الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب مسح الرأس كله وصفته وما جاء في مسح بعضه

                                                                                                                                            188 - ( عن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ، بمقدم رأسه ، ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه . } رواه الجماعة ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( مسح رأسه ) زاد ابن الصباغ كله وكذا في رواية ابن خزيمة . قوله : ( فأقبل بهما وأدبر ) قد اختلف في كيفية الإقبال والإدبار المذكور في الحديث فقيل : يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه ، ويذهب بهما إلى القفا ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبتدأ الشعر ويؤيد هذا قوله : بدأ بمقدم رأسه إلا أنه يشكل على هذه الصفة قوله : ( فأقبل بهما وأدبر ) لأن الواقع فيها بالعكس وهو أنه أدبر بهما وأقبل لأن الذهاب إلى جهة القفا إدبار .

                                                                                                                                            وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب ، والدليل على ذلك ما ثبت عند البخاري من رواية عبد الله بن زيد بلفظ : ( فأدبر بيديه وأقبل ) ومخرج الطريقين متحد فهما بمعنى واحد . وأجيب أيضا بحمل قوله : أقبل على البداءة بالقبل ، وقوله : أدبر على البداءة بالدبر ، فيكون من تسمية الفعل بابتدائه وهو أحد القولين لأهل الأصول في تسمية الفعل ، هل يكون بابتدائه أو بانتهائه ، قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي . وقد أجيب بغير ذلك ، وقيل : يبدأ بمؤخر رأسه . ويمر إلى جهة الوجه ، ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على قوله : أقبل وأدبر ، ولكنه يعارضه قوله : بدأ بمقدم رأسه .

                                                                                                                                            وقيل : يبدأ بالناصية ويذهب إلى ناحية الوجه ، ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ، ثم يعود إلى ما بدأ منه وهو الناصية .

                                                                                                                                            وفي هذه الصفة محافظة على قوله : ( بدأ بمقدم رأسه ) وعلى قوله : ( أقبل وأدبر ) فإن الناصية مقدم الرأس ، والذهاب إلى ناحية الوجه إقبال . والحديث يدل على مشروعية مسح جميع الرأس ، وهو مستحب باتفاق العلماء ، قاله النووي ، وعلل ذلك بأنه طريق إلى استيعاب الرأس ووصول الماء إلى جميع شعره . وقد ذهب إلى وجوبه أكثر العترة ومالك [ ص: 197 ] والمزني والجبائي وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل وابن علية وقال الشافعي : يجزي مسح بعض الرأس ولم يحده بحد ، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : وهو قول الطبري .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : الواجب الربع ، وقال الثوري والأوزاعي والليث : يجزي مسح بعض الرأس ويمسح المقدم وهو قول أحمد وزيد بن علي والناصر والباقر والصادق . وأجاز الثوري والشافعي مسح الرأس بأصبع واحدة . واختلفت الظاهرية فمنهم من أوجب الاستيعاب ، ومنهم من قال : يكفي البعض . احتج الأولون بحديث الباب . وحديث { أنه مسح برأسه حتى بلغ القذال } عند أحمد وأبي داود من حديث طلحة بن مصرف ، ورد بأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب ، وفي حديث طلحة بن مصرف مقال سيأتي تحقيقه .

                                                                                                                                            قالوا : قال الله تعالى { وامسحوا برءوسكم } والرأس حقيقة اسم لجميعه والبعض مجاز . ورد بأن الباء للتبعيض . وأجيب بأنه لم يثبت كونها للتبعيض ، وقد أنكره سيبويه في خمسة عشر موضعا من كتابه . ورد أيضا بأن الباء تدخل في الآلة ، والمعلوم أن الآلة لا يراد استيعابها كمسحت رأسي بالمنديل ، فلما دخلت الباء في الممسوح كان ذلك الحكم أعني عدم الاستيعاب في الممسوح أيضا ، قاله التفتازاني ، قالوا : جعله جار الله مطلقا ، وحكم على المطلق بأنه مجمل وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بالاستيعاب ، وبيان المجمل الواجب واجب .

                                                                                                                                            ورد بأن المطلق ليس بمجمل لصدقه على الكل والبعض ، فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا وأيا ما كان وقع به الامتثال . ولو سلم أنه مجمل لم يتعين مسح الكل لورود البيان بالبعض عند أبي داود من حديث أنس بلفظ : { إنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة ، فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة } وعند مسلم وأبي داود والترمذي من حديث المغيرة بلفظ : { إنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة } قالوا : قال ابن القيم : ( إنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة ، ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العمامة ) قال : وأما حديث أنس فمقصود أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مس الشعر كله ولم ينف التكميل على العمامة ، وقد أثبته حديث المغيرة ، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه . وأيضا قال الحافظ : إن حديث أنس في إسناده نظر .

                                                                                                                                            وأجيب بأن النزاع في الوجوب وأحاديث التعميم ، وإن كانت أصح وفيها زيادة وهي مقبولة ، لكن أين دليل الوجوب ؟ وليس إلا مجرد أفعال ، ورد بأنها وقعت بيانا للمجمل فأفادت الوجوب . والإنصاف أن الآية ليست من قبيل المجمل وإن زعم ذلك الزمخشري وابن الحاجب في مختصره والزركشي ، والحقيقة لا تتوقف على مباشرة آلة الفعل بجميع أجزاء المفعول كما لا يتوقف في قولك : ضربت عمرا على مباشرة الضرب لجميع أجزائه ، فمسح رأسه يوجد المعنى الحقيقي بوجود مجرد [ ص: 198 ] المسح للكل أو البعض ، وليس النزاع في مسمى الرأس فيقال : هو حقيقة في جميعه ، بل النزاع في إيقاع المسح على الرأس ، والمعنى الحقيقي للإيقاع يوجد بوجود المباشرة ولو كانت المباشرة الحقيقية لا توجد إلا بمباشرة الحال لجميع المحل لقل وجود الحقائق في هذا الباب ، بل يكاد يلحق بالعدم فإنه يستلزم أن نحو ضربت زيدا وأبصرت عمرا من المجاز لعدم عموم الضرب والرؤية ، وقد زعمه ابن جني منه وأورد مستدلا به على كثرة المجاز ، والحاصل أن الوقوع لا يتوقف وجود معناه الحقيقي على وجود المعنى الحقيقي لما وقع عليه الفعل ، وهذا هو منشأ الاشتباه والاختلاف ، فمن نظر إلى جانب ما وقع عليه الفعل جزم بالمجاز ، ومن نظر إلى جانب الوقوع جزم بالحقيقة ، وبعد هذا فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس ، وصحة أحاديثه ولكن دون الجزم بالوجوب مفاوز وعقبات .

                                                                                                                                            189 - ( وعن الربيع بنت معوذ { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندها ومسح برأسه فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته . } رواه أحمد وأبو داود ، وفي لفظ : { مسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره ثم بمقدمه وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما . } رواه أبو داود والترمذي وقالا : حديث حسن ) . هذه الروايات مدارها على ابن عقيل ، وفيه مقال مشهور لا سيما إذا عنعن ، وقد فعل ذلك في جميعها .

                                                                                                                                            وأخرج هذا الحديث أحمد بلفظ : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندها قالت : فرأيته مسح على رأسه مجاري الشعر ما أقبل منه وما أدبر ، ومسح صدغيه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما } وأخرجه بلفظ أحمد أبو داود أيضا في رواية ، وأخرجه ابن ماجه والبيهقي ، ومدار الكل على ابن عقيل ، والرواية الأولى من حديث الباب تدل على أنه مسح مقدم رأسه مسحا مستقلا ، ومؤخره كذلك ، لأن المسح مرة واحدة لا بد فيه . من تحريك شعر أحد الجانبين ، ووقع في نسخة من الكتاب مكان فوق فرق ، وفي سنن أبي داود ( ثلاث نسخ هاتان والثالثة قرن )

                                                                                                                                            والرواية الثانية من حديث الباب تدل على أن المسح مرتان ، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا ، وتدل على البداءة بمؤخر الرأس ، وقد تقدم الكلام على الخلاف في صفته في حديث أول الباب ، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : وهذه الرواية محمولة على الرواية بالمعنى عند من يسمي الفعل بما ينتهي إليه كأنه حمل قوله : ما أقبل وما أدبر على الابتداء بمؤخر الرأس فأداها بمعناها [ ص: 199 ] عنده وإن لم يكن كذلك ، قال : ذكر معناه ابن العربي ، ويمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا لبيان الجواز مرة ، وكانت مواظبته على البداءة بمقدم الرأس ، وما كان أكثر مواظبة عليه كان أفضل ، والبداءة بمؤخر الرأس محكية عن الحسن بن حيي ووكيع بن الجراح ، قال أبو عمر بن عبد البر : قد توهم بعض الناس في حديث عبد الله بن زيد في قوله : ثم مسح رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، أنه بدأ بمؤخر رأسه ، وتوهم غيره أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر ، وهذه ظنون لا تصح .

                                                                                                                                            وقد روي عن ابن عمر أنه كان يبدأ من وسط رأسه ، ولا يصح . وأصح حديث في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد . والمشهور المتداول الذي عليه الجمهور البداءة من مقدم الرأس إلى مؤخره انتهى .

                                                                                                                                            قوله : ( كل ناحية لمنصب الشعر ) المراد بالناحية جهة مقدم الرأس وجهة مؤخره أي مسح الشعر من ناحية انصبابه . والمنصب بضم الميم وتشديد الباء الموحدة آخره .

                                                                                                                                            قوله : ( لا يحرك الشعر عن هيئته ) أي التي هو عليها قال ابن رسلان : وهذه الكيفية مخصوصة بمن له شعر طويل إذا رد يده عليه ليصل الماء إلى أصوله ينتفش ، ويتضرر صاحبه بانتفاشه وانتشار بعضه ، ولا بأس بهذه الكيفية للمحرم فإنه يلزمه الفدية بانتشار شعره وسقوطه .

                                                                                                                                            وروي عن أحمد أنه سئل كيف تمسح المرأة ومن له شعر طويل كشعرها ؟ فقال : إن شاء مسح كما روي عن الربيع ، وذكر الحديث ثم قال : هكذا ووضع يده على وسط رأسه ثم جرها إلى مقدمه ثم رفعها فوضعها حيث بدأ منه ، ثم جرها إلى مؤخره .

                                                                                                                                            190 - وعن أنس قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة . } رواه أبو داود . الحديث قال الحافظ : في إسناده نظر انتهى . وذلك لأن أبا معقل الراوي عن أنس مجهول ، وبقية إسناده رجال الصحيح .

                                                                                                                                            وأورده المصنف ههنا للاستدلال به على الاكتفاء بمسح بعض الرأس ، وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب . قوله : ( قطرية ) بكسر القاف وسكون الطاء ويروى بفتحهما ، وهي نوع من البرود فيها حمرة ، وقيل : هي حلل تحمل من البحرين - موضع قرب عمان - قال الأزهري : ويقال لتلك القرية : قطر بفتح القاف والطاء ، فلما دخلت عليها ياء النسبة كسروا القاف وخففوا الطاء .

                                                                                                                                            قوله : ( فأدخل يده ) لفظ أبي داود فأدخل يديه ، قال ابن رسلان : وفيه فضيلة مسح الرأس بالكفين جميعا . قوله : ( فمسح مقدم رأسه ) قال ابن حجر : فيه دليل على الاجتزاء بالمسح على الناصية ، وقد نقل عن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه وابن عمر مسح اليافوخ .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية