الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما كونه فوق المخلوقات ، فقال تعالى : وهو القاهر فوق عباده [ الأنعام : 18 و 61 ] . يخافون ربهم من فوقهم [ النحل : 50 ] . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره : والعرش فوق ذلك ، والله فوق ذلك كله . وقد أنشد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقره على ما قال : وضحك منه . وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله :


شهدت بإذن الله أن محمدا رسول الذي فوق السماوات من عل     وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما
له عمل من ربه متقبل     وأن الذي عادى اليهود ابن مريم
رسول أتى من عند ذي العرش مرسل [ ص: 376 ]     وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم
يجاهد في ذات الإله ويعدل

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا أشهد
. وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي وفي رواية : تغلب غضبي رواه البخاري وغيره . وروى ابن ماجه عن جابر يرفعه ، قال : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا إليه رءوسهم ، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة ، سلام عليكم ، ثم قرأ قوله تعالى : سلام قولا من رب رحيم [ يس : 58 ] . فينظر إليهم ، وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه . وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في تفسير قوله تعالى : [ ص: 377 ] هو الأول والآخر والظاهر والباطن [ الحديد : 3 ] بقوله : أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء . والمراد بالظهور هنا : العلو . ومنه قوله تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه [ الكهف : 97 ] أي يعلوه .

فهذه الأسماء الأربعة متقابلة : اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته ، واسمان لعلوه وقربه .

وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي ، فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس ونهكت الأموال ، أو هلكت ، فاستسق لنا ، فإنا نستشفع بك إلى الله ، ونستشفع بالله عليك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك ! أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك ! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك ، ويحك ! أتدري ما الله ؟ إن الله فوق عرشه ، وعرشه فوق سماواته ، وقال بأصابعه ! مثل القبة ، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب .

[ ص: 378 ] وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة ، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات . وهو حديث صحيح ، أخرجه الأموي في ( ( مغازيه ) ) ، وأصله في ( ( الصحيحين ) ) .

وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها ، أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات .

[ ص: 379 ] وعن عمر رضي الله عنه : أنه مر بعجوز فاستوقفته ، فوقف معها يحدثها ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، حبست الناس بسبب هذه العجوز ؟ فقال : ويلك ! أتدري من هذه ؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، هذه خولة التي أنزل الله فيها : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله [ المجادلة : 1 ] أخرجه الدارمي .

وروى عكرمة عن ابن عباس ، في قوله : ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم [ الأعراف : 17 ] قال : ولم يستطع أن يقول من فوقهم ، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم . ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف ، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر .

[ ص: 380 ] ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق ، لم يخلقهم في ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك ، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته ، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات ، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم ، لكان متصفا بضد ذلك ، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده ، وضد الفوقية : السفول ، وهو مذموم على الإطلاق ، لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده .

فإن قيل : لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها . قيل : لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها ، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه ، غير مخالط للعالم ، وأنه موجود في الخارج ، ليس وجوده ذهنيا فقط ، بل وجوده خارج الأذهان قطعا ، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو : إما داخل العالم وإما خارج عنه ، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب ، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه ، وأوضح وأبين . وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال ، لا نقص فيه ، ولا يستلزم نقصا ، ولا يوجب محذورا ، ولا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا ، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلا . فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله ، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله - : إلا بذلك ؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة ، والفطر المستقيمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية