَلْ كُلُّ مَا نَسَخَ أَوْ يَنْسَى فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُونَ فِي نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لَا تَنْقُصُ بَلْ تَزِيدُ فَإِنَّهُ إذَا أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا زَادَتْ النِّعْمَةُ وَإِنْ أَتَى بِمِثْلِهَا كَانَتْ النِّعْمَةُ بَاقِيَةً وَقَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } فَأَضَافَ الْإِنْسَاءَ إلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا الْإِنْسَاءَ لَيْسَ مَذْمُومًا بِخِلَافِ نِسْيَانِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ [ ص: 185 ] فَإِنَّ هَذَا إنْسَاءٌ لِمَا رَفَعَهُ اللَّهُ وَأَمَّا نِسْيَانُ مَا أَمَرَ بِحِفْظِهِ فَمَذْمُومٌ nindex.php?page=treesubj&link=28897_28913_28991قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=126كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَهَذَا النِّسْيَانُ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا مَعَ حِفْظِهَا فَإِذَا نُسِيَتْ الْآيَاتُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يُعْرَفُ مَا فِيهَا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا فَكَانَ هَذَا مَذْمُومًا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=597978مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ } وَلِهَذَا كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضِيفَ الْإِنْسَانُ النِّسْيَانَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { nindex.php?page=hadith&LINKID=103324بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ : نَسِيت آيَةَ كَيْت وَكَيْت بَلْ هُوَ أَنْسَى . اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا } ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } هُوَ مَا تَرَكَ تِلَاوَتَهُ وَرَسْمَهُ وَنَسْخَ حُكْمِهِ وَمَا أَنْسَى هُوَ مَا رَفَعَ فَلَا يُتْلَى . وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ فِي الْأَوَّلِ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا .
فَالْأَوَّلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَصْحَابِ nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَرَوَى النَّاسُ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قَالَ : نُثْبِتُ خَطَّهَا وَنُبَدِّلُ حُكْمَهَا قَالَ : وَهُوَ قَوْلُ nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نَمْحُوهَا فَإِنَّ مَا نُسِيَ لَمْ يُتْرَكْ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ [ ص: 186 ] وَيَنْسَاهُ بِالنَّهَارِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } } . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وقتادة وَعِكْرِمَةَ . وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْرَؤُهَا أَوْ تُنْسِهَا بِالْخِطَابِ أَيْ تُنْسِهَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَتَلَا قَوْلَهُ : nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=6سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى وَقَوْلَهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=24وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ { كَانَ يَحْفَظُ قُرْآنًا ثُمَّ يَنْسَاهُ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ : إنَّهُ رُفِعَ } مِثْلَ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيّ : حَدَّثَنِي أَبُو أمامة بْنُ سَهْلِ بْنِ حنيف فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَهُ سُورَةٌ فَقَامَ يَقْرَؤُهَا مِنْ اللَّيْلِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَأَصْبَحُوا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : ذَهَبْت الْبَارِحَةَ لِأَقْرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَالَ الْآخَرُ : مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ وَقَالَ الْآخَرُ : مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ وَقَالَ الْآخَرُ : وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا نُسِخَتْ الْبَارِحَةَ } وَقَوْلُهُ : أَوْ نَنْسَؤُهَا النَّسْءُ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ
وَفِيهِ قَوْلَانِ السَّلَفُ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ يُرْوَى عَنْ طَائِفَةٍ قَالَ السدي : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } قَالَ : نَسْخُهَا قَبْضُهَا أَوْ نَنْسَؤُهَا فَنَتْرُكُهَا لَا نَنْسَخُهَا { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ } مِنْ [ ص: 187 ] الَّذِي نَسَخْنَاهُ أَوْ مِثْلِ الَّذِي تَرَكْنَاهُ . وَكَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } يَقُولُ مَا نُبَدِّلْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَتْرُكْهَا فَلَا نَرْفَعُهَا مِنْ عِنْدِكُمْ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَسَّرَ بِهَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَةَ الْأُولَى فَقَالُوا : مَعْنَى نُنْسِهَا نَتْرُكُهَا عِنْدَكُمْ فَإِنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ .
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ نُنْسِهَا نَأْمُرُ بِتَرْكِهَا . يُقَالُ أَنْسَيْت الشَّيْءَ وَأَنْشَدَ :
إنِّي عَلَى عُقْبَةَ أَقْضِيهَا لِسِتِّ بِنَاسِيهَا وَلَا مُنْسِيهَا
أَيْ وَلَا آمُرُ بِتَرْكِهَا . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ نُؤَخِّرُهَا عَنْ الْعَمَلِ بِهَا بِنَسْخِنَا إيَّاهَا . وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوْسَطُ .رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : خَطَبَنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَقُولُ اللَّهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُؤَخِّرُهَا . وَبِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=11873أَبِي الْعَالِيَةِ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فَلَا يُعْمَلُ بِهَا { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُرْجِئُهَا عِنْدَنَا وَفِي لَفْظٍ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=11873أَبِي الْعَالِيَةِ : نُؤَخِّرُهَا عِنْدَنَا . وَعَنْ عَطَاءٍ : نُؤَخِّرُهَا .
وَقَدْ ذُكِرَ قَوْلٌ ثَالِثٌ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ قَوْلٌ رَابِعُ أَنَّ الْمَعْنَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } وَهُوَ مَا أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكُمْ وَلَا نَرْفَعُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُؤَخِّرُ تَنْزِيلَهُ فَلَا نُنَزِّلُهُ . وَنَقَلَ هَذَا بَعْضُهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ أَمَّا [ ص: 188 ] { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } فَهُوَ مَا قَدْ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ جَعَلَاهُ مِنْ النسخة { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أَوْ نُنْسِهَا } أَيْ نُؤَخِّرُهَا فَلَا يَكُونُ وَهُوَ مَا لَمْ يُنَزِّلْ . وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ رَوَى بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ عَطَاءٍ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } أَمَّا مَا نُسِخَ فَهُوَ مَا تُرِكَ مِنْ الْقُرْآنِ ( بِالْكَافِ وَكَأَنَّهُ تَصَحُّفٌ عَلَى مَنْ ظَنَّهُ نَزَلَ مِنْ النُّزُولِ فَإِنَّ لَفْظَ تُرِكَ فِيهِ إبْهَامٌ . وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : يَعْنِي تَرَكَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ مُرَادُ عَطَاءٍ هَذَا وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ تَرَكَ مَكْتُوبًا مَتْلُوًّا وَنُسِخَ حُكْمُهُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِهِ وَمَا أَنْسَأَهُ هُوَ مَا أَخَّرَهُ لَمْ يُنْزِلْهُ . وَسَعِيدٌ وَعَطَاءٌ مِنْ أَعْلَمِ التَّابِعِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا هَذَا . وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } وَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ غَلِطَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ فَسَرَّهَا بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ مَا نَنْسَخْ نَجْعَلُكُمْ تَنْسَخُونَهَا كَمَا يُقَالُ أَكْتَبْته هَذَا . وَقِيلَ : أَنْسَخُ جَعَلَهُ مَنْسُوخًا كَمَا يُقَالُ : قَبَرَهُ إذَا أَرَادَ دَفْنَهُ وَأَقْبَرَهُ أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا . وَطَرَدَهُ إذَا نَفَاهُ وَأَطْرَدَهُ إذَا جَعَلَهُ طَرِيدًا . وَهَذَا أَشْبَهُ بِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ . وَالصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ أَوْ نَنْسَؤُهَا أَيْ نُؤَخِّرُهَا عِنْدَنَا فَلَا نُنْزِلُهَا . وَالْمَعْنَى : أَنَّ مَا نَنْسَخُهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا أَوْ نُؤَخِّرُ نُزُولَهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَمْ نُنَزِّلْهَا بَعْدَ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَكَمَا أَنَّهُ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ الْمَرْفُوعِ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ بَعْدُ إلَى أَنْ يُنَزِّلَهُ [ ص: 189 ] فَإِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَ نُزُولِهِ فَيُعَوِّضُهُمْ بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ نُزُولِهِ فَيُنْزِلُهُ أَيْضًا مَعَ مَا تَقَدَّمَ وَيَكُونُ مَا عَوَّضَهُ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ نُزُولِهِ . وَأَمَّا مَا أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَنْسَخْهُ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَدَلٍ وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا لَمْ يَنْسَخْهُ اللَّهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ لَزِمَ إنْزَالُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ . وَكَذَلِكَ إنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُرَادَ يُؤَخِّرُ نَسْخَهُ إلَى وَقْتٍ ثُمَّ يَنْسَخُهُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى بَدَلٍ يَكُونُ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ وَإِنَّمَا الْبَدَلُ لِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِمَّا أَنْسَوْهُ أَوْ أَخَّرَ نُزُولَهُ فَلَمْ يُنْزِلْهُ بَعْدُ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ الْبَدَلَ لِكُلِّ مَا لَمْ يُنْزِلْهُ بَلْ لِمَا نَسَأَهُ فَأَخَّرَ نُزُولَهُ إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا لَمْ يَنْزِلْ يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ لَزِمَ إنْزَالُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ بَلْ مَا كَانَ يُعْلَمُ أَنَّهُ سَيُنْزِلُهُ وَقَدْ أَخَّرَ نُزُولَهُ يَكُونُونَ فَاقِدِيهِ إلَى حِينِ يَنْزِلُ كَمَا يَفْقِدُونَ مَا نَزَلَ ثُمَّ نُسِخَ فَيَجْعَلُ سُبْحَانَهُ لِهَذَا بَدَلًا وَلِهَذَا بَدَلًا . وَأَمَّا مَا أَنْزَلَهُ وَأَقَرَّهُ عِنْدَهُمْ وَأَخَّرَ نُسَخَهُ إلَى وَقْتٍ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَدَلٍ فَإِنَّهُ نَفْسُهُ بَاقٍ . وَلَوْ كَانَ هَذَا مُرَادًا لَكَانَ كُلُّ قُرْآنٍ قَدْ نَسَخَهُ يَجِبُ أَنْ يَنْزِلَ قَبْلَ نَسْخِهِ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ ثُمَّ إذَا نَسَخَهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَيَكُونُ لِكُلِّ مَنْسُوخٍ بَدَلَانِ : بَدَلٌ قَبْلَ نَسْخِهِ وَبَدَلٌ بَعْدَ نَسْخِهِ . وَالْبَدَلُ الَّذِي قَبْلَ نَسْخِهِ لَا ابْتِدَاءَ لِنُزُولِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ نُزُولُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي أَوَّلِ الْوَحْيِ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا .
[ ص: 190 ] فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَلْزَمُ فِيمَا أَخَّرَهُ فَلَمْ يُنْزِلْهُ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا وَلَا وَقْتَ لِنُزُولِ ذَلِكَ الْبَدَلِ قِيلَ : مَا أَخَّرَ نُزُولِهِ وَهُوَ يُرِيدُ إنْزَالَهُ مَعْلُومٌ وَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ يُؤْتَى بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَا زَالَ يَنْزِلُ وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا أَخَّرَ نُزُولَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْزِلَ قَبْلَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ الْقُرْآنِ نُزُولُهُ لَمْ يُنْسَخْ كَثِيرٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ كَالْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَأُصُولِ الشَّرَائِعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ كَمَسَائِلِ الرِّبَا وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذَا الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ مِثْلَ آيَةِ الرِّبَا فَإِنَّهَا مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ وَكَذَلِكَ آيَةُ الدَّيْنِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ قَبْلَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مِنْ الشَّرَائِعِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا وَفِيهَا مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا . وَلِهَذَا كَانَتْ سُورَةُ " الْأَنْعَامِ " أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا وَكَذَلِكَ سُورَةُ " يس " وَنَحْوُهَا مِنْ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا أُصُولُ الدِّينِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَلِهَذَا كَانَتْ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ فِيهَا التَّوْحِيدَ فَعُلِمَ أَنَّ nindex.php?page=treesubj&link=29566_28860_28889آيَاتِ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِلَا رَيْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ [ ص: 191 ] تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597982هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيته } وَسُورَةُ الْحِجْرِ مَكِّيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَفِيهَا كَلَامُ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَحَالُهُ مَعَهُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ اللَّهُ يَنْسَؤُهُ فَيُؤَخِّرُ نُزُولَهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَهُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ و { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } مَكِّيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : الْفَاتِحَةُ لَمْ تَنْزِلْ إلَّا بِالْمَدِينَةِ غَلَطٌ بِلَا رَيْبٍ . وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّنَا عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ مَنْ قَالَ إنَّهَا مَكِّيَّةٌ مَعَهُ زِيَادَةُ عَلَمٍ .
nindex.php?page=treesubj&link=29083_28889وَسُورَةُ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ . وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا سُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ وَسُؤَالُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا بِمَكَّةَ أَوَّلًا ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ نَحْوَ ذَلِكَ أَنْزَلَهَا مَرَّةً أُخْرَى . وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا : إنَّ الْآيَةَ أَوْ السُّورَةَ قَدْ تَنْزِلُ مَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . فَمَا يُذْكَرُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ الْمُتَعَدِّدَةِ قَدْ يَكُونُ جَمِيعُهُ حَقًّا . وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَدَثَ سَبَبٌ يُنَاسِبُهَا نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ لِيُعَلِّمَهُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ جَوَابَ ذَلِكَ السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ يَحْفَظُهَا قَبْلَ ذَلِكَ . [ ص: 192 ] وَالْوَاحِدُ مِنَّا قَدْ يَسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَذْكُرُ لَهُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ لِيُبَيِّنَ لَهُ دَلَالَةَ النَّصِّ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ حَافِظٌ لِذَلِكَ لَكِنْ يُتْلَى عَلَيْهِ ذَلِكَ النَّصُّ لِيَتَبَيَّنَ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَدَلَ لَمَّا أَخَّرَ نُزُولَهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ لَمْ يُنْسَخْ فَإِنَّ هَذَا لَا بَدَلَ لَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَيُنْسَخُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ مُحْكَمًا لَمْ يَكُنْ بَدَلُهُ خَيْرًا مِنْهُ . وَكَذَلِكَ الْبَدَلُ عَنْ الْمَنْسُوخِ يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ أَطْلَقُوا لَفْظَ " خَيْرٍ مِنْهَا " كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَسْتَشْكِلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَفِي تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ : خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَرْفُقُ بِكُمْ . وَعَنْ قتادة { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } آيَةٌ فِيهَا تَخْفِيفٌ فِيهَا رُخْصَةٌ فِيهَا أَمْرٌ فِيهَا نَهْيٌ . وَهَذَانِ لَمْ يَسْتَشْكِلَا كَوْنَهَا خَيْرًا مِنْ الْأُولَى بَلْ بَيَّنَا وَجْهَ الْفَضِيلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَمْرِيَّ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ الْمَطْلُوبِ فَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنْفَعَ لِلْمَأْمُورِ كَانَ طَلَبُهُ أَفْضَلَ كَمَا أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَضَبِهِ . فَمَا قَالَاهُ تَقْرِيرٌ لِلْخَيْرِيَّةِ لَا نَفْيَ لَهَا . فَإِنْ قِيلَ : فَآيَةُ الْكُرْسِيِّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ - فَقَدْ أَخَّرَ نُزُولَهَا وَلَمْ يَنْزِلْ قَبْلَهَا مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَلَا مِثْلُهَا .
قِيلَ : عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ : [ ص: 193 ] أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَمْ يَقُلْ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا بَلْ يَأْتِي بِقُرْآنِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ الْآيَاتِ فَقَدْ يَكُونُ مَجْمُوعُ آيَاتٍ أَفْضَلَ مِنْهَا . وَالْبَقَرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا رَيْب أَنَّ هَذَا فِي بَعْضِ مَا نَزَلَ وَإِلَّا فَتَحْرِيمُ الرِّبَا إنَّمَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا .
nindex.php?page=treesubj&link=28860_28889_28973وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=281وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ } مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ . وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ كَانَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقِصَّةُ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ بَلْ عَلَى الْخَنْدَقِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَنْ الْخَنْدَقِ أَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ فَهُمْ الَّذِينَ حَاصَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ الْخَنْدَقِ وَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=28889_28889_29028سُورَةُ الْحَدِيدِ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا إنَّمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ كَثِيرٍ مِنْ الْبَقَرَةِ . فَفِي الْجُمْلَةِ نُزُولُ أَوَّلِ الْحَدِيدِ وَآخِرِ الْحَشْرِ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مُمْكِنٌ وَالْأَنْعَامِ وَيس وَغَيْرُهَا نَزَلَ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِالِاتِّفَاقِ . الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا وَعَدَ أَنَّهُ إذَا نَسَخَ آيَةً أَوْ نَسَأَهَا أَتَى [ ص: 194 ] بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا لَمَّا أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ nindex.php?page=treesubj&link=28973_28913_22177_22189_22201_27881قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ تَضَمَّنَتْ وَعْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمِيعَادُ . فَمَا نَسَخَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ أَنْسَأَ نُزُولَهُ مِمَّا يُرِيدُ إنْزَالَهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ .
وَأَمَّا مَا نَسَخَهُ قَبْلَ هَذِهِ أَوْ أَنْسَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ وَعَدَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ . وَبِهَذَا أَيْضًا يَنْدَفِعُ الْجَوَابُ عَنْ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا عَنْ سُورَةِ { nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْهَا . فَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ إنْزَالُ الْفَاضِلِ وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ نَزَلَ قَبْلَهُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ . لَكِنْ إذَا كَانَ الْمَوْعُودُ بِهِ بَعْدَ الْوَعْدِ لَمْ يَرُدَّ هَذَا السُّؤَالَ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ } فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَجْزُومَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ وَجَوَازِمَ الْفِعْلِ " إنَّ " وَأَخَوَاتِهَا وَنَوَاصِبَهُ تَخَلُّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ .
وَقَدْ يُجَابُ بِجَوَابِ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : مَا نَزَلَ فِي وَقْتِهِ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ خَيْرًا لَهُمْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ فَضْلُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : لَازِمٌ كَفَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ و { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَفَضْلٌ عَارِضٌ بِحَيْثُ تَكُونُ هَذِهِ أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ وَهَذِهِ أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا قَدْ يُقَالُ فِي آيَةِ التَّخْيِيرِ لِلْمُقِيمِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ مَعَ الْفِدْيَةِ وَمَعَ آيَةِ إيجَابِ الصَّوْمِ عَزْمًا .
وَهَذَا كَمَا أَنَّ [ ص: 195 ] الْأَفْعَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا كُلٌّ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ أَفْضَلُ فَالصَّلَاةُ إلَى الْقُدْسِ قَبْلَ النَّسْخِ كَانَتْ أَفْضَلَ وَبَعْدَ النَّسْخِ الصَّلَاةُ إلَى الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ . وَعَلَى مَا ذُكِرَ فَيَتَوَجَّهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآنٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَد بَلْ هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عَنْهُ صَرِيحًا أَنْ لَا يَنْسَخَ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآنٌ يَجِيءُ بَعْدَهُ وَعَلَيْهَا عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَنْسُوخِ مِنْ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ أَوْ خَيْرٍ وَوَعْدٍ بِأَنَّ مَا أَنْسَاهُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ كَذَلِكَ وَأَنَّ مَا أَخَّرَهُ فَلَمْ يَأْتِ وَقْتُ نُزُولِهِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الْقُرْآنُ الَّذِي رُفِعَ أَوْ آخَرُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَلَوْ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ فَهُوَ خِلَافُ مَا وَعَدَ اللَّهُ . وَإِنْ قِيلَ بَلْ يَأْتِي بَعْدَ نَسْخِهِ بِالسُّنَّةِ كَانَ بَيْنَ نَسْخِهِ وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ مُدَّةٌ خَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ مَقْصُودِ الْآيَةِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَرْفُوعِ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ { نَأْتِ } لَمْ يَرِدْ بِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ فَإِنَّ الَّذِي نَسَأَهُ وَهُوَ يُرِيدُ إنْزَالَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُنْزِلُهُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ مَا أَخَّرَهُ يَأْتِي بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ قَبْلَ نُزُولِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ الْأَمْرَ بِلَا بَدَلٍ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُدَّةً بِلَا بَدَلٍ لَكَانَ مَا لَمْ يُنْزِلْ أَحَقَّ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بَدَلٌ مِنْ الْمَنْسُوخِ فَلَمَّا كَانَ ذَاكَ قَدْ حَصَلَ لَهُ بَدَلٌ قَبْلَ وَقْتِ نُزُولِهِ لِتَكْمِيلِ الْإِنْعَامِ فَلَأَنْ يَكُونُ الْبَدَلُ لَمَّا نُسِخَ مِنْ [ ص: 196 ] حِينِ نُسِخَ بَعْدُ أَوْلَى وَأَحْرَى وَلِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَلَوْ كَانَ مَا يُنْزِلُهُ بَدَلًا عَنْ الْمَنْسُوخِ يُؤَخِّرُهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ بَدَلٌ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ الْبَدَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَائِدَةٌ إلَّا كَالْفَائِدَةِ الْمَعْلُومَةِ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ . غَايَةُ مَا يُقَالُ : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ لَجَازَ أَنْ لَا يَنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَإِذَا نُسِخَ شَيْءٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَدَلِهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ . وَهَذَا مِمَّا يَعْتَقِدُونَهُ فَإِنَّهُمْ قَدْ اعْتَادُوا نُزُولَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ وَالْمَسَائِلِ وَالْحَاجَةِ فَمَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ - إذَا نُسِخَتْ آيَةٌ - أَنْ لَا يُنْزَلْ بَعْدَهَا شَيْءٌ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُنْسَخْ لَمْ يَظُنُّوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَظُنُّونَ إذَا نُسِخَتْ ؟ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ ضَمِنَ لَهُمْ الْإِتْيَانَ بِالْبَدَلِ عَنْ الْمَنْسُوخِ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهُمْ شَيْءٌ مِمَّا أَنْزَلَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مِثْلِ الْمَرْفُوعِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ وَلَوْ بَقُوا مُدَّةً بِلَا بَدَلٍ لَنَقَصُوا .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا وَعْدٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ وَالْوَعْدُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ يَلْزَمُ عَقِبَهُ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُ فِيهِ أَدَاءُ الْعِوَضِ عَلَى الْفَوْرِ إذَا قَبَضَ الْمُعَوَّضَ كَمَا إذَا قَالَ : مَا أَلْقَيْت مِنْ مَتَاعِك فِي الْبَحْرِ فَعَلَيَّ بَدَلُهُ وَلَيْسَ هَذَا وَعْدًا مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ مِائَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا آخُذُ مِنْك شَيْئًا إلَّا أَعْطَيْتُك بَدَلَهُ فَإِنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ . [ ص: 197 ] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ عِلْمَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إنَّمَا يَذْكُرُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِقُرْآنِ لَا يَذْكُرُونَ نَسْخَهُ بِلَا قُرْآنٍ بَلْ بِسُنَّةٍ وَهَذِهِ كُتُبُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْهُمْ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ هَذَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْقَاصِّ : هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَلَوْ كَانَ نَاسِخُ الْقُرْآنِ غَيْرَ الْقُرْآنِ لَوَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ أَيْضًا . وَأَيْضًا الَّذِينَ جَوَّزُوا nindex.php?page=treesubj&link=28913نَسْخَ الْقُرْآنِ بِلَا قُرْآنٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ إنَّمَا عُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُ ذَلِكَ وَعَدَمُ الْمَانِعِ الَّذِي يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ لَا يَقْتَضِي الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ مَا لَا عُلِمَ لِلْعَقْلِ بِهِ وَقَدْ يُعْلَمُ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ الَّتِي عُلِمَتْ بِالشَّرْعِ مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ جَوَّزُوا ذَلِكَ عَقْلًا مُخْتَلِفِينَ فِي وُقُوعِهِ شَرْعًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِهَا شَرْعًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّاسِخَ مُهَيْمِنٌ عَلَى الْمَنْسُوخِ قَاضٍ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ بِتَصْدِيقِ مَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَإِقْرَارِ مَا أَقَرَّهُ وَنَسْخِ مَا نَسَخَهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ . فَلَوْ كَانَتْ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِلْكِتَابِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ . [ ص: 198 ] وَأَيْضًا فَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ نَسَخَهُ إلَّا قُرْآنٌ . nindex.php?page=treesubj&link=28913وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=13تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=14وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . وَالْفَرَائِضُ الْمُقَدَّرَةُ مِنْ حُدُودِهِ وَلِهَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ فَمَنْ أَعْطَى صَاحِبَ الْفَرَائِضِ أَكْثَرَ مِنْ فَرْضِهِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ بِأَنْ نَقَصَ هَذَا حَقَّهُ وَزَاد هَذَا عَلَى حَقِّهِ فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهُوَ النَّاسِخُ .
قِيلَ : عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ : [ ص: 193 ] أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَمْ يَقُلْ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا بَلْ يَأْتِي بِقُرْآنِ خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا . وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ الْآيَاتِ فَقَدْ يَكُونُ مَجْمُوعُ آيَاتٍ أَفْضَلَ مِنْهَا . وَالْبَقَرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا رَيْب أَنَّ هَذَا فِي بَعْضِ مَا نَزَلَ وَإِلَّا فَتَحْرِيمُ الرِّبَا إنَّمَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا .
nindex.php?page=treesubj&link=28860_28889_28973وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=281وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ } مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ . وَقَوْلُهُ : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ كَانَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقِصَّةُ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ بَلْ عَلَى الْخَنْدَقِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَنْ الْخَنْدَقِ أَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ فَهُمْ الَّذِينَ حَاصَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ الْخَنْدَقِ وَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَكَذَلِكَ nindex.php?page=treesubj&link=28889_28889_29028سُورَةُ الْحَدِيدِ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا إنَّمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ كَثِيرٍ مِنْ الْبَقَرَةِ . فَفِي الْجُمْلَةِ نُزُولُ أَوَّلِ الْحَدِيدِ وَآخِرِ الْحَشْرِ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مُمْكِنٌ وَالْأَنْعَامِ وَيس وَغَيْرُهَا نَزَلَ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِالِاتِّفَاقِ . الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا وَعَدَ أَنَّهُ إذَا نَسَخَ آيَةً أَوْ نَسَأَهَا أَتَى [ ص: 194 ] بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا لَمَّا أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ nindex.php?page=treesubj&link=28973_28913_22177_22189_22201_27881قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ تَضَمَّنَتْ وَعْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمِيعَادُ . فَمَا نَسَخَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ أَنْسَأَ نُزُولَهُ مِمَّا يُرِيدُ إنْزَالَهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ .
وَأَمَّا مَا نَسَخَهُ قَبْلَ هَذِهِ أَوْ أَنْسَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ وَعَدَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ . وَبِهَذَا أَيْضًا يَنْدَفِعُ الْجَوَابُ عَنْ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا عَنْ سُورَةِ { nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=1اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْهَا . فَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ إنْزَالُ الْفَاضِلِ وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ نَزَلَ قَبْلَهُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ . لَكِنْ إذَا كَانَ الْمَوْعُودُ بِهِ بَعْدَ الْوَعْدِ لَمْ يَرُدَّ هَذَا السُّؤَالَ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106مَا نَنْسَخْ } فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَجْزُومَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ وَجَوَازِمَ الْفِعْلِ " إنَّ " وَأَخَوَاتِهَا وَنَوَاصِبَهُ تَخَلُّصُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ .
وَقَدْ يُجَابُ بِجَوَابِ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : مَا نَزَلَ فِي وَقْتِهِ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ خَيْرًا لَهُمْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ فَضْلُ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهَيْنِ : لَازِمٌ كَفَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ و { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَفَضْلٌ عَارِضٌ بِحَيْثُ تَكُونُ هَذِهِ أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ وَهَذِهِ أَفْضَلَ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا قَدْ يُقَالُ فِي آيَةِ التَّخْيِيرِ لِلْمُقِيمِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ مَعَ الْفِدْيَةِ وَمَعَ آيَةِ إيجَابِ الصَّوْمِ عَزْمًا .
وَهَذَا كَمَا أَنَّ [ ص: 195 ] الْأَفْعَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا كُلٌّ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ أَفْضَلُ فَالصَّلَاةُ إلَى الْقُدْسِ قَبْلَ النَّسْخِ كَانَتْ أَفْضَلَ وَبَعْدَ النَّسْخِ الصَّلَاةُ إلَى الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ . وَعَلَى مَا ذُكِرَ فَيَتَوَجَّهُ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآنٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامِ أَحْمَد بَلْ هِيَ الْمَنْصُوصَةُ عَنْهُ صَرِيحًا أَنْ لَا يَنْسَخَ الْقُرْآنَ إلَّا قُرْآنٌ يَجِيءُ بَعْدَهُ وَعَلَيْهَا عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَنْسُوخِ مِنْ بَدَلٍ مُمَاثِلٍ أَوْ خَيْرٍ وَوَعْدٍ بِأَنَّ مَا أَنْسَاهُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ كَذَلِكَ وَأَنَّ مَا أَخَّرَهُ فَلَمْ يَأْتِ وَقْتُ نُزُولِهِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الْقُرْآنُ الَّذِي رُفِعَ أَوْ آخَرُ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَلَوْ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ فَهُوَ خِلَافُ مَا وَعَدَ اللَّهُ . وَإِنْ قِيلَ بَلْ يَأْتِي بَعْدَ نَسْخِهِ بِالسُّنَّةِ كَانَ بَيْنَ نَسْخِهِ وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ مُدَّةٌ خَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ مَقْصُودِ الْآيَةِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَرْفُوعِ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ { نَأْتِ } لَمْ يَرِدْ بِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ فَإِنَّ الَّذِي نَسَأَهُ وَهُوَ يُرِيدُ إنْزَالَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُنْزِلُهُ بَعْدَ مُدَّةٍ فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ مَا أَخَّرَهُ يَأْتِي بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ قَبْلَ نُزُولِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ الْأَمْرَ بِلَا بَدَلٍ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُدَّةً بِلَا بَدَلٍ لَكَانَ مَا لَمْ يُنْزِلْ أَحَقَّ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بَدَلٌ مِنْ الْمَنْسُوخِ فَلَمَّا كَانَ ذَاكَ قَدْ حَصَلَ لَهُ بَدَلٌ قَبْلَ وَقْتِ نُزُولِهِ لِتَكْمِيلِ الْإِنْعَامِ فَلَأَنْ يَكُونُ الْبَدَلُ لَمَّا نُسِخَ مِنْ [ ص: 196 ] حِينِ نُسِخَ بَعْدُ أَوْلَى وَأَحْرَى وَلِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَلَوْ كَانَ مَا يُنْزِلُهُ بَدَلًا عَنْ الْمَنْسُوخِ يُؤَخِّرُهُ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ بَدَلٌ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ الْبَدَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَائِدَةٌ إلَّا كَالْفَائِدَةِ الْمَعْلُومَةِ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ . غَايَةُ مَا يُقَالُ : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ لَجَازَ أَنْ لَا يَنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَإِذَا نُسِخَ شَيْءٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَدَلِهِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ . وَهَذَا مِمَّا يَعْتَقِدُونَهُ فَإِنَّهُمْ قَدْ اعْتَادُوا نُزُولَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ وَالْمَسَائِلِ وَالْحَاجَةِ فَمَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ - إذَا نُسِخَتْ آيَةٌ - أَنْ لَا يُنْزَلْ بَعْدَهَا شَيْءٌ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تُنْسَخْ لَمْ يَظُنُّوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَظُنُّونَ إذَا نُسِخَتْ ؟ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ ضَمِنَ لَهُمْ الْإِتْيَانَ بِالْبَدَلِ عَنْ الْمَنْسُوخِ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهُمْ شَيْءٌ مِمَّا أَنْزَلَهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مِثْلِ الْمَرْفُوعِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ وَلَوْ بَقُوا مُدَّةً بِلَا بَدَلٍ لَنَقَصُوا .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا وَعْدٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ وَالْوَعْدُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ يَلْزَمُ عَقِبَهُ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُ فِيهِ أَدَاءُ الْعِوَضِ عَلَى الْفَوْرِ إذَا قَبَضَ الْمُعَوَّضَ كَمَا إذَا قَالَ : مَا أَلْقَيْت مِنْ مَتَاعِك فِي الْبَحْرِ فَعَلَيَّ بَدَلُهُ وَلَيْسَ هَذَا وَعْدًا مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ { nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=27لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ مِائَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا آخُذُ مِنْك شَيْئًا إلَّا أَعْطَيْتُك بَدَلَهُ فَإِنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ . [ ص: 197 ] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ عِلْمَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إنَّمَا يَذْكُرُونَ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِقُرْآنِ لَا يَذْكُرُونَ نَسْخَهُ بِلَا قُرْآنٍ بَلْ بِسُنَّةٍ وَهَذِهِ كُتُبُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْهُمْ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ هَذَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْقَاصِّ : هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَلَوْ كَانَ نَاسِخُ الْقُرْآنِ غَيْرَ الْقُرْآنِ لَوَجَبَ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ أَيْضًا . وَأَيْضًا الَّذِينَ جَوَّزُوا nindex.php?page=treesubj&link=28913نَسْخَ الْقُرْآنِ بِلَا قُرْآنٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ إنَّمَا عُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُ ذَلِكَ وَعَدَمُ الْمَانِعِ الَّذِي يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ لَا يَقْتَضِي الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ مَا لَا عُلِمَ لِلْعَقْلِ بِهِ وَقَدْ يُعْلَمُ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ الَّتِي عُلِمَتْ بِالشَّرْعِ مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ . وَلِهَذَا كَانَ الَّذِينَ جَوَّزُوا ذَلِكَ عَقْلًا مُخْتَلِفِينَ فِي وُقُوعِهِ شَرْعًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِهَا شَرْعًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّاسِخَ مُهَيْمِنٌ عَلَى الْمَنْسُوخِ قَاضٍ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ بِتَصْدِيقِ مَا فِيهِ مِنْ حَقٍّ وَإِقْرَارِ مَا أَقَرَّهُ وَنَسْخِ مَا نَسَخَهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ . فَلَوْ كَانَتْ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِلْكِتَابِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ . [ ص: 198 ] وَأَيْضًا فَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ نَسَخَهُ إلَّا قُرْآنٌ . nindex.php?page=treesubj&link=28913وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ قَالَ تَعَالَى : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=13تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=14وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . وَالْفَرَائِضُ الْمُقَدَّرَةُ مِنْ حُدُودِهِ وَلِهَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ فَمَنْ أَعْطَى صَاحِبَ الْفَرَائِضِ أَكْثَرَ مِنْ فَرْضِهِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ بِأَنْ نَقَصَ هَذَا حَقَّهُ وَزَاد هَذَا عَلَى حَقِّهِ فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهُوَ النَّاسِخُ .
فَصْلٌ nindex.php?page=treesubj&link=20690_28787وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ - وَهُوَ مَقَامُ حِكْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : فَالْمُعْتَزِلَةُ الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ : إنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ كَانَ حَسَنًا وَقَبِيحًا قَبْلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَاشِفٌ عَنْ صِفَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَا يُكْسِبُهُ حَسَنًا وَلَا قُبْحًا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى لِحِكْمَةِ تَنْشَأُ مِنْ الْأَمْرِ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا أَنْكَرُوا جَوَازَ nindex.php?page=treesubj&link=22228_22201_22198_22200النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ كَمَا فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ وَنَسْخِ الْخَمْسِينَ صَلَاةً الَّتِي أَمَرَ بِهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ إلَى خَمْسٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى مَنْعِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْعِبَادَةِ [ ص: 199 ] طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حِكْمَةٍ تَكُونُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ نَفْسِ مَا أَمَرَ بِهِ . وَهَذَا قِيَاسُ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصٌ فِي الْأَزْمَانِ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ بِرَفْعِ جَمِيعِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُمْ تَنَاقَضُوا والجهمية الْجَبْرِيَّةُ يَقُولُونَ : لَيْسَ لِلْأَمْرِ حِكْمَةٌ تَنْشَأُ لَا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ شَيْئًا لِحِكْمَةِ وَلَكِنْ نَفْسُ الْمَشِيئَةِ أَوْجَبَتْ وُقُوعَ مَا وَقَعَ وَتَخْصِيصَ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُخَصَّصٍ وَلَيْسَتْ الْحَسَنَاتُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا السَّيِّئَاتُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ وَلَا لِوَاحِدِ مِنْهُمَا صِفَةٌ صَارَ بِهَا حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ بَلْ لَا مَعْنَى لِلْحَسَنَةِ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهَا وَلَا مَعْنَى لِلسَّيِّئَةِ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ أَمْرٍ حَتَّى الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَيَجُوزُ أَنْ يُنْهِيَ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى عَنْ التَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَهُوَ لَوْ فُعِلَ لَكَانَ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَهَى عَنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . هَكَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : يَجُوزُ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا لَا يُنَافِي مَعْرِفَةَ الْأَمْرِ . بِخِلَافِ مَا يُنَافِي مَعْرِفَتَهُ . وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ سَبَبٌ وَلَكِنْ إذَا اقْتَرَنَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ خُلُقًا أَوْ شَرْعًا صَارَ عَلَامَةً عَلَيْهِ فَالْأَعْمَالُ مُجَرَّدُ عَلَامَاتٍ مَحْضَةٍ لَا أَسْبَابَ مُقْتَضِيَةً . وَقَالُوا : أَمْرُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْإِيمَانِ مَعْنَاهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمْ [ ص: 200 ] وَعَدَمُ إيمَانِكُمْ عَلَامَةٌ عَلَى الْعَذَابِ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالْإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ مَعْنَاهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُثِيبَك وَالْإِيمَانُ عَلَامَةٌ .
وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ nindex.php?page=treesubj&link=22294_21706_21701مَنْ يَنْفِي الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِ وَالتَّعْلِيلَ لِلْأَحْكَامِ وَمَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ مِنْهُمْ لَمْ يَجْعَلْ الْعِلَلَ إلَّا مُجَرَّدَ عَلَامَاتٍ . ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى الْعِلَّةِ ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَلَامَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا تُطْلَبُ عِلَّتُهُ بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ الْجَحِيمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْعَلَامَةِ . وَأَمَّا الْفَرْعُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً لِلْأَصْلِ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلَلَ الْمُنَاسِبَةَ وَيَقُولُ : الْمُنَاسَبَةُ لَيْسَتْ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ الْعِلَلِ وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ . وَمَنْ قَالَ بِالْمُنَاسَبَةِ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ يَقُولُ إنَّهُ قَدْ اعْتَبَرَ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارَ الْمُنَاسِبِ فَيَسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ لَا لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ بِمَا حَكَمَ بِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْحُكْمِ وَلَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَصْلًا فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ وَلَا أَمْرِهِ لَامُ كَيْ . فَجَهْمٌ - رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ - وَأَتْبَاعُهُ فِي طَرَفٍ وَالْقَدَرِيَّةُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كَالْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ والمتكلمين فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ فَيُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ وَيُقِرُّونَ بِالشَّرْعِ وَيُقِرُّونَ بِالْحِكْمَةِ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ - لَكِنْ قَدْ يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ الْحِكْمَةَ وَقَدْ لَا يَعْرِفُهَا - [ ص: 201 ] وَيُقِرُّونَ بِمَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَمَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي جَعَلَهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ مَعَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ فَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ سَوَاءٌ عَرَفَ الْعَبْدُ وَجْهَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ . وَالْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْأَمْرِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ - وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ - كَمَا فِي الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلَةِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَاَللَّهُ يَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَيَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ صَارَ مُتَّصِفًا بِحُسْنِ اكْتَسَبَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَقُبْحٍ اكْتَسَبَهُ مِنْ النَّهْيِ كَالْخَمْرِ الَّتِي كَانَتْ لَمْ تُحَرَّمُ ثُمَّ حُرِّمَتْ فَصَارَتْ خَبِيثَةً وَالصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي كَانَتْ حَسَنَةً فَلَمَّا نَهَى عَنْهَا صَارَتْ قَبِيحَةً . فَإِنَّ مَا أَمَرَ بِهِ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا نَهَى عَنْهُ يُبْغِضُهُ وَيَسْخَطُهُ . وَهُوَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا وَوَالَاهُ أَعْطَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ مَا يَمْتَازُ بِهَا عَلَى مَنْ أَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ .
وَكَذَلِكَ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ - كَالْكَعْبَةِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ - يَخُصُّهُ بِصِفَاتِ يُمَيِّزُهُ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مِنْ رَحْمَتِهِ [ ص: 202 ] وَإِحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فَتَخْصِيصُهَا بِالْخُبْثِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ؟ . قِيلَ : لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا حَرَّمَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا . وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَسَنًا وَسَيِّئًا مِثْلَ كَوْنِهِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ كَوْنِهِ نَافِعًا وَضَارًّا وَمُلَائِمًا وَمُنَافِرًا وَصِدِّيقًا وَعَدُوًّا وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ : فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ نَافِعًا فِي وَقْتٍ ضَارًّا فِي وَقْتٍ وَالشَّيْءُ الضَّارُّ قَدْ يُتْرَكُ تَحْرِيمُهُ إذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ التَّحْرِيمِ أَرْجَحَ كَمَا لَوْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّ النُّفُوسَ كَانَتْ قَدْ اعْتَادَتْهَا عَادَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ مَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَلَا كَانَ إيمَانُهُمْ وَدِينُهُمْ تَامًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَقْصٌ إلَّا مَا يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ صَدِّهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَلِهَذَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَوَّلًا فِيهَا : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ثُمَّ أَنْزَلَ فِيهَا - لَمَّا شَرِبَهَا طَائِفَةٌ وَصَلَّوْا فَغَلِطَ الْإِمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ - آيَةُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ سُكَارَى : ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّحْرِيمِ : [ ص: 203 ] وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ نَاشِئَةً مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ فِي الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ مَصْلَحَةٌ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِلَاءُ الْعَبْدِ هَلْ يُطِيعُ أَوْ يَعْصِي فَإِذَا اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ وَعَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ فَيُنْسَخُ حِينَئِذٍ كَمَا جَرَى لِلْخَلِيلِ فِي قِصَّةِ الذَّبْحِ : فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ مَصْلَحَةً وَلَا كَانَ هُوَ مَطْلُوبُ الرَّبِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ كَانَ مُرَادُ الرَّبِّ ابْتِلَاءَ إبْرَاهِيمَ لِيُقَدِّمَ طَاعَةَ رَبِّهِ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْوَلَدِ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْوَلَدَ مَحَبَّةً شَدِيدَةً وَكَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهُ أَنْ يَهَبَهُ إيَّاهُ - وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ - فَأَرَادَ تَعَالَى تَكْمِيلَ خَلَّتِهِ لِلَّهِ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مَا يُزَاحِمُ بِهِ مُحِبَّةَ رَبِّهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=103فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=104وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=105قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=106إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى كَانَ الْمَقْصُودُ ابْتِلَاءَهُمْ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ .
وَهَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِمَّا خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمْ يَعْرِفُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ الْمَأْمُورِ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ بَلْ لَمْ يَعْرِفُوا إلَّا الْأَوَّلَ . وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا الْحِكْمَةَ عِنْدَهُمْ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ لَا يَعْتَبِرُونَ حِكْمَةً وَلَا تَخْصِيصَ فِعْلٍ بِأَمْرِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِمْ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فَيَبْنُونَ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ وَلَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ أَقْوَالِهِمْ إلَّا [ ص: 204 ] مَنْ عَرَفَ مَأْخَذَهُمْ فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ قَدْ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهَا مُمَاثِلَةً لِسَائِرِ السُّوَرِ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِكَثْرَةِ ثَوَابِ قَارِئِهَا أَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ الْفَاتِحَةُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ جَهْمٍ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ وَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ . وَكَتَبَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي فِيهَا آثَارُ السَّلَفِ يَذْكُرُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَيَجْعَلُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِجَهْمِ فِي أَقْوَالِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَالسَّلَفُ كَانُوا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الجهمية كَمَا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَالزُّبَيْدِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=16349وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعِهِ وَذَكَرْت أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ . وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا هُنَا عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ وَلَا يَظُنُّ nindex.php?page=treesubj&link=28778قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ إلَّا الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلَ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ الْمُجَبِّرَةِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ أَيْضًا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِ جَهْمٍ . وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ [ ص: 205 ] أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ .
وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي فِيهَا أَقْوَالُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا أَقْوَالُهُمْ فِي الْفِقْهِ كَثِيرًا وَالْعُلَمَاءُ الْأَكَابِرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا أَقْوَالُ السَّلَفِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّبَاعِ مِنْ تَصْنِيفِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِيهَا . وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَسَائِلِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ جَاهِلِينَ بِهَا وَلَا مُعْرِضِينَ عَنْهَا . بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا قَالُوهُ فَهُوَ الْجَاهِلُ بِالْحَقِّ فِيهَا وَبِأَقْوَالِ السَّلَفِ وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالصَّوَابُ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَوْلُهُمْ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ nindex.php?page=treesubj&link=22294_21706_21701مَنْ يَنْفِي الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِ وَالتَّعْلِيلَ لِلْأَحْكَامِ وَمَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ مِنْهُمْ لَمْ يَجْعَلْ الْعِلَلَ إلَّا مُجَرَّدَ عَلَامَاتٍ . ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى الْعِلَّةِ ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَلَامَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا تُطْلَبُ عِلَّتُهُ بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ الْجَحِيمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْعَلَامَةِ . وَأَمَّا الْفَرْعُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً لِلْأَصْلِ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلَلَ الْمُنَاسِبَةَ وَيَقُولُ : الْمُنَاسَبَةُ لَيْسَتْ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ الْعِلَلِ وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ . وَمَنْ قَالَ بِالْمُنَاسَبَةِ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ يَقُولُ إنَّهُ قَدْ اعْتَبَرَ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارَ الْمُنَاسِبِ فَيَسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ لَا لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ بِمَا حَكَمَ بِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْحُكْمِ وَلَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَصْلًا فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ وَلَا أَمْرِهِ لَامُ كَيْ . فَجَهْمٌ - رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ - وَأَتْبَاعُهُ فِي طَرَفٍ وَالْقَدَرِيَّةُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كَالْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ والمتكلمين فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ فَيُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ وَيُقِرُّونَ بِالشَّرْعِ وَيُقِرُّونَ بِالْحِكْمَةِ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ - لَكِنْ قَدْ يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ الْحِكْمَةَ وَقَدْ لَا يَعْرِفُهَا - [ ص: 201 ] وَيُقِرُّونَ بِمَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَمَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي جَعَلَهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ مَعَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ فَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ سَوَاءٌ عَرَفَ الْعَبْدُ وَجْهَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ . وَالْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْأَمْرِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ - وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ - كَمَا فِي الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلَةِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَاَللَّهُ يَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَيَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ صَارَ مُتَّصِفًا بِحُسْنِ اكْتَسَبَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَقُبْحٍ اكْتَسَبَهُ مِنْ النَّهْيِ كَالْخَمْرِ الَّتِي كَانَتْ لَمْ تُحَرَّمُ ثُمَّ حُرِّمَتْ فَصَارَتْ خَبِيثَةً وَالصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي كَانَتْ حَسَنَةً فَلَمَّا نَهَى عَنْهَا صَارَتْ قَبِيحَةً . فَإِنَّ مَا أَمَرَ بِهِ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا نَهَى عَنْهُ يُبْغِضُهُ وَيَسْخَطُهُ . وَهُوَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا وَوَالَاهُ أَعْطَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ مَا يَمْتَازُ بِهَا عَلَى مَنْ أَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ .
وَكَذَلِكَ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ - كَالْكَعْبَةِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ - يَخُصُّهُ بِصِفَاتِ يُمَيِّزُهُ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مِنْ رَحْمَتِهِ [ ص: 202 ] وَإِحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فَتَخْصِيصُهَا بِالْخُبْثِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ؟ . قِيلَ : لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا حَرَّمَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا . وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَسَنًا وَسَيِّئًا مِثْلَ كَوْنِهِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ كَوْنِهِ نَافِعًا وَضَارًّا وَمُلَائِمًا وَمُنَافِرًا وَصِدِّيقًا وَعَدُوًّا وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ : فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ نَافِعًا فِي وَقْتٍ ضَارًّا فِي وَقْتٍ وَالشَّيْءُ الضَّارُّ قَدْ يُتْرَكُ تَحْرِيمُهُ إذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ التَّحْرِيمِ أَرْجَحَ كَمَا لَوْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّ النُّفُوسَ كَانَتْ قَدْ اعْتَادَتْهَا عَادَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ مَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَلَا كَانَ إيمَانُهُمْ وَدِينُهُمْ تَامًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَقْصٌ إلَّا مَا يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ صَدِّهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَلِهَذَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَوَّلًا فِيهَا : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=219يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ثُمَّ أَنْزَلَ فِيهَا - لَمَّا شَرِبَهَا طَائِفَةٌ وَصَلَّوْا فَغَلِطَ الْإِمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ - آيَةُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ سُكَارَى : ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّحْرِيمِ : [ ص: 203 ] وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ نَاشِئَةً مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ فِي الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ مَصْلَحَةٌ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِلَاءُ الْعَبْدِ هَلْ يُطِيعُ أَوْ يَعْصِي فَإِذَا اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ وَعَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ فَيُنْسَخُ حِينَئِذٍ كَمَا جَرَى لِلْخَلِيلِ فِي قِصَّةِ الذَّبْحِ : فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ مَصْلَحَةً وَلَا كَانَ هُوَ مَطْلُوبُ الرَّبِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ كَانَ مُرَادُ الرَّبِّ ابْتِلَاءَ إبْرَاهِيمَ لِيُقَدِّمَ طَاعَةَ رَبِّهِ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْوَلَدِ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْوَلَدَ مَحَبَّةً شَدِيدَةً وَكَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهُ أَنْ يَهَبَهُ إيَّاهُ - وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ - فَأَرَادَ تَعَالَى تَكْمِيلَ خَلَّتِهِ لِلَّهِ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مَا يُزَاحِمُ بِهِ مُحِبَّةَ رَبِّهِ : { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=103فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=104وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=105قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } { nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=106إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى كَانَ الْمَقْصُودُ ابْتِلَاءَهُمْ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ .
وَهَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِمَّا خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمْ يَعْرِفُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ الْمَأْمُورِ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ بَلْ لَمْ يَعْرِفُوا إلَّا الْأَوَّلَ . وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا الْحِكْمَةَ عِنْدَهُمْ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ لَا يَعْتَبِرُونَ حِكْمَةً وَلَا تَخْصِيصَ فِعْلٍ بِأَمْرِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِمْ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فَيَبْنُونَ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ وَلَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ أَقْوَالِهِمْ إلَّا [ ص: 204 ] مَنْ عَرَفَ مَأْخَذَهُمْ فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ قَدْ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهَا مُمَاثِلَةً لِسَائِرِ السُّوَرِ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِكَثْرَةِ ثَوَابِ قَارِئِهَا أَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ الْفَاتِحَةُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ جَهْمٍ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ وَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ . وَكَتَبَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي فِيهَا آثَارُ السَّلَفِ يَذْكُرُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَيَجْعَلُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِجَهْمِ فِي أَقْوَالِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَالسَّلَفُ كَانُوا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الجهمية كَمَا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَالزُّبَيْدِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=16349وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعِهِ وَذَكَرْت أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ . وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا هُنَا عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ وَلَا يَظُنُّ nindex.php?page=treesubj&link=28778قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ إلَّا الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلَ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ الْمُجَبِّرَةِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ أَيْضًا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِ جَهْمٍ . وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ [ ص: 205 ] أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ .
وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي فِيهَا أَقْوَالُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا أَقْوَالُهُمْ فِي الْفِقْهِ كَثِيرًا وَالْعُلَمَاءُ الْأَكَابِرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا أَقْوَالُ السَّلَفِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّبَاعِ مِنْ تَصْنِيفِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِيهَا . وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَسَائِلِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ جَاهِلِينَ بِهَا وَلَا مُعْرِضِينَ عَنْهَا . بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا قَالُوهُ فَهُوَ الْجَاهِلُ بِالْحَقِّ فِيهَا وَبِأَقْوَالِ السَّلَفِ وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالصَّوَابُ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَوْلُهُمْ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فأجاب رضي الله عنه الحمد لله . أما الذي أخرجه أصحاب الصحيح - كالبخاري ومسلم - فأخرجوا nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890_29083فضل ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } وروي عن الدارقطني أنه قال : لم يصح في فضل سورة أكثر مما صح في فضلها . وكذلك أخرجوا nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890فضل ( فاتحة الكتاب قال صلى الله عليه وسلم فيها { nindex.php?page=hadith&LINKID=597909إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها } لم يذكر فيها أنها تعدل جزءا من القرآن كما { nindex.php?page=hadith&LINKID=597910قال في { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } إنها تعدل ثلث القرآن } ففي صحيح البخاري عن الضحاك المشرقي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597911أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة ؟ فشق ذلك عليهم وقالوا : أينا يطيق ذلك يا رسول الله ؟ قال الله الواحد الصمد ثلث القرآن } . وفي صحيح مسلم عن معدان بن أبي طلحة عن nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء عن { nindex.php?page=hadith&LINKID=597912النبي صلى الله عليه وسلم قال أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن ؟ [ ص: 7 ] قالوا : وكيف يقرأ ثلث القرآن ؟ قال { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن } . وروى مسلم أيضا عن nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=70610إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } جزءا من أجزاء القرآن } . وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن { nindex.php?page=hadith&LINKID=597913أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن } . وأخرج عن أبي سعيد قال : أخبرني أخي قتادة بن النعمان { nindex.php?page=hadith&LINKID=597914أن رجلا قام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ من السحر { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } لا يزيد عليها . . الحديث } بنحوه .
وفي صحيح مسلم عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597915قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن قال : فحشد من حشد ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } ثم دخل فقال بعضنا لبعض : إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء فذاك الذي أدخله . ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا إنها تعدل ثلث القرآن } وفي لفظ له { nindex.php?page=hadith&LINKID=597916قال : خرج علينا رسول الله [ ص: 8 ] صلى الله عليه وسلم فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=2الله الصمد } حتى ختمها . } وأما حديث " الزلزلة " و ( { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قل يا أيها الكافرون } فروى الترمذي عن أنس بن مالك قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597917قال رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890من قرأ إذا زلزلت عدلت له نصف القرآن . nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890ومن قرأ قل يا أيها الكافرون عدلت له ربع القرآن } . وعن ابن عباس قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597918قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=1إذا زلزلت } تعدل نصف القرآن و { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قل يا أيها الكافرون } تعدل ربع القرآن } رواهما الترمذي وقال عن كل منهما : غريب . وأما حديث ( الفاتحة فروى البخاري في صحيحه { nindex.php?page=hadith&LINKID=597919عن أبي سعيد ابن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي . قال ألم يقل الله : { nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ثم قال لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قال { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني والقرآن العظيم } . وفي السنن والمسانيد من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة { nindex.php?page=hadith&LINKID=597920أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال nindex.php?page=showalam&ids=34لأبي بن كعب ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها - قال - فإني أرجو [ ص: 9 ] أن لا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها وقال فيه كيف تقرأ في الصلاة ؟ فقرأت عليه أم القرآن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته } . ورواه مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز مرسلا .
وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597921قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط { nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قل أعوذ برب الفلق } و { nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=1قل أعوذ برب الناس } } . وفي لفظ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597922قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل علي آيات لم ير مثلهن قط المعوذتان } فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم ير مثل المعوذتين كما أخبر أنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثل الفاتحة وهذا مما يبين nindex.php?page=treesubj&link=29566فضل بعض القرآن على بعض .
وفي صحيح مسلم عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597915قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن قال : فحشد من حشد ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } ثم دخل فقال بعضنا لبعض : إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء فذاك الذي أدخله . ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا إنها تعدل ثلث القرآن } وفي لفظ له { nindex.php?page=hadith&LINKID=597916قال : خرج علينا رسول الله [ ص: 8 ] صلى الله عليه وسلم فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=2الله الصمد } حتى ختمها . } وأما حديث " الزلزلة " و ( { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قل يا أيها الكافرون } فروى الترمذي عن أنس بن مالك قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597917قال رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890من قرأ إذا زلزلت عدلت له نصف القرآن . nindex.php?page=treesubj&link=29566_28890ومن قرأ قل يا أيها الكافرون عدلت له ربع القرآن } . وعن ابن عباس قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597918قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=1إذا زلزلت } تعدل نصف القرآن و { nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قل يا أيها الكافرون } تعدل ربع القرآن } رواهما الترمذي وقال عن كل منهما : غريب . وأما حديث ( الفاتحة فروى البخاري في صحيحه { nindex.php?page=hadith&LINKID=597919عن أبي سعيد ابن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي . قال ألم يقل الله : { nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ثم قال لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قال { nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني والقرآن العظيم } . وفي السنن والمسانيد من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة { nindex.php?page=hadith&LINKID=597920أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال nindex.php?page=showalam&ids=34لأبي بن كعب ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها - قال - فإني أرجو [ ص: 9 ] أن لا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها وقال فيه كيف تقرأ في الصلاة ؟ فقرأت عليه أم القرآن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته } . ورواه مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز مرسلا .
وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597921قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط { nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=1قل أعوذ برب الفلق } و { nindex.php?page=tafseer&surano=114&ayano=1قل أعوذ برب الناس } } . وفي لفظ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597922قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل علي آيات لم ير مثلهن قط المعوذتان } فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم ير مثل المعوذتين كما أخبر أنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثل الفاتحة وهذا مما يبين nindex.php?page=treesubj&link=29566فضل بعض القرآن على بعض .
فصل وأما السؤال عن معنى هذه المعادلة مع الاشتراك في كون الجميع كلام الله فهذا السؤال يتضمن شيئين : أحدهما : أن nindex.php?page=treesubj&link=29566كلام الله هل بعضه أفضل من بعض أم لا ؟ والثاني : nindex.php?page=treesubj&link=29566ما معنى كون ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن ؟ وما سبب ذلك ؟ [ ص: 10 ] فنقول : أما الأول فهو " مسألة كبيرة " والناس متنازعون فيها نزاعا منتشرا فطوائف يقولون : بعض كلام الله أفضل من بعض كما نطقت به النصوص النبوية : حيث أخبر عن ( الفاتحة أنه لم ينزل في الكتب الثلاثة مثلها . وأخبر عن سورة ( الإخلاص أنها تعدل ثلث القرآن وعدلها لثلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف . وجعل ( آية الكرسي أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح أيضا وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أن { nindex.php?page=hadith&LINKID=597923النبي صلى الله عليه وسلم قال nindex.php?page=showalam&ids=34لأبي بن كعب يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله أعظم ؟ قال : فقلت : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255الله لا إله إلا هو الحي القيوم } قال : فضرب في صدري وقال : ليهنك العلم أبا المنذر } .
ورواه nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة في مسنده بإسناد مسلم وزاد فيه { والذي نفسي بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش } . وروي أنها { nindex.php?page=hadith&LINKID=597924سيدة آي القرآن . } وقال في المعوذتين : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597925لم ير مثلهن قط } وقد قال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } فأخبر أنه يأتي بخير منها أو مثلها . وهذا بيان من الله لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارة أو خير منها أخرى فدل ذلك على أن [ ص: 11 ] الآيات تتماثل تارة وتتفاضل أخرى . وأيضا فالتوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام الله مع علم المسلمين بأن القرآن أفضل الكتب الثلاثة . قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } . وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } فأخبر أنه أحسن الحديث فدل على أنه أحسن من سائر الأحاديث المنزلة من عند الله وغير المنزلة . وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } . وسواء كان المراد بذلك الفاتحة أو القرآن كله فإنه يدل على أن القرآن العظيم له اختصاص بهذا الوصف على ما ليس كذلك .
وقد nindex.php?page=treesubj&link=29568سمى الله القرآن كله مجيدا وكريما وعزيزا . وقد تحدى الخلق بأن يأتوا بمثله أو بمثل عشر سور منه أو بمثل سورة منه فقال : { nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } . وقال { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } . وقال : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فأتوا بسورة من مثله } وخصه بأنه لا يقرأ في الصلاة إلا هو فليس لأحد أن يقرأ غيره مع قراءته ولا بدون قراءته ولا يصلي بلا قرآن فلا يقوم غيره [ ص: 12 ] مقامه مع القدرة عليه . وكذلك nindex.php?page=treesubj&link=29566لا يقوم غير الفاتحة مقامها من كل وجه باتفاق المسلمين سواء قيل بأنها فرض تعاد الصلاة بتركها أو قيل بأنها واجبة يأثم تاركها ولا إعادة عليه أو قيل إنها سنة فلم يقل أحد إن قراءة غيرها مساو لقراءتها من كل وجه . nindex.php?page=treesubj&link=29568وخص القرآن بأنه لا يمس مصحفه إلا طاهر كما ثبت ذلك عن الصحابة - مثل سعد وسلمان وابن عمر - وجماهير السلف والخلف الفقهاء الأربعة وغيرهم . ومضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم الذي لا ريب في أنه كتبه له ودل على ذلك كتاب الله . وكذلك nindex.php?page=treesubj&link=29568لا يقرأ الجنب القرآن عند جماهير العلماء الفقهاء الأربعة وغيرهم كما دلت على ذلك السنة . وتفضيل أحد الكلامين بأحكام توجب تشريفه يدل على أنه أفضل في نفسه وإن كان ذلك ترجيحا لأحد المتماثلين بلا مرجح وهذا خلاف ما علم من سنة الرب تعالى في شرعه بل وفي خلقه وخلاف ما تدل عليه الدلائل العقلية مع الشرعية . وأيضا فقد قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=55واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=17فبشر عبادي } { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=18الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=145فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } . فدل على [ ص: 13 ] أن فيما أنزل حسن وأحسن سواء كان الأحسن هو والناسخ الذي يجب الأخذ به دون المنسوخ إذ كان لا ينسخ آية إلا يأتي بخير منها أو مثلها أو كان غير ذلك .
nindex.php?page=treesubj&link=29566والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة مثل ما سيأتي ذكره عن أبي العباس ابن سريج في تفسيره لهذا الحديث بأن الله أنزل القرآن على ثلاثة أقسام : ثلث منه أحكام وثلث منه وعد ووعيد وثلث منه الأسماء والصفات . وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات . ومثل ما ذكره أصحاب الشافعي وأحمد في مسألة nindex.php?page=treesubj&link=29566تعيين الفاتحة في الصلاة قال أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني الشافعي في كتابه " الاصطلام " وأما قولهم : إن سائر الأحكام المتعلقة بالقرآن لا تختص بالفاتحة قلت : سائر الأحكام قد تعلقت بالقرآن على العموم وهذا على الخصوص بدليل أن عندنا قراءة الفاتحة على التعيين مشروعة على الوجوب وعندكم على السنة . قال : وقد قال أصحابنا إن قراءة الفاتحة لما وجبت في الصلاة وجب أن تتعين الفاتحة لأن القرآن امتاز عن غيره بالإعجاز وأقل ما يحصل به الإعجاز سورة وهذه السورة أشرف السور لأنها السبع المثاني ولأنها تصلح عوضا عن جميع السور ولا [ ص: 14 ] تصلح جميع السور عوضا عنها ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل سورة ما على قدرها من الآيات وذلك من الثناء والتحميد للرب والاستعانة والاستعاذة والدعاء من العبد . فإذا صارت هذه السورة أشرف السور وكانت الصلاة أشرف الحالات فتعينت أشرف السور في أشرف الحالات . هذا لفظه فقد نقل عن أصحاب الشافعي أن هذه السورة أشرف السور كما أن الصلاة أشرف الحالات وبينوا من شرفها على غيرها ما ذكروه . وكذلك ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى بن القاضي أبي حازم بن القاضي أبي يعلى بن الفراء قال في تعليقه - ومن خطه نقلت - قال في مسألة كون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة : أما الطريق المعتمد في المسألة فهو أنا نقول : الصلاة أشرف العبادات وجبت فيها القراءة فوجب أن يتعين لها أشرف السور والفاتحة أشرف السور فوجب أن تتعين .
قال : واعلم أنا نحتاج في تمهيد هذه الطريقة إلى شيئين : أحدهما : أن الصلاة أشرف العبادات والثاني : أن الحمد أشرف السور . واستدل على ذلك بما ذكره قال : وأما الدليل على أن فاتحة الكتاب أشرف فالنص والمعنى والحكم : أما النص فما تقدم من أنها عوض من غيرها . وعن أبي سعيد [ ص: 15 ] الخدري عن { nindex.php?page=hadith&LINKID=597926النبي صلى الله عليه وسلم قال : فاتحة الكتاب شفاء من السم } . وقال الحسن البصري : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة منها : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان ثم أودع علوم القرآن المفصل ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب . فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن . وأما المعنى فهو أن الله قابلها بجميع القرآن فقال : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } . وهذه حقيقة لا يدانيها غيرها فيها قلت : هذا على قول من جعلها هي السبع المثاني وجعل القرآن العظيم جميع القرآن . قال : ولأنها تسمى " أم القرآن " وأم الشيء أصله ومادته ولهذا سمى الله مكة " أم القرى " لشرفها عليهن . ولأنها السبع المثاني ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل عليه سورة من الثناء والتحميد للرب تعالى والاستعانة به والاستعاذة والدعاء من العبد على ما { nindex.php?page=hadith&LINKID=597927قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي } الحديث المشهور . قال : ولأنه لم ينزل مثلها في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في شيء من الكتب يدل عليه أنها تيسر قراءتها على كل أحد ما لا يتيسر غيرها من القرآن . [ ص: 16 ] وتضرب بها الأمثال ولهذا يقال : فلان يحفظ الشيء مثل الفاتحة وإذا كانت بهذه المثابة فغيرها لا يساويها في هذا فاختصت بالشرف ولأنها السبع المثاني قال أهل التفسير : معنى ذلك أنها تثنى قراءتها في كل ركعة . قال بعضهم : ثني نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم قلت : وفيه أقوال أخر . قال : وأما الحكم فلأنه تستحب قراءتها في كل ركعة ويكره الإخلال بها ولولا أنها أشرف لما اختصت بهذا المعنى يدل عليه أن عند المنازعين - يعني أصحاب أبي حنيفة - أن من أخل بقراءتها وجب عليه سجود السهو .
فنقول : لا يخلو إما أن تكون ركنا أو ليست بركن فإن كانت ركنا وجب أن لا تجبر بالسجود وإن لم تكن ركنا وجب أن لا يجب عليه سجود . قلت : يعني بذلك أن السجود لا يجب إلا بترك واجب في حال العمد فإذا سها عنه وجب له السجود وما كان واجبا فإذا تعمد تركه وجب أن تبطل صلاته لأنه لم يفعل ما أمر به بخلاف من سها عن بعض الواجبات فإن هذا يمكن أن يجبر ما تركه بسجود السهو . ومذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة أن سجود السهو واجب لأن من الواجبات عندهم ما إذا تركه سهوا لم تبطل الصلاة . كما لا تبطل بالزيادة سهوا باتفاق العلماء ولو زاد عمدا لبطلت الصلاة . لكن مالكا وأحمد في المشهور عنهما يقولان : [ ص: 17 ] ما كان واجبا إذا تركه عمدا بطلت صلاته وإذا تركه سهوا فمنه ما يبطل الصلاة ومنه ما ينجبر بسجود السهو فترك الركوع والسجود والقراءة يبطل الصلاة مطلقا وترك التشهد الأول عندهما يبطل الصلاة عمده ويجب السجود لسهوه . وأما أبو حنيفة فيقول : الواجب الذي ليس بفرض - كالفاتحة - إذا تركه كان مسيئا ولا يبطل الصلاة . والشافعي لا يفرق في الصلاة بين الركن والواجب . ولكن فرق بينهما في الحج هو وسائر الأئمة . والمقصود هنا ذكر بعض من قال إن الفاتحة أشرف من غيرها . وقال أبو عمر بن عبد البر : وأما { nindex.php?page=hadith&LINKID=597928قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي . هل تعلم سورة ما أنزل الله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟ } فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير لأن فيها الثناء على الله عز وجل بما هو أهله وما يستحقه من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره لأن كل نعمة وخير منه لا من سواه فهو الخالق الرازق لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وهو محمود على ذلك وإن حمد غيره فإليه يعود الحمد . وفيها التعظيم له وأنه الرب للعالم أجمع ومالك الدنيا والآخرة وهو المعبود والمستعان . وفيها تعليم الدعاء والهدى ومجانبة طريق من ضل وغوى . والدعاء لباب العبادة فهي أجمع سورة للخير ليس في الكتب مثلها على هذه [ ص: 18 ] الوجوه . قال : وقد قيل إن معنى ذلك أنها تجزئ الصلاة بها دون غيرها ولا يجزئ غيرها عنها . وليس هذا بتأويل مجتمع عليه . قلت : يعني بذلك أن في هذا نزاعا بين العلماء وهو كون الصلاة لا تجزئ إلا بها وهذا يدل على أن الوصف الأول متفق عليه بين العلماء وهو أنها أفضل السور .
ورواه nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة في مسنده بإسناد مسلم وزاد فيه { والذي نفسي بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش } . وروي أنها { nindex.php?page=hadith&LINKID=597924سيدة آي القرآن . } وقال في المعوذتين : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597925لم ير مثلهن قط } وقد قال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } فأخبر أنه يأتي بخير منها أو مثلها . وهذا بيان من الله لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارة أو خير منها أخرى فدل ذلك على أن [ ص: 11 ] الآيات تتماثل تارة وتتفاضل أخرى . وأيضا فالتوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام الله مع علم المسلمين بأن القرآن أفضل الكتب الثلاثة . قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } . وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } فأخبر أنه أحسن الحديث فدل على أنه أحسن من سائر الأحاديث المنزلة من عند الله وغير المنزلة . وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } . وسواء كان المراد بذلك الفاتحة أو القرآن كله فإنه يدل على أن القرآن العظيم له اختصاص بهذا الوصف على ما ليس كذلك .
وقد nindex.php?page=treesubj&link=29568سمى الله القرآن كله مجيدا وكريما وعزيزا . وقد تحدى الخلق بأن يأتوا بمثله أو بمثل عشر سور منه أو بمثل سورة منه فقال : { nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } . وقال { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } . وقال : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فأتوا بسورة من مثله } وخصه بأنه لا يقرأ في الصلاة إلا هو فليس لأحد أن يقرأ غيره مع قراءته ولا بدون قراءته ولا يصلي بلا قرآن فلا يقوم غيره [ ص: 12 ] مقامه مع القدرة عليه . وكذلك nindex.php?page=treesubj&link=29566لا يقوم غير الفاتحة مقامها من كل وجه باتفاق المسلمين سواء قيل بأنها فرض تعاد الصلاة بتركها أو قيل بأنها واجبة يأثم تاركها ولا إعادة عليه أو قيل إنها سنة فلم يقل أحد إن قراءة غيرها مساو لقراءتها من كل وجه . nindex.php?page=treesubj&link=29568وخص القرآن بأنه لا يمس مصحفه إلا طاهر كما ثبت ذلك عن الصحابة - مثل سعد وسلمان وابن عمر - وجماهير السلف والخلف الفقهاء الأربعة وغيرهم . ومضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم الذي لا ريب في أنه كتبه له ودل على ذلك كتاب الله . وكذلك nindex.php?page=treesubj&link=29568لا يقرأ الجنب القرآن عند جماهير العلماء الفقهاء الأربعة وغيرهم كما دلت على ذلك السنة . وتفضيل أحد الكلامين بأحكام توجب تشريفه يدل على أنه أفضل في نفسه وإن كان ذلك ترجيحا لأحد المتماثلين بلا مرجح وهذا خلاف ما علم من سنة الرب تعالى في شرعه بل وفي خلقه وخلاف ما تدل عليه الدلائل العقلية مع الشرعية . وأيضا فقد قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=55واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=17فبشر عبادي } { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=18الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=145فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } . فدل على [ ص: 13 ] أن فيما أنزل حسن وأحسن سواء كان الأحسن هو والناسخ الذي يجب الأخذ به دون المنسوخ إذ كان لا ينسخ آية إلا يأتي بخير منها أو مثلها أو كان غير ذلك .
nindex.php?page=treesubj&link=29566والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة مثل ما سيأتي ذكره عن أبي العباس ابن سريج في تفسيره لهذا الحديث بأن الله أنزل القرآن على ثلاثة أقسام : ثلث منه أحكام وثلث منه وعد ووعيد وثلث منه الأسماء والصفات . وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات . ومثل ما ذكره أصحاب الشافعي وأحمد في مسألة nindex.php?page=treesubj&link=29566تعيين الفاتحة في الصلاة قال أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني الشافعي في كتابه " الاصطلام " وأما قولهم : إن سائر الأحكام المتعلقة بالقرآن لا تختص بالفاتحة قلت : سائر الأحكام قد تعلقت بالقرآن على العموم وهذا على الخصوص بدليل أن عندنا قراءة الفاتحة على التعيين مشروعة على الوجوب وعندكم على السنة . قال : وقد قال أصحابنا إن قراءة الفاتحة لما وجبت في الصلاة وجب أن تتعين الفاتحة لأن القرآن امتاز عن غيره بالإعجاز وأقل ما يحصل به الإعجاز سورة وهذه السورة أشرف السور لأنها السبع المثاني ولأنها تصلح عوضا عن جميع السور ولا [ ص: 14 ] تصلح جميع السور عوضا عنها ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل سورة ما على قدرها من الآيات وذلك من الثناء والتحميد للرب والاستعانة والاستعاذة والدعاء من العبد . فإذا صارت هذه السورة أشرف السور وكانت الصلاة أشرف الحالات فتعينت أشرف السور في أشرف الحالات . هذا لفظه فقد نقل عن أصحاب الشافعي أن هذه السورة أشرف السور كما أن الصلاة أشرف الحالات وبينوا من شرفها على غيرها ما ذكروه . وكذلك ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى بن القاضي أبي حازم بن القاضي أبي يعلى بن الفراء قال في تعليقه - ومن خطه نقلت - قال في مسألة كون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة : أما الطريق المعتمد في المسألة فهو أنا نقول : الصلاة أشرف العبادات وجبت فيها القراءة فوجب أن يتعين لها أشرف السور والفاتحة أشرف السور فوجب أن تتعين .
قال : واعلم أنا نحتاج في تمهيد هذه الطريقة إلى شيئين : أحدهما : أن الصلاة أشرف العبادات والثاني : أن الحمد أشرف السور . واستدل على ذلك بما ذكره قال : وأما الدليل على أن فاتحة الكتاب أشرف فالنص والمعنى والحكم : أما النص فما تقدم من أنها عوض من غيرها . وعن أبي سعيد [ ص: 15 ] الخدري عن { nindex.php?page=hadith&LINKID=597926النبي صلى الله عليه وسلم قال : فاتحة الكتاب شفاء من السم } . وقال الحسن البصري : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة منها : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان ثم أودع علوم القرآن المفصل ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب . فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن . وأما المعنى فهو أن الله قابلها بجميع القرآن فقال : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } . وهذه حقيقة لا يدانيها غيرها فيها قلت : هذا على قول من جعلها هي السبع المثاني وجعل القرآن العظيم جميع القرآن . قال : ولأنها تسمى " أم القرآن " وأم الشيء أصله ومادته ولهذا سمى الله مكة " أم القرى " لشرفها عليهن . ولأنها السبع المثاني ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل عليه سورة من الثناء والتحميد للرب تعالى والاستعانة به والاستعاذة والدعاء من العبد على ما { nindex.php?page=hadith&LINKID=597927قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي } الحديث المشهور . قال : ولأنه لم ينزل مثلها في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في شيء من الكتب يدل عليه أنها تيسر قراءتها على كل أحد ما لا يتيسر غيرها من القرآن . [ ص: 16 ] وتضرب بها الأمثال ولهذا يقال : فلان يحفظ الشيء مثل الفاتحة وإذا كانت بهذه المثابة فغيرها لا يساويها في هذا فاختصت بالشرف ولأنها السبع المثاني قال أهل التفسير : معنى ذلك أنها تثنى قراءتها في كل ركعة . قال بعضهم : ثني نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم قلت : وفيه أقوال أخر . قال : وأما الحكم فلأنه تستحب قراءتها في كل ركعة ويكره الإخلال بها ولولا أنها أشرف لما اختصت بهذا المعنى يدل عليه أن عند المنازعين - يعني أصحاب أبي حنيفة - أن من أخل بقراءتها وجب عليه سجود السهو .
فنقول : لا يخلو إما أن تكون ركنا أو ليست بركن فإن كانت ركنا وجب أن لا تجبر بالسجود وإن لم تكن ركنا وجب أن لا يجب عليه سجود . قلت : يعني بذلك أن السجود لا يجب إلا بترك واجب في حال العمد فإذا سها عنه وجب له السجود وما كان واجبا فإذا تعمد تركه وجب أن تبطل صلاته لأنه لم يفعل ما أمر به بخلاف من سها عن بعض الواجبات فإن هذا يمكن أن يجبر ما تركه بسجود السهو . ومذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة أن سجود السهو واجب لأن من الواجبات عندهم ما إذا تركه سهوا لم تبطل الصلاة . كما لا تبطل بالزيادة سهوا باتفاق العلماء ولو زاد عمدا لبطلت الصلاة . لكن مالكا وأحمد في المشهور عنهما يقولان : [ ص: 17 ] ما كان واجبا إذا تركه عمدا بطلت صلاته وإذا تركه سهوا فمنه ما يبطل الصلاة ومنه ما ينجبر بسجود السهو فترك الركوع والسجود والقراءة يبطل الصلاة مطلقا وترك التشهد الأول عندهما يبطل الصلاة عمده ويجب السجود لسهوه . وأما أبو حنيفة فيقول : الواجب الذي ليس بفرض - كالفاتحة - إذا تركه كان مسيئا ولا يبطل الصلاة . والشافعي لا يفرق في الصلاة بين الركن والواجب . ولكن فرق بينهما في الحج هو وسائر الأئمة . والمقصود هنا ذكر بعض من قال إن الفاتحة أشرف من غيرها . وقال أبو عمر بن عبد البر : وأما { nindex.php?page=hadith&LINKID=597928قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي . هل تعلم سورة ما أنزل الله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟ } فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير لأن فيها الثناء على الله عز وجل بما هو أهله وما يستحقه من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره لأن كل نعمة وخير منه لا من سواه فهو الخالق الرازق لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وهو محمود على ذلك وإن حمد غيره فإليه يعود الحمد . وفيها التعظيم له وأنه الرب للعالم أجمع ومالك الدنيا والآخرة وهو المعبود والمستعان . وفيها تعليم الدعاء والهدى ومجانبة طريق من ضل وغوى . والدعاء لباب العبادة فهي أجمع سورة للخير ليس في الكتب مثلها على هذه [ ص: 18 ] الوجوه . قال : وقد قيل إن معنى ذلك أنها تجزئ الصلاة بها دون غيرها ولا يجزئ غيرها عنها . وليس هذا بتأويل مجتمع عليه . قلت : يعني بذلك أن في هذا نزاعا بين العلماء وهو كون الصلاة لا تجزئ إلا بها وهذا يدل على أن الوصف الأول متفق عليه بين العلماء وهو أنها أفضل السور .
ومن هذا الباب ما في الكتاب والسنة من nindex.php?page=treesubj&link=29566_29568تفضيل القرآن على غيره من كلام الله التوراة والإنجيل وسائر الكتب وأن السلف كلهم كانوا مقرين بذلك ليس فيهم من يقول الجميع كلام الله فلا يفضل القرآن على غيره nindex.php?page=treesubj&link=29568_29566قال الله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } فأخبر أنه أحسن الحديث وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } . " وأحسن القصص " قيل إنه مصدر وقيل إنه مفعول به . قيل : المعنى نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص كما يقال نكلمك أحسن التكليم ونبين لك أحسن البيان . قال الزجاج : نحن نبين لك أحسن البيان . والقاص الذي يأتي بالقصة على حقيقتها . قال nindex.php?page=treesubj&link=29566وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3بما أوحينا إليك هذا القرآن } أي بوحينا إليك هذا القرآن ومن قال هذا قال بما أوحينا إليك هذا القرآن وعلى هذا القول فهو كقوله : نقرأ [ ص: 19 ] عليك أحسن القراءة ونتلوا عليك أحسن التلاوة والثاني أن المعنى نقص عليك أحسن ما يقص أي أحسن الأخبار المقصوصات كما قال في السورة الأخرى : { nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23الله نزل أحسن الحديث } وقال : { nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=122ومن أصدق من الله قيلا } . ويدل على ذلك قوله في قصة موسى : { nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=25فلما جاءه وقص عليه القصص } nindex.php?page=treesubj&link=28901وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } المراد خبرهم ونبؤهم وحديثهم ليس المراد مجرد المصدر . والقولان متلازمان في المعنى كما سنبينه ولهذا يجوز أن يكون هذا المنصوب قد جمع معنى المصدر ومعنى المفعول به لأن فيه كلا المعنيين بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به فإنه إذا انتصب بهذا المعنى امتنع المعنى الآخر .
ومن رجح الأول من النحاة - كالزجاج وغيره - قالوا : القصص مصدر يقال قص أثره يقصه قصصا ومنه قوله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=64فارتدا على آثارهما قصصا } . وكذلك اقتص أثره وتقصص وقد اقتصصت الحديث : رويته على وجهه وقد اقتص عليه الخبر قصصا . وليس القصص بالفتح جمع قصة كما يظنه بعض العامة . فإن ذلك يقال في قصص بالكسر واحده قصة والقصة هي الأمر والحديث الذي يقص فعلة بمعنى مفعول وجمعه قصص بالكسر . وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نحن نقص عليك أحسن القصص } بالفتح لم يقل أحسن القصص بالكسر ولكن [ ص: 20 ] بعض الناس ظنوا أن المراد أحسن القصص بالكسر وأن تلك القصة قصة يوسف وذكر هذا طائفة من المفسرين . ثم ذكروا : لم سميت أحسن القصص ؟ فقيل : لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة . وقيل : لامتداد الأوقات بين مبتداها ومنتهاها . وقيل لحسن محاورة يوسف وإخوته وصبره على أذاهم وإغضائه عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء وكرمه في العفو . وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن وحيلهن وفيها أيضا ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش فصارت أحسن القصص لما فيها من المعاني والفوائد التي تصلح للدين والدنيا . وقيل فيها ذكر الحبيب والمحبوب . وقيل " أحسن " بمعنى أعجب . والذين يجعلون قصة يوسف أحسن القصص منهم من يعلم أن " القصص " بالفتح هو النبأ والخبر ويقولون هي أحسن الأخبار والأنباء وكثير منهم يظن أن المراد أحسن القصص بالكسر وهؤلاء جهال بالعربية وكلا القولين خطأ وليس المراد بقوله : ( أحسن القصص قصة يوسف وحدها بل هي مما قصه الله ومما يدخل في أحسن القصص [ ص: 21 ] ولهذا قال تعالى في آخر السورة : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون } { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } فبين أن nindex.php?page=treesubj&link=28901العبرة في قصص المرسلين وأمر بالنظر في عاقبة من كذبهم وعاقبتهم بالنصر .
ومن المعلوم أن قصة موسى وما جرى له مع فرعون وغيره أعظم وأشرف من قصة يوسف بكثير كثير ولهذا هي nindex.php?page=treesubj&link=28901أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن ثناها الله أكثر من غيرها وبسطها وطولها أكثر من غيرها ; بل قصص سائر الأنبياء - كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم من المرسلين - أعظم من قصة يوسف ولهذا ثنى الله تلك القصص في القرآن ولم يثن قصة يوسف وذلك لأن الذين عادوا يوسف لم يعادوه على الدين بل عادوه عداوة دنيوية وحسدوه على محبة أبيه له وظلموه فصبر واتقى الله وابتلي صلوات الله عليه بمن ظلمه وبمن دعاه إلى الفاحشة فصبر واتقى الله في هذا وفي هذا وابتلي أيضا بالملك فابتلي بالسراء والضراء فصبر واتقى الله في هذا وهذا فكانت قصته من أحسن القصص وهي [ ص: 22 ] أحسن من القصص التي لم تقص في القرآن فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك لكن ليس من لم يذكر في القرآن ممن اتقى الله وصبر مثل يوسف ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف . وهذا كما أن قصة أهل الكهف وقصة Multitarajem.php?tid=15872,15873ذي القرنين كل منهما هي في جنسها أحسن من غيرها . فقصة Multitarajem.php?tid=15872,15873ذي القرنين أحسن قصص الملوك وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة . فقوله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نحن نقص عليك أحسن القصص } يتناول كل ما قصه في كتابه فهو أحسن مما لم يقصه ليس المراد أن قصة يوسف أحسن ما قص في القرآن . وأين ما جرى ليوسف مما جرى لموسى ونوح وإبراهيم وغيرهم من الرسل وأين ما عودي أولئك مما عودي فيه يوسف وأين فضل أولئك عند الله وعلو درجتهم من يوسف - صلوات الله عليهم أجمعين ؟ وأين نصر أولئك من نصر يوسف ؟ فإن يوسف كما قال الله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } وأذل الله الذين ظلموه ثم تابوا فكان فيها من العبرة أن nindex.php?page=treesubj&link=28901_19572المظلوم المحسود إذا صبر واتقى الله كانت له العاقبة وأن الظالم الحاسد قد [ ص: 23 ] يتوب الله عليه ويعفو عنه وأن المظلوم ينبغي له العفو عن ظالمه إذا قدر عليه . وبهذا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597929اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لما قام على باب الكعبة وقد أذل الله له الذين عادوه وحاربوه من الطلقاء - فقال : ماذا أنتم قائلون ؟ فقالوا : نقول أخ كريم وابن عم كريم . فقال : إني قائل لكم كما قال يوسف لإخوته : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=92لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } } . وكذلك { عائشة لما ظلمت وافتري عليها وقيل لها : إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت في كلامها : أقول كما قال أبو يوسف { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=18فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } } .
ففي قصة يوسف أنواع من العبرة للمظلوم والمحسود والمبتلى بدواعي الفواحش والذنوب وغير ذلك . لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به ؟ فإن هؤلاء أوذوا اختيارا منهم لعبادة الله فعودوا وأوذوا في محبة الله وعبادته باختيارهم فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا وهذا بخلاف من أوذي بغير اختياره كما أخذ يوسف من أبيه بغير اختياره ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وامرأة العزيز واختياره السجن على معصية الله [ ص: 24 ] أعظم من إيمانه ودرجته عند الله وأجره من صبره على ظلم إخوته له ; ولهذا يعظم يوسف بهذا أعظم مما يعظم بذلك ولهذا قال تعالى فيه : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } وهذا كالصبر عن المعاصي مع الصبر على المصائب فالأول أعظم وهو صبر المتقين أولياء الله . قال سهل بن عبد الله التستري : أفعال البر يفعلها البر والفاجر ولن يصبر عن المعاصي إلا صديق ويوسف صلوات الله عليه كان صديقا نبيا . وأما من يظلم بغير اختياره ويصبر فهذا كثير ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم . وكذلك إذا مكن المظلوم وقهر ظالمه فتاب الظالم وخضع له فعفوه عنه من المحاسن والفضائل لكن هذا يفعله خلق كثير من أهل الدين وعقلاء الدنيا فإن حلم الملوك والولاة أجمع لأمرهم وطاعة الناس لهم وتأليفهم لقلوب الناس وكان معاوية من أحلم الناس وكان المأمون حليما حتى كان يقول : لو علم الناس محبتي في العفو تقربوا إلي بالذنوب ولهذا لما قدر على من نازعه في الملك - وهو عمه إبراهيم بن المهدي - عفا عنه . وأما nindex.php?page=treesubj&link=19590_28901الصبر عن الشهوات والهوى الغالب لله لا رجاء لمخلوق ولا خوفا منه مع كثرة الدواعي إلى فعل الفاحشة واختياره الحبس الطويل على ذلك كما قال يوسف : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=33رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } فهذا لا يوجد نظيره إلا في خيار عباد الله الصالحين وأوليائه [ ص: 25 ] المتقين كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فهذا من عباد الله المخلصين الذين قال الله تعالى فيهم : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ولهذا لم يصدر من يوسف الصديق ذنب أصلا بل الهم الذي هم به لما تركه لله كتب له به حسنة ولهذا لم يذكر عنه سبحانه توبة واستغفارا كما ذكر توبة الأنبياء كآدم وداود ونوح وغيرهم وإن لم يذكر عن أولئك الأنبياء فاحشة ولله الحمد وإنما كانت توباتهم من أمور أخر هي حسنات بالنسبة إلى غيرهم ولهذا لا يعرف ليوسف نظير فيما ابتلي به من دواعي الفاحشة وتقواه وصبره في ذلك .
وإنما يعرف لغيره ما هو دون ذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { nindex.php?page=hadith&LINKID=597931سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه } وإذا كان الصبر على الأذى لئلا يفعل الفاحشة أعظم من صبره على ظلم إخوته فكيف بصبر الرسل على أذى المكذبين لئلا يتركوا ما أمروا به من دعوتهم إلى عبادة الله وحده وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن [ ص: 26 ] المنكر ؟ فهذا الصبر هو من جنس الجهاد في سبيل الله إذ كان الجهاد مقصودا به أن تكون كلمة الله هي العليا وأن الدين كله لله فالجهاد والصبر فيه أفضل الأعمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=19005رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله } وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه وهو من حديث nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل الطويل - وهو أحب الأعمال إلى الله - فالصبر على تلك المعصية صبر المهاجر الذي هجر ما نهي عنه وصبر المجاهد الذي جاهد نفسه في الله وجاهد عدو الله الظاهر والباطن والمهاجر الصابر على ترك الذنب إنما جاهد نفسه وشيطانه ثم يجاهد عدو الله الظاهر لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وصبر المظلوم صبر المصاب . لكن المصاب بمصيبة سماوية تصبر نفسه ما لا تصبر نفس من ظلمه الناس فإن ذاك يستشعر أن الله هو الذي فعل به هذا فتيأس نفسه من الدفع والمعاقبة وأخذ الثأر بخلاف المظلوم الذي ظلمه الناس فإن نفسه تستشعر أن ظالمه يمكن دفعه وعقوبته وأخذ ثأره منه فالصبر على هذه المصيبة أفضل وأعظم كصبر يوسف صلوات الله عليه وسلامه وهذا يكون لأن صاحبه يعلم أن الله قدر ذلك فيصبر على ذلك كالمصائب السماوية ويكون أيضا لينال ثواب الكاظمين الغيظ والعافين عن [ ص: 27 ] الناس والله يحب المحسنين وليسلم قلبه من الغل للناس وكلا النوعين يشترك في أن صاحبه يستشعر أن ذلك بذنوبه وهو مما يكفر الله به سيئاته ويستغفر ويتوب وأيضا فيرى أن ذلك الصبر واجب عليه وأن الجزع مما يعاقب عليه . وإن ارتقى إلى الرضا رأى أن الرضا جنة الدنيا ومستراح العابدين وباب الله الأعظم . وإن رأى ذلك نعمة لما فيه من صلاح قلبه ودينه وقربه إلى الله وتكفير سيئاته وصونه عن ذنوب تدعوه إليها شياطين الإنس والجن شكر الله على هذه النعم . فالمصائب السماوية والآدمية تشترك في هذه الأمور ومعرفة الناس بهذه الأمور وعلمهم بها هو من فضل الله يمن به على من يشاء من عباده ; ولهذا كانت أحوال الناس في المصائب وغيرها متباينة تباينا عظيما . ثم إذا شهد العبد القدر وأن هذا أمر قدره الله وقضاه وهو الخالق له فهو مع الصبر يسلم للرب القادر المالك الذي يفعل ما يشاء وهذا حال الصابر وقد يسلم تسليمه للرب المحسن المدبر له بحسن اختياره الذي { nindex.php?page=hadith&LINKID=69351لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له } كما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا تسليم راض لعلمه بحسن اختيار الله له وهذا يورث الشكر . وقد يسلم تسليمه للرب المحسن إليه المتفضل عليه بنعم عظيمة . وإن لم [ ص: 28 ] ير هذا نعمة فيكون تسليمه تسليم راض غير شاكر . وقد يسلم تسليمه لله الذي لا إله إلا هو المستحق لأن يعبد لذاته وهو محمود على كل ما يفعله فإنه عليم حكيم رحيم لا يفعل شيئا إلا لحكمة وهو مستحق لمحبته وعبادته وحمده على كل ما خلقه . فهذا تسليم عبد عابد حامد وهذا من الحامدين الذين هم أول من يدعى إلى الجنة ومن بينهم صاحب لواء الحمد وآدم فمن دونه تحت لوائه . وهذا يكون القضاء خيرا له ونعمة من الله عليه . لكن يكون حمده لله ورضاه بقضائه من حيث عرف الله وأحبه وعبده لاستحقاقه الألوهية وحده لا شريك له فيكون صبره ورضاه وحمده من عبادته الصادرة عن هذه المعرفة والشهادة وهذا يشهد بقلبه أنه لا إله إلا الله والإله عنده هو المستحق للعبادة بخلاف من لم يشهد إلا مجرد ربوبيته ومشيئته وقدرته أو مجرد إحسانه ونعمته فإنهما مشهدان ناقصان قاصران وإنما يقتصر عليهما من نقص علمه بالله وبدينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه كأهل البدع من الجهمية والقدرية الجبرية والقدرية المعتزلة فإن الأول مشهد أولئك والثاني مشهد هؤلاء وشهود ربوبيته وقدرته ومشيئته مع شهود رحمته وإحسانه وفضله مع شهود إلهيته ومحبته ورضاه وحمده والثناء عليه ومجده هو مشهد أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة التابعين بإحسان [ ص: 29 ] للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . وهذه الأمور لبسطها موضع آخر . والمقصود هنا أن هذا يكون للمؤمن في عموم المصائب وما يكون بأفعال المؤمنين فله فيه كظم الغيظ والعفو عن الناس . ويوسف الصديق صلوات الله عليه كان له هذا وأعلى من ذلك الصبر عن الفاحشة مع قوة الداعي إليها فهذا الصبر أعظم من ذلك الصبر بل وأعظم من الصبر على الطاعة .
ولهذا قال سبحانه في وصف المتقين الذين أعد لهم الجنة : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=133وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=134الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=136أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين } فوصفهم بالكرم والحلم وبالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس . ثم لما جاءت الشهوات المحرمات وصفهم بالتوبة منها فقال { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا } فوصفهم بالتوبة منها وترك الإصرار عليها لا بترك ذلك بالكلية ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح { nindex.php?page=hadith&LINKID=28584كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة : فالعينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها السمع واللسان يزني وزناه المنطق واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } . وفي الحديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=597932كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون } . فلا بد للإنسان من مقدمات الكبيرة وكثير منهم يقع في الكبيرة فيؤمر بالتوبة ويؤمرون أن لا يصروا على صغيرة فإنه لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار . ويوسف صلى الله عليه وسلم صبر على الذنب مطلقا ولم يوجد منه إلا هم تركه لله كتب له به حسنة . وقد ذكر طائفة من المفسرين أنه وجد منه بعض المقدمات مثل حل السراويل والجلوس مجلس الخاتن ونحو ذلك لكن ليس هذا منقولا نقلا يصدق به فإن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومثل هذه الإسرائيليات إذا لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف صدقها ولهذا لا يجوز تصديقها ولا تكذيبها إلا بدليل والله تعالى يقول في القرآن : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } فدل القرآن على أنه صرف عنه السوء [ ص: 31 ] والفحشاء مطلقا ولو كان قد فعل صغيرة لتاب منها . والقرآن ليس فيه ذكر توبته . nindex.php?page=treesubj&link=28901_28965ومن وقع منه بعض أنواع السوء والفحشاء لم يكن ذلك قد صرف عنه بل يكون قد وقع وتاب الله عليه منه والقرآن يدل على خلاف هذا .
وقد شهدت النسوة له أنهن ما علمن عليه من سوء ولو كان قد بدت منه هذه المقدمات لكانت المرأة قد رأت ذلك وهي من النسوة اللاتي شهدن وقلن ما علمنا عليه من سوء وقالت مع ذلك : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=32ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } وقالت : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=51أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } . وقوله ( سوء نكرة في سياق النفي فدل ذلك على أن المرأة لم تر منه سوءا فإن الهم في القلب لم تطلع عليه ولو اطلعت عليه فإنه إذا تركه لله كان حسنة ولو تركه مطلقا لم يكن حسنة ولا سيئة فإنه لا إثم فيه إلا مع القول أو العمل . وأما قصة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم فتلك أعظم والواقع فيها من الجانبين فما فعلته الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه وإظهار آياته وأمره ونهيه ووعده ووعيده ومجاهدة المكذبين لهم والصبر على أذاهم هو أعظم عند الله ولهذا كانوا أفضل من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين وما صبروا عليه وعنه أعظم من الذي صبر يوسف عليه وعنه وعبادتهم لله [ ص: 32 ] وطاعتهم وتقواهم وصبرهم بما فعلوه أعظم من طاعة يوسف وعبادته وتقواه أولئك أولوا العزم الذين خصهم الله بالذكر في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=7وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وهم يوم القيامة الذين تطلب منهم الأمم الشفاعة وبهم أمر خاتم الرسل أن يقتدى في الصبر فقيل له : { nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=35فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } فقصصهم أحسن من قصة يوسف ; ولهذا ثناها الله في القرآن لا سيما قصة موسى . قال الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : أحسن أحاديث الأنبياء حديث تكليم الله لموسى .
ومن رجح الأول من النحاة - كالزجاج وغيره - قالوا : القصص مصدر يقال قص أثره يقصه قصصا ومنه قوله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=64فارتدا على آثارهما قصصا } . وكذلك اقتص أثره وتقصص وقد اقتصصت الحديث : رويته على وجهه وقد اقتص عليه الخبر قصصا . وليس القصص بالفتح جمع قصة كما يظنه بعض العامة . فإن ذلك يقال في قصص بالكسر واحده قصة والقصة هي الأمر والحديث الذي يقص فعلة بمعنى مفعول وجمعه قصص بالكسر . وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نحن نقص عليك أحسن القصص } بالفتح لم يقل أحسن القصص بالكسر ولكن [ ص: 20 ] بعض الناس ظنوا أن المراد أحسن القصص بالكسر وأن تلك القصة قصة يوسف وذكر هذا طائفة من المفسرين . ثم ذكروا : لم سميت أحسن القصص ؟ فقيل : لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة . وقيل : لامتداد الأوقات بين مبتداها ومنتهاها . وقيل لحسن محاورة يوسف وإخوته وصبره على أذاهم وإغضائه عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء وكرمه في العفو . وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن وحيلهن وفيها أيضا ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش فصارت أحسن القصص لما فيها من المعاني والفوائد التي تصلح للدين والدنيا . وقيل فيها ذكر الحبيب والمحبوب . وقيل " أحسن " بمعنى أعجب . والذين يجعلون قصة يوسف أحسن القصص منهم من يعلم أن " القصص " بالفتح هو النبأ والخبر ويقولون هي أحسن الأخبار والأنباء وكثير منهم يظن أن المراد أحسن القصص بالكسر وهؤلاء جهال بالعربية وكلا القولين خطأ وليس المراد بقوله : ( أحسن القصص قصة يوسف وحدها بل هي مما قصه الله ومما يدخل في أحسن القصص [ ص: 21 ] ولهذا قال تعالى في آخر السورة : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=109وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون } { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=110حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=111لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } فبين أن nindex.php?page=treesubj&link=28901العبرة في قصص المرسلين وأمر بالنظر في عاقبة من كذبهم وعاقبتهم بالنصر .
ومن المعلوم أن قصة موسى وما جرى له مع فرعون وغيره أعظم وأشرف من قصة يوسف بكثير كثير ولهذا هي nindex.php?page=treesubj&link=28901أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن ثناها الله أكثر من غيرها وبسطها وطولها أكثر من غيرها ; بل قصص سائر الأنبياء - كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم من المرسلين - أعظم من قصة يوسف ولهذا ثنى الله تلك القصص في القرآن ولم يثن قصة يوسف وذلك لأن الذين عادوا يوسف لم يعادوه على الدين بل عادوه عداوة دنيوية وحسدوه على محبة أبيه له وظلموه فصبر واتقى الله وابتلي صلوات الله عليه بمن ظلمه وبمن دعاه إلى الفاحشة فصبر واتقى الله في هذا وفي هذا وابتلي أيضا بالملك فابتلي بالسراء والضراء فصبر واتقى الله في هذا وهذا فكانت قصته من أحسن القصص وهي [ ص: 22 ] أحسن من القصص التي لم تقص في القرآن فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك لكن ليس من لم يذكر في القرآن ممن اتقى الله وصبر مثل يوسف ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف . وهذا كما أن قصة أهل الكهف وقصة Multitarajem.php?tid=15872,15873ذي القرنين كل منهما هي في جنسها أحسن من غيرها . فقصة Multitarajem.php?tid=15872,15873ذي القرنين أحسن قصص الملوك وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة . فقوله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نحن نقص عليك أحسن القصص } يتناول كل ما قصه في كتابه فهو أحسن مما لم يقصه ليس المراد أن قصة يوسف أحسن ما قص في القرآن . وأين ما جرى ليوسف مما جرى لموسى ونوح وإبراهيم وغيرهم من الرسل وأين ما عودي أولئك مما عودي فيه يوسف وأين فضل أولئك عند الله وعلو درجتهم من يوسف - صلوات الله عليهم أجمعين ؟ وأين نصر أولئك من نصر يوسف ؟ فإن يوسف كما قال الله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } وأذل الله الذين ظلموه ثم تابوا فكان فيها من العبرة أن nindex.php?page=treesubj&link=28901_19572المظلوم المحسود إذا صبر واتقى الله كانت له العاقبة وأن الظالم الحاسد قد [ ص: 23 ] يتوب الله عليه ويعفو عنه وأن المظلوم ينبغي له العفو عن ظالمه إذا قدر عليه . وبهذا { nindex.php?page=hadith&LINKID=597929اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لما قام على باب الكعبة وقد أذل الله له الذين عادوه وحاربوه من الطلقاء - فقال : ماذا أنتم قائلون ؟ فقالوا : نقول أخ كريم وابن عم كريم . فقال : إني قائل لكم كما قال يوسف لإخوته : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=92لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } } . وكذلك { عائشة لما ظلمت وافتري عليها وقيل لها : إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت في كلامها : أقول كما قال أبو يوسف { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=18فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } } .
ففي قصة يوسف أنواع من العبرة للمظلوم والمحسود والمبتلى بدواعي الفواحش والذنوب وغير ذلك . لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به ؟ فإن هؤلاء أوذوا اختيارا منهم لعبادة الله فعودوا وأوذوا في محبة الله وعبادته باختيارهم فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا وهذا بخلاف من أوذي بغير اختياره كما أخذ يوسف من أبيه بغير اختياره ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وامرأة العزيز واختياره السجن على معصية الله [ ص: 24 ] أعظم من إيمانه ودرجته عند الله وأجره من صبره على ظلم إخوته له ; ولهذا يعظم يوسف بهذا أعظم مما يعظم بذلك ولهذا قال تعالى فيه : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } وهذا كالصبر عن المعاصي مع الصبر على المصائب فالأول أعظم وهو صبر المتقين أولياء الله . قال سهل بن عبد الله التستري : أفعال البر يفعلها البر والفاجر ولن يصبر عن المعاصي إلا صديق ويوسف صلوات الله عليه كان صديقا نبيا . وأما من يظلم بغير اختياره ويصبر فهذا كثير ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم . وكذلك إذا مكن المظلوم وقهر ظالمه فتاب الظالم وخضع له فعفوه عنه من المحاسن والفضائل لكن هذا يفعله خلق كثير من أهل الدين وعقلاء الدنيا فإن حلم الملوك والولاة أجمع لأمرهم وطاعة الناس لهم وتأليفهم لقلوب الناس وكان معاوية من أحلم الناس وكان المأمون حليما حتى كان يقول : لو علم الناس محبتي في العفو تقربوا إلي بالذنوب ولهذا لما قدر على من نازعه في الملك - وهو عمه إبراهيم بن المهدي - عفا عنه . وأما nindex.php?page=treesubj&link=19590_28901الصبر عن الشهوات والهوى الغالب لله لا رجاء لمخلوق ولا خوفا منه مع كثرة الدواعي إلى فعل الفاحشة واختياره الحبس الطويل على ذلك كما قال يوسف : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=33رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } فهذا لا يوجد نظيره إلا في خيار عباد الله الصالحين وأوليائه [ ص: 25 ] المتقين كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فهذا من عباد الله المخلصين الذين قال الله تعالى فيهم : { nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ولهذا لم يصدر من يوسف الصديق ذنب أصلا بل الهم الذي هم به لما تركه لله كتب له به حسنة ولهذا لم يذكر عنه سبحانه توبة واستغفارا كما ذكر توبة الأنبياء كآدم وداود ونوح وغيرهم وإن لم يذكر عن أولئك الأنبياء فاحشة ولله الحمد وإنما كانت توباتهم من أمور أخر هي حسنات بالنسبة إلى غيرهم ولهذا لا يعرف ليوسف نظير فيما ابتلي به من دواعي الفاحشة وتقواه وصبره في ذلك .
وإنما يعرف لغيره ما هو دون ذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { nindex.php?page=hadith&LINKID=597931سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه } وإذا كان الصبر على الأذى لئلا يفعل الفاحشة أعظم من صبره على ظلم إخوته فكيف بصبر الرسل على أذى المكذبين لئلا يتركوا ما أمروا به من دعوتهم إلى عبادة الله وحده وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن [ ص: 26 ] المنكر ؟ فهذا الصبر هو من جنس الجهاد في سبيل الله إذ كان الجهاد مقصودا به أن تكون كلمة الله هي العليا وأن الدين كله لله فالجهاد والصبر فيه أفضل الأعمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=19005رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله } وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه وهو من حديث nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل الطويل - وهو أحب الأعمال إلى الله - فالصبر على تلك المعصية صبر المهاجر الذي هجر ما نهي عنه وصبر المجاهد الذي جاهد نفسه في الله وجاهد عدو الله الظاهر والباطن والمهاجر الصابر على ترك الذنب إنما جاهد نفسه وشيطانه ثم يجاهد عدو الله الظاهر لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وصبر المظلوم صبر المصاب . لكن المصاب بمصيبة سماوية تصبر نفسه ما لا تصبر نفس من ظلمه الناس فإن ذاك يستشعر أن الله هو الذي فعل به هذا فتيأس نفسه من الدفع والمعاقبة وأخذ الثأر بخلاف المظلوم الذي ظلمه الناس فإن نفسه تستشعر أن ظالمه يمكن دفعه وعقوبته وأخذ ثأره منه فالصبر على هذه المصيبة أفضل وأعظم كصبر يوسف صلوات الله عليه وسلامه وهذا يكون لأن صاحبه يعلم أن الله قدر ذلك فيصبر على ذلك كالمصائب السماوية ويكون أيضا لينال ثواب الكاظمين الغيظ والعافين عن [ ص: 27 ] الناس والله يحب المحسنين وليسلم قلبه من الغل للناس وكلا النوعين يشترك في أن صاحبه يستشعر أن ذلك بذنوبه وهو مما يكفر الله به سيئاته ويستغفر ويتوب وأيضا فيرى أن ذلك الصبر واجب عليه وأن الجزع مما يعاقب عليه . وإن ارتقى إلى الرضا رأى أن الرضا جنة الدنيا ومستراح العابدين وباب الله الأعظم . وإن رأى ذلك نعمة لما فيه من صلاح قلبه ودينه وقربه إلى الله وتكفير سيئاته وصونه عن ذنوب تدعوه إليها شياطين الإنس والجن شكر الله على هذه النعم . فالمصائب السماوية والآدمية تشترك في هذه الأمور ومعرفة الناس بهذه الأمور وعلمهم بها هو من فضل الله يمن به على من يشاء من عباده ; ولهذا كانت أحوال الناس في المصائب وغيرها متباينة تباينا عظيما . ثم إذا شهد العبد القدر وأن هذا أمر قدره الله وقضاه وهو الخالق له فهو مع الصبر يسلم للرب القادر المالك الذي يفعل ما يشاء وهذا حال الصابر وقد يسلم تسليمه للرب المحسن المدبر له بحسن اختياره الذي { nindex.php?page=hadith&LINKID=69351لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له } كما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا تسليم راض لعلمه بحسن اختيار الله له وهذا يورث الشكر . وقد يسلم تسليمه للرب المحسن إليه المتفضل عليه بنعم عظيمة . وإن لم [ ص: 28 ] ير هذا نعمة فيكون تسليمه تسليم راض غير شاكر . وقد يسلم تسليمه لله الذي لا إله إلا هو المستحق لأن يعبد لذاته وهو محمود على كل ما يفعله فإنه عليم حكيم رحيم لا يفعل شيئا إلا لحكمة وهو مستحق لمحبته وعبادته وحمده على كل ما خلقه . فهذا تسليم عبد عابد حامد وهذا من الحامدين الذين هم أول من يدعى إلى الجنة ومن بينهم صاحب لواء الحمد وآدم فمن دونه تحت لوائه . وهذا يكون القضاء خيرا له ونعمة من الله عليه . لكن يكون حمده لله ورضاه بقضائه من حيث عرف الله وأحبه وعبده لاستحقاقه الألوهية وحده لا شريك له فيكون صبره ورضاه وحمده من عبادته الصادرة عن هذه المعرفة والشهادة وهذا يشهد بقلبه أنه لا إله إلا الله والإله عنده هو المستحق للعبادة بخلاف من لم يشهد إلا مجرد ربوبيته ومشيئته وقدرته أو مجرد إحسانه ونعمته فإنهما مشهدان ناقصان قاصران وإنما يقتصر عليهما من نقص علمه بالله وبدينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه كأهل البدع من الجهمية والقدرية الجبرية والقدرية المعتزلة فإن الأول مشهد أولئك والثاني مشهد هؤلاء وشهود ربوبيته وقدرته ومشيئته مع شهود رحمته وإحسانه وفضله مع شهود إلهيته ومحبته ورضاه وحمده والثناء عليه ومجده هو مشهد أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة التابعين بإحسان [ ص: 29 ] للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . وهذه الأمور لبسطها موضع آخر . والمقصود هنا أن هذا يكون للمؤمن في عموم المصائب وما يكون بأفعال المؤمنين فله فيه كظم الغيظ والعفو عن الناس . ويوسف الصديق صلوات الله عليه كان له هذا وأعلى من ذلك الصبر عن الفاحشة مع قوة الداعي إليها فهذا الصبر أعظم من ذلك الصبر بل وأعظم من الصبر على الطاعة .
ولهذا قال سبحانه في وصف المتقين الذين أعد لهم الجنة : { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=133وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=134الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=136أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين } فوصفهم بالكرم والحلم وبالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس . ثم لما جاءت الشهوات المحرمات وصفهم بالتوبة منها فقال { nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا } فوصفهم بالتوبة منها وترك الإصرار عليها لا بترك ذلك بالكلية ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح { nindex.php?page=hadith&LINKID=28584كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة : فالعينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها السمع واللسان يزني وزناه المنطق واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } . وفي الحديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=597932كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون } . فلا بد للإنسان من مقدمات الكبيرة وكثير منهم يقع في الكبيرة فيؤمر بالتوبة ويؤمرون أن لا يصروا على صغيرة فإنه لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار . ويوسف صلى الله عليه وسلم صبر على الذنب مطلقا ولم يوجد منه إلا هم تركه لله كتب له به حسنة . وقد ذكر طائفة من المفسرين أنه وجد منه بعض المقدمات مثل حل السراويل والجلوس مجلس الخاتن ونحو ذلك لكن ليس هذا منقولا نقلا يصدق به فإن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومثل هذه الإسرائيليات إذا لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف صدقها ولهذا لا يجوز تصديقها ولا تكذيبها إلا بدليل والله تعالى يقول في القرآن : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=24كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } فدل القرآن على أنه صرف عنه السوء [ ص: 31 ] والفحشاء مطلقا ولو كان قد فعل صغيرة لتاب منها . والقرآن ليس فيه ذكر توبته . nindex.php?page=treesubj&link=28901_28965ومن وقع منه بعض أنواع السوء والفحشاء لم يكن ذلك قد صرف عنه بل يكون قد وقع وتاب الله عليه منه والقرآن يدل على خلاف هذا .
وقد شهدت النسوة له أنهن ما علمن عليه من سوء ولو كان قد بدت منه هذه المقدمات لكانت المرأة قد رأت ذلك وهي من النسوة اللاتي شهدن وقلن ما علمنا عليه من سوء وقالت مع ذلك : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=32ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } وقالت : { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=51أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } . وقوله ( سوء نكرة في سياق النفي فدل ذلك على أن المرأة لم تر منه سوءا فإن الهم في القلب لم تطلع عليه ولو اطلعت عليه فإنه إذا تركه لله كان حسنة ولو تركه مطلقا لم يكن حسنة ولا سيئة فإنه لا إثم فيه إلا مع القول أو العمل . وأما قصة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم فتلك أعظم والواقع فيها من الجانبين فما فعلته الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه وإظهار آياته وأمره ونهيه ووعده ووعيده ومجاهدة المكذبين لهم والصبر على أذاهم هو أعظم عند الله ولهذا كانوا أفضل من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين وما صبروا عليه وعنه أعظم من الذي صبر يوسف عليه وعنه وعبادتهم لله [ ص: 32 ] وطاعتهم وتقواهم وصبرهم بما فعلوه أعظم من طاعة يوسف وعبادته وتقواه أولئك أولوا العزم الذين خصهم الله بالذكر في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=7وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وهم يوم القيامة الذين تطلب منهم الأمم الشفاعة وبهم أمر خاتم الرسل أن يقتدى في الصبر فقيل له : { nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=35فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } فقصصهم أحسن من قصة يوسف ; ولهذا ثناها الله في القرآن لا سيما قصة موسى . قال الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : أحسن أحاديث الأنبياء حديث تكليم الله لموسى .
ولهذا تنازع أهل السنة والحديث في nindex.php?page=treesubj&link=29453_29463التلاوة والقرآن هل هي القرآن المتلو أم لا ؟ وقد تفطن nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة وغيره لما يناسب هذا المعنى وتكلم عليه وسبب الاشتباه أن المتلو هو القرآن نفسه الذي هو الكلام والتلاوة قد يراد بها هذا وقد يراد بها نفس حركة التالي [ ص: 35 ] وفعله وقد يراد بها الأمران جميعا فمن قال : التلاوة هي المتلو أراد بالتلاوة نفس القرآن المسموع وذلك هو المتلو ومن قال غيره أراد بالتلاوة حركة العبد وفعله وتلك ليست هي القرآن ومن نهى عن أن يقال التلاوة هي المتلو أو غير المتلو فلأن لفظ التلاوة يجمع الأمرين كما نهى nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيره عن أن يقال : لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ; لأن اللفظ يراد به الملفوظ نفسه الذي هو كلام الله ويراد به مصدر لفظ يلفظ لفظا وهو فعل العبد وأطلق قوم من أهل الحديث أن لفظي بالقرآن غير مخلوق وأطلق ناس آخرون أن لفظي به مخلوق قال nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة : لم يتنازع أهل الحديث في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ وهذا كان تنازع أهل الحديث والسنة الذين كانوا في زمن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وأصحابه الذين أدركوه . ثم جاء بعد هؤلاء طائفة قالوا : التلاوة غير المتلو وأرادوا بالتلاوة نفس كلام الله العربي الذي هو القرآن وأرادوا بالمتلو معنى واحدا قائما بذات الله .
وقال آخرون : التلاوة هي المتلو وأرادوا بالتلاوة نفس الأصوات المسموعة من القرآن جعلوا ما سمع من الأصوات هو نفس الكلام الذي ليس بمخلوق ولم يميزوا بين سماع الكلام من المتكلم وبين سماعه من المبلغ له عنه فزاد كل من هؤلاء وهؤلاء من البدع ما لم يكن يقوله أحد من أهل السنة والعلم فلم يكن من أهل [ ص: 36 ] السنة من يقول : إن القرآن العربي ليس هو كلام الله ولا يجعل المتلو مجرد معنى ولا كان فيهم من يقول : إن أصوات العباد - وغيرها من خصائصهم - غير مخلوق بل هم كلهم متفقون على أن nindex.php?page=treesubj&link=29453القرآن المتلو هو القرآن العربي الذي نزله روح القدس من الله بالحق وهو كلام الله الذي تكلم به . ولكن تنازعوا في nindex.php?page=treesubj&link=29463تلاوة العباد له : هل هي القرآن نفسه أم هي الفعل الذي يقرأ به القرآن ؟ . والتحقيق أن لفظ " التلاوة " يراد به هذا وهذا ولفظ " القرآن " يراد به المصدر ويراد به الكلام قال الله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=17إن علينا جمعه وقرآنه } { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=18فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=19ثم إن علينا بيانه } وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : إن علينا أن نجمعه في قلبك وتقرأه بلسانك . وقال أهل العربية : يقال قرأت الكتاب قراءة وقرآنا ومنه قول حسان :
والمشهور في قوله { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=45وإذا قرأت القرآن } أنه منصوب على المفعول به فكذلك أحسن القصص لكن في كلاهما معنى المصدر أيضا كما تقدم ففيه معنى المفعول به ومعنى المصدر جميعا وقد يغلب هذا كما في قوله { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=17إن علينا جمعه وقرآنه } فالمراد هنا نفس مسمى المصدر وقد يغلب هذا تارة كما في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=204فاستمعوا له وأنصتوا } وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وغالب ما يذكر لفظ " القرآن " إنما يراد به نفس الكلام لا يراد به التكلم بالكلام الذي هو مسمى المصدر . ومثل هذا كثير في اللغة يكون أمران متلازمان إما دائما وإما غالبا فيطلق الاسم عليهما ويغلب هذا تارة وهذا تارة وقد يقع على أحدهما مفردا كلفظ " النهر " و " القرية " و " الميزاب " ونحو ذلك مما فيه حال ومحل فالاسم يتناول مجرى الماء والماء الجاري وكذلك لفظ [ ص: 38 ] القرية يتناول المساكن والسكان ثم تقول : حفر النهر فالمراد به المجرى وتقول جرى النهر فالمراد به الماء وتقول جرى الميزاب تعني الماء ونصب الميزاب تعني الخشب .
وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع } والمراد السكان في المكان وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=4وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون } وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=59وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا } وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=102وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=7لتنذر أم القرى ومن حولها } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=45فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد } والخاوي على عروشه المكان لا السكان وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } لما كان المقصود بالقرية هم السكان كان إرادتهم أكثر في كتاب الله وكذلك لفظ النهر لما كان المقصود هو الماء كان إرادته أكثر كقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=33وفجرنا خلالهما نهرا } فهذا كثير أكثر من قولهم حفرنا النهر . وكذلك nindex.php?page=treesubj&link=29463إطلاق لفظ القرآن على نفس الكلام أكثر من إطلاقه على نفس التكلم . وكذلك لفظ الكلام والقول والقصص وسائر أنواع [ ص: 39 ] الكلام يراد بها نفس الكلام أكثر مما يراد بها فعل المتكلم وهذه الأمور لبسطها موضع آخر .
وقال آخرون : التلاوة هي المتلو وأرادوا بالتلاوة نفس الأصوات المسموعة من القرآن جعلوا ما سمع من الأصوات هو نفس الكلام الذي ليس بمخلوق ولم يميزوا بين سماع الكلام من المتكلم وبين سماعه من المبلغ له عنه فزاد كل من هؤلاء وهؤلاء من البدع ما لم يكن يقوله أحد من أهل السنة والعلم فلم يكن من أهل [ ص: 36 ] السنة من يقول : إن القرآن العربي ليس هو كلام الله ولا يجعل المتلو مجرد معنى ولا كان فيهم من يقول : إن أصوات العباد - وغيرها من خصائصهم - غير مخلوق بل هم كلهم متفقون على أن nindex.php?page=treesubj&link=29453القرآن المتلو هو القرآن العربي الذي نزله روح القدس من الله بالحق وهو كلام الله الذي تكلم به . ولكن تنازعوا في nindex.php?page=treesubj&link=29463تلاوة العباد له : هل هي القرآن نفسه أم هي الفعل الذي يقرأ به القرآن ؟ . والتحقيق أن لفظ " التلاوة " يراد به هذا وهذا ولفظ " القرآن " يراد به المصدر ويراد به الكلام قال الله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=17إن علينا جمعه وقرآنه } { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=18فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=19ثم إن علينا بيانه } وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : إن علينا أن نجمعه في قلبك وتقرأه بلسانك . وقال أهل العربية : يقال قرأت الكتاب قراءة وقرآنا ومنه قول حسان :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وقد قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=98فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=45وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=204وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } وهم إنما يستمعون الكلام نفسه ولا يستمعون [ ص: 37 ] مسمى المصدر الذي هو الفعل فإن ذلك لا يسمع فقوله { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=3نحن نقص عليك أحسن القصص } من هذا الباب من باب نقرأ عليك أحسن القصص ونتلو عليك أحسن القصص كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=3نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق } وقال : { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=18فإذا قرأناه } قال ابن عباس أي قراءة جبريل { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=18فاتبع قرآنه } فاستمع له حتى يقضي قراءته .والمشهور في قوله { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=45وإذا قرأت القرآن } أنه منصوب على المفعول به فكذلك أحسن القصص لكن في كلاهما معنى المصدر أيضا كما تقدم ففيه معنى المفعول به ومعنى المصدر جميعا وقد يغلب هذا كما في قوله { nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=17إن علينا جمعه وقرآنه } فالمراد هنا نفس مسمى المصدر وقد يغلب هذا تارة كما في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=204فاستمعوا له وأنصتوا } وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وغالب ما يذكر لفظ " القرآن " إنما يراد به نفس الكلام لا يراد به التكلم بالكلام الذي هو مسمى المصدر . ومثل هذا كثير في اللغة يكون أمران متلازمان إما دائما وإما غالبا فيطلق الاسم عليهما ويغلب هذا تارة وهذا تارة وقد يقع على أحدهما مفردا كلفظ " النهر " و " القرية " و " الميزاب " ونحو ذلك مما فيه حال ومحل فالاسم يتناول مجرى الماء والماء الجاري وكذلك لفظ [ ص: 38 ] القرية يتناول المساكن والسكان ثم تقول : حفر النهر فالمراد به المجرى وتقول جرى النهر فالمراد به الماء وتقول جرى الميزاب تعني الماء ونصب الميزاب تعني الخشب .
وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع } والمراد السكان في المكان وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=4وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون } وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=59وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا } وقال تعالى { nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=102وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=7لتنذر أم القرى ومن حولها } وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=45فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد } والخاوي على عروشه المكان لا السكان وقال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } لما كان المقصود بالقرية هم السكان كان إرادتهم أكثر في كتاب الله وكذلك لفظ النهر لما كان المقصود هو الماء كان إرادته أكثر كقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } وقوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=33وفجرنا خلالهما نهرا } فهذا كثير أكثر من قولهم حفرنا النهر . وكذلك nindex.php?page=treesubj&link=29463إطلاق لفظ القرآن على نفس الكلام أكثر من إطلاقه على نفس التكلم . وكذلك لفظ الكلام والقول والقصص وسائر أنواع [ ص: 39 ] الكلام يراد بها نفس الكلام أكثر مما يراد بها فعل المتكلم وهذه الأمور لبسطها موضع آخر .
وممن ذكر nindex.php?page=treesubj&link=29566 " تفضيل بعض القرآن على بعض في نفسه " أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما كالشيخ أبي حامد الإسفرائيني والقاضي أبي الطيب وأبي إسحاق الشيرازي وغيرهم ومثل nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى والحلواني الكبير وابنه عبد الرحمن Multitarajem.php?tid=13371,13372وابن عقيل قال أبو الوفاء ابن عقيل في [ ص: 47 ] " كتاب الواضح في أصول الفقه " في احتجاجه على أن القرآن لا ينسخ بالسنة قال : فمن ذلك قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } وليست السنة مثل القرآن ولا خيرا منه فبطل النسخ بها لأنه يؤدي إلى المحال وهو كون خبره بخلاف مخبره وذلك محال على الله فما أدى إليه فهو محال .
قال : فإن قيل : أصل استدلالكم مبني على أن المراد بالخير الفضل وليس المراد به ذلك وإنما المراد نأت بخير منها لكم وذلك يرجع إلى أحد أمرين في حقنا : إما سهولة في التكليف فهو خير عاجل أو أكثر ثوابا لكونه أثقل وأشق ويكون نفعا في الآجل والعاقبة وكلاهما قد يتحقق بطريق السنة .
ويحتمل : نأت بخير منها لا ناسخا لها بل يكون تكليفا مبتدأ هو خير لكم وإن لم يكن طريقه القرآن الناسخ ولا السنة الناسخة . قالوا : يوضح هذه التأويلات أن القرآن نفسه ليس بعضه خيرا من بعض فلا بد أن يصرفوا اللفظ عن ظاهره من خير يعود إلى التكليف لا إلى الطريق .
وقال في الجواب : قولهم : الخير يرجع إلى ما يخصنا من سهولة أو ثواب لا يصح ; لأنه لو أراد ذلك لقال : " لكم " . فلما حذف ذلك دل على ما يقتضيه الإطلاق وهو كون الناسخ خيرا من جهة نفسه وذاته ومن جهة الانتفاع به في العاجل والآجل على أن ظاهره يقتضي : [ ص: 48 ] بآيات خير منها فإن ذلك يعود إلى الجنس كما إذا قال القائل : ما آخذ منك دينارا إلا أعطيك خيرا منه لا يعقل بالإطلاق إلا دينارا خيرا منه فيتخير من الجنس أولا ثم النفع فإما أن يرجع ذلك إلى ثوب أو عرض غير الدينار فلا وفي آخر الآية ما يشهد بأنه أراد به القرآن لأنه قال : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } ووصفه لنفسه بالقدرة يدل على أن الذي يأتي به هو أمر يرجع إليه دون غيره
وكذلك قوله { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أو مثلها } يشهد لما ذكرناه لأن المماثلة يقتضي إطلاقها من كل وجه لا سيما وقد أنثها تأنيث الآية فكأنه قال : نأت بآية خير منها أو بآية مثلها . " قلت " : وأيضا فلا يجوز أن يراد بالخير من جهة كونه أخف عملا أو أشق وأكثر ثوابا لأن هذين الوصفين ثابتان لكل ما أمر الله به مبتدأ وناسخا فإنه إما أن يكون أيسر من غيره في الدنيا وإما أن يكون أشق فيكون ثوابه أكثر فإذا كانت هذه الصفة لازمة لجميع الأحكام لم يحسن أن يقال ما ننسخ من حكم نأت بخير منه أو مثله فإن المنسوخ أيضا يكون خيرا ومثلا بهذا الاعتبار فإنهم إن فسروا الخير بكونه أسهل فقد يكون المنسوخ أسهل فيكون خيرا وإن فسروه بكونه أعظم أجرا لمشقته فقد يكون المنسوخ كذلك والله قد أخبر أنه لا بد أن يأتي بخير مما ينسخه أو مثله فلا يأتي بما هو دونه .
[ ص: 49 ] وأيضا فعلى ما قالوه لا يكون شيء خيرا من شيء بل إن كان خيرا من جهة السهولة فذلك خير من جهة كثرة الأجر . قال Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل : وأما nindex.php?page=treesubj&link=28901_29566قولهم إن القرآن في نفسه لا يتخاير ولا يتفاضل فعلم أنه لم يرد به الخير الذي هو الأفضلية فليس كذلك فإن توحيد الله الذي في " سورة الإخلاص " وما ضمنها من نفي التجزؤ والانقسام أفضل من " تبت " المتضمنة ذم أبي لهب وذم زوجته إن شئت في كون المدح أفضل من القدح وإن شئت في الإعجاز فإن تلاوة غيرها من الآيات التي تظهر منها الفصاحة والبيان أفضل وليس من حيث كان المتكلم واحدا لا يكون التفاضل لمعنى يعود إلى الكلام ثانيا كما أن المرسل واحد لذي النون وإبراهيم وإبراهيم أفضل من ذي النون . قال : وأما قولهم : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نأت بخير منها } لا يكون ناسخا بل مبتدأ فلا يصح لأنه خرج مخرج الجزاء مجزوما وهذا يعطي البدلية والمقابلة مثل قولهم : إن تكرمني أكرمك وإن أطعتني أطعتك يقتضي أن يكون الجزاء مقابلة وبدلا لا فعلا مبتدأ . قلت : المقصد هنا ذكر ما نصره - من كون القرآن في نفسه بعضه خيرا من بعض - ليس المقصود الكلام في مسألة النسخ وكذلك غير هؤلاء صرحوا بأن بعض القرآن قد يكون خيرا من بعض وممن ذكر ذلك أبو حامد الغزالي في كتابه " جواهر القرآن " قال : [ ص: 50 ] لعلك تقول قد توجه قصدك في هذه التنبيهات إلى nindex.php?page=treesubj&link=29566تفضيل بعض آيات القرآن على بعض والكل كلام الله فكيف يفارق بعضها بعضا ؟ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض ؟ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات وبين سورة الإخلاص وسورة تبت وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الخوارة المستغرقة في التقليد فقلد صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فهو الذي أنزل عليه القرآن وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597939قلب القرآن يس } وقد دلت الأخبار على شرف بعضه على بعض فقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597940فاتحة الكتاب أفضل سور القرآن } وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597941آية الكرسي سيدة آي القرآن } وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=26735قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن } والأخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن وتخصص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى فاطلبه من كتب الحديث إن أردت .
وننبهك الآن على معنى هذه الأخبار الأربعة في تفضيل هذه السور . قلت : وسنذكر إن شاء الله ما ذكره في nindex.php?page=treesubj&link=29566تفضيل ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } . وممن ذكر كلام الناس في ذلك وحكى هذا القول عمن حكاه من السلف nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض في " شرح مسلم " قال في { nindex.php?page=hadith&LINKID=597942قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : أتدري أي آية من كتاب الله أعظم ؟ وذكر آية الكرسي } فيه حجة لتفضيل بعض القرآن على بعض [ ص: 51 ] nindex.php?page=treesubj&link=29566وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من اختاره : منهم إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين . قال : وذلك راجع إلى عظم أجر قارئي ذلك وجزيل ثوابه على بعضه أكثر من سائره . قال : وهذا مما اختلف أهل العلم فيه فأبى ذلك الأشعري Multitarajem.php?tid=12604,12605وابن الباقلاني وجماعة من الفقهاء وأهل العلم لأن مقتضى الأفضل نقص المفضول عنه وكلام الله لا يتبعض . قالوا : وما ورد من ذلك بقوله : " أفضل " و " أعظم " لبعض الآي والسور فمعناه عظيم وفاضل . قال : وقيل : كانت آية الكرسي أعظم لأنها جمعت أصول الأسماء والصفات من الإلهية والحياة والوحدانية والعلم والملك والقدرة والإرادة وهذه السبعة قالوا هي أصول الأسماء والصفات . قلت : المقصود ما ذكره من كلام العلماء وأما قول القائل إن هذه السبعة هي أصول الأسماء . فهذه السبعة عند كثير من المتكلمين هي المعروفة بالعقل وما سواها قالوا إنما يعلم بالسمع وهذا أمر يرجع إلى طريق علمنا لا إلى أمر حقيقي ثابت لها في نفس الأمر فكيف والجمهور على أن ما سواها قد يعلم بالعقل أيضا كالمحبة والرضا والأمر والنهي ومذهب nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وأكثر قدماء الصفاتية أن nindex.php?page=treesubj&link=28728العلو من الصفات العقلية وهو مذهب أبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي ومذهب طوائف من أهل الكلام والحديث والفقه وهو آخر قولي [ ص: 52 ] nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى وأبي الحسن بن الزاغوني وغيره ومذهب ابن كرام وأصحابه وهو قول عامة أئمة الحديث والفقه والتصوف . وكذلك ما فسره nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض من قول المفضلين إن المراد كثرة الثواب فهذا لا ينازع فيه الأشعري Multitarajem.php?tid=12604,12605وابن الباقلاني فإن الثواب مخلوق من مخلوقات الله تعالى فلا ينازع أحد في أن بعضه أفضل من بعض وإنما النزاع في نفس كلام الله الذي هو كلامه فحكايته النزاع يناقض ما فسر به قول المثبتة . وقد بين مأخذ الممتنعين عن التفضيل : منهم من نفي التفاضل في الصفات مطلقا بناء على أن القديم لا يتفاضل والقرآن من الصفات . ومنهم من خص القرآن بأنه واحد على أصله فلا يعقل فيه معنيان فضلا أن يعقل فيه فاضل ومفضول وهذا أصل أبي الحسن ومن وافقه كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
وهؤلاء الذين ذكرنا أقوالهم في أن كلام الله يكون بعضه أفضل من بعض ليس فيهم أحد من القائلين بأن كلام الله مخلوق - كما يقول ذلك من يقوله من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة - بل كل هؤلاء يقولون : إن nindex.php?page=treesubj&link=29566كلام الله غير مخلوق ولو تتبع ذكر من قال ذلك لكثروا فإن هذا قول جماهير المسلمين من السلف والخلف أهل السنة وأهل البدعة أما السلف - كالصحابة والتابعين لهم بإحسان - فلم يعرف لهم في هذا الأصل تنازع بل الآثار متواترة عنهم به . [ ص: 53 ] واشتهر القول بإنكار تفاضله بعد المائتين لما أظهرت الجهمية القول بأن القرآن مخلوق . واتفق أئمة السنة وجماهير الأمة على إنكار ذلك ورده عليهم . وظنت طائفة كثيرة - مثل أبي محمد بن كلاب ومن وافقه - أن هذا القول لا يمكن رده إلا إذا قيل إن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته ولا كلم موسى حين أتاه ولا قال للملائكة اسجدوا لآدم بعد أن خلقه ولا يغضب على أحد بعد أن يكفر به ولا يرضى عنه بعد أن يطيعه ولا يحبه بعد أن يتقرب إليه بالنوافل ولا يتكلم بكلام بعد كلام فتكون كلماته لا نهاية لها إلى غير ذلك مما ظنوا انتفاءه عن الله . وقالوا إنما يمكن مخالفة هؤلاء إذا قيل بأن القرآن وغيره من الكلام لازم لذات الله تعالى لم يزل ولا يزال يتكلم بكل كلام له كقوله : يا آدم يا نوح . وصاروا طائفتين : طائفة تقول إنه معنى واحد قائم بذاته وطائفة تقول إنه حروف أو حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلا وأبدا وإن كانت مترتبة في ذاتها ترتبا ذاتيا لا ترتبا وجوديا كما قد بين مقالات الناس في كلام الله في غير هذا الموضع . والأولون عندهم كلام الله شيء واحد لا بعض له فضلا عن أن يقال بعضه أفضل من بعض . والآخرون يقولون : هو قديم لازم لذاته والقديم لا يتفاضل . وربما نقل عن بعض السلف في قوله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نأت بخير منها } أنه قال : [ ص: 54 ] خيرا لكم منها أو أنفع لكم . فيظن الظان أن ذلك القائل موافق لهؤلاء . وليس كذلك بل مقصوده بيان وجه كونه خيرا وهو أن يكون أنفع للعباد فإن ما كان أكثر من الكلام نفعا للعباد كان في نفسه أفضل كما بين في موضعه . وصار من سلك مسلك الكلابية من متأخري أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم يظنون أن القول بتفاضل كلام الله بعضه على بعض إنما يمكن على قول المعتزلة ونحوهم الذين يقولون إنه مخلوق فإن القائلين بأنه مخلوق يرون فضل بعضه على بعض فضل مخلوق على مخلوق وتفضيل بعض المخلوقات على بعض لا ينكره أحد . فإذا ظن أولئك أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض مستلزم لكون القرآن مخلوقا فروا من ذلك وأنكروا القول به لأجل ما ظنوه من التلازم وليس الأمر كما ظنوه بل سلف الأمة وجمهورها يقولون : إن القرآن كلام الله غير مخلوق وكذلك سائر كلام الله غير مخلوق . ويقولون مع ذلك : إن كلام الله بعضه أفضل من بعض كما نطق بذلك الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين من غير خلاف يعرف في ذلك عنهم . وحدثنا أبي عن جدنا أبي البركات وصاحبه أبي عبد الله بن عبد الوهاب أنهما نظرا فيما ذكره بعض المفسرين من الأقوال في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نأت بخير منها أو مثلها } وأظنه كان نظرهم في تفسير أبي عبد [ ص: 55 ] الله محمد بن تيمية فلما رأيا تلك الأقوال قالا : هذا إنما يجيء على قول المعتزلة . وزار مرة أبو عبد الله بن عبد الوهاب هذا لشيخنا أبي زكريا بن الصيرفي وكان مريضا فدعا أبو زكريا بدعاء مأثور عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد يقول فيه " أسألك - بقدرتك التي قدرت بها أن تقول للسموات والأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين - أن تفعل بنا كذا وكذا " فلما خرج الناس من عنده قال له : ما هذا الدعاء الذي دعوت به ؟ هذا إنما يجيء على قول المعتزلة الذين يقولون القرآن مخلوق فأما أهل السنة فلا يقال عندهم قدر أن يتكلم أو يقول فإن كلامه قديم لازم لذاته لا يتعلق بمشيئته وقدرته .
وكان أبو عبد الله بن عبد الوهاب رحمه الله قد تلقى هذا عن البحوث التي يذكرها أبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله وقبله أبو الوفاء ابن عقيل وأمثاله وقبلهما nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى ونحوه فإن هؤلاء وأمثالهم من أصحاب مالك والشافعي - كأبي الوليد الباجي وأبي المعالي الجويني - وطائفة من أصحاب أبي حنيفة يوافقون nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب على قوله : إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته وعلى قوله : إن القرآن لازم لذات الله بل يظنون أن هذا قول السلف - قول nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ومالك والشافعي وسائر السلف - الذين يقولون : القرآن غير مخلوق حتى إن من سلك مسلك السالمية من هؤلاء - كالقاضي Multitarajem.php?tid=13371,13372وابن عقيل nindex.php?page=showalam&ids=12737وابن [ ص: 56 ] الزاغوني - يصرحون بأن مذهب أحمد أن القرآن قديم وأنه حروف وأصوات nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة الأربعة لم يقولوا هذا قط ولا ناظروا عليه ولكنهم وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة لم يعرفوا أقوالهم في بعض المسائل . ولكن الذين ظنوا أن قول nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وأتباعه هو مذهب السلف ومن أن القرآن غير مخلوق هم الذين صاروا يقولون : إن كلام الله بعضه أفضل إنما يجيء على قول أهل البدعالجهمية والمعتزلة كما صار يقول ذلك طوائف من أتباع الأئمة كما سنذكره من أقوال بعض أصحاب مالك والشافعي ولم يعلموا أن السلف لم يقل أحد منهم بهذا بل أنكروا على nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب هذا الأصل وأمر nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وغيره بهجر الكلابية على هذا الأصل حتى هجر الحارث المحاسبي لأنه كان صاحب nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وكان قد وافقه على هذا الأصل ثم روي عنه أنه رجع عن ذلك وكان أحمد يحذر عن الكلابية . وكان قد وقع بين أبي بكر بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة وبين بعض أصحابه مشاجرة على هذا الأصل لأنهم كانوا يقولون بقول nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وقد ذكر قصتهم الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في ( تاريخ نيسابور وبسط الكلام على هذا الأصل له موضع آخر وإنما نبهنا على المآخذ التي تعرف بها حقائق الأقوال .
قال : فإن قيل : أصل استدلالكم مبني على أن المراد بالخير الفضل وليس المراد به ذلك وإنما المراد نأت بخير منها لكم وذلك يرجع إلى أحد أمرين في حقنا : إما سهولة في التكليف فهو خير عاجل أو أكثر ثوابا لكونه أثقل وأشق ويكون نفعا في الآجل والعاقبة وكلاهما قد يتحقق بطريق السنة .
ويحتمل : نأت بخير منها لا ناسخا لها بل يكون تكليفا مبتدأ هو خير لكم وإن لم يكن طريقه القرآن الناسخ ولا السنة الناسخة . قالوا : يوضح هذه التأويلات أن القرآن نفسه ليس بعضه خيرا من بعض فلا بد أن يصرفوا اللفظ عن ظاهره من خير يعود إلى التكليف لا إلى الطريق .
وقال في الجواب : قولهم : الخير يرجع إلى ما يخصنا من سهولة أو ثواب لا يصح ; لأنه لو أراد ذلك لقال : " لكم " . فلما حذف ذلك دل على ما يقتضيه الإطلاق وهو كون الناسخ خيرا من جهة نفسه وذاته ومن جهة الانتفاع به في العاجل والآجل على أن ظاهره يقتضي : [ ص: 48 ] بآيات خير منها فإن ذلك يعود إلى الجنس كما إذا قال القائل : ما آخذ منك دينارا إلا أعطيك خيرا منه لا يعقل بالإطلاق إلا دينارا خيرا منه فيتخير من الجنس أولا ثم النفع فإما أن يرجع ذلك إلى ثوب أو عرض غير الدينار فلا وفي آخر الآية ما يشهد بأنه أراد به القرآن لأنه قال : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } ووصفه لنفسه بالقدرة يدل على أن الذي يأتي به هو أمر يرجع إليه دون غيره
وكذلك قوله { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106أو مثلها } يشهد لما ذكرناه لأن المماثلة يقتضي إطلاقها من كل وجه لا سيما وقد أنثها تأنيث الآية فكأنه قال : نأت بآية خير منها أو بآية مثلها . " قلت " : وأيضا فلا يجوز أن يراد بالخير من جهة كونه أخف عملا أو أشق وأكثر ثوابا لأن هذين الوصفين ثابتان لكل ما أمر الله به مبتدأ وناسخا فإنه إما أن يكون أيسر من غيره في الدنيا وإما أن يكون أشق فيكون ثوابه أكثر فإذا كانت هذه الصفة لازمة لجميع الأحكام لم يحسن أن يقال ما ننسخ من حكم نأت بخير منه أو مثله فإن المنسوخ أيضا يكون خيرا ومثلا بهذا الاعتبار فإنهم إن فسروا الخير بكونه أسهل فقد يكون المنسوخ أسهل فيكون خيرا وإن فسروه بكونه أعظم أجرا لمشقته فقد يكون المنسوخ كذلك والله قد أخبر أنه لا بد أن يأتي بخير مما ينسخه أو مثله فلا يأتي بما هو دونه .
[ ص: 49 ] وأيضا فعلى ما قالوه لا يكون شيء خيرا من شيء بل إن كان خيرا من جهة السهولة فذلك خير من جهة كثرة الأجر . قال Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل : وأما nindex.php?page=treesubj&link=28901_29566قولهم إن القرآن في نفسه لا يتخاير ولا يتفاضل فعلم أنه لم يرد به الخير الذي هو الأفضلية فليس كذلك فإن توحيد الله الذي في " سورة الإخلاص " وما ضمنها من نفي التجزؤ والانقسام أفضل من " تبت " المتضمنة ذم أبي لهب وذم زوجته إن شئت في كون المدح أفضل من القدح وإن شئت في الإعجاز فإن تلاوة غيرها من الآيات التي تظهر منها الفصاحة والبيان أفضل وليس من حيث كان المتكلم واحدا لا يكون التفاضل لمعنى يعود إلى الكلام ثانيا كما أن المرسل واحد لذي النون وإبراهيم وإبراهيم أفضل من ذي النون . قال : وأما قولهم : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نأت بخير منها } لا يكون ناسخا بل مبتدأ فلا يصح لأنه خرج مخرج الجزاء مجزوما وهذا يعطي البدلية والمقابلة مثل قولهم : إن تكرمني أكرمك وإن أطعتني أطعتك يقتضي أن يكون الجزاء مقابلة وبدلا لا فعلا مبتدأ . قلت : المقصد هنا ذكر ما نصره - من كون القرآن في نفسه بعضه خيرا من بعض - ليس المقصود الكلام في مسألة النسخ وكذلك غير هؤلاء صرحوا بأن بعض القرآن قد يكون خيرا من بعض وممن ذكر ذلك أبو حامد الغزالي في كتابه " جواهر القرآن " قال : [ ص: 50 ] لعلك تقول قد توجه قصدك في هذه التنبيهات إلى nindex.php?page=treesubj&link=29566تفضيل بعض آيات القرآن على بعض والكل كلام الله فكيف يفارق بعضها بعضا ؟ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض ؟ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات وبين سورة الإخلاص وسورة تبت وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الخوارة المستغرقة في التقليد فقلد صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فهو الذي أنزل عليه القرآن وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597939قلب القرآن يس } وقد دلت الأخبار على شرف بعضه على بعض فقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597940فاتحة الكتاب أفضل سور القرآن } وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=597941آية الكرسي سيدة آي القرآن } وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=26735قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن } والأخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن وتخصص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى فاطلبه من كتب الحديث إن أردت .
وننبهك الآن على معنى هذه الأخبار الأربعة في تفضيل هذه السور . قلت : وسنذكر إن شاء الله ما ذكره في nindex.php?page=treesubj&link=29566تفضيل ( { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } . وممن ذكر كلام الناس في ذلك وحكى هذا القول عمن حكاه من السلف nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض في " شرح مسلم " قال في { nindex.php?page=hadith&LINKID=597942قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : أتدري أي آية من كتاب الله أعظم ؟ وذكر آية الكرسي } فيه حجة لتفضيل بعض القرآن على بعض [ ص: 51 ] nindex.php?page=treesubj&link=29566وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من اختاره : منهم إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين . قال : وذلك راجع إلى عظم أجر قارئي ذلك وجزيل ثوابه على بعضه أكثر من سائره . قال : وهذا مما اختلف أهل العلم فيه فأبى ذلك الأشعري Multitarajem.php?tid=12604,12605وابن الباقلاني وجماعة من الفقهاء وأهل العلم لأن مقتضى الأفضل نقص المفضول عنه وكلام الله لا يتبعض . قالوا : وما ورد من ذلك بقوله : " أفضل " و " أعظم " لبعض الآي والسور فمعناه عظيم وفاضل . قال : وقيل : كانت آية الكرسي أعظم لأنها جمعت أصول الأسماء والصفات من الإلهية والحياة والوحدانية والعلم والملك والقدرة والإرادة وهذه السبعة قالوا هي أصول الأسماء والصفات . قلت : المقصود ما ذكره من كلام العلماء وأما قول القائل إن هذه السبعة هي أصول الأسماء . فهذه السبعة عند كثير من المتكلمين هي المعروفة بالعقل وما سواها قالوا إنما يعلم بالسمع وهذا أمر يرجع إلى طريق علمنا لا إلى أمر حقيقي ثابت لها في نفس الأمر فكيف والجمهور على أن ما سواها قد يعلم بالعقل أيضا كالمحبة والرضا والأمر والنهي ومذهب nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وأكثر قدماء الصفاتية أن nindex.php?page=treesubj&link=28728العلو من الصفات العقلية وهو مذهب أبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي ومذهب طوائف من أهل الكلام والحديث والفقه وهو آخر قولي [ ص: 52 ] nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى وأبي الحسن بن الزاغوني وغيره ومذهب ابن كرام وأصحابه وهو قول عامة أئمة الحديث والفقه والتصوف . وكذلك ما فسره nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض من قول المفضلين إن المراد كثرة الثواب فهذا لا ينازع فيه الأشعري Multitarajem.php?tid=12604,12605وابن الباقلاني فإن الثواب مخلوق من مخلوقات الله تعالى فلا ينازع أحد في أن بعضه أفضل من بعض وإنما النزاع في نفس كلام الله الذي هو كلامه فحكايته النزاع يناقض ما فسر به قول المثبتة . وقد بين مأخذ الممتنعين عن التفضيل : منهم من نفي التفاضل في الصفات مطلقا بناء على أن القديم لا يتفاضل والقرآن من الصفات . ومنهم من خص القرآن بأنه واحد على أصله فلا يعقل فيه معنيان فضلا أن يعقل فيه فاضل ومفضول وهذا أصل أبي الحسن ومن وافقه كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
وهؤلاء الذين ذكرنا أقوالهم في أن كلام الله يكون بعضه أفضل من بعض ليس فيهم أحد من القائلين بأن كلام الله مخلوق - كما يقول ذلك من يقوله من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة - بل كل هؤلاء يقولون : إن nindex.php?page=treesubj&link=29566كلام الله غير مخلوق ولو تتبع ذكر من قال ذلك لكثروا فإن هذا قول جماهير المسلمين من السلف والخلف أهل السنة وأهل البدعة أما السلف - كالصحابة والتابعين لهم بإحسان - فلم يعرف لهم في هذا الأصل تنازع بل الآثار متواترة عنهم به . [ ص: 53 ] واشتهر القول بإنكار تفاضله بعد المائتين لما أظهرت الجهمية القول بأن القرآن مخلوق . واتفق أئمة السنة وجماهير الأمة على إنكار ذلك ورده عليهم . وظنت طائفة كثيرة - مثل أبي محمد بن كلاب ومن وافقه - أن هذا القول لا يمكن رده إلا إذا قيل إن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته ولا كلم موسى حين أتاه ولا قال للملائكة اسجدوا لآدم بعد أن خلقه ولا يغضب على أحد بعد أن يكفر به ولا يرضى عنه بعد أن يطيعه ولا يحبه بعد أن يتقرب إليه بالنوافل ولا يتكلم بكلام بعد كلام فتكون كلماته لا نهاية لها إلى غير ذلك مما ظنوا انتفاءه عن الله . وقالوا إنما يمكن مخالفة هؤلاء إذا قيل بأن القرآن وغيره من الكلام لازم لذات الله تعالى لم يزل ولا يزال يتكلم بكل كلام له كقوله : يا آدم يا نوح . وصاروا طائفتين : طائفة تقول إنه معنى واحد قائم بذاته وطائفة تقول إنه حروف أو حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلا وأبدا وإن كانت مترتبة في ذاتها ترتبا ذاتيا لا ترتبا وجوديا كما قد بين مقالات الناس في كلام الله في غير هذا الموضع . والأولون عندهم كلام الله شيء واحد لا بعض له فضلا عن أن يقال بعضه أفضل من بعض . والآخرون يقولون : هو قديم لازم لذاته والقديم لا يتفاضل . وربما نقل عن بعض السلف في قوله تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نأت بخير منها } أنه قال : [ ص: 54 ] خيرا لكم منها أو أنفع لكم . فيظن الظان أن ذلك القائل موافق لهؤلاء . وليس كذلك بل مقصوده بيان وجه كونه خيرا وهو أن يكون أنفع للعباد فإن ما كان أكثر من الكلام نفعا للعباد كان في نفسه أفضل كما بين في موضعه . وصار من سلك مسلك الكلابية من متأخري أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم يظنون أن القول بتفاضل كلام الله بعضه على بعض إنما يمكن على قول المعتزلة ونحوهم الذين يقولون إنه مخلوق فإن القائلين بأنه مخلوق يرون فضل بعضه على بعض فضل مخلوق على مخلوق وتفضيل بعض المخلوقات على بعض لا ينكره أحد . فإذا ظن أولئك أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض مستلزم لكون القرآن مخلوقا فروا من ذلك وأنكروا القول به لأجل ما ظنوه من التلازم وليس الأمر كما ظنوه بل سلف الأمة وجمهورها يقولون : إن القرآن كلام الله غير مخلوق وكذلك سائر كلام الله غير مخلوق . ويقولون مع ذلك : إن كلام الله بعضه أفضل من بعض كما نطق بذلك الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين من غير خلاف يعرف في ذلك عنهم . وحدثنا أبي عن جدنا أبي البركات وصاحبه أبي عبد الله بن عبد الوهاب أنهما نظرا فيما ذكره بعض المفسرين من الأقوال في قوله : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=106نأت بخير منها أو مثلها } وأظنه كان نظرهم في تفسير أبي عبد [ ص: 55 ] الله محمد بن تيمية فلما رأيا تلك الأقوال قالا : هذا إنما يجيء على قول المعتزلة . وزار مرة أبو عبد الله بن عبد الوهاب هذا لشيخنا أبي زكريا بن الصيرفي وكان مريضا فدعا أبو زكريا بدعاء مأثور عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد يقول فيه " أسألك - بقدرتك التي قدرت بها أن تقول للسموات والأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين - أن تفعل بنا كذا وكذا " فلما خرج الناس من عنده قال له : ما هذا الدعاء الذي دعوت به ؟ هذا إنما يجيء على قول المعتزلة الذين يقولون القرآن مخلوق فأما أهل السنة فلا يقال عندهم قدر أن يتكلم أو يقول فإن كلامه قديم لازم لذاته لا يتعلق بمشيئته وقدرته .
وكان أبو عبد الله بن عبد الوهاب رحمه الله قد تلقى هذا عن البحوث التي يذكرها أبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله وقبله أبو الوفاء ابن عقيل وأمثاله وقبلهما nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى ونحوه فإن هؤلاء وأمثالهم من أصحاب مالك والشافعي - كأبي الوليد الباجي وأبي المعالي الجويني - وطائفة من أصحاب أبي حنيفة يوافقون nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب على قوله : إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته وعلى قوله : إن القرآن لازم لذات الله بل يظنون أن هذا قول السلف - قول nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ومالك والشافعي وسائر السلف - الذين يقولون : القرآن غير مخلوق حتى إن من سلك مسلك السالمية من هؤلاء - كالقاضي Multitarajem.php?tid=13371,13372وابن عقيل nindex.php?page=showalam&ids=12737وابن [ ص: 56 ] الزاغوني - يصرحون بأن مذهب أحمد أن القرآن قديم وأنه حروف وأصوات nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة الأربعة لم يقولوا هذا قط ولا ناظروا عليه ولكنهم وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة لم يعرفوا أقوالهم في بعض المسائل . ولكن الذين ظنوا أن قول nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وأتباعه هو مذهب السلف ومن أن القرآن غير مخلوق هم الذين صاروا يقولون : إن كلام الله بعضه أفضل إنما يجيء على قول أهل البدعالجهمية والمعتزلة كما صار يقول ذلك طوائف من أتباع الأئمة كما سنذكره من أقوال بعض أصحاب مالك والشافعي ولم يعلموا أن السلف لم يقل أحد منهم بهذا بل أنكروا على nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب هذا الأصل وأمر nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وغيره بهجر الكلابية على هذا الأصل حتى هجر الحارث المحاسبي لأنه كان صاحب nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وكان قد وافقه على هذا الأصل ثم روي عنه أنه رجع عن ذلك وكان أحمد يحذر عن الكلابية . وكان قد وقع بين أبي بكر بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة وبين بعض أصحابه مشاجرة على هذا الأصل لأنهم كانوا يقولون بقول nindex.php?page=showalam&ids=13464ابن كلاب وقد ذكر قصتهم الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في ( تاريخ نيسابور وبسط الكلام على هذا الأصل له موضع آخر وإنما نبهنا على المآخذ التي تعرف بها حقائق الأقوال .
[ ص: 57 ] فصل وفي الجملة : فدلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقلية على أن nindex.php?page=treesubj&link=29566كلام الله بعضه أفضل من بعض هو من الدلالات الظاهرة المشهورة . وأيضا فإن القرآن وإن كان كله كلام الله وكذلك التوراة والإنجيل والأحاديث الإلهية التي يحكيها الرسول عن الله تبارك وتعالى كقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=43518يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } الحديث وكقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=70607من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي } وأمثال ذلك هي وإن اشتركت في كونها كلام الله فمعلوم أن الكلام له نسبتان : نسبة إلى المتكلم به ونسبة إلى المتكلم فيه . فهو يتفاضل باعتبار النسبتين وباعتبار نفسه أيضا مثل الكلام الخبري له نسبتان : نسبة إلى المتكلم المخبر ونسبة إلى المخبر عنه المتكلم فيه . ف { nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=1قل هو الله أحد } و { nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تبت يدا أبي لهب } كلاهما كلام الله وهما مشتركان من هذه الجهة لكنهما متفاضلان من جهة المتكلم فيه المخبر عنه . فهذه كلام الله وخبره الذي يخبر به عن نفسه وصفته التي يصف بها نفسه [ ص: 58 ] وكلامه الذي يتكلم به عن نفسه . وهذه كلام الله الذي يتكلم به عن بعض خلقه ويخبر به عنه ويصف به حاله وهما في هذه الجهة متفاضلان بحسب تفاضل المعنى المقصود بالكلامين . ألا ترى أن المخلوق يتكلم بكلام هو كله كلامه لكن كلامه الذي يذكر به ربه أعظم من كلامه الذي يذكر به بعض المخلوقات والجميع كلامه فاشتراك الكلامين بالنسبة إلى المتكلم لا يمنع تفاضلهما بالنسبة إلى المتكلم فيه سواء كانت النسبتان أو إحداهما توجب التفضيل أو لا توجبه .
فكلام الأنبياء ثم العلماء والخطباء والشعراء بعضه أفضل من بعض وإن كان المتكلم واحدا وكذلك كلام الملائكة والجن وسواء أريد بالكلام المعاني فقط أو الألفاظ فقط أو كلاهما أو كل منهما فلا ريب في تفاضل الألفاظ والمعاني من المتكلم الواحد فدل ذلك على أن مجرد اتفاق الكلامين في أن المتكلم بهما واحد لا يوجب تماثلهما من سائر الجهات . فتفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه سواء كان خبرا أو إنشاء أمر معلوم بالفطرة والشرعة فليس الخبر المتضمن للحمد لله والثناء عليه بأسمائه الحسنى كالخبر المتضمن لذكر أبي لهب وفرعون وإبليس وإن كان هذا كلاما عظيما معظما تكلم الله به وكذلك ليس الأمر بالتوحيد والإيمان بالله ورسوله وغير ذلك من أصول الدين الذي أمرت [ ص: 59 ] به الشرائع كلها وغير ذلك مما يتضمن الأمر بالمأمورات العظيمة والنهي عن الشرك وقتل النفس والزنا ونحو ذلك مما حرمته الشرائع كلها وما يحصل معه فساد عظيم كالأمر بلعق الأصابع وإماطة الأذى عن اللقمة الساقطة والنهي عن القران في التمر ولو كان الأمران واجبين فليس الأمر بالإيمان بالله ورسوله كالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد والأمر بالإنفاق على الحامل وإيتائها أجرها إذا أرضعت . ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى nindex.php?page=treesubj&link=29566تفاضل أنواع الإيجاب والتحريم وقالوا : إن إيجاب أحد الفعلين قد يكون أبلغ من إيجاب الآخر وتحريمه أشد من تحريم الآخر فهذا أعظم إيجابا وهذا أعظم تحريما ولكن طائفة من أهل الكلام نازعوا في ذلك Multitarajem.php?tid=13371,13372كابن عقيل وغيره فقالوا : التفاضل ليس في نفس الإيجاب والتحريم لكن في متعلق ذلك وهو كثرة الثواب والعقاب . والجمهور يقولون : بل التفاضل في الأمرين والتفاضل في المسببات دليل على التفاضل في الأسباب وكون أحد الفعلين ثوابه أعظم وعقابه أعظم : دليل على أن الأمر به والنهي عنه أوكد وكون أحد الأمرين والنهيين مخصوصا بالتوكيد دون الثاني مما لا يستريب فيه عاقل ولو تساويا من كل وجه لامتنع الاختصاص بتوكيد أو غيره من أسباب الترجيح فإن التسوية والتفضيل متضادان .
وجمهور أئمة الفقهاء على التفاضل في الإيجاب والتحريم وإطلاق [ ص: 60 ] ذلك هو قول جماهير المتأخرين من أصحاب الأئمة الأربعة . وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى nindex.php?page=showalam&ids=11851وأبي الخطاب والقاضي يعقوب البرزيني وعبد الرحمن الحلواني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم لكن من هؤلاء من يفسر التفاضل بتفاضل الثواب والعقاب ونحو ذلك مما لا ينازع فيه النفاة . والتحقيق أن نفس المحبة والرضا والبغض والإرادة والكرامة والطلب والاقتضاء ونحو ذلك من المعاني تتفاضل وتتفاضل الألفاظ الدالة عليها . ونفس حب العباد لربهم يتفاضل كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=165والذين آمنوا أشد حبا لله } . ونفس حب الله لهم يتفاضل أيضا فإن الخليلين إبراهيم ومحمدا أحب إليه ممن سواهما وبعض الأعمال أحب إلى الله من بعض والقول بأن هذا الفعل أحب إلي من هذا مشهور ومستفيض في الآثار النبوية وكلام خير البرية كقول بعض الصحابة : لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لفعلناه فأنزل الله سورة الصف وهو مشهور ثابت رواه الترمذي وغيره . وكون هذا أحب إلى الله من هذا هو دا
فكلام الأنبياء ثم العلماء والخطباء والشعراء بعضه أفضل من بعض وإن كان المتكلم واحدا وكذلك كلام الملائكة والجن وسواء أريد بالكلام المعاني فقط أو الألفاظ فقط أو كلاهما أو كل منهما فلا ريب في تفاضل الألفاظ والمعاني من المتكلم الواحد فدل ذلك على أن مجرد اتفاق الكلامين في أن المتكلم بهما واحد لا يوجب تماثلهما من سائر الجهات . فتفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه سواء كان خبرا أو إنشاء أمر معلوم بالفطرة والشرعة فليس الخبر المتضمن للحمد لله والثناء عليه بأسمائه الحسنى كالخبر المتضمن لذكر أبي لهب وفرعون وإبليس وإن كان هذا كلاما عظيما معظما تكلم الله به وكذلك ليس الأمر بالتوحيد والإيمان بالله ورسوله وغير ذلك من أصول الدين الذي أمرت [ ص: 59 ] به الشرائع كلها وغير ذلك مما يتضمن الأمر بالمأمورات العظيمة والنهي عن الشرك وقتل النفس والزنا ونحو ذلك مما حرمته الشرائع كلها وما يحصل معه فساد عظيم كالأمر بلعق الأصابع وإماطة الأذى عن اللقمة الساقطة والنهي عن القران في التمر ولو كان الأمران واجبين فليس الأمر بالإيمان بالله ورسوله كالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد والأمر بالإنفاق على الحامل وإيتائها أجرها إذا أرضعت . ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى nindex.php?page=treesubj&link=29566تفاضل أنواع الإيجاب والتحريم وقالوا : إن إيجاب أحد الفعلين قد يكون أبلغ من إيجاب الآخر وتحريمه أشد من تحريم الآخر فهذا أعظم إيجابا وهذا أعظم تحريما ولكن طائفة من أهل الكلام نازعوا في ذلك Multitarajem.php?tid=13371,13372كابن عقيل وغيره فقالوا : التفاضل ليس في نفس الإيجاب والتحريم لكن في متعلق ذلك وهو كثرة الثواب والعقاب . والجمهور يقولون : بل التفاضل في الأمرين والتفاضل في المسببات دليل على التفاضل في الأسباب وكون أحد الفعلين ثوابه أعظم وعقابه أعظم : دليل على أن الأمر به والنهي عنه أوكد وكون أحد الأمرين والنهيين مخصوصا بالتوكيد دون الثاني مما لا يستريب فيه عاقل ولو تساويا من كل وجه لامتنع الاختصاص بتوكيد أو غيره من أسباب الترجيح فإن التسوية والتفضيل متضادان .
وجمهور أئمة الفقهاء على التفاضل في الإيجاب والتحريم وإطلاق [ ص: 60 ] ذلك هو قول جماهير المتأخرين من أصحاب الأئمة الأربعة . وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى nindex.php?page=showalam&ids=11851وأبي الخطاب والقاضي يعقوب البرزيني وعبد الرحمن الحلواني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم لكن من هؤلاء من يفسر التفاضل بتفاضل الثواب والعقاب ونحو ذلك مما لا ينازع فيه النفاة . والتحقيق أن نفس المحبة والرضا والبغض والإرادة والكرامة والطلب والاقتضاء ونحو ذلك من المعاني تتفاضل وتتفاضل الألفاظ الدالة عليها . ونفس حب العباد لربهم يتفاضل كما قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=165والذين آمنوا أشد حبا لله } . ونفس حب الله لهم يتفاضل أيضا فإن الخليلين إبراهيم ومحمدا أحب إليه ممن سواهما وبعض الأعمال أحب إلى الله من بعض والقول بأن هذا الفعل أحب إلي من هذا مشهور ومستفيض في الآثار النبوية وكلام خير البرية كقول بعض الصحابة : لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لفعلناه فأنزل الله سورة الصف وهو مشهور ثابت رواه الترمذي وغيره . وكون هذا أحب إلى الله من هذا هو دا