الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1856 - مسألة : ولا يحل نكاح الشغار : وهو أن يتزوج هذا ولية هذا على أن يزوجه الآخر وليته أيضا ، سواء ذكرا في كل ذلك صداقا لكل واحدة منهما أو لإحداهما دون الأخرى ، أو لم يذكرا في شيء من ذلك صداقا ، كل ذلك سواء يفسخ أبدا ، ولا نفقة فيه ; ولا ميراث ، ولا صداق ولا شيء من أحكام الزوجية ، ولا عدة .

                                                                                                                                                                                          فإن كان عالما فعليه الحد كاملا ، ولا يلحق به الولد ، وإن كان جاهلا فلا حد عليه ، والولد له لاحق ، وإن كانت هي عالمة بتحريم ذلك فعليها الحد ، وإن كانت جاهلة فلا شيء عليها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : واختلف الناس في هذا - : [ ص: 119 ] فقال مالك : لا يجوز هذا النكاح ويفسخ دخل بها أو لم يدخل ، وكذلك لو قال : أزوجك ابنتي على أن تزوجني ابنتك بمائة دينار ، فلا خير في ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقال ابن القاسم : لا يفسخ ، هذا إن دخل بها .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : يفسخ هذا النكاح إذا لم يسم في ذلك مهر ، فإن سميا لكل واحدة منهما مهرا ، أو لإحداهما دون الأخرى ثبت النكاحان معا ، وبطل المهر الذي سميا ، وكان لكل واحدة منهما مهر مثلها إن مات ، أو وطئها ، أو نصف مهر مثلها إن طلق قبل الدخول .

                                                                                                                                                                                          وقال الليث ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : هو نكاح صحيح ذكرا لكل واحدة صداقا ، أو لإحداهما دون الأخرى ، أو لم يذكرا صداقا أصلا ، أو اشتراطا وبينا أنه لا صداق في ذلك ، قالوا : ولكل واحدة في هذا مهر مثلها .

                                                                                                                                                                                          والظاهر من قولهم : أنهما إن سميا صداقا أنه ليس لهما إلا المسمى .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : والذي قلنا به هو قول أصحابنا ، فوجب النظر فيما اختلفوا فيه ، فوجدنا في ذلك - : ما رويناه من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار ، والشغار : أن يقول الرجل للرجل : زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي ، أو زوجني أختك وأزوجك أختي }

                                                                                                                                                                                          وقد رويناه أيضا مسندا صحيحا من طريق جابر ، وابن عمر ، وأنس ، وغيرهم ، فكان هذا تحريما من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل قول من سواه .

                                                                                                                                                                                          فنظرنا في أقوال من خالف - : [ ص: 120 ] فأما قول ابن القاسم إنه يصح بعد الدخول ، فقول قد تقدم تبييننا لفساده وتعريه من البرهان جملة .

                                                                                                                                                                                          وأما أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، فإنهم قالوا : إنما فسد هذا النكاح لفساد صداقه فقط - ثم اختلفوا - : فقال الشافعي : والصداق الفاسد يفسخ ، فكان نكاح كل واحدة منهما صداقا للأخرى ، فهما مفسوخان - قال : فإن سميا لإحداهما صداقا صح ذلك النكاح ، وصح نكاح الأخرى لصحة صداقه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فكان هذا قولا فاسدا ، لأنه إن كان هذا العقد الذي سمي فيه الصداق صحيحا فهو صداق صحيح ، فلا معنى لفسخه وإصلاحه بصداق آخر إذا .

                                                                                                                                                                                          فإن قال قائل : بل هو فاسد ؟ قلنا : فقل بقول أبي حنيفة الذي يجيز كل ذلك ويصلح الصداق ، وإلا فهي مناقضة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في قول أبي حنيفة ، فوجدناه ظاهر الفساد لمخالفة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ودعوى الشافعي أنه إنما نهى عن الشغار لفساد الصداق في كليهما دعوى كاذبة ; لأنها تقويل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل وهذا لا يجوز .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا ما رويناه من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر قال { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار - والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته ليس بينهما صداق } .

                                                                                                                                                                                          وما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ثابت البناني وآخر معه - هو يزيد الرقاشي - عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا شغار في الإسلام والشغار أن يبدل الرجل الرجل أخته بأخته بغير ذكر صداق } وذكر باقي الحديث .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 121 ] قلنا : أما هذان الخبران فهما خلاف قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، كالذي قدمنا ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          وأما الشافعي فلا حجة له في هذين الخبرين لوجهين - :

                                                                                                                                                                                          أحدهما - أنه وإن ذكر فيهما صداق أو لإحداهما فإنه يبطل ذلك الصداق جملة بكل حال ، وليس هذا في هذين الخبرين فقد خالف ما فيهما .

                                                                                                                                                                                          والوجه الآخر - وهو الذي نعتمد عليه - وهو أن هذين الخبرين إنما فيهما تحريم الشغار الذي لم يذكر فيها الصداق فقط ، وليس فيه ذكر الشغار الذي ذكر فيه الصداق - لا بتحريم ولا بإجازة - ومن ادعى ذلك فقد ادعى الكذب وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله قط ، فوجب أن نطلب حكم الشغار الذي ذكر فيه الصداق في غير هذين الخبرين : فوجدنا خبر أبي هريرة ، وجابر قد وردا بعموم الشغار ، وبيان أنه الزواج بالزواج ، ولم يشترط عليه الصلاة والسلام فيهما ذكر صداق ولا السكوت عنه ، فكان خبر أبي هريرة زائدا على خبر ابن عمر ، وخبر أنس زيادة عموم لا يحل تركها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } .

                                                                                                                                                                                          ووجدنا الشغار - ذكر فيه صداق أو لم يذكر - قد اشترطا فيه شرطا ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل بكل حال . وروينا من طريق أبي داود السجستاني نا محمد بن فارس نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف نا أبي عن محمد بن إسحاق نا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج قال : { إن العباس بن العباس بن عبد المطلب أنكح ابنته عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، وأنكحه عبد الرحمن [ ص: 122 ] ابنته : وكانا جعلا صداقا ، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما ، وقال معاوية في كتابه : هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فهذا معاوية بحضرة الصحابة لا يعرف له منهم مخالف يفسخ هذا النكاح - وإن ذكرا فيه الصداق - ويقول : إنه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفع الإشكال جملة - والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          والعجب كله من تشنيع الحنفيين بخلاف الصاحب الذي يدعون أنه لا يعرف له مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - كدعواهم ذلك في نزح زمزم من زنجي مات فيها فنزحها ابن الزبير ، وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                          ثم لم يلتفتوا هاهنا إلى ما عظموه وحرموه هنالك .

                                                                                                                                                                                          وهذا خبر صحيح ، لأن عبد الرحمن بن هرمز ممن أدرك أيام معاوية وروى عن أبي هريرة وغيره ، وشاهد هذا الحكم بالمدينة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          لا سيما في مثل هذه القصة المشهورة بين رجلين عظيمين من عظماء بني هاشم ، وبني أمية يأتي به البريد من الشام إلى المدينة ، هذا ما لا يخفى على أحد من علماء أهلها والصحابة يومئذ بالشام والمدينة أكثر عددا من الذين كانوا أحياء أيام ابن الزبير بلا شك .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : سئل عطاء عن رجلين أنكح كل واحد منهما أخته بأن يجهز كل واحد منهما بجهاز يسير لو شاء أخذ لها أكثر من ذلك ؟ فقال : لا ، نهي عن الشغار : فقلت له : إنه قد أصدقها كلاهما ؟ قال : لا ، قد أرخص كل واحد منهما على صاحبه من أجل نفسه ؟ فقلت لعطاء : ينكح هذا ابنته بكذا وهذا ابنته بكذا بصداق كلاهما يسمي صداقه ، وكلاهما أرخص على أخيه من أجل نفسه ؟ قال : إذا سميا صداقا فلا بأس ، فإن قال : جهز وأجهز ؟ فلا ذلك الشغار ، قلت : فإن فرض هذا وفرض هذا ؟ قال : لا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ففرق عطاء بين النكاحين يعقد أحدهما بالآخر - ذكرا صداقا أو [ ص: 123 ] لم يذكرا - فأبطله ، وبين النكاحين لا يعقد أحدهما بالآخر ، فأجازه ، وهذا قولنا ، وما نعلم عن أحد من الصحابة والتابعين خلافا لما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإن خطب أحدهما إلى الآخر فزوجه ، ثم خطب الآخر إليه فزوجه ، فذلك جائز ما لم يشترط أن يزوج أحدهما الآخر - فهذا هو الحرام الباطل .

                                                                                                                                                                                          والعجب أن بعضهم احتج بأن قال : إن هذا بمنزلة النكاح يعقد على أن يكون صداقه خمرا أو خنزيرا ؟ فقلنا : نعم ، وكل مفسوخ باطل أبدا ، لأنه عقد على أن لا صحة لذلك العقد إلا بذلك المهر ، وذلك المهر باطل ، فالذي لا يصح إلا بصحة باطل باطل ، بلا شك - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية