الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          178 - فصل

                          [ والد المملوكين الكافرين يحكم بإسلامه ] .

                          فإن قيل : فما تقولون في المملوك الكافر يكون تحته جارية كافرة ، وهما ملك مسلم ، إذا ولد بينهما ولد هل يكون تبعا لأبويه ، أو لسيد الأبوين ؟ قيل : سئل أحمد عن هذه المسألة ، وترجم عليها الخلال ، فقال في " الجامع " : ( باب الرجل والمرأة يسبيان فيكونان عند المسلم فيولد لهما ، أو يزوجهما المسلم فيولد لهما في ملك سيدهما ، أو لا ، ما الحكم فيه ؟ )

                          أخبرنا أبو بكر المروذي أن أبا عبد الله قال : إذا ولد لهما ، وهما في دار الإسلام في ملك مولاهما ، لا أقول في ولدهما شيئا .

                          قلت : هذه هي المسألة المتقدمة : وهي تبع الولد لمالكه ، وقد تقدم نص أحمد على أنه يتبع مالكه في الإسلام ، وإنما توقف في هذه المسألة - وإن [ ص: 942 ] كان مالكه مسلما - لأن أبوي الطفل معه ، وهما كافران لكن لما لم يكن لهما عليه ولاية ، وكانت الولاية لسيده ، ومالكه تبعه في الإسلام ، وهذا أوجه ، وأطرد على أصوله .

                          فإن قيل : فهو لو سبي مع أبويه كان مملوكا لسابيه ، وكان على دينهما ، فما الفرق بين المسألتين ؟

                          قيل : قد بينا أن الصحيح كونه مسلما وإن كان مع أبويه .

                          وعلى هذا فلا فرق بينهما ، وإن قلنا بالرواية الثانية ، وأن يكون على دينهما ، فالفرق بينها وبين ما لو ولد بين مملوكين لمسلم أنه قد ثبت له حكم تبعية الأبوين بطريق الأصالة قبل السباء ، وهنا لم يثبت له حكم تبعية المالك ، وقد نص على أنه يكون الولد في هذه الصورة مسلما ، إذا ماتت أمه وكفله المسلمون .

                          فقال أبو الحارث : سئل أبو عبد الله عن جارية نصرانية لرجل مسلم ، لها زوج نصراني ، فولدت عنده وماتت عند المسلم ، وبقي ولدها عنده ما يكون حكم هذا الصبي ؟ فقال : إذا كفله المسلمون فهو مسلم .

                          فهذا يحتمل أن يكون حكم بإسلامه لموت أمه ، ويحتمل أن يكون حكم بإسلامه لكفالة المسلمين له ، ولا أثر لوجود أمه .

                          وقد صرح بهذا المأخذ ، وهو كفالة المسلمين ، في رواية ليعقوب بن بختان : فإنه قال : سئل أبو عبد الله ، عن جارية نصرانية لقوم ، فولدت عندهم ، ثم ماتت ما يكون الولد ؟ قال : إذا كفله المسلمون ، ولم يكن له من يكفله إلا [ ص: 943 ] هم فهو مسلم .

                          قيل له : فإن مات بعد الأم بقليل ؟

                          قال : يدفنه المسلمون .

                          وهذا تقييد مطلق أجوبته في الحكم بإسلامه بمجرد موت الأبوين ، وإن كفله أهل دينه .

                          وهذا التفصيل هو الصواب في المسألة ، وهو الذي نختاره ، وهو وسط بين القولين المتقابلين ، وبه يجتمع شمل الأدلة من الجانبين ، فإن القائلين ببقائه على الكفر قالوا : لا يعرف أنه عمل في الإسلام بقول من قال : يصير أطفال أهل الذمة مسلمين بموت آبائهم ، مع العلم القطعي بأنه لم يزل في أهل الذمة الأيتام في الأعصار والأمصار ، من عهد الصحابة إلى وقتنا ، وهم يرون أيتام أهل الذمة بين المسلمين ويشاهدونهم عينا ، ويتصدقون عليهم ، فلو كانوا مسلمين عندهم لما ساغ لهم إقرارهم على الكفر ، وألا يحولوا بينهم وبين الكفار .

                          قالوا : ويدل عليه أن هذا لو كان حكم أولادهم لكان من أهم الأمور ، وكان ذكره فيما شرط عليهم آكد وأولى من تغيير لباسهم ، وهيئة ركوبهم ، وخفض أصواتهم بكنائسهم ، وبالناقوس ، ونحو ذلك من الشروط ، فأين هذا من بقاء أطفالهم كفارا ، وقد صاروا مسلمين بمجرد موت الآباء ؟ قالوا : وهذا يقرب من القطع .

                          والذين حكموا بإسلامهم قالوا : من الممتنع أن يجعل من فطره الله [ ص: 944 ] على الإسلام كافرا بعد موت أبويه اللذين جعله الله تابعا لهما شرعا ، وقدرا ، فإذا زال الأبوان كان من الممتنع نقل الولد عن حكم الفطرة بلا موجب ، وقد قال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ، فما الموجب لتبديل الفطرة ، وقد زال من كان يبدلها ممن هو أولى الناس به وبكفالته ، وتربيته ، وحضانته ؟ فإذا كفله المسلمون ، وقاموا بتربيته ، وحضانته ، ومعه الفطرة الأصلية ، والمغير لها قد زال ، فكيف يحكم بكفره ؟ وهذا أيضا قريب من القطعي ، ونحن نجمع بين الأمرين ، ونقول بموجب الدليلين ، والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية