الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      20 - فإذا تبين بعد الصبر والتجمل والمحاولة والرجاء. أن الحياة غير مستطاعة، وأنه لا بد من الانفصال، واستبدال زوج مكان زوج ، فعندئذ تنطلق المرأة بما أخذت من صداق، وما ورثت من مال، لا يجوز استرداد شيء منه، ولو كان قنطارا من ذهب. فأخذ شيء منه إثم واضح، ومنكر لا شبهة فيه:

                                                                                                                                                                                                                                      وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا. أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      21 - ومن ثم لمسة وجدانية عميقة، وظل من ظلال الحياة الزوجية، وريف في تعبير موح عجيب:

                                                                                                                                                                                                                                      وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض، وأخذن منكم ميثاقا غليظا؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويدع الفعل: " أفضى " بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقا، يشع كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته. ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته. بل يشمل العواطف والمشاعر، والوجدانات والتصورات، والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب. يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان.. وفي كل اختلاجة حب إفضاء. وفي كل نظرة ود إفضاء. وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء. وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء. وفي كل شوق إلى خلف [ ص: 607 ] إفضاء. وفي كل التقاء في وليد إفضاء..

                                                                                                                                                                                                                                      كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب:

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أفضى بعضكم إلى بعض .. فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير، ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف! ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملا آخر، من لون آخر:

                                                                                                                                                                                                                                      وأخذن منكم ميثاقا غليظا ..

                                                                                                                                                                                                                                      هو ميثاق النكاح، باسم الله، وعلى سنة الله .. وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن وهو يخاطب الذين آمنوا، ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ.

                                                                                                                                                                                                                                      22 - وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريما باتا - مع التفظيع والتبشيع - أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان ذلك في الجاهلية حلالا. وكان سببا من أسباب عضل النساء أحيانا، حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه، أو إن كان كبيرا تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم:

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات - وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع، ولا يتوقف خضوعنا له، وتسليمنا به، ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة، فحسبنا أن الله قد شرعه، لنستيقن أن وراءه حكمة، وأن فيه المصلحة.

                                                                                                                                                                                                                                      نقول: يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات: الأول أن امرأة الأب في مكان الأم. والثاني:

                                                                                                                                                                                                                                      ألا يخلف الابن أباه فيصبح في خياله ندا له. وكثيرا ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعا، فيكره أباه ويمقته! والثالث: ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب. الأمر الذي كان سائدا في الجاهلية.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء. وهما من نفس واحدة، ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء.

                                                                                                                                                                                                                                      لهذه الاعتبارات الظاهرة - ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا - جعل هذا العمل شنيعا غاية الشناعة.. جعله فاحشة. وجعله مقتا: أي: بغضا وكراهية. وجعله سبيلا سيئا.. إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية، قبل أن يرد في الإسلام تحريمه. فهو معفو عنه. متروك أمره لله سبحانه..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية