الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          104 حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثم غسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة ثم يشرب شعره الماء ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وهو الذي اختاره أهل العلم في الغسل من الجنابة أنه يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفرغ على رأسه ثلاث مرات ثم يفيض الماء على سائر جسده ثم يغسل قدميه والعمل على هذا عند أهل العلم وقالوا إن انغمس الجنب في الماء ولم يتوضأ أجزأه وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( نا سفيان ) هو ابن عيينة كما يظهر من عبارة الحافظ الآتية ( إذا أراد أن يغتسل من الجنابة ) أي من أجل رفعها أو بسبب حدوثها .

                                                                                                          ( بدأ بغسل يديه ) وفي نسخة صحيحة فغسل يديه . قال الحافظ يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذر ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم ، ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث قبل : أن يدخلهما في الإناء . رواه الشافعي والترمذي ، وزاد أيضا ثم يغسل فرجه . انتهى . قلت : رواية الترمذي والتي أشار إليها الحافظ هي هذه التي نحن في شرحها وظهر من كلام الحافظ هذا أن سفيان في هذه الرواية هو ابن عيينة .

                                                                                                          ( ثم يغسل ) ، وفي النسخة القلمية : ثم غسل .

                                                                                                          ( ثم يتوضأ وضوءه ) بالنصب ، أي كوضوئه للصلاة ، ( ثم يشرب ) من التشريب أو الإشراب .

                                                                                                          ( شعره ) بالنصب ( الماء ) بالنصب أيضا وهما مفعولان ليشرب : أي يسقي صلى الله عليه وسلم شعره المبارك الماء ، قال في مجمع البحار : تشريبه بل جميعه بالماء . انتهى . وقال ابن العربي في العارضة : قوله يشرب شعره الماء يعني يسقيه ، كقوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل أي سقى في قلوبهم حبه ، قال : معناه يصب عليه الماء فيسري إلى مداخله ، كسريانه إلى بواطن البدن ، شبهه به وسماه شرابا لأجله ، وهذا مجاز بديع . انتهى .

                                                                                                          ( وفي رواية الشيخين ) ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ( ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات ) أي ثلاث غرف بيديه ، واحدها حثية ، قاله في النهاية ، والمعنى يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه ، وفي رواية للشيخين : ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيده .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه الشيخان وغيرهما .

                                                                                                          قوله : ( ثم يفرغ ) من الإفراغ وهو الصب ( ثم [ ص: 299 ] يفيض ) من الإفاضة وهو الإسالة .

                                                                                                          ( وقالوا إن انغمس الجنب في الماء ولم يتوضأ أجزأه ) يعني أن الوضوء ليس بواجب في غسل الجنابة .

                                                                                                          ( وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق ) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، قال الشافعي في الأم : فرض الله تعالى الغسل مطلقا لم يذكر فيه شيئا يبدأ به قبل شيء فكيفما جاء به المغتسل أجزأه إذا أتى بغسل جميع بدنه ، والاحتياط في الغسل ما روت عائشة ، ثم حديث عائشة عن مالك بسنده قال ابن عبد البر : هو أحسن حديث روي في ذلك ، فإن لم يتوضأ قبل الغسل ولكن عم جسده ورأسه ونواه فقد أدى ما عليه بلا خلاف ، ولكنهم مجمعون على استحباب الوضوء قبل الغسل ، كذا ذكره الزرقاني في شرح الموطأ . وقال الحافظ في الفتح : نقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل ، وهو مردود فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث . انتهى كلام الحافظ ، وقال ابن العربي في العارضة : قال أبو ثور : يلزم الجمع بين الوضوء والغسل ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنه ثلاثة أجوبة :

                                                                                                          الأول : أن ذلك ليس بجمع كما بيناه وإنما هو غسل كله .

                                                                                                          الثاني : أنه إن كان جمع بينهما فإنما ذلك استحباب بدليل قوله تعالى : حتى تغتسلوا ، وقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا ، فهذا هو الفرض الملزم والبيان المكمل وما جاء من بيان هيئته لم يكن بيانا لمجمل واجب فيكون واجبا ، وإنما كان إيضاحا لسنة .

                                                                                                          الثالث : أن سائر الأحاديث ليس فيها ذكر الوضوء ، ومنها ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة إذ قالت له : إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه للغسل من الجنابة ، فقال لها : إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ، ثم تضغثيه ، ثم تفيضين على جسدك الماء فإذا أنت قد طهرت . انتهى كلام ابن العربي .

                                                                                                          قلت : في كل من الأجوبة الثلاثة عندي نظر ، أما في الأول فلأن ظاهر حديث ميمونة وحديث عائشة هو الجمع كما عرفت ، أما في الثاني فلأن المراد بقوله تعالى : حتى تغتسلوا هو الاغتسال الشرعي الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غسل الجنابة ، وكذا المراد بقوله تعالى : فاطهروا هو التطهر الشرعي ، وأما في الثالث فلأن عدم ذكر الوضوء في بعض أحاديث غسل الجنابة ليس بدليل على أنه ليس بواجب في غسل الجنابة ، كما لا يخفى على المتأمل . هذا ما عندي والله تعالى أعلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية