الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم ذكر الفريق الآخر المقابل لمن تأخذه العزة إذا ذكر بالله تعالى فقال : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) وكان مقتضى المقابلة أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح مع عدم الدعوى والتبجح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله ، وموافقة لسانه لما في قلبه ، والآية تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به . فإن من يشري ; أي : يبيع نفسه لله ، لا يبغي ثمنا لها غير مرضاته ، لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق ، مع الإخلاص في القلب ، فلا يتكلم بلسانين ، ولا يقابل الناس بوجهين ، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا وما عند كبرائها ومترفيها من القصور ، ومتاع الزينة والغرور ، وهذا هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه . وأما الإيمان القولي الذي يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب ، ولا تظهر آثاره في الأعمال ، ولا يحمل صاحبه شيئا من الحقوق لدينه وملته ولا لقومه وأمته ، فلا قيمة له في كتاب ، ولا يقام لصاحبه وزن في يوم الله ، بل يخشى أن يقال لذويه : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) ( 46 : 20 ) .

                          ذكر الله تعالى هذا الشراء في آيات أخرى تشرح هذه الآية وتفسرها ، وتبين أن المؤمنين باعوا وأن الله قد اشترى ، كقوله عز وجل : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة - إلى قوله - فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) ( 9 : 111 ) وقد وصف هؤلاء المؤمنين في الآية التي بعدها بما يجب على المؤمن أن يجعله معها ميزانا للإيمان وأهله ، فنفس المؤمن لله لا للشهوة واللذة البهيمية والمكر الشيطاني ، فمن آثر شهوته على مرضاة ربه ، والتزام حدوده ، والمحافظة على هدي دينه ، فلا وزن له في سوق هذا البيع ولا قيمة . ولقد نعلم أنه ليكبر هذا القول على المفتونين بزينة الحياة الدنيا ، ولذاتها وقصورها ، وخمورها وحورها ، وإن كانوا يزعمون أنهم من زعماء الدين ، وخدمته المخلصين; لأن الحق مر في مذاق المبطلين .

                          والآية لا تنافي ما دلت عليه آية الدعاء من أن الإسلام شرع لنا طلب الدنيا من الوجوه الحسنة كما شرع لنا طلب الآخرة ، بل هي مؤيدة لها ، فإن طلبها من الطرق الحسنة; أي : المشروعة النافعة ، لا ينافي مرضاة الله تعالى ببيع النفس له; ولذلك لم يحرم سبحانه علينا إلا ما هو ضار بفاعله أو غيره ، فلنا أن نتمتع بها حلالا ، ونكون مثابين مرضيين عند الله تعالى . قال بعض الصحابة لما قال - عليه الصلاة والسلام - : ( ( وفي بضع أحدكم صدقة ) ) يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : ( ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ) ) ؟ قالوا : [ ص: 203 ] نعم . قال : ( ( فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) ) رواه مسلم من حديث أبي ذر .

                          ولكن الذي ينافي مرضاة الله تعالى وينافي سعادة الدنيا قبل الآخرة هو أن يسترسل المرء في سبيل حظوظه وشهواته خارج الحدود المشروعة فيفسد في الأرض ، ولا يبالي أن يهلك بإفساده الحرث والنسل .

                          ثم إن هذا البيع لا يتحقق إلا إذا كان المؤمن يجود بنفسه وبماله في سبيل الله إذا مست الحاجة لذلك ، فكيف إذا ألجأت إليه الضرورة كجهاد أعداء الملة والأمة عند الاعتداء عليهما، أو الاستيلاء على شيء من دار الإسلام ، وحينئذ يكون فرضا عينيا على جميع الأفراد فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه ، ومن قدر عليه بماله وجب عليه ، ومن قدر عليه بهما معا وجب عليه ، وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى مرضاته ، وهي التي يحفظ بها دينه ويصلح بها حال عباده . ومعنى هذا أنه لا يكتفي من المؤمن أن يكتسب بالحلال ، ويتمتع بالحلال ، وينفع نفسه ولا يضر غيره ، وأن يصلي ويصوم; لأن كل هذا يعمله لنفسه خاصة ، بل يجب أن يكون وجوده أوسع وعمله أشمل وأنفع، فيساعد على نفع الناس ودرء الضرر عنهم بحفظ الشريعة ، وتعزيز الأمة بالمال والأعمال ، والدعوة إلى الخير ومقاومة الشر ، ولو أفضى ذلك إلى بذل روحه ، فإن قصر في واجب يتعلق بحفظ الملة وعزة الأمة من غير عذر شرعي فقد آثر نفسه على مرضاة الله تعالى ، وخرج من زمرة كملة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى ، وكان أكبر إجراما ممن يقصر في واجب لا يضر تقصيره فيه إلا بنفسه ؛ ذلك أن الحكمة في تربية النفس بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة هي أن ترتقي ويتسع وجودها في الدنيا، فيعظم خيرها وينتفع الناس بها ، وتكون في الآخرة أهلا لجوار الله تعالى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم ، وجعلوا أكثر أعمالهم خدمة للناس وسعيا في خيرهم ، فإن الله تعالى لم يشتر أنفس المؤمنين من الحظوظ والشهوات الشخصية الخسيسة; لأجل نفعه سبحانه أو دفع الضر عنه جل شأنه ، فهو غني عن العالمين ، وإنما شرع هذا ليكون المؤمن باتساع وجوده وعموم نفعه سيد الناس، فليعرض مدعو الإيمان أنفسهم على الآية وأمثالها ، فمن ادعى أنه من الذين باعوا أنفسهم لله وآثروا مرضاته على ما سواه ، فليعرضه غيره من المنصفين عليها ، ولا سيما إذا ادعى أنه واسع الوجود خادم للأمة والملة ، لا جرم أن كثيرا منهم لا يصدق عليهم شيء من ذلك ، ولا قوله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) ( 49 : 14 ) فإن معنى أسلمنا انقدنا لأحكام الدين الظاهرة وأخذنا بأعماله البدنية .

                          وكثير ممن تعجبك أقوالهم من صنف المسلمين لا يصلون ولا يصومون ، ولا يزكون ولا يحجون ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ، ويأتون كثيرا من الكبائر جهارا ، ويصرون عليها إصرارا .

                          [ ص: 204 ] ذكر تعالى أن من الناس من يشري; أي : يبيع نفسه ، وهم المؤمنون الخلص كما في الآيات الأخرى ، والإخبار بذلك أقوى في طلبه من الأمر به وأدل على تقريره ، لأن الأمر به لا يدل على امتثال المأمورين ، والإخبار هو الذي يدل على الوقوع ، فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان .

                          ثم بين أنه ما شرع هذا إلا رأفة بعباده فقال : ( والله رءوف بالعباد ) إذ يرفع همم بعضهم ويعلي نفوسهم حتى يبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده وتقرير الحق والعدل والخير فيهم ، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ( 2 : 251 ) وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا ، وألا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها ، ولو كان كذلك - وهو من تكليف ما لا يطاق - لما قرنه الله تعالى باسمه الرءوف الدال على سعة رحمته بعباده ، فيالله ما أعجب بلاغة كلام الله ، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه .

                          ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم ، والأمر كذلك ، بل كثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم; إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم ، وإن على من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده ألا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة ، بل عليه أن يكون حكيما يقدر الأمور بقدرها; إذ ليس المقصود بهذا الشراء إهانة النفس ولا إذلالها ، وإنما المراد دفع الشر وتقرير الخير العام رأفة بالعباد ، وإيثارا للمصلحة العامة . وإن أمة يتصف جميع أفرادها أو أكثرهم بهذا الوصف لجديرة بأن تسود العالمين ، وكذلك ساد سلفنا الصالحون ، وإن أمة تحرم من هذا الصنف لخليقة بأن تكون مستعبدة لجميع المتغلبين ، وكذلك استعبد خلفنا الطالحون ، فهل نحن معتبرون ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية