الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    صفحة جزء
                    [ ص: 110 ] سياق

                    ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة أولياء الله الذين يكونون من بعده ، ومن عرفهم من أصحابه ، وتابعيه بنعته لهم وصفته إياهم .

                    (منهم أويس القرني )

                    55 - أخبرنا محمد بن عبد الله بن القاسم ، وعبيد الله بن عثمان [ ص: 111 ] بن علي ، قالا : أنا الحسين بن إسماعيل ، قال : ثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي ، قال : ثنا معاذ بن هشام ، ثنا أبي ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أسير بن جابر ، قال : كان عمر بن الخطاب - رضي الله - عنه إذا أتت عليه أمداد اليمن سألهم : أفيكم أويس بن عامر ؟ حتى أتى على أويس ، فقال : أنت أويس بن عامر ؟ قال : نعم ، قال : من مراد ؟ قال : نعم ، قال : ثم من قرن ؟ قال : نعم ، قال : ألك والدة أنت بها بر ؟ قال : نعم ، قال : وكان بك وضح فبرئت منه إلا موضع الدرهم ؟ قال : نعم ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد اليمن ، ثم من مراد ، ثم من قرن ، كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم ، له والدة وهو بها بر ، لو أقسم على الله تعالى لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " ، فاستغفر لي . نا سعيد به إلى ههنا اتفقا ،

                    زاد ابن القاسم في حديثه : قال : أين تريد ؟ قال : الكوفة ، قال : ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك ؟ قال : لأن أكون في غبرات الناس أحب إلي ، قال : فلما كان العام المقبل حج رجل من أشرافهم ، فقال له عمر : كيف تركت أويسا ؟ قال : رث البيت ، قليل المتاع ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يأتي عليك أويس [ ص: 112 ] بن عامر مع أمداد أهل اليمن ، من مراد ، ثم من قرن ، له والدة وهو بها بر ، وكان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " . فلما قدم الرجل الكوفة أتى أويسا ، فقال : استغفر لي ، فقال : أنت أحدث عهدا بسفر صالح ، فاستغفر لي ، قال : لقيت عمر ؟ قال : نعم ، قال : فاستغفر له ، قال : ففطن له الناس ، فانطلق على وجهه حتى أتى الجزيرة ، فمات بها ، قال أسير : وكسوته بردا ، فكان كلما رآه عليه إنسان قال : من أين لأويس هذا ؟ ! أخرجه مسلم عن بندار ، ومحمد بن المثنى .

                    56 - أخبرنا محمد بن عبيد الله بن القاسم ، قال : ثنا محمد بن أحمد بن يعقوب ، قال : ثنا جرير ، قال : حدثني محمد بن أبي عتاب ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ص: 113 ] ليشفعن رجل من أمتي في أكثر من مضر قالها الثانية ، فقال أبو بكر : يا رسول الله : إن تميما من مضر . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليشفعن رجل من أمتي لأكثر من بني تميم ، ومن مضر ، وإنه أويس القرني .

                    57 - أخبرنا محمد بن عبد الرحمن ، أنا عبد الله بن محمد [ ص: 114 ] البغوي ، قال : ثنا أبو روح محمد بن زياد قال : ثنا أبو شهاب ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال : يخرج من النار - بشفاعة رجل ليس بنبي أكثر من ربيعة ومضر ، قال أبو روح : حدثنا فضيل بن هشام ، عن الحسن ، قال : هو أويس .

                    58 - أخبرنا أحمد ، ثنا علي ، ثنا أحمد ، ثنا أبو أحمد الزبيري ، ثنا شريك ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : [ ص: 115 ] نادى مناد يوم صفين : أفيكم أويس القرني ؟ قيل : نعم ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن من خير التابعين بإحسان أويسا القرني " ، قال : ثم دخل معهم .

                    59 - أخبرنا محمد ، أنا محمد بن أحمد ، ثنا جدي يعقوب ، قال : ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : ثنا شريك ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن ابن أبي ليلى ، قال : نادى مناد يوم صفين : فيكم أويس القرني ؟ قالوا : نعم . فضرب دابته فدخل فيهم ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من خير التابعين أويس القرني " .

                    60 - أخبرنا أحمد بن عبيد ، أنا علي بن عبد الله بن مبشر ، قال : [ ص: 116 ] ثنا أحمد بن سنان ، قال : ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم ، قال : ثنا سليمان بن المغيرة ، قال : حدثني سعيد الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أسير بن جابر ، قال : كان محدث بالكوفة يحدثنا ، فإذا فرغ قال : تفرقوا ، ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحدا يتكلم بكلامه فأحببته ، ففقدته فقلت لأصحابي : هل تعرفون رجلا كان يجالسنا كذا وكذا ؟ فقال رجل من القوم : أنا أعرفه ، ذاك أويس القرني . قلت : فتعلم منزله ؟ قال : نعم ، قال : فانطلقت معه ، فجعلت أبتغيه حتى ضربت حجرته ، فخرج إلي ، قال : فقلت : يا أخي ، ما حبسك عنا ؟ قال : العري . وكان أصحابنا يسخرون منه ويؤذونه ، قال : قلت : خذ هذا البرد فالبسه ، قال : لا تفعل ، فإنهم إذا يؤذوني إذا رأوه علي ، قال : فلم أزل به حتى لبسه ، فخرج عليهم ، قالوا : من ترون خدع عن برده هذا ؟ [ ص: 117 ] قال : فجاء فوضعه ، قال : أترى ؟ ! قال أسير : فأتيت المجلس ، فقلت : ما تريدون من هذا الرجل ؟ ! قد آذيتم الرجل ، يعرى مرة ويكتسي مرة ؛ فأخذتهم بلساني أخذا شديدا ، قال : فقضي أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر ، فوفد رجل معهم كان يسخر به ، فقال عمر : هل هاهنا أحد من القرنيين ؟ قال : فجاء ذلك الرجل ، قال : فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس ، لا يدع غير أم له ، قد كان به بياض ، فدعا الله عز وجل فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم ، فمن لقيه منكم فأمروه أن يستغفر لكم " . قال : فقدم علينا ، قال : قلت : من أين ؟ قال : من اليمن ، قال : قلت : ما اسمك ؟ قال : أويس ، قال : فمن تركت ؟ قال : أما لي ، قال : أكان بك وضح فدعوت الله فأذهب به عنك ؟ قال : نعم . قال : استغفر لي ، قال : أويستغفر مثلي لمثلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : فاستغفر له ، قال : قلت : أنت أخي لا تفارقني ، قال : فانملس مني ، فأنبئت أنه قدم عليكم الكوفة . [ ص: 118 ] قال : فجعل ذاك الذي كان يسخر به ويحقره يقول : ما هو فينا وما نعرفه ، قال عمر : بلى ، إنه رجل كذا وكذا - كأنه يضع شأنه ، قال : فينا يا أمير المؤمنين رجل يقال له أويس نسخر به ، قال : أدركه ، ولا أراك تدركه ، قال : فأقبل ذلك الرجل حتى دخل عليه قبل أن يأتي أهله ، قال له أويس : ما هذا بعادتك ، فما بدا لك ؟ قال : سمعت عمر يقول كذا وكذا ، استغفر لي يا أويس ، قال : لا أفعل حتى تجعل لي عليك أن لا تسخر بي فيما بعد ، ولا أن تذكر الذي سمعته من عمر إلى أحد ، قال : فاستغفر له ، قال أسير : فما لبثنا أن فشا أمره بالكوفة ، قال أسير : فأتيته فدخلت عليه ، فقلت : يا أخي ، ألا أراك العجب ونحن لا نشعر ؟ قال : فما كان في هذا ما أتبلغ به في الناس ، وما يجزى كل عبد إلا بعمله ، قال : ثم انملس منهم فذهب ، أخرجه مسلم ، عن زهير ، عن أبي النضر .

                    61 - أخبرنا محمد ، أنا محمد ، قال : حدثني جدي ، قال : ثنا [ ص: 119 ] عبد الله بن عيسى ، قال : ثنا عبيد الله بن شميط ، عن أبيه ، عن أسلم العجلي ، يقول : حدثني أبو الضحاك الجرمي ، عن هرم بن حيان العبدي ، قال : قدمت الكوفة فلم يكن لي هم إلا أويس القرني أطلبه وأسأل عنه ؛ حتى سقطت عليه جالسا وحده على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ ويغسل ثوبه ، فعرفته بالنعت الذي نعت لي ، فإذا رجل آدم لحيم شديد الأدمة أشعر محلوق الرأس كث اللحية عليه إزار من صوف ورداء من صوف بغير حذاء كريه الوجه مهيب المنظر جدا ، فسلمت عليه فرد علي ونظر إلي ، فقال : حياك الله من رجل ، ومددت يدي إليه لأصافحه فأبى أن يصافحني فقال : - هكذا - وأنت فحياك الله ، فقلت : رحمك الله يا أويس ، وغفر لك ، كيف أنت رحمك الله ؟ ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى [ ص: 120 ] بكيت ، فبكى ، ثم قال : وأنت رحمك الله يا هرم بن حيان ، وغفر لك ، كيف أنت يا أخي ؟ من دلك علي ؟ قال : قلت : الله ، قال : لا إله إلا الله ، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا حين سماني وعرفني ، قال : لا والله ما رأيته قط ولا رآني ، قلت : من أين عرفتني وعرفت اسمي واسم أبي ؟ والله ما رأيتك قط قبل اليوم ، قال : نبأني العليم الخبير ، عرفت روحي روحك حيث كلمت نفسي نفسك ، إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأحياء ، إن المؤمنين يعرف بعضهم بعضا ، ويتحابون بروح الله - عز وجل - وإن لم يلتقوا ، ويتعارفوا ، ويتكلموا ، وإن نأت بهم الديار وتفرقت بهم المنازل ، قال : قلت : حدثني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث أحفظه عنك ، قال : إني لم أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن لي معه صحبة ، ولكن قد رأيت رجالا قد رأوه ، وقد بلغني من حديثه كبعض ما بلغكم ، ولم أحب أن ( أفتح هذا الباب ) على نفسي ، ولا أحب أن أكون محدثا ، أو قاضيا ، أو مفتيا ، في النفس شغل عن الناس يا هرم بن حيان ، قال : قلت : يا أخي ، اقرأ علي آيات من كتاب الله - عز وجل - أسمعهن منك ، فإني أحبك في الله حبا شديدا ، وادع لي بدعوات ، وأوصني بوصية أحفظها عنك ، قال : فقام فأخذ بيدي على شاطئ الفرات ، ثم قال : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم [ ص: 121 ] قال : ثم شهق شهقة ثم بكى مكانه ثم قال : قال ربي - وأحق القول قول ربي ، وأصدق الحديث حديثه ، وأحسن الكلام كلامه - : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ) حتى بلغ ( إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم ) ، ثم شهق شهقة ، ثم سكت ، فنظرت إليه وأنا أحسبه قد غشي عليه ، ثم قال : يا هرم بن حيان مات أبوك ويوشك أن تموت ، ومات أبو حيان ، فإما إلى جنة ، وإما إلى نار ، ومات آدم ، وماتت حواء ، يا ابن حيان ، ومات نوح ، وإبراهيم خليل الرحمن ، يا ابن حيان ، ومات موسى نجي الرحمن ، يا ابن حيان ، ومات داود خليفة الرحمن ، ومات محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الرحمن ، ومات أبو بكر خليفة المسلمين ، يا ابن حيان ، ومات أخي وصديقي وصفيي عمر بن الخطاب ، ثم قال : واعمراه رحمك الله يا عمر - وعمر يومئذ حي وذلك في آخر خلافته -

                    قال : قلت : رحمك الله إن عمر لم يمت بعد ، قال : بلى ، إن ربي قد نعاه إلي إن كنت تفهم فقد علمت ما قلت ، وأنا وأنت في الموتى ، وقد كان صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا بدعوات خفاف ، ثم قال : هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان ؛ كتاب الله - عز وجل - واللقاء بالصالحين من المؤمنين ، نعيت إلي نفسي ونفسك ، فعليك بذكر الموت لا يفارقن قلبك طرفة عين ، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم ، وانصح لأهل ملتك جميعا ، واكدح لنفسك ، وإياك أن تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تعلم ، فتدخل النار يوم القيامة يا هرم بن حيان [ ص: 122 ] قال : ثم قال : اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك وزارني من أجلك ، اللهم عرفني وجهه في الجنة ، وأدخله علي زائرا في دارك السلام ، واحفظه ما دامت الدنيا حيثما كان ، وضم عليه ضيعته ، وارضه من الدنيا باليسير ، وما أعطيته من الدنيا فيسره له ، واجعله لما تعطيه من عمل من الشاكرين ، واجزه خير الجزاء ، أستودعك الله يا هرم بن حيان ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ، ثم قال : لا أراك بعد اليوم - رحمك الله - فإني أكره الشهرة ؛ والوحدة أحب إلي لأني شديد الغم كثير الهم ما دمت مع هؤلاء الناس حيا في الدنيا ، ولا تسأل عني ، ولا تطلبني ، واعلم أنك مني على بال ، وإن لم ترن فاذكرني وادع لي ، فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله ، انطلق ههنا حتى آخذ ههنا . قال : فحرصت عليه أن أمشي معه ساعة فأبى علي ففارقته يبكي وأبكي ، قال : فجعلت أنظر في قفاه حتى دخل في بعض السكك ، فكم طلبته بعد ذلك وسألت عنه فما وجدت أحدا يخبرني عنه بشيء - فرحمه الله - ، وما أتت علي جمعة إلا وأنا أراه في منامي مرة ، أو مرتين ، أو كما قال .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية