الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى .

بقية ما نودي به موسى . والجملة معطوفة على الجمل قبلها انتقالا إلى محاورة أراد الله منها أن يري موسى كيفية الاستدلال على المرسل إليهم بالمعجزة العظيمة ؛ وهي انقلاب العصا حية تأكل الحيات التي يظهرونها .

وإبراز انقلاب العصا حية في خلال المحاورة لقصد تثبيت موسى ، ودفع الشك عن أن يتطرقه لو أمره بذلك دون تجربة لأن مشاهد الخوارق تسارع بالنفس بادئ ذي بدء إلى تأويلها وتدخل [ ص: 205 ] عليها الشك في إمكان استتار المعتاد بساتر خفي أو تخييل ، فلذلك ابتدئ بسؤاله عما بيده ليوقن أنه ممسك بعصاه حتى إذا انقلبت حية لم يشك في أن تلك الحية هي التي كانت عصاه . فالاستفهام مستعمل في تحقيق حقيقة المسئول عنه .

والقصد من ذلك زيادة اطمئنان قلبه بأنه في مقام الاصطفاء ، وأن الكلام الذي سمعه كلام من قبل الله بدون واسطة متكلم معتاد ولا في صورة المعتاد ، كما دل عليه قوله بعد ذلك ( لنريك من آياتنا الكبرى ) .

فظاهر الاستفهام أنه سؤال عن شيء أشير إليه ، وبينت الإشارة بالظرف المستقر وهو قوله بيمينك ، ووقع الظرف حالا من اسم الإشارة ، أي ما تلك حال كونها بيمينك ؟ .

ففي هذا إيماء إلى أن السؤال عن أمر غريب في شأنها ، ولذلك أجاب موسى عن هذا الاستفهام ببيان ماهية المسئول عنه جريا على الظاهر ، وببيان بعض منافعها استقصاء لمراد السائل أن يكون قد سأل عن وجه اتخاذه العصا بيده لأن شأن الواضحات أن لا يسأل عنها إلا والسائل يريد من سؤاله أمرا غير ظاهر ، ولذلك لما قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع : أي يوم هذا ؟ سكت الناس وظنوا أنه سيسميه بغير اسمه . وفي رواية أنهم قالوا : الله ورسوله أعلم . فقال : أليس يوم الجمعة ؟ . . إلى آخره .

فابتدأ موسى ببيان الماهية بأسلوب يؤذن بانكشاف حقيقة المسئول عنه ، وتوقع أن السؤال عنه توسل لتطلب بيان وراءه ، فقال : هي عصاي ، بذكر المسند إليه ، مع أن غالب الاستعمال حذفه في مقام السؤال للاستغناء عن ذكره في الجواب بوقوعه مسئولا [ ص: 206 ] عنه ، فكان الإيجاز يقتضي أن يقول : عصاي . فلما قال هي عصاي كان الأسلوب أسلوب كلام من يتعجب من الاحتياج إلى الإخبار ، كما يقول سائل لما رأى رجلا يعرفه وآخر لا يعرفه : من هذا معك ؟ فيقول . فلان ، فإذا لقيهما مرة أخرى وسأله : من هذا معك ؟ أجابه : هو فلان ، ولذلك عقب موسى جوابه ببيان الغرض من اتخاذها لعله أن يكون هو قصد السائل فقال : ( أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ) . ففصل ثم أجمل لينظر مقدار اقتناع السائل حتى إذا استزاده بيانا زاده .

والباء في قوله بيمينك للظرفية أو الملابسة .

والتوكؤ : الاعتماد على شيء من المتاع ، والاتكاء كذلك ، فلا يقال : توكأ على الحائط ولكن يقال : توكأ على وسادة ، وتوكأ على عصا .

والهش : الخبط ، وهو ضرب الشجرة بعصا ليتساقط ورقها ، وأصله متعد إلى الشجرة فلذلك ضمت عينه في المضارع ، ثم كثر حذف مفعوله وعدي إلى ما لأجله يوقع الهش ب ( على ) لتضمين ( أهش ) معنى أسقط على غنمي الورق فتأكله ، أو استعملت على بمعنى الاستعلاء المجازي كقولهم : هو وكيل على فلان .

ومآرب : جمع مأربة ، مثلث الراء : الحاجة ، أي أمور أحتاج إليها . وفي العصا منافع كثيرة روي بعضها عن ابن عباس .

وقد أفرد الجاحظ من كتاب البيان والتبيين بابا لمنافع العصا . ومن أمثال العرب : هو خير من تفارق العصا .

ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأن المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث . والظاهر أن قوله (مآرب أخرى ) حكاية لقول موسى بمماثله ، فيكون إيجازا بعد الإطناب ، وكان يستطيع أن يزيد من ذكر فوائد [ ص: 207 ] العصا . ويجوز أن يكون حكاية لقول موسى بحاصل معناه ، أي عد منافع أخرى ، فالإيجاز من نظم القرآن لا من كلام موسى - عليه السلام - .

والضمير المشترك في ( قال ألقها ) عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلم الذي في قوله ( إنني أنا الله ) ؛ دعا إلى الالتفات وقوع هذا الكلام حوارا مع قول موسى هي عصاي . . إلخ .

وقوله ألقها يتضح به أن السؤال كان ذريعة إلى غرض سيأتي ، وهو القرينة على أن الاستفهام في قوله ( وما تلك بيمينك ) مستعمل في التنبيه إلى أهمية المسئول عنه كالذي يجيء في قوله ( وما أعجلك عن قومك يا موسى ) .

والحية : اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عض بنابيه قتل المعضوض ، ويطلق على الذكر .

ووصف الحية ب ( تسعى ) لإظهار أن الحياة فيها كانت كاملة بالمشي الشديد . والسعي : المشي الذي فيه شدة ، ولذلك خص غالبا بمشي الرجل دون المرأة . وأعيد فعل ( قال خذها ) بدون عطف لوقوعه في سياق المحاورة .

والسيرة في الأصل : هيئة السير ، وأطلقت على العادة والطبيعة ، وانتصب سيرتها بنزع الخافض ، أي سنعيدها إلى سيرتها الأولى التي كانت قبل أن تنقلب حية ، أي سنعيدها عصا كما كانت أول مرة .

والغرض من إظهار ذلك لموسى أن يعرف أن العصا تطبعت بالانقلاب حية ، فيتذكر ذلك عند مناظرة السحرة لئلا يحتاج حينئذ إلى وحي .

التالي السابق


الخدمات العلمية