الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جدا : فمنه : ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه " الفاروق " ، بسنده إلى [ ص: 387 ] أبي مطيع البلخي : أنه سأل أبا حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقال : قد كفر ، لأن الله يقول : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وعرشه فوق سبع سماوات ، قلت : فإن قال : إنه على العرش ، ولكن يقول : لا أدري آلعرش في السماء أم في الأرض ؟ قال : هو كافر ، لأنه أنكر أنه في السماء ، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر . وزاد غيره : لأن الله في أعلى عليين ، وهو يدعى من أعلى ، لا من أسفل . انتهى .

ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم ، مخالفون له في كثير من اعتقاداته . وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم . وقصة أبي يوسف في استتابتة لبشر المريسي ، لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش - : مشهورة . رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره .

ومن تأول " فوق " ، بأنه خير من عباده وأفضل منهم ، وأنه خير من العرش وأفضل منه ، كما يقال : الأمير فوق الوزير ، والدينار فوق الدرهم - : فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة ، وتشمئز منه القلوب الصحيحة ! فإن قول القائل ابتداء : الله خير من عباده ، وخير من عرشه : من جنس قوله : الثلج بارد ، والنار حارة ، والشمس أضوأ من السراج ، والسماء أعلى من سقف الدار ، والجبل أثقل من الحصى ، ورسول الله أفضل من فلان اليهودي ، والسماء فوق الأرض ! ! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح ، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه ! فكيف يليق بكلام الله ، الذي لو اجتمع الإنس [ ص: 388 ] والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ؟ ! بل في ذلك تنقص ، كما قيل في المثل السائر : ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ولو قال قائل : الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك ! لضحك منه العقلاء ، للتفاوت الذي بينهما ، فإن التفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم . بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك ، بأن كان احتجاجا على مبطل ، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام : أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [ يوسف : 39 ] . وقوله تعالى : آلله خير أما يشركون [ النمل : 59 ] . والله خير وأبقى [ طه : 73 ] .

وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه ، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر ، وفوقية القدر ، وفوقية الذات . ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص .

وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه . فإن قالوا ، بل علو المكانة لا المكان ؟ فالمكانة : تأنيث المكان ، والمنزلة : تأنيث المنزل ، فلفظ المكانة والمنزلة تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية ، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية ، فإذا قيل : لك في قلوبنا منزلة ، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة [ ص: 389 ] فلان ، كما جاء في الأثر : إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله ، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه ، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه . فقوله : منزلة الله في قلبه : هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك ، فإذا عرف أن المكانة والمنزلة : تأنيث المكان والمنزل ، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى ، وتابع له ، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة ، إذا كان مطابقا كان حقا ، وإلا كان باطلا .

فإن قيل : المراد علوه في القلوب ، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء . قيل : وكذلك هو ، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء ، فإن لم يكن عاليا بنفسه على كل شيء ، كان علوه في القلوب غير مطابق ، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى .

التالي السابق


الخدمات العلمية