فصل .
قال :
nindex.php?page=treesubj&link=28973وفرار الخاصة من الخبر إلى الشهود ، ومن الرسوم إلى الأصول ، ومن الحظوظ إلى التجريد .
يعني أنهم لا يرضون أن يكون إيمانهم عن مجرد خبر ، حتى يترقوا منه إلى مشاهدة المخبر عنه ، فيطلبون الترقي من علم اليقين بالخبر ، إلى عين اليقين بالشهود كما طلب
إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه ذلك من ربه إذ قال
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=260رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فطلب
إبراهيم أن يكون اليقين عيانا ، والمعلوم مشاهدا ، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالشك في قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980294نحن أحق بالشك من إبراهيم حيث قال
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=260رب أرني كيف تحيي الموتى وهو صلى الله عليه وسلم لم يشك ولا
إبراهيم ، حاشاهما من ذلك ، وإنما عبر عن هذا المعنى بهذه العبارة .
هذا أحد الأقوال في الحديث .
وفيه قول ثان : أنه على وجه النفي ، أي لم يشك
إبراهيم حيث قال ما قال ، ولم نشك نحن ، وهذا القول صحيح أيضا أي لو كان ما طلبه للشك لكنا نحن أحق به منه ، لكن لم يطلب ما طلب شكا ، وإنما طلب ما طلبه طمأنينة .
فالمراتب ثلاث ، علم يقين يحصل عن الخبر ، ثم تتجلى حقيقة المخبر عنه للقلب أو البصر ، حتى يصير العلم به عين يقين ، ثم يباشره ويلابسه فيصير حق يقين ، فعلمنا بالجنة والنار الآن علم يقين ، فإذا أزلفت الجنة للمتقين في الموقف ، وبرزت الجحيم للغاوين ، وشاهدوهما عيانا ، كان ذلك عين يقين ، كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=6لترون الجحيم nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=7ثم لترونها عين اليقين [ ص: 470 ] nindex.php?page=treesubj&link=29073فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فذلك حق اليقين ، وسنزيد ذلك إيضاحا إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إليه .
وأما قوله :
nindex.php?page=treesubj&link=29674_19891_30481ومن الرسوم إلى الأصول
فإنه يريد بالرسوم ظواهر العلم والعمل ، وبالأصول حقائق الإيمان ومعاملات القلوب ، وأذواق الإيمان ووارداته ، فيفر من إحكام العلم والعمل إلى خشوع السر للعرفان ، فإن أرباب العزائم في السير لا يقنعون برسوم الأعمال وظواهرها ، ولا يعتدون إلا بأرواحها وحقائقها ، وما يثبته لهم التعرف الإلهي ، وهو نصيبهم من الأمر .
والتعرف الإلهي لا يقتضي مفارقة الأمر ، كما يظن قطاع الطريق وزنادقة الصوفية ، بل يستخرج منهم حقائق الأمر ، وأسرار العبودية ، وروح المعاملة ، فحظهم من الأمر حظ العالم بمراد المتكلم من كلامه ، تصريحا وإيماء ، وتنبيها وإشارة ، وحظ غيرهم منه حظ التالي له حفظا بلا فهم ولا معرفة لمراده ، وهؤلاء أحوج شيء إلى الأمر ، لأنهم لم يصلوا إلى تلك التعرفات والحقائق إلا به ، فالمحافظة عليه لهم علما ومعرفة وعملا وحالا ضرورية ، لا عوض لهم عنه البتة .
وهذا القدر هو الذي فات الزنادقة ، وقطاع الطريق من المنتسبين إلى طريقة القوم .
فإنهم لما علموا أن حقائق هذه الأوامر هي المطلوبة أرواحها ، لا صورها وأشباحها ورسومها ، قالوا : نجمع هممنا على مقاصدها وحقائقها ، ولا حاجة لنا إلى رسومها وظواهرها ، بل الاشتغال برسومها اشتغال عن الغاية بالوسيلة ، وعن المطلوب لذاته بالمطلوب لغيره ، وغرهم ما رأوا فيه الواقفين مع رسوم الأعمال وظواهرها دون مراعاة حقائقها ومقاصدها وأرواحها ، فرأوا نفوسهم أشرف من نفوس أولئك ، وهممهم أعلى ، وأنهم المشتغلون باللب وأولئك بالقشر ، فتركب من تقصير هؤلاء وعدوان هؤلاء تعطيل .
وجملة الأمر أن هؤلاء عطلوا سره ومقصوده وحقيقته ، وهؤلاء عطلوا رسمه وصورته ، فظنوا أنهم يصلون إلى حقيقته من غير رسمه وظاهره ، فلم يصلوا إلا إلى الكفر والزندقة ، وجحدوا ما علم بالضرورة مجيء الرسل به ، فهؤلاء كفار زنادقة منافقون ، وأولئك مقصرون غير كاملين ، والقائمون بهذا وهذا هم الذين يرون أن الأمر متوجه إلى قلوبهم قبل جوارحهم ، وأن على القلب عبودية في الأمر كما على الجوارح ، وأن
nindex.php?page=treesubj&link=29559_19681_19496_18697تعطيل عبودية القلب بمنزلة تعطيل عبودية الجوارح ، وأن كمال العبودية قيام كل من الملك وجنوده بعبوديته ، فهؤلاء خواص أهل الإيمان وأهل العلم والعرفان .
فَصْلٌ .
قَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=28973وَفِرَارُ الْخَاصَّةِ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الشُّهُودِ ، وَمِنَ الرُّسُومِ إِلَى الْأُصُولِ ، وَمِنَ الْحُظُوظِ إِلَى التَّجْرِيدِ .
يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ عَنْ مُجَرَّدِ خَبَرٍ ، حَتَّى يَتَرَقَّوْا مِنْهُ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ ، فَيَطْلُبُونَ التَّرَقِّيَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ بِالْخَبَرِ ، إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ بِالشُّهُودِ كَمَا طَلَبَ
إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ إِذْ قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=260رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فَطَلَبَ
إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَكُونَ الْيَقِينُ عِيَانًا ، وَالْمَعْلُومُ مُشَاهَدًا ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّكِّ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980294نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=260رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشُكَّ وَلَا
إِبْرَاهِيمُ ، حَاشَاهُمَا مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ .
هَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْحَدِيثِ .
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ : أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ ، أَيْ لَمْ يَشُكَّ
إِبْرَاهِيمُ حَيْثُ قَالَ مَا قَالَ ، وَلَمْ نَشُكَّ نَحْنُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ أَيْضًا أَيْ لَوْ كَانَ مَا طَلَبَهُ لِلشَّكِّ لَكُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ ، لَكِنْ لَمْ يَطْلُبْ مَا طَلَبَ شَكًّا ، وَإِنَّمَا طَلَبَ مَا طَلَبَهُ طُمَأْنِينَةً .
فَالْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ ، عِلْمُ يَقِينٍ يَحْصُلُ عَنِ الْخَبَرِ ، ثُمَّ تَتَجَلَّى حَقِيقَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ لِلْقَلْبِ أَوِ الْبَصَرِ ، حَتَّى يَصِيرَ الْعِلْمُ بِهِ عَيْنَ يَقِينٍ ، ثُمَّ يُبَاشِرُهُ وَيُلَابِسُهُ فَيَصِيرُ حَقَّ يَقِينٍ ، فَعِلْمُنَا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ عِلْمُ يَقِينٍ ، فَإِذَا أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْمَوْقِفِ ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ، وَشَاهَدُوهُمَا عِيَانًا ، كَانَ ذَلِكَ عَيْنَ يَقِينٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=6لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ nindex.php?page=tafseer&surano=102&ayano=7ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [ ص: 470 ] nindex.php?page=treesubj&link=29073فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ، فَذَلِكَ حَقُّ الْيَقِينِ ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=treesubj&link=29674_19891_30481وَمِنَ الرُّسُومِ إِلَى الْأُصُولِ
فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِالرُّسُومِ ظَوَاهِرَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ، وَبِالْأُصُولِ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ وَمُعَامَلَاتِ الْقُلُوبِ ، وَأَذْوَاقَ الْإِيمَانِ وَوَارِدَاتِهِ ، فَيَفِرُّ مِنْ إِحْكَامِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ إِلَى خُشُوعِ السِّرِّ لِلْعِرْفَانِ ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْعَزَائِمِ فِي السَّيْرِ لَا يَقْنَعُونَ بِرُسُومِ الْأَعْمَالِ وَظَوَاهِرِهَا ، وَلَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِأَرْوَاحِهَا وَحَقَائِقِهَا ، وَمَا يُثْبِتُهُ لَهُمُ التَّعَرُّفُ الْإِلَهِيُّ ، وَهُوَ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْأَمْرِ .
وَالتَّعَرُّفُ الْإِلَهِيُّ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ الْأَمْرِ ، كَمَا يَظُنُّ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَزَنَادِقَةُ الصُّوفِيَّةِ ، بَلْ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُمْ حَقَائِقَ الْأَمْرِ ، وَأَسْرَارَ الْعُبُودِيَّةِ ، وَرُوحَ الْمُعَامَلَةِ ، فَحَظُّهُمْ مِنَ الْأَمْرِ حَظُّ الْعَالِمِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ ، تَصْرِيحًا وَإِيمَاءً ، وَتَنْبِيهًا وَإِشَارَةً ، وَحَظُّ غَيْرِهِمْ مِنْهُ حَظُّ التَّالِي لَهُ حِفْظًا بِلَا فَهْمٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ لِمُرَادِهِ ، وَهَؤُلَاءِ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَى الْأَمْرِ ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى تِلْكَ التَّعَرُّفَاتِ وَالْحَقَائِقِ إِلَّا بِهِ ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ لَهُمْ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَعَمَلًا وَحَالًا ضَرُورِيَّةٌ ، لَا عِوَضَ لَهُمْ عَنْهُ الْبَتَّةَ .
وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي فَاتَ الزَّنَادِقَةَ ، وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى طَرِيقَةِ الْقَوْمِ .
فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ أَرْوَاحُهَا ، لَا صُوَرُهَا وَأَشْبَاحُهَا وَرُسُومُهَا ، قَالُوا : نَجْمَعُ هِمَمَنَا عَلَى مَقَاصِدِهَا وَحَقَائِقِهَا ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى رُسُومِهَا وَظَوَاهِرِهَا ، بَلِ الِاشْتِغَالُ بِرُسُومِهَا اشْتِغَالٌ عَنِ الْغَايَةِ بِالْوَسِيلَةِ ، وَعَنِ الْمَطْلُوبِ لِذَاتِهِ بِالْمَطْلُوبِ لِغَيْرِهِ ، وَغَرَّهُمْ مَا رَأَوْا فِيهِ الْوَاقِفِينَ مَعَ رُسُومِ الْأَعْمَالِ وَظَوَاهِرِهَا دُونَ مُرَاعَاةِ حَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَأَرْوَاحِهَا ، فَرَأَوْا نُفُوسَهُمْ أَشْرَفَ مِنْ نُفُوسِ أُولَئِكَ ، وَهِمَمَهُمْ أَعْلَى ، وَأَنَّهُمُ الْمُشْتَغِلُونَ بِاللُّبِّ وَأُولَئِكَ بِالْقِشْرِ ، فَتَرَكَّبَ مِنْ تَقْصِيرِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِ هَؤُلَاءِ تَعْطِيلٌ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَؤُلَاءِ عَطَّلُوا سِرَّهُ وَمَقْصُودَهُ وَحَقِيقَتَهُ ، وَهَؤُلَاءِ عَطَّلُوا رَسْمَهُ وَصُورَتَهُ ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ رَسْمِهِ وَظَاهِرِهِ ، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَّا إِلَى الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ ، وَجَحَدُوا مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرُّسُلِ بِهِ ، فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ ، وَأُولَئِكَ مُقَصِّرُونَ غَيْرُ كَامِلِينَ ، وَالْقَائِمُونَ بِهَذَا وَهَذَا هُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قُلُوبِهِمْ قَبْلَ جَوَارِحِهِمْ ، وَأَنَّ عَلَى الْقَلْبِ عُبُودِيَّةً فِي الْأَمْرِ كَمَا عَلَى الْجَوَارِحِ ، وَأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29559_19681_19496_18697تَعْطِيلَ عُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ تَعْطِيلِ عُبُودِيَّةِ الْجَوَارِحِ ، وَأَنَّ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ قِيَامُ كُلٍّ مِنَ الْمَلِكِ وَجُنُودِهِ بِعُبُودِيَّتِهِ ، فَهَؤُلَاءِ خَوَاصُّ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ .