nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=28988_32416_30221_29693_30539فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا
تفريع على قوله وإن أسأتم فلها ؛ إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعد المرة الآخرة .
وقد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاء لحق التقسيم الأول في قوله فإذا جاء وعد أولاهما ، ولحق إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة ، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع .
و ( الآخرة ) صفة لمحذوف دل عليه قوله مرتين . أي وعد المرة الآخرة .
وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء .
[ ص: 36 ] والآخرة ضد الأولى .
ولامات ليسوءوا ، وليدخلوا ، وليتبروا للتعليل ، وليست للأمر ; لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث ، ولو كانا لامي أمر لكانا ساكنين بعد واو العطف ، فيتعين أن اللام الأولى لام أمر لا لام جر ، والتقدير : فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عبادا لنا ليسوءوا وجوهكم إلخ .
وقرأ
نافع ،
وابن كثير ،
وأبو عمرو ،
وحفص ،
وأبو جعفر ،
ويعقوب ليسوءوا بضمير الجمع مثل أخواته الأفعال الأربعة ، والضمائر راجعة إلى محذوف دل عليه لام التعليل في قوله ليسوءوا إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=5وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا ، فالتقدير : فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عبادا لنا ليسوءوا وجوهكم ، وليست عائدة إلى قوله عبادا لنا المصرح به في قوله فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ; لأن الذين أساءوا ، ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ ، وأقوال المفسرين كما سيأتي .
وقرأ
ابن عامر ،
وحمزة ،
وأبو بكر عن
عاصم ،
وخلف ( ليسوء ) بالإفراد ، والضمير لله تعالى ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ( لنسوء ) بنون العظمة ، وتوجيه هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف ، فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة .
وضميرا ( ليسوءوا ) و ( ليدخلوا ) عائدان إلى عبادا لنا باعتبار لفظه لا باعتبار ماصدق المعاد ، على نحو قولهم : عندي درهم ونصفه ، أي نصف صاحب اسم درهم ، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بعد الزمن بين المرتين : فكان هذا الإضمار من الإيجاز .
[ ص: 37 ] وضمير (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7كما دخلوه ) عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها . وقول
عباس بن مرداس :
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
فالسياق دال على معاد ( أحرزوا ) ومعاد ( جمعوا ) .
وسوء الوجوه : جعل المساءة عليها ، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم ; لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن ، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد ، كقول
الأعشى :
وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
أراد إذا ما تفرق الناس ، وتظهر علامات الفرق في أعينهم .
ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله كما دخلوه أول مرة المراد منه قوله فجاسوا خلال الديار .
والتتبير : الإهلاك والإفساد .
و (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7ما علوا ) موصول هو مفعول يتبروا ، وعائد الصلة محذوف ; لأنه متصل منصوب ، والتقدير : ما علوه ، والعلو علو مجازي ، وهو الاستيلاء والغلب .
ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة ، فكان إيماء إلى أنهم لا ملك لهم بعد هذه المرة ، وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه
اليهود من المفاسد والتمرد ، وقتل الأنبياء ، والصالحين ، والاعتداء على
عيسى وأتباعه ، وقد أنذرهم النبيء ( ملاخي ) في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه ، وأنذرهم
زكرياء ، ويحيى ، وعيسى فلم يرعووا ; فضربهم الله الضربة القاضية بيد
الرومان .
[ ص: 38 ] وبيان ذلك : أن
اليهود بعد أن عادوا إلى
أورشليم ، وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن
داريوس ، وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون ، وكانوا تحت نفوذ مملكة
فارس ، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل
المسيح ، ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم
البطالسة ملوك
مصر على
أورشليم ; فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل
المسيح ، إذ قام قائد من إسرائيل اسمه (
ميثيا ) وكان من اللاويين ، فانتصر
لليهود ، وتولى الأمر عليهم ، وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل
المسيح ، دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين ، وأقاموا عليها أمراء من
اليهود كان أشهرهم (
هيرودس ) ثم تمردوا للخروج على الرومانيين ، فأرسل قيصر رومية القائد
سيسيانوس مع ابنه القائد
طيطوس بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد
المسيح فخربت
أورشليم واحترق المسجد ، وأسر
طيطوس نيفا وتسعين ألفا من
اليهود ، وقتل من
اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف ، ثم استعادوا المدينة ، وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الإمبراطور الروماني
أدريانوس ، فهدمها ، وخربها ، ورمى قناطير الملح على أرضها ; كيلا تعود صالحة للزراعة ، وذلك سنة 135
للمسيح ، وبذلك انتهى أمر
اليهود وانقرض ، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج
أورشليم من حكم
الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب سنة 16 صلحا مع أهلها ، وهي تسمى يومئذ
إيلياء .
وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8وإن عدتم عدنا ) يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عسى ربكم أن يرحمكم ) عطف الترهيب على الترغيب .
ويجوز أن تكون معترضة ، والواو اعتراضية ، والمعنى : بعد أن يرحمكم ربكم ، ويؤمنكم في البلاد التي تلجئون إليها ، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم ، أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا .
[ ص: 39 ] وجملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) عطف على جملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عسى ربكم أن يرحمكم ) ; لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي ، وأن وراءه عقاب الآخرة .
وفيه معنى التذييل ; لأن التعريف في الكافرين يعم المخاطبين وغيرهم ، ويومئ هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصورا على ذنوب الكفر ، بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة ، وأما الكفر بتكذيب الرسل فقد حصل في المرة الآخرة فإنهم كذبوا
عيسى ، وأما في المرة الأولى فلم تأتهم رسل ، ولكنهم قتلوا الأنبياء مثل
أشعياء ، وأرمياء ، وقتل الأنبياء كفر .
والحصير : المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه ، فهو إما فعيل بمعنى فاعل ، وإما بمعنى مفعول على تقدير متعلق ، أي محصور فيه .
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=28988_32416_30221_29693_30539فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ؛ إِذْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِذَا أَسَأْتُمْ وَجَاءَ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ .
وَقَدْ حَصَلَ بِهَذَا التَّفْرِيعِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ قَضَاءً لِحَقِّ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا ، وَلِحَقِّ إِفَادَةِ تَرَتُّبِ مَجِيءِ وَعْدِ الْآخِرَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ ، وَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ التَّقْسِيمِ إِلَى مَرَّتَيْنِ فَاتَتْ إِفَادَةُ التَّرَتُّبِ وَالتَّفَرُّعِ .
وَ ( الْآخِرَةِ ) صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مَرَّتَيْنِ . أَيْ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ .
وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ بَقِيَّةِ مَا قُضِيَ فِي الْكِتَابِ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِهِ بِالْفَاءِ .
[ ص: 36 ] وَالْآخِرَةُ ضِدُّ الْأُولَى .
وَلَامَاتُ لِيَسُوءُوا ، وَلِيَدْخُلُوا ، وَلِيُتَبِّرُوا لِلتَّعْلِيلِ ، وَلَيْسَتْ لِلْأَمْرِ ; لِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى كَسْرِ اللَّامَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ، وَلَوْ كَانَا لَامَيْ أَمْرٍ لَكَانَا سَاكِنَيْنِ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لَامُ أَمْرٍ لَا لَامُ جَرٍّ ، وَالتَّقْدِيرُ : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَا عِبَادًا لَنَا لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ إِلَخْ .
وَقَرَأَ
نَافِعٌ ،
وَابْنُ كَثِيرٍ ،
وَأَبُو عَمْرٍو ،
وَحَفْصٌ ،
وَأَبُو جَعْفَرٍ ،
وَيَعْقُوبُ لِيَسُوءُوا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ مِثْلَ أَخَوَاتِهِ الْأَفْعَالِ الْأَرْبَعَةِ ، وَالضَّمَائِرُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ لِيَسُوءُوا إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=5وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا ، فَالتَّقْدِيرُ : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ، وَلَيْسَتْ عَائِدَةً إِلَى قَوْلِهِ عِبَادًا لَنَا الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثَنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ; لِأَنَّ الَّذِينَ أَسَاءُوا ، وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ هَذِهِ الْمَرَّةَ أُمَّةٌ غَيْرُ الَّذِينَ جَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ حَسَبِ شَهَادَةِ التَّارِيخِ ، وَأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا سَيَأْتِي .
وَقَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ ،
وَحَمْزَةُ ،
وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ
عَاصِمٍ ،
وَخَلَفٍ ( لِيَسُوءَ ) بِالْإِفْرَادِ ، وَالضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيُّ ( لِنَسُوءَ ) بِنُونِ الْعَظَمَةِ ، وَتَوْجِيهُ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ رَسْمِ الْمُصْحَفِ أَنَّ الْهَمْزَةَ الْمَفْتُوحَةَ بَعْدَ الْوَاوِ قَدْ تُرْسَمُ بِصُورَةِ أَلْفٍ ، فَالرَّسْمُ يَسْمَحُ بِقِرَاءَةِ وَاوِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَلِفُ أَلِفَ الْفَرْقِ وَبِقِرَاءَتَيِ الْإِفْرَادِ عَلَى أَنَّ الْأَلِفَ عَلَامَةُ الْهَمْزَةِ .
وَضَمِيرَا ( لِيَسُوءُوا ) وَ ( لِيُدْخِلُوا ) عَائِدَانِ إِلَى عِبَادًا لَنَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ لَا بِاعْتِبَارِ مَاصَدَقِ الْمَعَادِ ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِمْ : عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ ، أَيْ نِصْفُ صَاحِبِ اسْمِ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ تَعْوِيلٌ عَلَى الْقَرِينَةِ لِاقْتِضَاءِ السِّيَاقِ بُعْدَ الزَّمَنِ بَيْنَ الْمَرَّتَيْنِ : فَكَانَ هَذَا الْإِضْمَارُ مِنَ الْإِيجَازِ .
[ ص: 37 ] وَضَمِيرُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7كَمَا دَخَلُوهُ ) عَائِدٌ إِلَى الْعِبَادِ الْمَذْكُورِ فِي ذِكْرِ الْمَرَّةِ الْأُولَى بِقَرِينَةِ اقْتِضَاءِ الْمَعْنَى مَرَاجِعَ الضَّمَائِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا . وَقَوْلُ
عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ :
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَعُوا
فَالسِّيَاقُ دَالٌّ عَلَى مَعَادِ ( أَحْرَزُوا ) وَمَعَادِ ( جَمَعُوا ) .
وَسَوْءُ الْوُجُوهِ : جَعْلُ الْمَسَاءَةِ عَلَيْهَا ، أَيْ تَسْلِيطُ أَسْبَابِ الْمَسَاءَةِ وَالْكَآبَةِ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَبْدُوَ عَلَى وُجُوهِكُمْ ; لِأَنَّ مَا يُخَالِجُ الْإِنْسَانَ مِنْ غَمٍّ وَحُزْنٍ ، أَوْ فَرَحٍ وَمَسَرَّةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهُ عَلَى الْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْجَسَدِ ، كَقَوْلِ
الْأَعْشَى :
وَأُقْدِمُ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ
أَرَادَ إِذَا مَا تَفَرَّقَ النَّاسُ ، وَتَظْهَرُ عَلَامَاتُ الْفَرَقِ فِي أَعْيُنِهِمْ .
وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ دُخُولُ غَزْوٍ بِقَرِينَةِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ الْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ .
وَالتَّتْبِيرُ : الْإِهْلَاكُ وَالْإِفْسَادُ .
وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7مَا عَلَوْا ) مَوْصُولُ هُوَ مَفْعُولُ يُتَبِّرُوا ، وَعَائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ ; لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ ، وَالتَّقْدِيرُ : مَا عَلَوْهُ ، وَالْعُلُوُّ عُلُوٌّ مَجَازِيٌّ ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ وَالْغَلَبُ .
وَلَمْ يَعِدْهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ إِلَّا بِتَوَقُّعِ الرَّحْمَةِ دُونَ رَدِّ الْكَرَّةِ ، فَكَانَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ لَا مِلْكَ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ هُوَ مَا اقْتَرَفَهُ
الْيَهُودُ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالتَّمَرُّدِ ، وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالصَّالِحِينَ ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى
عِيسَى وَأَتْبَاعِهِ ، وَقَدْ أَنْذَرَهُمُ النَّبِيءُ ( مَلَّاخِي ) فِي الْإِصْحَاحَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ كِتَابِهِ ، وَأَنْذَرَهُمْ
زَكَرِيَّاءُ ، وَيَحْيَى ، وَعِيسَى فَلَمْ يَرْعَوُوا ; فَضَرَبَهُمُ اللَّهُ الضَّرْبَةَ الْقَاضِيَةَ بِيَدِ
الرُّومَانِ .
[ ص: 38 ] وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ
الْيَهُودَ بَعْدَ أَنْ عَادُوا إِلَى
أُورْشَلِيمَ ، وَجَدَّدُوا مُلْكَهُمْ وَمَسْجِدَهُمْ فِي زَمَنِ
دَارِيُوسَ ، وَأُطْلِقَ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِي بِلَادِهِمُ الَّتِي غَلَبَهُمْ عَلَيْهَا الْبَابِلِيُّونَ ، وَكَانُوا تَحْتَ نُفُوذِ مَمْلَكَةِ
فَارِسَ ، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ مِائَتَيْ سَنَةٍ مِنْ سَنَةِ 530 إِلَى سَنَةِ 330 قَبْلَ
الْمَسِيحِ ، ثُمَّ أَخَذَ مُلْكُهُمْ فِي الِانْحِلَالِ بِهُجُومِ
الْبَطَالِسَةِ مُلُوكِ
مِصْرَ عَلَى
أُورْشَلِيمَ ; فَصَارُوا تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ إِلَى سَنَةِ 166 قَبْلَ
الْمَسِيحِ ، إِذْ قَامَ قَائِدٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ اسْمُهُ (
مِيثِيَا ) وَكَانَ مِنَ اللَّاوِيِّينَ ، فَانْتَصَرَ
لِلْيَهُودِ ، وَتَوَلَّى الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ ، وَتَسَلْسَلَ الْمُلْكُ بَعْدَهُ فِي أَبْنَائِهِ فِي زَمَنٍ مَلِيءٍ بِالْفِتَنِ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعِينَ قَبْلَ
الْمَسِيحِ ، دَخَلَتِ الْمَمْلَكَةَ تَحْتَ نُفُوذِ الرُّومَانِيِّينَ ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا أُمَرَاءَ مِنَ
الْيَهُودِ كَانَ أَشْهَرُهُمْ (
هِيرُودُسَ ) ثُمَّ تَمَرَّدُوا لِلْخُرُوجِ عَلَى الرُّومَانِيِّينَ ، فَأَرْسَلَ قَيْصَرُ رُومِيَّةَ الْقَائِدَ
سِيسِيَانُوسَ مَعَ ابْنِهِ الْقَائِدِ
طِيطُوسَ بِالْجُيُوشِ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ
الْمَسِيحِ فَخَرُبَتْ
أُورْشَلِيمُ وَاحْتَرَقَ الْمَسْجِدُ ، وَأَسَرَ
طِيطُوسُ نَيِّفًا وَتِسْعِينَ أَلْفًا مِنَ
الْيَهُودِ ، وَقَتَلَ مِنَ
الْيَهُودِ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ نَحْوَ أَلْفِ أَلْفٍ ، ثُمَّ اسْتَعَادُوا الْمَدِينَةَ ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ بِهَا إِلَى أَنْ وَافَاهُمُ الْإِمْبِرَاطُورُ الرُّومَانِيُّ
أَدْرِيَانُوسُ ، فَهَدَمَهَا ، وَخَرَّبَهَا ، وَرَمَى قَنَاطِيرَ الْمِلْحِ عَلَى أَرْضِهَا ; كَيْلَا تَعُودَ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ ، وَذَلِكَ سَنَةَ 135
لِلْمَسِيحِ ، وَبِذَلِكَ انْتَهَى أَمْرُ
الْيَهُودِ وَانْقَرَضَ ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ وَلَمْ تَخْرُجْ
أُورْشَلِيمُ مِنْ حُكْمِ
الرُّومَانِ إِلَّا حِينَ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي زَمَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سَنَةَ 16 صُلْحًا مَعَ أَهْلِهَا ، وَهِيَ تُسَمَّى يَوْمَئِذٍ
إِيلِيَاءُ .
وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) عَطْفَ التَّرْهِيبِ عَلَى التَّرْغِيبِ .
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ ، وَالْمَعْنَى : بَعْدَ أَنْ يَرْحَمَكُمْ رَبُّكُمْ ، وَيُؤَمِّنَكُمْ فِي الْبِلَادِ الَّتِي تَلْجَئُونَ إِلَيْهَا ، إِنْ عُدْتُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ عُدْنَا إِلَى عِقَابِكُمْ ، أَيْ عُدْنَا لِمِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عِقَابِ الدُّنْيَا .
[ ص: 39 ] وَجُمْلَةُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=8عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) ; لِإِفَادَةِ أَنَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ عِقَابٍ إِنَّمَا هُوَ عِقَابٌ دُنْيَوِيٌّ ، وَأَنَّ وَرَاءَهُ عِقَابَ الْآخِرَةِ .
وَفِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ ; لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْكَافِرِينَ يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرَهُمْ ، وَيُومِئُ هَذَا إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى ذُنُوبِ الْكُفْرِ ، بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ وَتَعَدِّي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ ، وَأَمَّا الْكُفْرُ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ فَقَدْ حَصَلَ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا
عِيسَى ، وَأَمَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمْ تَأْتِهِمْ رُسُلٌ ، وَلَكِنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ
أَشْعِيَاءَ ، وَأَرْمِيَاءَ ، وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ .
وَالْحَصِيرُ : الْمَكَانُ الَّذِي يُحْصَرُ فِيهِ فَلَا يُسْتَطَاعُ الْخُرُوجُ مِنْهُ ، فَهُوَ إِمَّا فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقٍ ، أَيْ مَحْصُورٍ فِيهِ .