الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين [ ص: 282 ] فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: زعم الذين كفروا كان ابن عمر يقول: ( زعموا ) كناية الكذب . وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل: زعم فلان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وذلك على الله يسير يعني: البعث ، "والنور" هو القرآن، وفيه بيان أمر البعث والحساب والجزاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: يوم يجمعكم هو منصوب بقوله تعالى: لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم يوم يجمعكم ليوم الجمع وهو يوم القيامة . وسمي بذلك لأن الله تعالى يجمع فيه الجن والإنس، وأهل السموات، وأهل الأرض ذلك يوم التغابن تفاعل من الغبن، وهو فوت الحظ . والمراد في تسميته يوم القيامة بيوم التغابن فيه أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه ليس من كافر، إلا وله منزل وأهل في الجنة فيرث ذلك المؤمن، فيغبن حينئذ الكافر، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 283 ] والثاني: غبن أهل الجنة أهل النار، قاله مجاهد، والقرظي . والثالث: أنه يوم غبن المظلوم الظالم، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبونا، فصار في الآخرة غابنا، ذكره الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، ذكره الثعلبي . قال الزجاج: وإنما ذكر ذلك مثلا للبيع والشراء، كقوله تعالى: فما ربحت تجارتهم [البقرة: 16]، وقوله تعالى: هل أدلكم على تجارة [الصف: 10] وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: يكفر عنه سيئاته قرأ نافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم "نكفر" "وندخله" بالنون فيهما . والباقون: بالياء ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله قال ابن عباس: بعلمه وقضائه ومن يؤمن بالله يهد قلبه فيه ستة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قبل الله تعالى، فيسلم، ويرضى .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: يهد قلبه للاسترجاع، وهو أن يقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر، قاله ابن السائب، وابن قتيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: يهد قلبه، أي: يجعله مهتديا، قاله الزجاج . والخامس: [يهد وليه بالصبر والرضى، قاله أبو بكر الوراق . والسادس: ] يهد قلبه لاتباع السنة إذا صح إيمانه، قاله أبو عثمان الحيري . وقرأ أبو بكر الصديق، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: "يهد" بياء مفتوحة . [ ص: 284 ] ونصب الدال "قلبه" بالرفع . قال الزجاج: هذا من هدأ يهدأ: إذا سكن .

                                                                                                                                                                                                                                      فالمعنى: إذا سلم لأمر الله سكن قلبه . وقرأ عثمان بن عفان، والضحاك، وطلحة بن مصرف، والأزرق عن حمزة: "نهد" بالنون . وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن: "يهد" بضم الياء، وفتح الدال "قلبه" بالرفع . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم سبب نزولها أن الرجل كان يسلم . فإذا أراد الهجرة منعه أهله، وولده، وقالوا: ننشدك الله أن تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير إلى المدينة بلا أهل ولا مال . فمنهم من يرق لهم، ويقيم فلا يهاجر، فنزلت هذه الآية . فلما هاجر أولئك، ورأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوا أهلهم الذين منعوهم، فأنزل الله تعالى: وإن تعفوا وتصفحوا إلى آخر الآية، هذا قول ابن عباس . وقال الزجاج: لما أرادوا الهجرة قال لهم أزواجهم، وأولادهم: قد صبرنا لكم على مفارقة الدين ولا نصبر لكم على مفارقتكم، ومفارقة الأموال، والمساكن، فأعلم الله عز وجل أن من كان بهذه الصورة، فهو عدو، وإن كان ولدا، أو كانت زوجة . وقال مجاهد: كان حب الرجل ولده وزوجته يحمله على قطيعة رحمه ومعصية ربه . وقال قتادة: كان من أزواجهم، وأولادهم من ينهاهم عن الإسلام، ويثبطهم عنه، فخرج في قوله تعالى: عدوا لكم ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 285 ] أحدها: بمنعه من الهجرة، وهذا على قول ابن عباس . والثاني: بكونهم سببا للمعاصي، وعلى هذا قول مجاهد . والثالث: بنهيهم عن الإسلام، وهذا على قول قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فاحذروهم قال الفراء: لا تطيعوهم في التخلف .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة أي: بلاء وشغل عن الآخرة . فالمال والأولاد يوقعان في العظائم إلا من عصمه الله . وقال ابن قتيبة: أي: إغرام . يقال: فتن فلان بالمرأة، وشغف بها، أي: أغرم بها . وقال الفراء: قال أهل المعاني: إنما دخل "من" في قوله تعالى: إن من أزواجكم لأنه ليس كل الأزواج، والأولاد أعداء . ولم يذكر "من" في قوله تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنها لا تخلو من الفتنة، واشتغال القلب بها . وقد روى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب، فجاء الحسن، والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان، ويعثران، فنزل من المنبر، فحملهما، فوضعهما بين يديه ثم قال: "صدق الله عز وجل: إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان، ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي، ورفعتهما .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: والله عنده أجر عظيم أي: ثواب جزيل وهو الجنة . [ ص: 286 ] والمعنى: لا تعصوه بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم فاتقوا الله ما استطعتم أي: ما أطقتم "واسمعوا" ما تؤمرون به "وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم" وفي هذه النفقة ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: الصدقة، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: نفقة المؤمن على نفسه، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: النفقة في الجهاد، قاله الضحاك ومن يوق شح نفسه حتى يعطي حق الله في ماله . وقد تقدم بيان هذا في [الحشر: 9] وما بعده قد سبق بيانه إلى آخر السورة [البقرة: 254، والحديد: 18،11، والحشر: 24،23] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية