الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء


                          [ ص: 859 ] المسألة الثانية : المنع من توريث المسلم من الكافر ، فإنه قد روي أنه قاله عقيب هذا القول ، وكان قد استولى على بعضها بطريق الإرث من أبي طالب ، وعلى بعضها بطريق القهر والغلبة ، والظاهر أنه استولى على نفس ملك النبي - صلى الله عليه وسلم - وداره التي هي له ، فإنه قيل له : ألا تنزل في دارك ؟ فقال : " وهل ترك لنا عقيل من دار ؟ "

                          يقول : هو أخذ داري ودار غيري من بني هاشم .

                          وكان عقيل لم يسلم بعد ، بل كان على دين قومه ، وكان حمزة ، وعبيدة بن الحارث ، وعلي ، وغيرهم قد هاجروا إلى المدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعفر هاجر إلى الحبشة ، فاستولى عقيل على رباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى رباع آل أبي طالب .

                          وأما رباع العباس فالعباس كان مستوليا عليها ، وكذلك الحارث بن عبد المطلب كان بمكة ابنه أبو سفيان ، وابنه ربيعة .

                          وأما أبو طالب فلم يبق له بمكة إلا عقيل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أخ فاستولى عقيل على هذا وهذا ; فلهذا قال : " وهل ترك لنا [ ص: 860 ] عقيل من رباع ؟ " وإلا فبأي طريق يأخذ ملك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حي ، ولم يكن هو وارثه لو كان يورث ؟

                          فتبين بهذا أن الكفار المحاربين إذا استولوا على أموال المسلمين ، ثم أسلموا كانت لهم ، ولم ترد إلى المسلمين ، لأنها أخذت في الله ، وأجورهم فيها على الله لما أتلفه الكفار من دمائهم ، وأموالهم ، فالشهداء لا يضمنون ، ولو أسلم قاتل الشهيد لم يجب عليه دية ولا كفارة بالسنة المتواترة ، واتفاق المسلمين ، وقد أسلم جماعة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عرف من قتلوه مثل وحشي بن حرب قاتل حمزة ومثل قاتل النعمان بن قوقل وغيرهما ، فلم يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا بشيء عملا بقوله : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) .

                          [ ص: 861 ] وكذلك المرتدون : قد أسلم طليحة الأسدي بعد ردته ، وقد قتل عكاشة بن محصن ، فلم يضمنه أبو بكر ، وعمر ، وسائر الصحابة لا دية ولا كفارة . وكذلك سائر من قتله المرتدون ، والمحاربون لما عادوا إلى الإسلام لم يضمنهم المسلمون شيئا من ذلك .

                          وهذا فيه نزاع في مذهب الشافعي وأحمد ، وطائفة من أصحابهما ينصرون الضمان ، وكثير من متأخري أصحاب أحمد يظن أن هذا هو ظاهر مذهبه ، وأن عدم الضمان هو قول أبي بكر عبد العزيز ، ولم يعلم أن أحمد نص على قول أبي بكر ، وأن أهل الردة ، والمحاربين لا يضمنون ما أتلفوه من النفوس ، والأموال كأهل الحرب الكفار الأصليين ، فإن فيهن نزاعا في مذهب الشافعي وأحمد ، والصواب فيهم : الذي عليه الجمهور ، وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة وغيرهما .

                          وكذلك البغاة المتأولون من أهل القبلة كالمقتتلين " بالجمل " [ ص: 862 ] " وصفين " لا يضمنون ما أتلفه بعضهم على بعض في القتال ، وهذا هو المنصور عند أصحاب أحمد .

                          [ ص: 863 ] قال الزهري : " وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ، فأجمعوا أن كل دم أو جرح أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر ، أنزلوهم منزلة الجاهلية . " يعني : لما كانوا متأولين أنزلوهم منزلة أهل الجاهلية ، وإن كانوا مخطئين في التأويل كالكفار والمرتدين ، وإنما يضمن من كان يعلم أنه لا يحل له أن يقتل ، ويؤاخذ كالطائفتين المقتتلتين على عصبية .

                          [ ص: 864 ] وكل منهما يعلم أنه يقاتل عصبية لا على حق : فهؤلاء تضمن كل طائفة ما أتلفته على الأخرى ، وفي ذلك نزل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) .

                          والمحاربون قطاع الطريق العالمون بأن ما فعلوه محرم يضمنون ، وإذا تابوا قبل القدرة عليهم سقطت عنهم حدود الله كما تسقط عن الكفار الممتنعين إذا أسلموا قبل القدرة عليهم .

                          وهل يعاقبون بحدود الآدميين مثل أن يقتل أحدهم قصاصا ؟ فيه قولان للعلماء : قيل : يؤخذون بحقوق الآدميين كالقود ، وقيل : لا يؤخذون ، وما كان معهم من أموال الناس يؤخذ بلا نزاع .

                          وما أتلفوه هل يضمنونه مع العقوبات البدنية ؟ فيه نزاع ، كالسارق فإنه إذا وجد معه المال أخذ سواء قطعت يده ، أو لم تقطع .

                          وإن كان قد أتلفه ، فهل يغرم مع القطع ؟ على ثلاثة أقوال ، قيل : يغرم كقول الشافعي وأحمد ، وقيل : لا يغرم كقول أبي حنيفة ، وقيل : يغرم مع اليسار دون الإعسار كقول مالك .

                          والمقصود هنا أن قوله تعالى : ( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) ، دل به على أن المحاربين لا يرثون المسلمين [ ص: 865 ] ولا يعطون ديتهم ، فإنهم كفار والكفار لا يرثون المسلمين ، وقد قيل : إن هذا فيمن أسلم ولم يهاجر ، فتثبت في حقه العصمة المورثة دون المضمنة كما يقول ذلك أبو حنيفة وغيره .

                          وقيل : بل فيمن ظنه القاتل كافرا ، وكان مأمورا بقتله ، فسقطت عنه الدية لذلك ، كما يقوله الشافعي ، وأحمد في أحد القولين .

                          وهؤلاء يخصون الآية بمن ظاهره الإسلام ، وأولئك يخصونها بمن أسلم ، ولم يهاجر . والآية في المؤمن إذا قتل ، وهو من قوم عدو لنا ، وهو سبحانه قال : ( من قوم عدو لكم ) ، ولم يقل : ( من عدوكم ) ، فدل على أن القتل إذا كان خطأ كمن رمى عرضا ، فأصاب مسلما فإنه لا دية فيه ، وإن علم أنه مسلم لأن أهله لا يستحقون الدية ، ولا يستحقها المسلمون ، ولا بيت المال ، فهؤلاء الكفار لا يرثون مثل هذا المسلم ، كما قال : " لا يرث الكافر المسلم " لأنه حربي ، والمناصرة بينهم منقطعة ، فإنهم عدو للمسلمين ، والميراث لا يكون مع العداوة الظاهرة ، بل مع المناصرة الظاهرة ، وأهل الذمة ليسوا عدوا محاربا ، وقتيلهم مضمون ، فإذا ورث المسلم منهم كان هذا موافقا للأصول ، وقوله : " الكافر " أريد به الكافر المطلق ، وهو المعادي المحارب لم يدخل فيه المنافق ، ولا المرتد ، ولا الذمي . فإذا كان المؤمن يرث المنافق لكونه مسالما له مناصرا له في الظاهر ، فكذلك الذمي ، وبعض المنافقين شر من بعض أهل الذمة .

                          وقد ذهب بعضهم إلى أنه يرث المسلم الكافر بالموالاة ، وهو أحد [ ص: 866 ] القولين في مذهب أحمد : نص عليه في رواية الجماعة : حنبل ، وأبي طالب ، والمروذي ، والفضل بن زياد في المسلم يعتق العبد النصراني ، ثم يموت العتيق : يرثه بالولاء .

                          واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الولاء لمن أعتق " .

                          قال المانعون من التوريث : له عليه الولاء ولكن لا يرث به .

                          قال المورثون : ثبوت الولاء يقتضي ثبوت حكمه ، والميراث من حكمه .

                          وقال عبد الله بن وهب : حدثنا محمد بن عمرو ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده ، أو أمته " .

                          [ ص: 867 ] قالوا : وهو إجماع الصحابة أفتى به علي وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله : فروى أبو بكر بإسناده ، عن الحارث ، عن علي - رضي الله عنه - : " لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم ، إلا أن يكون عبدا له أو أمته " .

                          [ ص: 868 ] وكذلك عن ابن عمر - رضي الله عنهما - .

                          قال المانعون : المراد بهذا العبد القن إذا كان له مال ومات فإن سيده يأخذ ماله .

                          قال المورثون : لا يصح هذا ؛ لأن العبد القن لا مال له فيورث عنه ، فعلم أنه أراد من كان عبده فأعتقه كما حملتم عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل عبده قتلناه " ، وقلتم : معناه الذي كان عبده .

                          وكذلك قوله في بلال : " ألا إن العبد قد نام " .

                          [ ص: 869 ] [ ص: 870 ] [ ص: 871 ] قالوا : ولأن الميراث بالولاء من حقوق الملك ، فلم يمنع منه اختلاف الدين ، لولاية الكافر على أمته ، ولأن الشارع لم يجعله أحق بميراثه لنسب بينه وبينه ، وإنما ذلك جزاء على نعمة المعتق ، وهذا من محاسن الشريعة ، وكمالها : فأحق الناس بهذا الميراث أحقهم بالإنعام عليه بالعتق .

                          يؤكده : أن الميراث بالولاء يجري مجرى المعاوضة ، ولهذا يرث به المولى المعتق ، دون العتيق عوضا عن إحسانه إليه بالعتق .

                          قال المانعون : الكفر يمنع التوارث ، فلم يرث به المعتق ، كالقتل .

                          قال المورثون : القاتل يحرم الميراث لأجل التهمة ، ومعاقبة له بنقيض قصده . وهاهنا علة الميراث الإنعام ، واختلاف الدين لا يكون من علله ، وهذه المسائل الثلاث من محاسن الشريعة ، وهي :

                          [ الأولى : ] توريث من أسلم على ميراث قبل قسمته .

                          [ الثانية : ] وتوريث المعتق عبده الكافر بالولاء .

                          [ الثالثة : ] وتوريث المسلم قريبه الذمي ، وهي مسألة نزاع بين الصحابة والتابعين .

                          وأما المسألتان الأخيرتان فلم يعلم عن الصحابة فيهما نزاع ، بل [ ص: 872 ] المنقول عنهم التوريث .

                          قال شيخنا : " والتوريث في هذه المسائل على وفق أصول الشرع ، فإن المسلمين لهم إنعام وحق على أهل الذمة بحقن دمائهم ، والقتال عنهم ، وحفظ دمائهم وأموالهم ، وفداء أسراهم ، فالمسلمون يمنعونهم ، وينصرونهم ، ويدفعون عنهم ، فهم أولى بميراثهم من الكفار .

                          والذين منعوا الميراث قالوا : مبناه على الموالاة : وهي منقطعة بين المسلم ، والكافر ، فأجابهم الآخرون بأنه ليس مبناه على الموالاة الباطنة التي توجب الثواب في الآخرة ، فإنه ثابت بين المسلمين ، وبين أعظم أعدائهم ، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم : ( هم العدو فاحذرهم ) .

                          فولاية القلوب ليست هي المشروطة في الميراث ، وإنما هو بالتناصر والمسلمون ينصرون أهل الذمة فيرثونهم ، ولا ينصرهم أهل الذمة فلا يرثونهم ، والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية