الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة [ ص: 64 ] المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: علمه شديد القوى وهو جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم; قال ابن قتيبة: وأصل هذا من "قوى الحبل" وهي طاقاته، الواحدة: قوة ذو مرة أي: ذو قوة ، وأصل المرة: الفتل . قال المفسرون: وكان من قوته أنه قلع قريات لوط وحملها على جناحه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فاستوى وهو بالأفق الأعلى فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: فاستوى جبريل، "وهو" يعني النبي صلى الله عليه وسلم; والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 65 ] والثاني: فاستوى جبريل، وهو- يعني جبريل- بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية، لأنه كان يتمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته، فاستوى في أفق المشرق، فملأ الأفق; فيكون المعنى: فاستوى جبريل بالأفق الأعلى في صورته، هذا قول الزجاج . قال مجاهد : والأفق الأعلى: هو مطلع الشمس . وقال غيره: إنما قيل له: "الأعلى" لأنه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ثم دنا فتدلى قال الفراء: المعنى ثم تدلى فدنا، ولكنه جائز أن تقدم أي الفعلين شئت إذا كان المعنى فيهما واحدا، فتقول: قد دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتم فأساء، وأساء فشتم، ومنه قوله: اقتربت الساعة وانشق القمر [القمر: 1] المعنى- والله أعلم-: انشق القمر واقتربت الساعة . قال ابن قتيبة، المعنى: تدلى فدنا، لأنه تدلى للدنو، ودنا بالتدلي . وقال الزجاج: دنا بمعنى قرب، وتدلى: زاد في القرب، ومعنى اللفظتين واحد . وقال غيرهم: أصل التدلي: النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوضع موضع القرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المشار إليه بقوله: "ثم دنا" ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها، أنه الله عز وجل . روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال: دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وروى أبو سلمة عن ابن عباس: "ثم دنا" [ ص: 66 ] قال: دنا ربه فتدلى، وهذا اختيار مقاتل . قال: دنا الرب من محمد ليلة أسري به، فكان منه قاب قوسين أو أدنى . وقد كشفت هذا الوجه في كتاب "المغني" وبينت أنه ليس كما يخطر بالبال من قرب الأجسام وقطع المسافة، لأن ذلك يختص بالأجسام، والله منزه عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه محمد دنا من ربه، قاله ابن عباس، والقرظي .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه جبريل . ثم في الكلام قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن، وقتادة . والثاني: دنا جبريل من ربه عز وجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فكان قاب قوسين أو أدنى وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين: "فكان قاد قوسين" بالدال . وقال أبو عبيدة: القاب والقاد: القدر . وقال [ ص: 67 ] ابن فارس: القاب: القدر . ويقال: بل القاب: ما بين المقبض والسية، ولكل قوس قابان . وقال ابن قتيبة: سية القوس: ما عطف من طرفيها .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المراد بالقوسين قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها القوس التي يرمى بها، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة، فقال: قدر قوسين . وقال الكسائي: أراد بالقوسين: قوسا واحدا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن القوس: الذراع; فالمعنى: كان بينهما قدر ذراعين، حكاه ابن قتيبة، وهو قول ابن مسعود، وسعيد بن جبير، والسدي . قال ابن مسعود: دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أو أدنى فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها بمعنى "بل"، قاله مقاتل . والثاني: أنهم خوطبوا على لغتهم; والمعنى: كان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل، هذا اختيار الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فأوحى إلى عبده ما أوحى فيه ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أوحى الله إلى محمد كفاحا بلا واسطة، وهذا على قول من يقول: إنه كان في ليلة المعراج .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أوحى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه، رواه عطاء عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أوحى [الله] إلى جبريل ما يوحيه، روي عن عائشة رضي الله عنها، والحسن، وقتادة . [ ص: 68 ] قوله تعالى: ما كذب الفؤاد ما رأى قرأ أبو جعفر ، وهشام عن ابن عامر، وأبان عن عاصم: " ما كذب" بتشديد الذال; وقرأ الباقون بالتخفيف . فمن شدد أراد: ما أنكر فؤاده ما رأته عينه; ومن خفف أراد: ما أوهمه فؤاده أنه رأى، ولم ير، بل صدق الفؤاد رؤيته .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الذي رأى قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه رأى ربه عز وجل، قاله ابن عباس، [وأنس] والحسن، وعكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها، قاله ابن مسعود وعائشة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: "أفتمارونه" . وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وخلف، ويعقوب: "أفتمرونه" . قال ابن قتيبة: معنى "أفتمارونه" أفتجادلونه، من المراء، ومعنى " أفتمرونه ": أفتجحدونه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولقد رآه نزلة أخرى قال الزجاج: أي: رآه مرة أخرى . قال ابن عباس: رأى محمد ربه; وبيان هذا أنه تردد لأجل الصلوات مرارا، فرأى ربه في بعض تلك المرات مرة أخرى . قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين . وقد [ ص: 69 ] روي عن ابن مسعود أن هذه الرؤية لجبريل أيضا، رآه على صورته التي خلق عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما سدرة المنتهى، فالسدرة: شجرة النبق، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة" . وفي مكانها قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها فوق السماء السابعة، وهذا مذكور في "الصحيحين" من حديث مالك بن صعصعة . قال مقاتل: وهي عن يمين العرش .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها في السماء السادسة، أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود وبه قال الضحاك . قال المفسرون: وإنما سميت سدرة المنتهى، لأنه إليها منتهى ما يصعد به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، وإليها ينتهي علم جميع الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: عندها وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو نهيك: "عنده" بهاء مرفوعة على ضمير مذكر جنة المأوى قال ابن عباس: هي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة . وقال الحسن: هي التي يصير إليها أهل الجنة . وقال مقاتل: هي جنة إليها تأوي أرواح الشهداء . وقرأ سعيد بن المسيب، والشعبي، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء، وأبو العالية: "جنه المأوى" بهاء [ ص: 70 ] صحيحة مرفوعة . قال ثعلب: يريدون أجنه، وهي شاذة . وقيل: معنى "عندها": أدركه المبيت يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إذ يغشى السدرة ما يغشى روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: غشيها فراش من ذهب . وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما غشيها من أمر الله ما غشيها، تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها . وقال الحسن، ومقاتل: تغشاها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة . وقال الضحاك: [غشيها] نور رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ما زاغ البصر أي: ما عدل بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا وما طغى أي: ما زاد ولا جاوز ما رأى; وهذا وصف أدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد رأى من آيات ربه الكبرى فيه قولان . أحدهما: [لقد] رأى من آيات ربه العظام . والثاني: لقد رأى من آيات ربه [الآية] الكبرى . [ ص: 71 ] وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق، قاله ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه رأى من أعلام ربه وأدلته [الأعلام والأدلة] الكبرى، قاله ابن جرير .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية