الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 1015 ] . . . [ ص: 1016 ] 182 - فصل

                          [ اختلاف العلماء في معنى الفطرة ] .

                          قال أبو عمر : وقد اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا ، وكذلك اختلفوا في الأطفال ، وحكمهم في الدنيا ، والآخرة .

                          فقال ابن المبارك : تفسيره آخر الحديث " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، هكذا ذكر أبو عبيد ، عن ابن المبارك لم يزد شيئا .

                          وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال : كان هذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد .

                          قال أبو عمر : أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه ، وليس فيه مقنع من التأويل ، ولا شرح موعب في أمر الأطفال ، ولكنها [ ص: 1017 ] جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر ، أو إيمان ، أو جنة أو نار ، ما لم يبلغوا العمل .

                          قال : وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه : إما لإشكاله عليه ، وإما لجهله به ، أو لما شاء الله .

                          وأما قوله : " إن ذلك كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يؤمر الناس بالجهاد " ، فلا أدري ما هذا ! فإن كان أراد أن ذلك منسوخ فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في أخبار الله وأخبار رسوله ؛ لأن المخبر بشيء كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه ، أو غلطه فيما أخبر به ، أو نسيانه ، وقد عصم الله ورسوله في الشريعة ، والرسالة منه ، وهذا لا يخالف فيه أحد له أدنى فهم ، فقف عليه ، فإنه أمر حتم في أصول الدين .

                          وقول محمد : " إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد " ، ليس كما قال ؛ لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد .

                          وروى بإسناده عن الحسن ، عن الأسود بن سريع قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما بال أقوام بالغوا في القتل حتى قتلوا الولدان " ؟ [ ص: 1018 ] فقال رجل : أوليس آباؤهم أولاد المشركين ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أوليس خياركم أولاد المشركين ؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه لسانه ، ويهوده أبواه ، أو ينصرانه " .

                          قال : وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة ، منهم :

                          [ بكر المزني ] ، والعلاء بن زياد والسري بن يحيى .

                          وقد روي عن الأحنف ، عن الأسود بن سريع ، وهو حديث بصري صحيح .

                          [ ص: 1019 ] وروى عوف الأعرابي ، عن

                          [ أبي رجاء العطاري ] ، عن سمرة بن جندب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كل مولود يولد على الفطرة " ، فناداه الناس : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ قال : " وأولاد المشركين " انتهى .

                          قال شيخنا : أما ما ذكره عن ابن المبارك ، ومالك فيمكن أن يقال : إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا ، وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة ، ومنهم من يكفر فيدخل النار ، فلا يحتج بقوله : " كل مولود يولد على الفطرة " على نفي القدر كما احتجت القدرية به ، ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على [ ص: 1020 ] الفطرة ، فيكون مقصود الأئمة أن الأطفال على ما في آخر الحديث .

                          وأما قول محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد الكافر يتبع أبويه في الدين في أحكام الدنيا ، فيحكم له بحكم الكفر في أنه لا يصلى عليه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، ولا يرثه المسلمون ، ويجوز استرقاقه ، وغير ذلك ، فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين ، وهذا حق ولكنه ظن أن الحديث اقتضى الحكم لهم في الدنيا بأحكام أطفال المؤمنين ، فقال : هذا منسوخ ، كان قبل الجهاد لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء ، والأطفال ، والمؤمن لا يسترق ، ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا ، وما زال الأطفال تبعا لآبائهم في الأمور الدنيوية ، فالحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام ، وإنما قصد ما ولدوا عليه من الفطرة .

                          وإذا قيل : إنه ولد على فطرة الإسلام ، أو خلق حنيفا ، ونحو ذلك ، فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ، ويريده ، فالله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ، ولكن فطرته سبحانه موجبة مقتضية لمعرفة دين الإسلام ، ومحبته ، ففطروا على فطرة مستلزمة للإقرار بالخالق ، ومحبته ، وإخلاص الدين له ، وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض ، كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية ، والأشربة ، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ، وهذا من قوله تعالى : ( قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ، وقوله : ( الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) [ ص: 1021 ] فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا بعد شيء ، ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية