الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط

                                                                                                                                                                                                        974 حدثنا محمد بن كثير عن سفيان حدثنا منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال أتيت ابن مسعود فقال إن قريشا أبطئوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام فجاءه أبو سفيان فقال يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك هلكوا فادع الله فقرأ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ثم عادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون يوم بدر قال أبو عبد الله وزاد أسباط عن منصور فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا وشكا الناس كثرة المطر قال اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقوا الناس حولهم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط ) قال الزين بن المنير : ظاهر هذه الترجمة منع أهل الذمة من الاستبداد بالاستسقاء ، كذا قال ، ولا يظهر وجه المنع من هذا اللفظ . واستشكل بعض شيوخنا مطابقة حديث ابن مسعود للترجمة ، لأن الاستشفاع إنما وقع عقب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم بالقحط ، ثم سئل أن يدعو برفع ذلك ففعل ، فنظيره أن يكون إمام المسلمين هو الذي دعا على الكفار بالجدب فأجيب ، فجاءه الكفار يسألونه الدعاء بالسقيا . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        ومحصله أن الترجمة أعم من الحديث ، ويمكن أن يقال : هي مطابقة لما وردت فيه ، ويلحق بها بقية الصور ، إذ لا يظهر الفرق بين ما إذا استشفعوا بسبب دعائه أو بابتلاء الله لهم بذلك ، فإن الجامع بينهما ظهور الخضوع منهم والذلة للمؤمنين في التماسهم منهم الدعاء لهم ، وذلك من مطالب الشرع . ويحتمل أن يكون ما ذكره شيخنا هو السبب في حذف المصنف جواب " إذا " من الترجمة ويكون التقدير في الجواب مثلا : أجابهم مطلقا ، أو أجابهم بشرط أن يكون هو الذي دعا عليهم ، أو لم يجبهم إلى ذلك أصلا . ولا دلالة فيما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة على مشروعية ذلك لغيره ، إذ الظاهر أن ذلك من خصائصه لاطلاعه على المصلحة في ذلك بخلاف من بعده من الأئمة ، ولعله حذف جواب " إذا " لوجود هذه الاحتمالات . ويمكن أن يقال : إذا رجا إمام المسلمين رجوعهم عن الباطل أو وجود نفع عام للمسلمين شرع دعاؤه لهم والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن مسروق قال : أتيت ابن مسعود ) سيأتي في تفسير الروم بالإسناد المذكور في أوله [ ص: 593 ] " بينما رجل يحدث في كندة فقال يجيء دخان يوم القيامة " فذكر القصة وفيها " ففزعنا فأتيت ابن مسعود " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال : إن قريشا أبطئوا ) سيأتي في الطريق المذكورة إنكار ابن مسعود لما قاله القاص المذكور ، وسنذكر في تفسير سورة الدخان ما وقع لنا في تسمية القاص المذكور وأقوال العلماء في المراد بقوله تعالى : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين مع بقية شرح هذا الحديث ، ونقتصر في هذا الباب على ما يتعلق بالاستسقاء ابتداء وانتهاء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فدعا عليهم ) تقدم في أوائل الاستسقاء صفة ما دعا به عليهم وهو قوله اللهم سبعا كسبع يوسف وهو منصوب بفعل تقديره أسألك ، أو سلط عليهم . وسيأتي في تفسير سورة يوسف بلفظ اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف وفي سورة الدخان " اللهم أعني عليهم إلخ " وأفاد الدمياطي أن ابتداء دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على قريش بذلك كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور الذي تقدمت قصته في الطهارة وكان ذلك بمكة قبل الهجرة ، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم بذلك بعدها بالمدينة في القنوت كما تقدم أوائل الاستسقاء من حديث أبي هريرة ، ولا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصص إذ لا مانع أن يدعو بذلك عليهم مرارا ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فجاءه أبو سفيان ) يعني الأموي والد معاوية ، والظاهر أن مجيئه كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود " ثم عادوا ، فذلك قوله : يوم نبطش البطشة الكبرى يوم بدر " ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك فلذلك قال :

                                                                                                                                                                                                        وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

                                                                                                                                                                                                        " البيت ، لكن سيأتي بعد هذا بقليل ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة ، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل جدا والله المستعان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( جئت تأمر بصلة الرحم ) يعني والذين هلكوا بدعائك من ذوي رحمك فينبغي أن تصل رحمك بالدعاء لهم ، ولم يقع في هذا السياق التصريح بأنه دعا لهم ، وسيأتي هذا الحديث في تفسير سورة " ص " بلفظ " فكشف عنهم ثم عادوا " وفي سورة الدخان من وجه آخر بلفظ " فاستسقى لهم فسقوا " ونحوه في رواية أسباط المعلقة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : بدخان مبين الآية سقط قوله الآية لغير أبي ذر ، وسيأتي ذكر بقية اختلاف الرواية في تفسير سورة الدخان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : يوم نبطش البطشة الكبرى زاد الأصيلي بقية الآية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وزاد أسباط ) هو ابن نصر ، ووهم من زعم أنه أسباط بن محمد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن منصور ) يعني بإسناده المذكور قبله إلى ابن مسعود وقد وصله الجوزقي والبيهقي من رواية علي بن ثابت عن أسباط بن نصر عن منصور وهو ابن المعتمر عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود قال : لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الناس إدبارا " فذكر نحو الذي قبله وزاد فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا : يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا [ ص: 594 ] فادع الله لهم ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسقوا الغيث الحديث . وقد أشاروا بقولهم " بعثت رحمة " إلى قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فسقوا الناس حولهم ) كذا في جميع الروايات في الصحيح بضم السين والقاف وهو على لغة بني الحارث ، وفي رواية البيهقي المذكورة " فأسقي الناس حولهم " وزاد بعد هذا " فقال - يعني ابن مسعود - لقد مرت آية الدخان وهو الجوع إلخ " وقد تعقب الداودي وغيره هذه الزيادة ونسبوا أسباط بن نصر إلى الغلط في قوله " وشكا الناس كثرة المطر إلخ " وزعموا أنه أدخل حديثا في حديث ، وأن الحديث الذي فيه شكوى كثرة المطر وقوله اللهم حوالينا ولا علينا لم يكن في قصة قريش وإنما هو في القصة التي رواها أنس ، وليس هذا التعقب عندي بجيد إذ لا مانع أن يقع ذلك مرتين ، والدليل على أن أسباط بن نصر لم يغلط ما سيأتي في تفسير الدخان من رواية أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى في هذا الحديث فقيل : يا رسول الله استسق الله لمضر ، فإنها قد هلكت . قال : لمضر ؟ إنك لجريء . فاستسقى فسقوا اهـ . والقائل : فقيل " يظهر لي أنه أبو سفيان لما ثبت في كثير من طرق هذا الحديث في الصحيحين " فجاءه أبو سفيان " ثم وجدت في الدلائل للبيهقي من طريق شبابة عن شعبة عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي الجعد عن شرحبيل بن السمط عن كعب بن مرة - أو مرة بن كعب - قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . على مضر ، فأتاه أبو سفيان فقال : ادع الله لقومك فإنهم قد هلكوا " ورواه أحمد وابن ماجه من رواية الأعمش عن عمرو بن مرة بهذا الإسناد عن كعب بن مرة ولم يشك ، فأبهم أبا سفيان قال جاءه رجل فقال استسق الله لمضر ، فقال : إنك لجريء ، ألمضر ؟ قال : يا رسول الله استنصرت الله فنصرك ، ودعوت الله فأجابك ، فرفع يديه فقال : اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا مريئا طبقا عاجلا غير رائث نافعا غير ضار ، قال فأجيبوا ، فما لبثوا أن أتوه فشكوا إليه كثرة المطر فقالوا : قد تهدمت البيوت ، فرفع يديه وقال : " اللهم حوالينا ولا علينا ، فجعل السحاب يتقطع يمينا وشمالا فظهر بذلك أن هذا الرجل المبهم المقول له " إنك لجريء " هو أبو سفيان .

                                                                                                                                                                                                        لكن يظهر لي أن فاعل " قال يا رسول الله استنصرت الله إلخ " هو كعب بن مرة راوي هذا الخبر لما أخرجه أحمد أيضا والحاكم من طريق شعبة أيضا عن عمرو بن مرة بهذا الإسناد إلى كعب قال دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مضر . فأتيته فقلت : يا رسول الله ، إن الله قد نصرك وأعطاك واستجاب لك ، وإن قومك قد هلكوا الحديث ، فعلى هذا كأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا ، فكلمه أبو سفيان بشيء وكعب بشيء ، فدل ذلك على اتحاد قصتهما ، وقد ثبت في هذه ما ثبت في تلك من قوله إنك لجريء ، ومن قوله فقال : اللهم حوالينا ولا علينا وغير ذلك . وظهر بذلك أن أسباط بن نصر لم يغلط في الزيادة المذكورة ولم ينتقل من حديث إلى حديث ، وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع في المدينة بقوله : استنصرت الله فنصرك " لأن كلا منهما كان بالمدينة بعد الهجرة ، لكن لا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصة مع قصة أنس ، بل قصة أنس واقعة أخرى ؛ لأن في رواية أنس " فلم يزل على المنبر حتى مطروا " وفي هذه " فما كان إلا جمعة أو نحوها حتى مطروا " والسائل في هذه القصة غير السائل في تلك فهما قصتان وقع في كل منهما طلب الدعاء بالاستسقاء ثم طلب الدعاء بالاستصحاء ، وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله " استنصرت الله فنصرك " على النصر بإجابة دعائه عليهم ، [ ص: 595 ] وزال الإشكال المتقدم والله أعلم . وإني ليكثر تعجبي من كثرة إقدام الدمياطي على تغليط ما في الصحيح بمجرد التوهم ، مع إمكان التصويب بمزيد التأمل ، والتنقيب عن الطرق ، وجمع ما ورد في الباب من اختلاف الألفاظ ، فلله الحمد على ما علم وأنعم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية